التدخل القضائي بالرقابة والمساعدة في تقويم الأحكام التحكيمية دراسة مقارنة في ضوء التشريعين المغربي واليمني

التدخل القضائي بالرقابة والمساعدة في تقويم الأحكام التحكيمية دراسة مقارنة في ضوء التشريعين المغربي واليمني

                                                   د. عبدالله الهاملي

مقدمة:

إن اللجوء إلى التحكيم كوسيلة بديلة عن القضاء لحل المنازعات بات أمراً ضروريا لا يمكن الاستغناء عنه لمواكبة التطورات الحديثة التي يشهدها عالمنا اليوم لا سيما في المعاملات التجارية التي تقوم على السرعة والائتمان، وبما يتميز به من سرعة وفاعلية لحل الخلافات التي تزداد مع زيادة التطور المستمر في التجارة والخدمات، وما ينتج عن ذلك من تعقيد في المعاملات التي لم تعد محاكم الدولة قادرة على التصدي لها بشكل منفرد.

ولما كان التحكيم نظام خاص للتقاضي بديل عن القضاء الرسمي يتميز بالمرونة والسرعة في الإجراءات، تسود فيه إرادة الأطراف الحرة في اللجوء إليه لفض المنازعات الناشئة أو التي قد تنشأ بينهم، وحريتهم في اختيار الإجراءات التي تناسبهم وتحديد القانون الواجب التطبيق على نزاعهم والفصل فيه من لدن هيئة تحكيمية بطريقة ودية، بدون إفراز طرف غالب وطرف مغلوب، فإنه في الوقت الراهن لم يعد التحكيم مستقلا كما كان عليه بفعل تلك التحولات الاقتصادية والتجارية وكثرة النزاعات الناتجة عن ممارستها محليا ودوليا، وأن إرادة الأطراف أصبحت مقيدة بإتباع النصوص الإجرائية التي نص عليها المشرع، فإذا كان التحكيم عملاً اتفاقيا في مصدره فانه عمل قضائي في آثاره[1].

ووعيا من المشرعين المغربي واليمني لأهمية التحكيم وما يقوم به من دور فعال في حسم المنازعات التجارية، وحتى لا يتعطل نظام التحكيم ويصبح مجرد نصوص لا جدوى منها بفعل الخصوم أو هيئة التحكيم، ودون أن يتأثر نظام التحكيم بتدخل القضاء في إجراءاته اللاحقة لصدور الحكم التحكيمي، فالأحكام التحكيمية شأنها في ذلك شأن الأحكام القضائية من حيث أنها لا تخلو من الأخطاء عند تحريرها من قبل الهيئة التحكيمية التي أصدرتها، والتي يعبر عنها بأنها اخطاء القلم لا اخطاء الفكر[2]. وفي بعض الأحيان قد تحتاج الأحكام التحكيمية إلى تفسير وإيضاح الغامض وبيان المبهم، والبحث فيما يتضمنه الحكم التحكيمي من عناصر ذاتية يتكون منها وليس عن إرادة من أصدره[3]. وبالتالي فقد تم إحداث نوع من المرونة والتوازن عند تنظيمهم للتحكيم وإجراءاته بحيث يحافظ نظام التحكيم على استقلاليته، ويكون تدخل القضاء في إجراءاته تدخلا رقابياً مساعداً لتصحيح وتفسير الأحكام الصادرة عنها، وإذا تعذر عليها القيام بذلك جاز لها وللأطراف طلب تدخل القضاء للقيام بعملية التصحيح والتفسير، دون أن يؤثر ذلك على إرادة الأطراف والخصومة التحكيمية، أو جوهر الحكم التحكيمي.

المطلب الأول :التدخل القضائي في تصحيح الأحكام التحكيمية

مما لا شك فيه أن لهيئة التحكيم صلاحية تصحيح الأخطاء المادية التي تشوب الأحكام الصادرة عنها، كما أنه يجوز للقضاء القيام بعملية التصحيح. وهنا نتساءل حول مدى اختصاص هيئة التحكيم بتصحيح الأحكام الصادرة عنها، وما هي الإجراءات التي تتبعها من أجل التصحيح؟ وكيف يتدخل القضاء في إجراءات تصحيح الأخطاء المادية التي تشوب الأحكام التحكيمية؟

الفقرة الأولى:مدى اختصاص هيئة التحكيم في تصحيح الاخطاء المادية للحكم التحكيمي

الأخطاء التي تشوب الحكم التحكيمي هي إما أن تكون بمخالفة الحكم للإجراءات القانونية المتطلبة لصحة الحكم التحكيمي، التي قد تنال من ذاتية الحكم وتؤثر على كيانه الذي لا يمكن تصحيحه إلا عن طريق الطعن فيه بالبطلان، وإما أن تكون الاخطاء المادية متعلقة بمسائل كتابية أو حسابية، لا تؤدي بطبيعتها إلى تغيير منطوق الحكم زيادة أو نقصانا، ولا تؤثر على كيانه مهما كانت جسامتها ولا تؤدي إلى بطلانه عند وقوعها[4]. غير أن إهمال الحكم التحكيمي وعدم تصحيحه يؤثر وبشكل غير مباشر على إجراءات تنفيذه أثناء مرحلة التنفيذ الإجباري، مما ينتج عن ذلك بروز صعوبات عملية وقانونية تحول دون تحقيق هذه الغاية[5].

الأمر الذي دفع بمعظم التشريعات القانونية إلى الاتجاه نحو حماية الأحكام التحكيمية التي تصدر بشكل نهائي، وذلك بوضع إجراءات قانونية يناط بها تصحيح الأحكام التحكيمية وتطهيرها من الأخطاء المادية التي قد تشوبها بما يساعد على عدم تعطيلها أو تأخير إجراءات تنفيذها، وهنا نتساءل عن الجهة المختصة بتصحيح تلك الأخطاء؟”

اختلف الفقه حول تحديد الجهة المختصة بإصلاح الأخطاء المادية التي تشوب الأحكام التحكيمية، حيث ذهب جانب منهم[6]، إلى اعتبار أن الأحكام التحكيمية كالأحكام القضائية تحوز حجية الشيء المقضي فيه بمجرد صدورها بصفة قطعية، وبالتالي تستنفد ولاية الهيئة التحكيمية عن الأحكام التي أصدرتها، بحيث لا يحق لها العودة اليها للنظر في النزاع من جديد، أو حتى تعديلها و تصحيحها[7]، لأن قيامها بذلك قد يؤدي إلى صعوبة عملية، كون استنفاد الولاية متعلق بالنظام العام، وعليه فإن تصحيح الأخطاء المادية للأحكام التحكيمية يكون من اختصاص القضاء[8].

بينما ذهب جانب آخر من الفقه[9]، إلى أنه بالرغم من استنفاد هيئة التحكيم لولايتها بمجرد إصدارها لحكم التحكيم بصفة قطعية، فإن ذلك لا يقيدها من العودة إلى حكمها إذا تعلق الأمر بوجود أخطاء مادية يخشى مع إهمالها وعدم تصحيحها التسبب في تعطيل الإجراءات أثناء مرحلة التنفيذ، وهذا لا يتفق وطبيعة التحكيم التي تقتضي سلامة الأحكام التحكيمية من أجل سرعة تنفيذيها. أما إذا وضع حكم التحكيم تحت تصرف القضاء لأي سبب كان، كإيداعه أو صدر أمر بتنفيذه أو تم رفع دعوى أصلية ببطلانه عند تحقق حالاته المنصوص عليها في القانون، فإن سلطة المحكم أو هيئة التحكيم تنتهي، وبالتالي تقوم بهذه المهمة الجهة التي تنظر حكم التحكيم سواء كانت محكمة الاستئناف أو المحكمة المختصة بنظر النزاع أو قاض التنفيذ.[10]

وقد أخذ بهذا الاتجاه التشريعين المغربي واليمني[11]، حيث ينص الفصل 28-327 من القانون رقم 05-08 المغربي على أنه “ينهي الحكم مهمته الهيئة التحكيمية بشأن النزاع الذي

تم الفصل فيه غير أن للهيئة التحكيمية:

  1.  أن تقوم تلقائيا داخل أجل الثلاثين يوما التالية للنطق بالحكم بإصلاح كل خطأ مادي أو خطأ في الحساب أو الكتابة أو أي خطأ من نفس القبيل وارد في الحكم.
  2.  أن تقوم داخل أجل الثلاثين يوما التالية لتبليغ الحكم بناء على طلب أحد الأطراف ودون فتح أي نقاش جديد بما يلي:
  3. تصحيح كل خطأ مادي أو أي خطأ في الحساب أو الكتابة أو أي خطأ من نفس القبيل وارد في الحكم”.

كما نصت المادة (52) من قانون التحكيم اليمني على أنه “يجوز لأي من الطرفين أن يطلب من لجنة التحكيم خلال الثلاثين يوما التالية لتسليم حكم التحكيم تصحيح ما يكون قد وقع في الحكم من أخطاء كتابية أو حسابية أو أي أخطاء مماثلة…”.

والملاحظ من هذه النصوص أن لهيئة التحكيمية مدى واسع في تصحيح الأخطاء التي تشوب الأحكام الصادرة عنها إما من تلقاء نفسها، وإما بناء على طلب أحد الخصوم مع التقيد بالمواعيد والإجراءات المنصوص عليها.

  • إجراءات تصحيح الأخطاء المادية التي تشوب الأحكام التحكيمية:

تهدف إجراءات التصحيح إلى إزالة الأخطاء المادية التي تشوب حكم التحكيم، بحيث يجب على هيئة التحكيم التي أصدرته أن تقوم بتصحيحه من تلقاء نفسها دون توقف ذلك على طلب من أحد الخصوم، وذلك داخل أجل ثلاثين يوما من تاريخ صدور الحكم التحكيمي. ولا يشترط القانون على هيئة التحكيم أن تقوم بالتصحيح في حضور الخصوم أو حتى في غيابهم، كما أنه لا يمنعها من تبليغ الحكم بعد تصحيحه إلى الخصوم، لأن هذا الإجراء مفترض، إذ تظهر أهميته في استفادة الخصوم منه في وقت قصير وقبل لجوؤهم إلى طلبه. وعلى عكس ذلك فهناك من يرى أنه لا يجوز إجراء التصحيح إلا في مواجهة الخصوم وذلك احتراماً لحقوق الدفاع[12]. فإذا لم تقم هيئة التحكيم بإجراء التصحيح من تلقاء نفسها، جاز لأحد طرفي التحكيم تقديم طلب التصحيح إليها داخل أجل ثلاثين يوما التالية لتبليغ الحكم، طبقا لما نص عليه الفصل 28-327 من القانون رقم 05-08، والمادة (52) من قانون التحكيم اليمني[13].

على عكس المشرع المصري الذي أجاز تمديد مدة إجراء التصحيح إلى ثلاثين يوما أخرى إذا رأت هيئة التحكيم ضرورة لذلك[14]. وقد أحسن المشرع المغربي واليمني حينما لم يجيزا تمديد مدة إجراء التصحيح إلى ثلاثين يوما أخرى، حيث أن هذا الأمر يتنافى وطبيعة التحكيم التي تقتضي السرعة في تنفيذ المقررات التحكيمية بمجرد صدورها.

كما لا يجوز لهيئة التحكيم وهي تقوم بإجراء التصحيح أن تتجاوز صلاحيتها إلى تعديل حكمها مثلا، أو فتح باب النزاع من جديد وإضافة اشياء لم يتضمنها حكم التحكيم عند صدوره، لأن هذا التجاوز من شأنه الإضرار بمصلحة الخصوم، ومع ذلك أجاز لها القانون تعديل حكمها فيما لا يؤدي إلى تغيير منطوقه أو مضمونه. ونحن نتفق مع فتح المجال أمام هيئة التحكيم إلى تعديل حكمها بما لا يضر بمصلحة الخصوم، لأن ذلك يؤكد استقلال الهيئة التحكيمية وجعلها بمثابة القاضي الذي يصدر حكمه ويقوم بتصحيحه، ولكن ما هو الحل إذا تجاوزت هيئة التحكيم صلاحيتها أثناء قيامها بإجراء التصحيح؟

حقيقة لم يتطرق المشرع المغربي ونظيره اليمني لمسألة تجاوز هيئة التحكيم صلاحيتها في تصحيح الحكم الصادر عنها، إلا أن المشرع المصري أجاز الطعن بالبطلان في حكم التحكيم المصحح الذي تجاوز فيه المحكمون سلطاتهم، بمقتضى الفقرة الثانية من المادة (50) من قانون التحكيم المصري التي تنص على أنه ” 2-… وإذا تجاوزت هيئة التحكيم سلطتها في التصحيح جاز التمسك ببطلان هذا القرار بدعوى بطلان …”. وبهذا النص يكون المشرع المصري قد حسم مسألة تجاوز هيئة التحكيم لصلاحيتها أثناء قيامها بإجراء التصحيح، حتى وأن كان فيه إطالة الإجراءات وتأخير عملية التنفيذ، إلا أنه يعتبر الحل الوحيد لهذه المسألة، والذي يضمن للخصوم عدم تجاوز المحكمون لسلطتهم أثناء إجراء التصحيح. كما أن عدم قيام هيئة التحكيم بهذا التصحيح من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الخصوم، فإنه لا يوجد ما يمنع هذا الأخير من طلب تدخل القضاء بالمساعدة في تصحيح حكم التحكيم المشوب بخطأ مادي.

الفقرة الثانية:الإجراءات القضائية المتبعة من أجل تصحيح الأخطاء المادية

لم يتعرض المشرع اليمني لمسألة إعطاء القضاء صلاحية تصحيح الأخطاء المادية التي تشوب حكم التحكيم الصادر عن الهيئة التحكيمية بصفة قطعية، بحيث اقتصر حق البت في طلب التصحيح لهيئة التحكيم التي تقوم به داخل الأجل المنصوص عليه في قانون التحكيم[15].

أما المشرع المغربي فقد نظم هذه المسألة بمقتضى الفصل 29-327 من القانون رقم 08.05 الذي ينص على أنه “عندما يتعذر على الهيئة التحكيمية الاجتماع من جديد فإن صلاحية البت في طلب التصحيح… تخول لرئيس المحكمة الصادر الحكم التحكيمي في دائرتها والذي يجب عليه أن يبت في الأمر داخل أجل ثلاثين يوما بأمر غير قابل للطعن”.

وقد أحسن المشرع المغربي بهذا النص، من حيث مواكبته للتوجهات الحديثة في إعطاء القضاء الوطني سلطة التدخل بالرقابة والمساعدة في انجاح فاعلية حكم التحكيم من خلال البت في طلب التصحيح عندما يتعذر على هيئة التحكيم البت فيه، إما بسبب سفر أحد اعضائها أو موته أو فقد أهليته، أو لأي سبب أخر يحول دون اجتماع تلك الهيئة من جديد لإجراء التصحيح في المدة التي حددها القانون، الأمر الذي يخشى معه عدم تحقيق غاية حكم التحكيم من سرعة تنفيذه.

 ويلاحظ من النص أعلاه أن الاختصاص القضائي يكون لرئيس المحكمة الصادر الحكم التحكيمي في دائرتها، ولا يمتد إلى محكمة الموضوع، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن سلطة رئيس المحكمة تتمتع بالسرعة في تسوية مثل هذه المنازعات مقارنة بمحكمة الموضوع. كما ألزم المشرع رئيس المحكمة بإصدار أمره القضائي بالتصحيح داخل أجل محدد وهو ثلاثين يوما يبتدأ من تاريخ وضع الطلب أمامه، وهو أجل معقول يتوافق وطبيعة أحكام التحكيم التي تتطلب سرعة كبيرة في حلها أكثر من غيرها من القضايا العادية. فضلا عن أن الأمر القضائي الصادر عن رئيس المحكمة بتصحيح الأخطاء يكون غير قابل لأي طعن، وهو توجه محمود قد يجنب التحكيم إطالة أمد النزاع نهائيا.

وعلى الرغم من ذلك إلا أن المشرع لم يتنبه للحالة التي يتخلف فيها رئيس المحكمة عن اصدار أمره بالتصحيح خلال المدة التي حددها، وهذا الإشكال سيؤدي فعلا إلى إطالة أمد النزاع وتأخير أحكام التحكيم عن تنفيذها، وبالتالي ستتعطل أحكام التحكيم وتصبح دون تحقيق الغاية منها.

كما يلاحظ أن المشرع جعل من تقديم طلب التصحيح لرئيس المحكمة المختصة سبباً يوقف تنفيذ الحكم التحكيمي، وكذلك آجال تقديم الطعون إلى حين تبليغ حكم التحكيم المصحح إلى الأطراف[16]. وفي جميع الأحوال يخضع طلب التصحيح للمقتضيات العادية في إطار الأوامر المبنية على طلب، وذلك بواسطة مقال مؤداه عنه الرسوم القضائية، مرفقا بنسخة من حكم التحكيم المراد تصحيحه، وكذا بنسخة من اتفاق التحكيم.

المطلب الثاني :تدخل القضاء في تفسير وتأويل الأحكام التحكيمية

تقتضي منا دراسة تدخل القضاء لتحقيق فاعلية الحكم التحكيمي في تفسير وتأويل الحكم التحكيمي، معرفة مدى صلاحية القضاء في هذا التدخل والإجراءات القضائية المتبعة في تفسير وتأويل الحكم التحكيمي.

الفقرة الأولى :مدى صلاحية القضاء في تفسير وتأويل الحكم التحكيمي

بعد أن تصدر هيئة التحكيم قرارها الحاسم في النزاع بصفة نهائية، يكون قابلاً للتنفيذ إذا لم ترفع دعوى ببطلانه عند توافر إحدى حالاته المنصوص عليها في القانون.

إلا أنه في بعض الأحيان قد يصدر الحكم التحكيمي بعبارات وألفاظ معقدة يصعب معها فهم المقصود منه، مما يحتاج إلى تفسيره وإزالة الغموض عنه. فالتفسير يهدف إلى استجلاء ما وقع بالحكم التحكيمي من غموض أو إبهام للوقوف على حقيقة ما قصدته المحكمة التحكيمية بحكمها، وتقديرها لمواضع النزاع عن طريق البحث في العناصر الموضوعية التي تكوّن الحكم نفسه وليس عن طريق البحث عن إرادة الهيئة التي أصدرته[17]، كما أن التفسير يمكن صاحب المصلحة من السير بالحكم في طريق التنفيذ وفق ما قضي له به[18].

وتأكيداً لأهمية تفسير الأحكام التحكيمية فقد نظم المشرع المغربي ونظيره اليمني هذه المسألة[19]، وأعطوا لهيئة التحكيم صلاحية تفسير الأحكام الصادرة عنها بشكل جزئي أو كلي، بحيث تمارس هذه الصلاحية استثناء من قاعدة استنفاد ولايتها بعد اصدارها حكم قطعي في النزاع أو جزء منه، لأنها هي التي أصدرت الحكم ومن الطبيعي أنها تقوم بتفسيره لأنها الأقدر على القيام بذلك من غيرها[20].

غير أنه ليس لهيئة التحكيم أن تباشر صلاحية تفسير حكمها من تلقاء نفسها، بل أن ذلك يتوقف على طلب أحد الخصوم، وهذا المقتضى على عكس ما نجده في تصحيح الأخطاء المادية المتسربة لهذه المقررات التي تكون لهيئة التحكيم أن تباشره من تلقاء نفسها. هذا وقد حدد المشرع لهيئة التحكيم أجل معين يتم من خلاله تفسير حكمها وهو ثلاثين يوما التالية لتقديم الطلب إلى الهيئة التحكيمية، وهو نفسه الأجل الممنوح لإجراءات تصحيح الأخطاء التحكيمية.

الفقرة الثانية: الإجراءات القضائية المتبعة لتفسير الأحكام التحكيمية

ينص الفصل 29-327 من القانون 08.05 على أنه “إذا تعذر على الهيئة التحكيمية

الاجتماع من جديد، فإن صلاحية البت في طلب التأويل تخول لرئيس المحكمة الذي يجب عليه أن يبت في الأمر داخل أجل ثلاثين يوما بأمر غير قابل للطعن”.

من خلال النص نلاحظ أن المشرع منح القضاء سلطة البت في طلب تفسير وتأويل الحكم التحكيمي، وذلك في حالة ما إذا تعذر على هيئة التحكيم الاجتماع من جديد لسفر أحد اعضائها أو وفاته أو اعتراض الخصم على تقديم الطلب إلى هيئة التحكيم أو انقضاء الأجل المحدد قانوناً للنظر في طلب التفسير من قبل تلك الهيئة، وعليه فإن رئيس المحكمة الصادر الحكم التحكيمي في دائرتها يفصل في ذلك الطلب داخل أجل ثلاثين يوما بأمر غير قابل للطعن فيه.

ويترتب على تقديم طلب التفسير إلى المحكمة المختصة وقف مسطرة التنفيذ بمجرد تقديمه، وكذلك آجال تقديم الطعون إلى حين تبليغه، وفي حال تم قبول الطلب فإن الأمر التفسيري الصادر من قبل رئيس المحكمة يعتبر متمما للحكم الأصلي حيث يرتبط به ارتباطا وثيقا وامتداداً له وجزءً لا يتجزاء منه، وبالتالي يخضع للأحكام التي يخضع لها الحكم الأصلي.

كما أن أمر رئيس المحكمة التفسيري يحوز حجية الأمر المقضي، ولا يقبل الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن، وهنا نطرح تساؤلاً لم نتمكن من إجابته عليه عن ما هو الحل القانوني في حالة ما إذا انقضت مدة الثلاثين يوما ولم تصدر المحكمة أمرها التفسيري؟ في الحقية لم يتطرق المشرعين المغربي واليمن إلى هذا الإشكال المتعلق بمضي المدة القانونية ولم تصدر المحكمة أمرها التفسيري، كما لم يتم التعرف على حالة كهذه من قبل. ومع ذلك يبقى الاجتهاد في هذه المسألة مفتوحا أمام الباحثين للإجابة علية.

خاتمة

من خلال هذه الدراسة نصل إلى أن تدخل القضاء في اجراءات إلى المرحلة اللاحقة لصدور الحكم التحكيمي، هو في الحقيقة لتقديم المساعدة من أجل تقويم الأحكام التحكيمية وتصحيح الأخطاء المادية التي تشوبها وتفسير وتأويل تلك الأحكام، وهذه الرقابة لا تتعدى أن تكون رقابة شكلية فعالة لا تمتد إلى موضوع النزاع الصادر بشأنه ذلك الحكم. كما أن تدخل القضاء في إجراءات التحكيم لا يكون تلقائيا وإنما بناء على طلب الخصوم أو هيئة التحكيم، من أجل تذليل الصعوبات وإزالة العراقيل التي تعترض سير
إجراءات الخصومة التحكيمية سواء في المرحلة السابقة على صدور الحكم التحكيمي، أو اللاحقة لصدوره، فضلا عن أن هذا التدخل يكون وفق مسطرة استعجالية لتحقيق السرعة وضمان عدم البطء في إجراءات التقاضي، وهو أمر محمود يؤكد استقلال التحكيم عن القضاء، ويجعل تدخل القضاء رقابيا لا يمس مضمون الحكم التحكيمي وإنما مصححا ومفسرا له.


[1]. حفيظة الحداد، “الطعن بالبطلان على أحكام التحكيم الصادرة في المنازعات الخاصة الدولية”، دار الفكر الجامعي، 1997، ص7.

[2]. محمد سليم العوَا، “دراسات في قانون التحكيم المصري والمقارن”، دار الكتب القانونية، مصر، 2008، ص175.

[3]. محمد نور عبد الهادي شحاته، “الرقابة القضائية على أعمال المحكمين”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993، ص120.

[4]. شاهر مجاهد الصالحي، “الرقابة القضائية على التحكيم في القانون اليمني”، مجلة التحكيم العربي، العدد التاسع، 2006، ص184، عبد العزيز توفيق، “موسوعة قانون المسطرة المدنية والتنظيم القضائي”، منشورات المكتبة القانونية، الطبعة الثالثة، 2011، ص705.

[5]. مريم العباسي، ناصر بلعيد، كريم بنموسى، “دور القضاء في مسطرة التحكيم”، مكتبة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، سلسلة نهاية تدريب الملحقين القضائيين، العدد الثالث، الطبعة الأولى، 2011، ص49.

[6]. أحمد أبو الوفاء، “التحكيم الاختياري والتحكيم الإجباري”، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1983، ص693.

[7]. ينص الفصل 26-327 من القانون رقم 08.05 المغربي على أنه “يكتسب الحكم التحكيمي بمجرد صدوره حجية الشيء المقضي به …”.

[8]. فتحي والي، “ألوسيط في قانون القضاء المدني”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1987، ص916.

[9]. أحمد أبو الوفاء، مرجع سابق، ص268.

[10]. عزمي عبد الفتاح، “قانون التحكيم الكويتي”، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت 1990، ص138 وما يليها.

[11]. وقد اخذ بهذا الاتجاه المشرع الفرنسي في المادة (475) من قانون المرافعات الجديد، والمشرع المصري في المادة (50) من قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994 الذي ينص على أنه “تتولى هيئة التحكيم تصحيح ما يقع في حكمها من اخطاء مادية بحتة كتابية أو حسابية، وذلك بقرار تصدره من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الخصوم”.

[12]. نجيب أحمد عبدالله، “التحكيم في القانون اليمني”، منشورات مركز الصادق، اليمن، 2004، ص448.

[13]. انظر الفصل 28-327 من القانون رقم 05-08، تقابله المادة (52) من قانون التحكيم اليمني.

[14]. انظر المادة (50) من قانون التحكيم المصري.

[15]. أنظر المادة (52) من قانون التحكيم اليمني. كذلك لم يتعرض المشرع المصري لمسألة اعطاء القضاء صلاحية تصحيح الأحكام التحكيمية الصادرة عن هيئة التحكيم، بحيث اقتصر ذلك الحق على هيئة التحكيم وحدها، المادة (50) من قانون التحكيم المصري.

[16]. تنص الفقرة الأولى من الفصل 327.30 من القانون 08.05 على أنه ” يوقف طلب التصحيح أو التأويل تنفيذ الحكم التحكيمي وآجال تقديم الطعون إلى حين تبليغ الحكم التصحيحي أو التأويلي…”.

[17]. نجيب أحمد عبدالله، مرجع سابق، ص44، فتحي والي،” الوسيط في قانون القضاء المدني”، دار النهضة العربية، القاهرة، طبعة 2001، ص652، محمد سليم العوّا، مرجع سابق، ص170.

[18]. محمود مختار بريري، “التحكيم التجاري الدولي”، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1999، ص215.

[19]. ينص الفصل 28-327 من القانون 05-08 على أنه ” ينهي المحكم مهمة الهيئة التحكيمية بشأن النزاع الذي تم الفصل فيه. غير أن للهيئة التحكيمية:

    2- أن تقوم داخل أجل الثلاثين يوما التالية لتبليغ الحكم التحكيمي، بناء على طلب أحد الأطراف ودون فتح أي نقاش جديد، بما يلي :

    ب. تأويل جزء معين من الحكم”. كما نصت المادة (52) من قانون التحكيم اليمني على أنه ” … كما أنه يجوز لأي من الطرفين أن يطلب من اللجنة تفسير أي عبارات أو جمل أو إجراء من الحكم وبشرط إخطار الطرف الآخر بالطلب…”. كما تنص المادة (52) من قانون التحكيم اليمني على أنه “… ما يجوز لأي من الطرفين أن يطلب من اللجنة أن يطلب من اللجنة أن تصحح أي عبارات أو جمل أو أجزاء من الحكم بشرط إخطار الطرف الأخر، وإذا رأت اللجنة أن التصحيح أو التفسير المطلوب له ما يبرره فعليها إصدار التصحيح أو التفسير كتابة خلال الثلاثين يوما التالية لتسليم الطلب، ويعتبر التفسير جزءا من حكم التحكيم”.

[20]. محمود مختار بريري، مرجع سابق، ص215.

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *