Site icon مجلة المنارة

التحكيم ونزاعات العقود الإدارية-قراءة في الطبيعة القانونية للعقد الإداري الداخلي-

التحكيم ونزاعات العقود الإدارية -قراءة في الطبيعة القانونية للعقد الإداري الداخلي-

  الدكتورة كوثر أمين

باحثة في الإدارة والتنمية

رغم الجهود المبذولة لتحفيز القطاع الخاص للمساهمة في تحريك العملية التنموية في المغرب، فإن الدولة لازالت حاضرة بشكل قوي في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، إما بشكل مباشر بوسائلها وأموالها وأعوانها، وإما عبر التعاقد مع أطراف خاضعة للقانون الخاص؛ يتم تفويضهم للقيام ببعض المهام التي ترتبط بتدبير مختلف المرافق التي تسهر الأشخاص العامة على تدبيرها. وغاية ذلك الاستفادة من قدرات القطاع الخاص التمويلية والتقنية والخبرات الفنية، والإسهام بالتالي في الرفع من جودة ومردودية الخدمات المقدمة من قبل هذه المرافق.

وعلى ضوء ذلك، تأسست قيم للتعاقد والتعاون بين الأشخاص العامة وأشخاص القانون الخاص، في عملية تشاركيه من أجل تحقيق التنمية، عبر إبرام عقود أشغال وتوريدات وخدمات وعقود امتياز…الخ، لتنفيذ مهام المرافق العمومية بما يخدم الصالح العام.

وبعد أن انفتح المغرب على القطاع الخاص الأجنبي، للاستثمار داخل البلاد، وتحقيق التنمية في المجالات التي لا يستطيع القطاع العام والقطاع الخاص الوطني التكفل بإنجازها، أصبح الآن يسعى إلى تعبئة الاستثمار الوطني المحلي، من أجل الاستفادة من القدرات الحقيقية لهذا القطاع الذي عرف تطورات مهمة في السنوات الأخيرة، كخطوة تستحق الاهتمام بها قصد تشجيع هذا القطاع للمساهمة بشكل أكبر في تحقيق المصلحة العامة وتنفيذ مهام المرافق العمومية.

وفي إطار هذا السعي الحثيث من قبل السلطات العمومية لتحيق هذا المبتغى، كان من الضروري توفير قدر معين من الضمانات القانونية والقضائية بالأساس، حتى يقدم الرأس المال الوطني على الإقبال من أجل التعاقد مع الأشخاص العامة، خاصة إذا علمنا الموقع المتميز للأشخاص العامة في العقود التي تبرمها مع القطاع الخاص؛ بحكم كونها تتمتع بالسيادة والسلطان، وتمثيلها للصالح العام، في مقابل رأس مال يتميز بطابعه “الحذر”، أي أن المستثمر يفضل أن يستثمر وفق ضمانات تمنحه قدرا من الاستقرار والثبات، وتجنبه أي تغيرات قد تهدد الأموال التي يستثمرها في مشروع ما.

وتأسيسا على ما سبق، عملت السلطات العمومية على القيام بمجموعة من الإصلاحات منها ما مس نظام إبرام العقود الإدارية “الصفقات العمومية” ،حيث صدر مرسوم تنظيمي في سنة 1998 ثم غير بمرسوم آخر في 5 فبراير 2007، وهذا الأخير ومن خلال استقراء مضامينه يركز على نقطة أساسية، وهي المتعلقة بتحسين نظام الشفافية في مختلف مراحل إبرام الصفقة العمومية، كما تم إصدار تشريع خاص بعقود التدبير المفوض كآلية بين يدي الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية لتحسين أداء المرافق العامة المحلية التي تسهر على تدبيرها هذه الأخيرة.

وفي “سياق تحسين مناخ الاستثمار”، تم تعديل التشريع المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية من خلال إصدار القانون 08.05المعدل والمتمم لقانون المسطرة المدنية،[1] والذي أتى بمجموعة من المستجدات، تتضمن مجموعة من الضمانات القانونية والقضائية للاستثمار الوطني والأجنبي خاصة أمام القضاء، وذلك لمواجهة بعض “أزمات” العدالة، التي تواجه العديد من الإكراهات التي تدفع المستثمر المحلي أو الأجنبي على السواء إلى التخوف والنفور من الاستثمار.

ويعد التحكيم من الضمانات التي يشترط المتعاقدون مع الإدارة إدراجها ضمن هذه العقود، قصد إبعاد النزاع الذي قد ينشأ بسببها من اختصاص القضاء الرسمي. ويعتبر التحكيم عموما كمؤسسة لحل المنازعات من أقدم أنظمة العدالة التي عرفتها البشرية حيث تم التعارف عليها منذ عهود قديمة، ونصت عليها جملة من القوانين الخاصة والاتفاقيات الدولية. كما أكدت الشريعة الإسلامية على أهميته باعتباره من المبادئ الأساسية للنظام القضائي الشرعي.

ولئن أصبح من المتعارف عليه في الأوساط الأكاديمية والعلمية أن الدولة في إطار علاقتها التعاقدية ذات الصلة بمجال التجارة الدولية، يمكن أن تخضع لقضاء التحكيم، في سياق التراجعات التي يشهدها مفهوم السيادة في العلاقات الدولية، حيث تضطر الدولة الراغبة في الحصول على التمويل والاستثمار الأجنبي إلى قبول إخضاع أي منازعات محتملة بينها وبين المستثمرين لقضاء التحكيم الدولي. فالأمر أصبح يتجاوز هذا الحد لدرجة الحديث عن إخضاع العلاقات التعاقدية الداخلية للإدارة لقضاء التحكيم، وهي من الأمور الجديدة التي أتى بها القانون 08.05  السالف الذكر.

إن التشريع المغربي الحالي الخاص بمجال التحكيم في النزاعات التعاقدية الداخلية للأشخاص العامة، يعد متقدما بشكل كبير خاصة بالنظر إلى التشريع الملغى، وكذا بالنظر للأنظمة القانونية المقارنة كالتشريع الفرنسي أو التونسي على سبيل المثال.

وتتجلى فكرة هذا المقال، في البحث عن إشكالية التوازن بين العقد الإداري كآلية لتحقيق المصلحة العامة بما يتضمن من سمات تميزه عن عقود القانون الخاص، وبين متطلبات قضاء التحكيم المتعارف عليه عالميا، هذا من جهة ومن جهة أخرى بين مفهوم السيادة الداخلية للدولة ومتطلبات التحكيم.

إن لجوء الأشخاص العامة إلى التحكيم كوسيلة لحل النزاعات المتعلقة بعقود إدارية داخلية، ورغم الإيجابيات الممكن إجمالها فيما يتعلق بتحسين مناخ الاستثمار وتحفيز الخواص على التعاقد مع الإدارة بالشكل الذي قد يرفع من جودة الخدمات التي تقدمها مختلف المرافق العامة.

فإن لهذا الأسلوب في فض النزاعات أثار سلبية على الطبيعة القانونية وعلى نظرية العقد الإداري كنظرية أنشأها القضاء الإداري، ويتضح ذلك خاصة بالاستناد إلى حرية الإدارة والمتعاقد معها في اختيار القانون الواجب التطبيق من الناحية الإجرائية والموضوعية أثناء نظر هيئة التحكيم في النزاع محل التحكيم.

فالتحكيم في حد ذاته لا يؤثر على الطبيعة الإدارية للعقد، ولكن الذي يؤثر على تلك الطبيعة هو أن يطبق على النزاع محل التحكيم قواعد موضوعية غير تلك التي تقررها نظرية العقود الإدارية.[2]

كما أنه قد يثار تساؤل حول مدى تأثير نظام العقد الإداري أو خصوصيات العقد الإداري على قضاء التحكيم.

ففي هذه الحالة والتي يكون من شأن نظام العقد الإداري أن يعيق أو يحد من صلاحيات ومميزات نظام التحكيم كما هو متعارف عليها، سيثور إشكال جوهري يرتبط بمدى جدوى اللجوء للتحكيم كآلية لحل نزاعات الأشخاص العامة ذات الطبيعة الإدارية، وبالتالي من الأفضل إبقاء ولاية القضاء الرسمي على هذه النزاعات.

فقضاء التحكيم هو قضاء اتفاقي وبالتالي يبقى لإرادة الطرفين الحسم في هذه المسالة، حسبما تقتضيه مصلحة كل طراف، فتحديد صلاحيات الهيئة التحكيمية هو من اختصاص أطراف النزاع.

وقبل التعرض للآثار المحتملة على نظرية العقود الإدارية كإحدى نتائج إعمال آلية التحكيم (المحور الثاني)، لابد من أن نعرض أولا للنظام القانوني للعقد الإداري (المحور الأول) من خلال التطرق لامتيازات الإدارة وحقوق المتعاقد، ثم بعد ذلك نتناول في (المحور الثالث) الحديث عن بعض التقنيات الكفيلة بالحفاظ على نظرية العقد الإداري في ظل الاستعانة بالتحكيم كآلية لحل النزاعات المرتبطة به.

المحور الأول: النظام القانوني للعقد الإداري.

يتميز العقد الإداري بمجموعة من الخصائص التي تجعله يختلف عن باقي العقود الأخرى الخاضعة للقانون الخاص، والتي أقرها له الاجتهاد القضائي،[3] وذلك بحكم تواجد الإدارة والمصلحة العامة طرفا في هذه العقود، وذلك من خلال الامتيازات التي تتمتع بها الأشخاص العامة “المطلب الأول”، إلا أن المتعاقد مع الإدارة يتمتع هو الآخر بمجموعة من الضمانات التي تحمي موقعه ومركزه في العقود الإدارية “المطلب الثاني”، والتي كان الهدف من إقرارها تشجيع الخواص على التعاقد مع الإدارة لتنفيذ مهمة المرفق العام.

المطلب الأول: امتيازات الأشخاص العامة في العقد الإداري.

تتمتع الأشخاص العامة في العقود الإدارية بمجموعة من الامتيازات كنتيجة لحضور مبدإ السيادة والسلطان في مثل هذه العقود والتي يمكن ذكرها كالتالي:

الفقرة الأولى: الحق في مراقبة تنفيذ العقد.

يعطي العقد الإداري للإدارة الحق في مراقبة تنفيذ العقد من قبل المتعاقد بشكل يلتزم فيه المتعاقد بكافة الشروط التعاقدية والتنظيمية الواردة في العقد، وتملك الإدارة في ذلك سلطة التتبع والتوجيه والإشراف، ولها أن تصدر الأوامر والتعليمات والمنشورات، التي تلزمه بأن يتبع طرقا معينة في تنفيذ الالتزامات المتعاقد بشأنها.[4]

كما أن للإدارة أن تقوم بالمراقبة المادية لتنفيذ العقد من خلال التعرف على مناخ تنفيذ الأعمال، من حيث جودة المواد المستعملة والشروط الفنية والتقنية والاجتماعية، ولها أن تصدر في ذلك ما تراه مناسبا من أوامر وتوجيهات لضمان حسن سير المرفق العام، وعلى المتعاقد أن يلتزم بتلك التوجيهات وإلا كان محل مسألة قانونية.[5]

الفقرة الثانية: الحق في توقيع جزاءات على المتعاقد.

تملك الإدارة في مواجهة المتعاقد الذي يخل بالتزاماته التعاقدية، إمكانية توقيع مجموعة من الجزاءات،[6] كالجزاءات المالية[7] “غرامات التأخير و/أو مصادرة التأمين”[8] والضغط والإكراه أو فسخ العقد والفسخ يعد أقوى جزاء في هذا الإطار، لذا يستلزم القضاء الإداري أن يكون اللجوء لمثل هذا الإجراء في الحالة التي يرتكب فيها المتعاقد مع الإدارة خطأ جسيما يمس السير العادي والمنتظم للمرفق العام،[9] وهو في ذلك يختلف عن سلطة إنهاء العقد الإداري التي تملكها الإدارة حتى في الحالات التي لا يرتكب فيها المتعاقد مع الإدارة أي خطئا. وللإدارة في حالة الفسخ نتيجة إخلال المتعاقد بالتزاماته إمكانية رفع الدعاوى أمام القضاء التي ترى أنها كفيلة بالحصول من خلالها على التعويضات المناسبة.[10]

كما تملك الإدارة في نفس السياق سلطة التنفيذ المباشر وعلى نفقة المتعاقد، أو القيام بتفويت الصفقة موضوع العقد إلى متعاقد أو متعهد آخر، ويتم هذا الإجراء على حساب المتعاقد وتحت مسؤوليته، في الحالات التي يتطلبها سير المرفق العام ذلك.

والهدف من وراء هذه الجزاءات هو تقويم المتعاقد حتى لا يقصر في ضمان السير العادي والمنتظم للمرفق العام، بشكل يضمن المصلحة العامة التي هي مناط عمل الدولة وسائر الأشخاص العامة الأخرى.

الفقرة الثالثة: سلطة تعديل العقد بصورة انفرادية.

للإدارة الحق في تعديل الشروط والالتزامات التعاقدية بشكل انفرادي، ودونما حاجة إلى موافقة الطرف المتعاقد حسبما تقتضيه المصلحة العامة،[11] وهذه سمة تميز العقود الإدارية عن عقود القانون الخاص، ولا ضرورة للنص عليها في العقد الأصلي أو في دفاتر الشروط الملحقة به سواء دفتر الشروط العامة أو المشتركة أو الخاصة.[12]

لكن الدولة أو الإدارة حينما تلجأ إلى سلطة التعديل الانفرادي فإنها تتقيد بمجموعة من القيود التي تضمن حقوق المتعاقد مع الإدارة، حيث لا تشمل سلطة التعديل هذه الشروط المالية للعقد والمزايا المالية المعترف بها للمتعاقد.

وتستند سلطة الإدارة في تعديل بنود العقد إلى مسألتين أساسيتين، الأولى تتعلق بأن الإدارة تمثل الصالح العام وبالتالي لابد و أن تستجيب لما تتطلبه عملية الحفاظ ورعاية الصالح العام، والثانية تتمثل من كون الإدارة تمثل السلطة العامة التي تسموا على باقي الأفراد الأخرى[13].

الفقرة الرابعة: سلطة إنهاء العقد.

للإدارة الحق في إنهاء العقد حتى في الحالة التي يكون فيه المتعاقد غير مخل بالتزاماته التعاقدية، وهذه القاعدة مسلم بها في إطار العقود الإدارية، وهي سمة أخرى تميز العقود الإدارية عن باقي العقود الأخرى الخاضعة للقانون الخاص، وقد تعتمد الإدارة في إنهاء العقد مجموعة من الأسباب والمبررات، كأن تعتبر أن استمرار العقد لا يشكل فائدة بالنسبة لسير المرفق العامة، وأن هذا العقد لا يحقق المصلحة العامة التي كانت السبب وراء إبرامه.

وقد يرى البعض أن هذه السلطة ما هي إلا مظهر من مظاهر تدخل الإدارة في تغيير بنود العقد، فهنا تتدخل الإدارة لتغير وتعديل البند المتعلق بالمدة، وبالتالي فهي مرتبطة بسلطة الإدارة في تعديل بنود العقد الإداري، غير أن اتجاها أخر يرى بأن هذه السلطة مستقلة بذاتها، عن سلطة الإدارة المتعلقة بتعديل بنود العقد.[14]

وتمتلك الإدارة في هذا المجال سلطة تقديرية في تقدير ملائمة التعاقد مع المصلحة العامة، فإن رأت أن إنهاء العقد يشكل مصلحة عامة، كان لها أن تنهي العقد الإداري، حتى ولو لم يخطئ المتعاقد في تنفيذ التزاماته التعاقدية.

المطلب الثاني: حقوق المتعاقد مع الأشخاص العامة.

في مواجهة تلك الامتيازات التي تتمتع بها الأشخاص العامة في العقود الإدارية، تم إقرار مجموعة من الحقوق والضمانات للأشخاص الخاصة التي تتعاقد مع الإدارة لضمان حقوقهم خاصة ذات الطبيعة المالية، هذا من جهة،[15] وقصد ردع الأشخاص العامة من التعسف في استعمال السلطات المخولة لها بموجب العقود الإدارية بصفتها صاحبة سيادة وسلطان وتمثل الصالح العام من جهة أخرى.

ويمكن إجمال تلك الحقوق والضمانات في الحصول على المقابل المادي للخدمات التي ينجزها للشخص العام، والحق في الحصول على التعويض نتيجة حالات معينة، والحق في تحقيق التوازن المالي للعقد.

الفقرة الأولى: الحصول على مقابل مادي.

يقع المقابل المادي الذي سيتقاضاه المتعاقد من الشخص العام، في هرم أولوياته وهو الدافع الرئيسي إن لم نقل الدافع الوحيد نحو التعاقد، فالأشخاص الخاصة تهدف إلى تحقيق الربح المادي من وراء ما تسديه وما تقدمه للشخص العام من خدمات.

وبالتالي يكون من حق هذا المتعاقد أن يحصل على مقابل مادي متعاقد عليه مقابل الأعمال التي أنجزها لفائدة الشخص العام، ويمكن أن يكون هذا المقابل إما في شكل مبالغ مالية تسدد عبر مراحل بحسب إنجاز الأعمال وهذه تنصب بالأساس على إنجاز الأشغال العامة أو بعد انتهاء الأشغال.[16]

 ويمكن أن يكون هذا المقابل في شكل رسوم يتقاضاها المتعاقد المسير للمرفق العام من قبل المرتفقين مقابل الخدمات التي يقدمها لهم، وتطبق هذه الطريقة في عقود الامتياز وعقود التدبير المفوض، على أن تحديد مقدار هذه الرسوم يعود إلى العقد الإداري المنشأ لحق الامتياز أو للتدبير المفوض.

الفقرة الثانية: الحصول على تعويض مقابل تدخلات الإدارة.

عطفا على ما سبق، بكون الإدارة تمتلك العديد من السلطات لتتدخل في تنفيذ العقد الإداري وتحديد طريقة التنفيذ، بما ينسجم وحسن أداء المرفق العام لنشاطه، وأن هذا التدخل قد يزيد من حجم الأعباء والتكاليف المالية على المتعاقد، خاصة بالنسبة لتدخل الإدارة في تغيير شروط العقد التعاقدية، وفي توجيه تعليمات وأوامر لتحدد للمتعاقد طريقة تنفيذ العقد، والتي لا يملك إزاءها المتعاقد إلا الانقياد لها بشكل كلي. فإن الإدارة ملزمة بتقديم تعويض مادي بشكل يتناسب مع حجم التكاليف المتحملة من قبل المتعاقد، بشكل يضمن له قدر معين من الربح المادي،[17] وذهب القضاء الإداري في هذا الاتجاه، بل أكثر من ذلك حيث أقر منح المتعاقد الذي ينفذ أشغال خارج الصفقة، تعويضا عن هذه الأشغال حتى ولو لم تطلب الإدارة منه ذلك طالما أن تلك الأشغال أساسية لحسن سير المرفق العمومي.[18]

الفقرة الثالثة: الحق في التوازن المالي للعقد.

المتعاقد مع الإدارة في غالب الأحيان يكون من أشخاص القانون الخاص، ويجعل الربح المادي هدفه ودافعه من أجل التعاقد مع شخص عام، من أجل تدبير أحد المرافق العامة التي تهدف لتحقيق المصلحة العامة ولا تستهدف تحقيق الربح المادي.

لذا فإن على الإدارة أن تضمن له حيزا معقولا من الربح المادي من خلال ضمان التوازن المالي للعقد،[19] خاصة في حالات معينة أقرها الاجتهاد القضائي، فليس من المنطق في شيء أن يتحمل المتعاقد من ماله الخاص تسيير مرفق عام يستفيد منه العموم. وعليه، فالإدارة ملزمة بموجب قاعدة الحفاظ على التوازن المالي للعقد، بالتدخل لتعويض المتعاقد في حالات معينة وهي:

1- فعل الأمير: كل عمل يصدر عن السلطة العامة دون خطأ من جانبها، يترتب عليه وضع المتعاقد في مركز سيء.

2- الظروف الطارئة: وقوع أمور وأحداث خارجة عن إرادة الإدارة وكذا المتعاقد معها، ولم يكن متوقع حدوثها عند التعاقد، فتؤدي تلك الأمور إلى قلب اقتصاديات العقد رأسا على عقب، مما يصبح معه تنفيذ العقد مرهقا بالنسبة للمتعاقد مع الإدارة، مثل الزيادة في أسعار المواد الأولية أو خفض قيمة العملة…الخ.

3- الصعوبات المادية غير المتوقعة: وهو حدوث أمور غير متوقعة أثناء تنفيذ العقد كالعثور على صخور صلبة غير متوقع وجودها في مكان تنفيذ الأشغال مما يترتب عنه زيادة في التكاليف وتأخر في الإنجاز.[20]

ففي مثل هذه الحالات تتدخل الإدارة لتعويض المتعاقد بشكل يتناسب مع حجم الضرر الذي لحقه من جراء زيادة تكاليف وأعباء تنفيذ مهمة المرفق العام، وذلك بشكل يحقق له التوازن المالي للعقد.

المحور الثاني: آثار التحكيم على نظرية العقود الإدارية الداخلية.

لقد أجاز المشرع المغربي لجوء الأشخاص العامة للتحكيم في نزاعاتها المرتبطة بالعقود الإدارية الداخلية كما رأينا سابقا، وهذا في حد ذاته لا يؤثر على النظام القانوني للعقود الإدارية، لكن أن يصحب ذلك بإعطاء أطراف النزاع الحرية في اختيار القانون الواجب التطبيق هو ما قد يؤثر على نظرية العقود الإدارية، خاصة في الحالات التي يختار فيها الأطراف الاحتكام لقانون لا يقر بامتيازات الإدارة في العقد الإداري، ولا يقيم التفرقة بين المنازعات الإدارية والمنازعات المدنية والتجارية، وهو ما يؤدي إلى عدم إعمال مبادئ القانون العام التي تحكم نظريات القانون الإداري ومنها نظرية العقود الإدارية الداخلية[21].

ولذلك فتأثير التحكيم على النظام القانوني للعقود الإدارية، يكون له مجموعة من النتائج منها ما يرتبط بامتيازات الإدارة داخل العقد الإداري وخاصة أثناء تنفذه، ومنها ما يرتبط بحقوق الطرف المتعاقد مع الإدارة.

المطلب الأول: آثار التحكيم على امتيازات الإدارة. 

إن خضوع العقود الإدارية إلى التحكيم كما هو مقرر من قبل المشرع المغربي في قانون المسطرة المدنية كما تم تعديله وتتميمه، والذي يعترف للأطراف بحرية اللجوء للتحكيم، وفق شكليات معينة بالنسبة للأشخاص العامة وكذا حريتهم في اختيار القانون الواجب التطبيق، فضلا عن كون باقي إجراءات التحكيم تتم بشكل اتفاقي وفق مبدإ المساواة بين الأطراف، كاختيار الهيئة التحكيمية مثلا، فإن هذا يمس سيادة الدولة من خلال تخلي الدولة عن حصانتها القضائية “القضاء الإداري” وكذا عن سمو مركزها القانوني في العقود الإدارية.

إن القواعد الموضوعية التي سيتفق الأطراف على إخضاع نزاعات العقود الإدارية الداخلية لها، أو القانون الذي ستختاره الهيئة التحكيمية في الحالات التي لا يتفق الأطراف على القواعد القانونية الموضوعية الواجبة التطبيق وذلك بالنظر للفقرة الثانية من الفصل18-327،[22] لا يشترط فيه أن يعترف للإدارة بامتيازات قانونية في مواجهة المتعاقد معها مما قد يضر بسير المرافق العمومية وبالتالي الأضرار بالمصلحة العامة، التي تشكل العقود الإدارية آلية مهمة في تحقيقها، بل قد يتجاوز هذا الحد بإقرار امتيازات لصالح الطرف المتعاقد مع الإدارة، تسمو على ما هو منصوص عليه لفائدة الشخص العام.[23]

ونذكر من أمثلة ذلك التنصيص على شرط الثبات التشريعي أو شرط عدم المساس بالعقد، والذي يحرم الإدارة من التدخل في تغيير العقد بما يخدم الصالح العام.

 وبالتالي لن يُعترَف للدولة وسائر أشخاص القانون العام الأخرى بالحق في المراقبة والتتبع والإشراف على تنفيذ العقد الإداري وفق التصور المتعارف عليه في نظرية العقد الإداري، حيث تحدد الإدارة طريقة تنفيذ العقد من خلال المنشورات والتعليمات التي توجهها إلى للمتعاقد، بما يخدم المصلحة العامة التي تمثلها الإدارة.

وكذا لن يعترف للدولة بحقها في توقيع جزاءات معينة على المتعاقد الذي يخل بالتزاماته، وعليها اللجوء في هذه الحالة لتحريك مسطرة التحكيم، مما قد يضر بالسير العادي والمنتظم للمرفق العام، حيث ستفقد الإدارة قدرتها على التدخل المباشر لتنفيذ العقد على نفقة المتعاقد في حالة التقصير أو حتى تفويت الصفقة إلى متعاقد أخر على نفقة المتعاقد المقصر دائما.

وعليه، فإن غياب مثل هذه السلطة للإدارة في مواجهة المتعاقد قد يجعل هذا الأخير وفي حالة عدم وفائه بالالتزامات المتعاقد عليها بالشكل المطلوب، وفي المدة المحددة، مما يضر بالصالح العام، واتفاق التحكيم سيقيد يد الإدارة في التدخل للدفاع عن المصلحة العامة التي تمثلها مختلف الإدارات العمومية وسائر الأشخاص العامة، خاصة في الحالة التي يتمظهر فيها اتفاق التحكيم في صورة شرط للتحكيم.

وزد على ذلك، حرمان الإدارة من حقها في إمكانية التدخل بشكل انفرادي في تعديل بعض بنود العقد بما ينسجم مع حسن تدبير المرفق العام، وتحقيق المصلحة العامة بالشكل الأكثر ملائمة لمتطلبات الإدارة، وبما ينسجم مع التطورات التي يعرفها المرفق العام انسجاما مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية للبلاد.

أما سلطة الفسخ بشكل انفرادي في الحالة التي يخل المتعاقد في تنفيذه للعقد بالتزاماته الأساسية، أي حينما يرتكب المتعاقد أخطاء جسيمة وبالغة الفداحة تضر بالسير العادي للمرفق العام، فيبدو مستحيلا تصور تطبيقها في ظل عقود إدارية تتضمن شرط اللجوء للتحكيم لحل النزاعات المرتبطة بها، بالرغم مما قد تقتضيه المصلحة العامة، والتي تتطلب في بعض الأحيان التدخل السريع من قبل الإدارة لتلافي بعض المخاطر التي قد تقع من جراء توقف المرفق العام أو تأخره في تقديم الخدمات المرجوة منه.

وحتى في الحالة التي لا يخل فيها المتعاقد بالتزاماته، فالإدارة قد ترى بأن استمرار تنفيذ العقد لم يعد يستجيب للمصلحة العامة التي كان متصور أن يؤديه تنفيذ العقد أثناء إبرامه، مما يدفعها إلى إنهاء التعاقد، وفي حالة وجود شرط التحكيم فمن المستبعد قيام الإدارة بمثل هذا التصرف، والذي قد يرتب على الإدارة تعويضات ضخمة لفائدة المتعاقد رغم تنازل الإدارة عن المطالبة بتنفيذ العقد.

ورغم ما تم ذكره من آثار للتحكيم على طبيعة العقود الإدارية فإنه يلزم توضيح ماهية العناصر المكونة للعقد الإداري التي تكون محل تحكيم، هل يشمل التحكيم العقد الإداري بشكل كامل؟ أم أن هناك عناصر من العقد الإداري لا تخضع لمقتضيات التحكيم كالشروط التنظيمية التي تحمي مصالح وامتيازات الإدارة في مثل هذه العقود، وإذا كانت كذلك فما أهمية التحكيم في هذه العقود في هذه الحالة.

يعتقد البعض أن ما يخضع للتحكيم في إطار نزاع قائم جراء عقد إداري، لا يتعلق بالشروط التنظيمية المتضمنة في العقد أو الشروط الواردة في اللوائح ذات الصلة بمجال العقد، والتي قد توفر للشخص العام هامش معين في مراقبة تنفيذ العقد الإداري.[24] بما يضمن تحقيق المصلحة العامة المستهدفة أصلا من العقد الإداري.

وإنما يشمل فقط الشروط التعاقدية، وهو ما قد يحرم الإدارة من بعض الامتيازات في هذه الحالة، وهي تلك المتعلقة مثلا بحرية تعديل بنود العقد وسلطة الفسخ والإنهاء…الخ.

المطلب الثاني: آثار التحكيم على حقوق الطرف المتعاقد مع الإدارة.

إن تأثير التحكيم في نزاعات العقود الإدارية الداخلية لا يقتصر على امتيازات الإدارة التي سبق أن تحدثنا عنها في المطلب السابق، بل يمتد إلى الضمانات التي يتمتع بها المتعاقد مع الإدارة.

فبحكم أن تلك الضمانات منحت للمتعاقد في إطار نظرية العقد الإداري لحمايته من التعسف المحتمل للإدارة في استخدام سلطاتها وصلاحيتها، وبالتالي فحرمان الإدارة من تلك الصلاحيات والسلط، يصحبه بشكل تلقائي حرمان المتعاقد من كافة تلك الضمانات والحقوق. وبالتالي يصبح المتعاقد في تنفيذ التزاماته وكأنه يتعامل مع أي شخص خاص، وبطبيعة الحال نتحدث هنا في الحالة التي يتم فيها اختيار تطبيق القانون العادي على مثل هذا النزاع، وأن يكون هذا القانون لا يقيم التفرقة ولا يميز بين العقود الإدارية والعقود المبرمة في إطار القانون الخاص.

وبناء على أن الإدارة تفقد سلطاتها في التدخل الانفرادي في تعديل بنود العقد ” نظرية فعل الأمير“، فالمتعاقد لن يكون بحاجة إلى التعويض الملازم لهذا التدخل في الحالة التي يترتب عن تدخل الإدارة زيادة في الأعباء والتكاليف المالية على المتعاقد، طالما أن الإدارة لن تتدخل.

 وتأسيسا عليه، فإن الأثر السلبي الذي يمكن أن يقع على المتعاقد هو في حالة تعلق الأمر بصعوبات مالية يواجهها المتعاقد في تنفيذ العقد أو في حالة الظروف الطارئة أو القوة القاهرة، وفي مثل هذه الحالات يستحق المتعاقد تعويض “تحقيق التوازن المالي للعقد”، وهو غير ملزم بإثبات خطإ الإدارة لاستحقاقه، أما في الحالة التي يرتبط فيها العقد بالتحكيم فالإدارة غير ملزمة بتحقيق التوازن المالي للعقد ولها أن تطالب المتعاقد بتنفيذ التزاماته بالشكل المحدد في العقد، وداخل الآجال المحددة، ولها في حالة الإخلال بذلك أن تطالب بالتعويض المادي، لكن التساؤل المطروح هنا، ماذا ستستفيد الإدارة من هذا التعويض في حالة إقراره من قبل هيئة التحكيم في الحالة التي يتضرر المرفق العام من جراء تعثر المتعاقد في تنفيذ التزاماته.

المحور الثالث: كيفية الحفاظ على الطبيعة القانونية للعقود الإدارية.

إن التحكيم في العقود الإدارية الداخلية وفق ما جاء في التشريع المغربي وخاصة في الجزئية المتعلقة بحرية الأطراف في اختيار القانون الواجب التطبيق، وما لها من آثار، والتي تعرضنا لها سابقا، سواء تلك المرتبط بامتيازات الإدارة أو تلك المرتبطة بحقوق المتعاقد، تجعل الحديث عن نظام أو نظرية العقود الإدارية شيئا صعب الاستيعاب في ظل وجود شرط أو عقد تحكيم، فالعقد الإداري يتميز عن غيره من العقود بتلك الامتيازات التي يمنحها للإدارة ممثلة الصالح العام، والتي وضعها القضاء الإداري لمنح السلطات الإدارية القدرة على التحكم في سير المرافق العامة، وبالمقابل منح المتعاقد مع الإدارة مجموعة من الحقوق التي تضمن له تحقيق قدر معقول من الربحية وحمايته من تدخلات الإدارة الانفرادية، بهدف تشجيع الخواص على التعاقد مع الإدارات العمومية وذلك كنتيجة لتراجع الدولة في حجم تدخلاتها، والرغبة في الاستعانة بالقدرات المالية والتقنية والتنظيمية للقطاع الخاص في تحسين جودة الخدمات المقدمة من قبل مختلف المرافق العمومية.

لكن أن تصبح رغبة الدولة في تعبئة القطاع الخاص المحلي وإشراكه في تدبير بعض المرافق العمومية، تجعلها تتخلى عن حصانتها القضائية وعن امتيازاتها وعن موقعها المتميز داخل نظرية العقد الإداري في سبيل تحقيق التنمية، تجعل هذه السيادة تنتقل من يد الدولة إلى يد الاستثمار والمستثمرين، المحليين والأجانب على السواء، ولذلك ومن أجل الحفاظ على الطبيعة القانونية للعقود الإدارية وخاصة تلك المعروض نزاعاتها على قضاء التحكيم، يلزم اتخاذ بعض الخطوات التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك.

وقبل أن نذكر بعض هذه الإجراءات، تجدر الإشارة إلى أن التشريع المغربي حاول الحفاظ شيئا ما على قدر معين من تدخل القضاء الإداري في النزعات المرتبطة بالعقود الإدارية المعروضة على قضاء التحكم، وذلك من خلال إسناد إصدار الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي للقضاء الإداري، وذلك من خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية حيث جاء فيه ما يلي: “… يرجع اختصاص النظر في طلب تذييل الحكم التحكيمي الصادر في نطاق هذا الفصل، إلى المحكمة الإدارية التي سيتم تنفيذ الحكم التحكيمي في دائرتها، أو إلى المحكمة الإدارية بالرباط عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني.”، وهو نفس الاتجاه الذي سار فيه المشرع المصري من خلال المادة 9 من نظام التحكيم والتي جاء فيها: “يكون الاختصاص بنظر مسائل التحكيم التي يحيله هذا القانون إلى القضاء المصري للمحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع…”، ومن بين هذه المسائل التي يحيله القانون المصري للتحكيم إلى القضاء ما تعلق بإصدار الأمر بتنفيذ الحكم التحكيمي.[25]

والقضاء هنا لا يملك مناقشة الحكم التحكيمي لا في الشكل ولا في الجوهر فيكتفي إما بإصدار الأمر بالتنفيذ وتذييله بالصيغة التنفيذية، أو رفض تذييله بالصيغة التنفيذية.

وقد ثار نقاش فقهي حول حجية الحكم التحكيمي وهل يكتسب قوة الشيء المقضي به بمجرد صدوره، أم لا بد من تذييله بالصيغة التنفيذية حتى يكتسبها،[26] وما فائدة إصدار الصيغة التنفيذية في الحالة التي يكون فيها للحكم التحكيمي حجيته بمجرد صدوره، خاصة إذا تعلق الأمر بنزاع أحد أطرافه شخص عام، وهكذا حسم المشرع المغربي هذا الخلاف في الفقرتين الأولى والثانية من الفصل 26-327 من قانون المسطرة المدنية، حيث أكد على أن الحكم التحكيمي يكتسب بمجرد صدوره حجية الشيء المقضي به بخصوص النزاع الذي تم الفصل فيه، غير أن الحكم التحكيمي لا يكتسب حجية الشيء المقضي به، عندما يتعلق الأمر بنزاع يكون أحد الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام طرفا فيه، إلا بناء على أمر بتخويل صيغة التنفيذ.

وهو الحال الذي ينطبق على منازعات العقود الإدارية الداخلية المعروضة على قضاء التحكيم، ولعله إجراء يحفظ نوعا ما من مكانة العقود الإدارية، وبالتالي من مكانة الشخص المعنوي العام في أي علاقة تعاقدية ذات طبيعة إدارية داخلية ولو بشكل رمزي.

واعتبارا لذلك، لا يكفي للحفاظ على الطبيعة القانونية والقضائية للعقد الإداري الداخلي، ذكر بعض الإجراءات التي يمكن اعتمادها في هذا السياق، والتي تتطلب تدخل المشرع لإعادة النظر في القانون المتعلق بالتحكيم، ونذكر على سبيل المثال، التنصيص على عدم جواز إبرام الأشخاص العامة من غير الدولة على عقود تتضمن شرط تحكيم، وأن تمنح باقي الأشخاص العامة الأخرى الحق في إبرام عقود للتحكيم فقط،[27] أي أن تمنح للأشخاص المعنوية العامة من غير الدولة الحق في اللجوء للتحكيم ولكن بعد نشوء النزاع، وليس بشكل قبلي كما هو الحال في شرط التحكيم، رغم أن أغلب المستثمرين الخواص يشترطون النص على شرط التحكيم في العقد الإداري خوفا من تشبث الدولة بحصانتها القضائية بعد نشوب أي نزاع حول تنفيذ العقد.

وهو المبدأ الذي اعتمده المشرع المغربي بالنسبة للنزاعات المالية الناشئة عن التصرفات الأحادية للأشخاص العامة حيث منحت هذه الأخيرة إمكانية إبرام عقود تحكيم دون الحق في إبرام اتفاق التحكيم في شكل شرط التحكيم، وذلك من خلال منطوق الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية، والتي جاء فيها: “لا يجوز أن تكون محل تحكيم النزاعات المتعلقة بالتصرفات الأحادية للدولة أو الجماعات المحلية أو غيرها من الهيئات المتمتعة باختصاصات السلطة العمومية.

غير أن النزاعات المالية الناتجة عنها، يمكن أن تكون محل عقد تحكيم ما عدا المتعلقة بتطبيق قانون جبائي،…”.

وأن تضمن العقود الإدارية محل التحكيم المبادئ الأساسية للعقود الإدارية،[28] من خلال تضمين تلك العقود حق الشخص العام في الإشراف على تنفيذ العقد، وحقه في إدخال تعديلات من جانب واحد إدا دعت المصلحة العامة إلى ذلك، وحقه في توقيع جزاءات محددة ومعينة ومتناسبة، وحقه في فسخ العقد بشكل انفرادي في الحالة التي يرتكب فيه المتعاقد إخلال جسيما بالتزاماته الأساسية، وأن يتم ذلك وفق ما تقتضيه المصلحة العامة.

ويمكن إدخال هذه الشروط في العقود الإدارية انطلاقا من مبدإ العقد شريعة المتعاقدين، فإذا كان الشخص الخاص يشترط اللجوء للتحكيم في مثل هذه العقود، فمن حق الإدارة هي الأخرى أن تقدم ما تشاء من الشروط التي تضمن لها حقوقها في مراقبة حسن تنفيذ العقد وحسن سير المرفق العام بما يخدم المصلحة العامة، رغم أن الأمر هنا يتوقف على موافقة الطرف الآخر، ولا يمكن للإدارة أن تتعلل بأن مثل هذه الشروط ستدفع القطاع الخاص إلى النفور من التعاقد مع الإدارة، لأن حجم التنافس بين القطاع الخاص في الظفر بصفقات وعقود مع الأشخاص العامة، خاصة تلك التي تهم المشروعات الكبرى تجعل الإدارة في موقع قوة، يمكنها من أن تشترط ما قد يضمن لها الحدود المعقولة التي تخول لها تتبع ومراقبة وتوجيه عملية تنفيذ العقد الإداري.

بالإضافة إلى ضرورة تقييد حرية الأطراف في نزاع مرتبط بعقد إداري داخلي معروض على التحكيم في اختيار القانون الواجب التطبيق، باشتراط أن يكون هذا القانون يقيم التمييز بين العقود الإدارية وباقي العقود الخاضعة للقانون الخاص، حتى ولو تعلق الأمر بقانون أجنبي، المهم هو أن يحفظ القانون المطبق من الناحية الموضوعية في التحكيم للإدارة سلطاتها التي تكفل لها القدرة على حماية الصالح العام من خلال امتيازاتها المتعارف عليها في هذا المجال، أما القواعد الإجرائية فللأطراف حرية مطلقة للاختيار في هذا الباب، بالشكل الذي يوفر ضمانات التقاضي المتعارف عليها، وبما ينسجم مع حسن سير إجراءات التحكيم، وما تتطلبه من يسر وليونة وتبسيط في المساطر المتبعة.

خاتمة:

إن للتحكيم في العقود الإدارية الداخلية آثار قانونية واقتصادية تطال مجموعة من الجوانب، سواء تلك المرتبطة بطبيعة العقد الإداري أو بالهدف أو الغاية المتوخاة من ورائه.

وإن كانت للتحكيم آثار إيجابية تتجلى بالأساس فيما هو اقتصادي، من خلال استفادة الشخص العام من القدرات التقنية والفنية والتمويلة للقطاع الخاص في تسير وتدبير المرافق العامة والرفع من مردوديتها وجودة خدماتها.

هذا فضلا عما يمكن أن نذكر من إيجابيات ترتبط بسرعة فض النزاعات الناشئة أو الممكن أن تنشأ بسبب هذه العقود، والتي تتمظهر من خلال سلاسة قضاء التحكيم وبساطة إجراءاته، هذا بالإضافة إلى التخفيف من حجم النزاعات المعروضة على القضاء الرسمي.

فان للتحكيم من جهة أخرى آثار يمكن اعتبارها سلبية، وهي التي تطال طبيعة العقد الإداري الداخلي وتنصب على كنهه و ماهيته، كما تطال الشخص العام في امتيازاته وسلطاته.

والتي تتجلى بالأساس في تقييد الامتيازات التي يمنحها العقد الإداري الداخلي للشخص العام، والمتمثلة في سلطة الفسخ والتنفيذ الجبري والإنهاء وإنزال العقوبات المختلفة على المتعاقد مع الإدارة، وذلك من أجل ضمان حسن تنفيد هذا العقد، بما يضمن السير العادي للمرفق العام.

وفي الختام يجد التأكيد بأن اللجوء إلى التحكيم لا يؤثر على طبيعة العقد الإداري، وإنما يتأثر  الأخير حينما يقترن قضاء التحكيم بتطبيق قانون لا يميز بين العقد الإداري وعقد القانون الخاص.


[1]–  القانون رقم 08.05 القاضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية الصادر الأمر بتنفيذه ظهير شريف رقم 1.07.169 بتاريخ 19 من ذي القعدة 1428 (30 نوفمبر2007)، الجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 25 ذو القعدة 1428 (6 ديسمبر 2007)، ص 3894.

[2] – جعفر كريشان، التحكيم في العقود الإدارية الدولية، بحث لنيل الدبلوم الجامعي العالي في المهن القضائية والقانونية، كلية الحقوق السويسي، السنة الجامعية 2006/2007، ص 65.

[3] – إن العقود الإدارية بمميزاتها مرتبطة بالقضاء الإداري، لأنه هو من أنشأها

– أنظر: رمزي زيد، التحكيم في العقود الإدارية، مذكرة لنيل شهادة الماستر في الحقوق، جامعة محمد خيضر بسكرة، 2014-2015، ص 49.

[4] – شريف خاطر ،التحكيم فى منازعات العقود الإدارية وضوابطه، دار النهضه العربية، طبعة 2011،  صـ 18.

[5] – أنظر المادة 52 من المرسوم رقم 2.01.2332 صادر في 4 يونيو 2002 بالمصادقة على دفتر الشروط الإدارية العامة المطبقة على صفقات الخدمات المتعلقة بأعمال الدراسات والإشراف على الأشغال المبرمة لحساب الدولة.

      – أنظر كذلك المادة 70من المرسوم رقم 2.99.1087 صادر في 4 ماي 2004 بالمصادقة على دفتر الشروط الإدارية العامة المطبقة على صفقات الأشغال المنجزة لحساب الدولة.

[6] – ويمكنها أن تباشر تطبيق هذه الجزاءات بنفسها أو عن طريق اللجوء إلى القضاء المختص، و يرى البعض أن الإدارة تلجأ للقضاء في هذا الصدد، مخافة تحمل أية مسؤولية في حالة خطأ الإدارة في تقدير حجم الإخلال و بالتالي حجم الجزاء، وقد انتقد بعض الباحثين هذا السلوك من قبل الإدارة، وأكدوا على عدم جواز التفريط في صلاحيات الإدارة من قبل الإدارة نفسها.

أنظر في هذا الصدد: عبد المجيد فياض، نظرية الجزاءات في العقد الإداري “دراسة مقارنة”، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، سنة 1975، ص 69 و70.

[7] – فؤاد عزوزي: دور القضاء الإداري في حماية أطراف العقد الإداري، مقالة منشورة بموقع عدالة ماروك التابع لوزارة العدل المغربية، ص 14 و15.

http://cutt.us/S10WA

[8] – البند 3 من المادة 52 من المرسوم رقم 2.01.2332 المشار إليه سابقا.

[9]– فؤاد عزوزي: مرجع سبق ذكره، ص 18.

[10] – الفقرة الثانية من البند 3 من المادة 52 من المرسوم 2.01.2332 المشار إليه سابقا.

[11] – عادل مصلح ناجي الظفيري، مشروعية التحكيم في المنازعات الإدارية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، بجامعة عبد المالك السعدي، السنة الجامعية 2006/2007، ص 178.

[12]– تتكون الصفقة العمومية ” العقد الإداري” من العقد نفسه بالإضافة إلى دفاتر شروط عامة خاصة بنوع محدد من الصفقات كصفات الأشغال أو التوريد…الخ، وتصدر بمرسوم ودفاتر شروط مشتركة إما بين مجموعة معينة من الصفقات أو بين مجموعة من الإدارات وتصدر بقرار للوزير المعني ودفاتر شروط خاصة بالصفقة عينها التي يصدرها الأمر بالصرف المكلف بإبرام تلك الصفة.

[13] – علي الفحام، سلطة الإدارة في تعديل العقد الإداري “دراسة مقارنة”، دار الفكر العربي، سنة 1976، ص 148.

[14] – مصطفى خربوش، رقابة القاضي الإداري على سلطة الإدارة في إنهاء العقد الإداري، رسالة لنيل شهادة الماستر بكلية الحقوق سلا، السنة الجامعية 2008/2009، ص 26.

[15] – للمزيد أنظر: م. إدريس الحلابي الكتاني، العقود الإدارية، دار السلام الرباط، الطبعة الثانية 2000، ص ص 67 إلى 70.

[16] – عبد القادر باينة، الوسائل القانونية للنشاط الإداري: القرارات الإدارية : العقود الإدارية، منشورات زاوية 2006، ص 228.

[17] – أنظر المادة 54 من المرسوم رقم 2.01.2332. المشار إليه سابق.

     – انظر كذلك المادة 71 من المرسوم رقم 2.99.1087 المشار إليه سابق.

[18]– حكم المحكمة الإدارية بالرباط  رقم 24 بتاريخ 3/1/2007 في ملف رقم 1431/07 ش ع: بين مقاولة للبناء ووزارة التربية الوطنية والأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بالقنيطرة، حيث قضت المحكمة باستحقاق المقاولة تعويض عن أشغال أنجزتها دونما أمر من الإدارة المعنية، لكن الإدارة تقر بإنجاز تلك الأشغال.

[19] – مصلح ناجي الظفري: مرجع سابق ذكره، ص 179.

 [20]- عبد القادر باينة، مرجع سابق ذكره، ص 229.

[21] – هلال حمد هلال السعدي، التحكيم ودوره في تسوية المنازعات الإدارية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق أكدال، السنة الجامعية 2007/2008، ص 540.

[22] – حيث تطبق هيئة التحكيم القانون الذي ترى أنه الأكثر اتصالا بالنزاع

[23] – عصمت عبد الله الشيخ، التحكيم في العقود الإدارية ذات الطابع الدولي، دار النهضة العربية القاهرة، 2003، مرجع سابق ذكره، ص 148.

[24] – هلال حمد هلال السعدي، مرجع سابق، ص 584.

[25] – المادة 56 من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية المصري.

راجع في هذا الصدد، وبخصوص التجارب المقارنة:

– شادية إبراهيم مصطفى المحروقي و أحمد محروس، التحكيم في العقود الإدارية – دراسة مقارنة ، مكتبة القانون و الاقتصاد ، الرياض، طبعة 2012.

-علاء محي الدين مصطفى و محمد إبراهيم خيري ، اتفاق التحكيم في العقود الإدارية الدولية في النظام السعودي و الأنظمة المقارنة ، مكتبة القانون و الاقتصاد ، الرياض ،  طبعة 2014.

[26]  – عبد الحميد المنشاوي ، التحكيم الدولي و الداخلي في المواد المدنية و التجارية و الإدارية، دار الجامعة الجديدة للنشر ، الاسكندرية ، طبعة 2014، ص 78.

[27] – من أجل منح الشخص العام الفرصة في تقييم حجم النزاع ومتطلبات المصلحة العامة، وبذلك يكون اختياره موضوعيا وواقعيا، بين اللجوء للقضاء الإداري أو اللجوء إلى قضاء التحكيم، من خلال اعتماد الأسلوب الذي يحفظ المصلحة العامة.

[28] – جعفر كريشان: مرجع سبق ذكره، ص 68.

Exit mobile version