Site icon مجلة المنارة

التأصيل الشرعي والتشريعي للعقوبات البديلة

التأصيل الشرعي والتشريعي للعقوبات البديلة

Legitimate and legislative rooting for alternatives punishment

سميرة خزرون samira khazroun

دكتورة في الحقوق(القانون الجنائي والعدالة البديلة)

Doctor of law ‘penal law and alternative justice’

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية فاس

Faculty of law, Economics and social sciences FES

الملخص:

أدت أزمة العدالة الجنائية المعاصرة إلى البحث عن بدائل للتغلب على آثارها والمتمثلة في التضخم التشريعي ، اكتظاظ السجون ، ظاهرة العود إلى الإجرام ، وعدم فعالية العقوبات السالبة للحرية  خاصة قصيرة المدة، إلى جانب أزمة الجنوح البسيط المترتبة عنها؛ وبما أن الوسائل البديلة لحل النزاع تعد اليوم من أهم أدوات حل النزاع فكل ذلك يستلزم ضرورة إيجاد بدائل عقابية أكثر فعالية ونجاعة في تحقيق الغرض من العقوبة والمتمثل أساسا في الردعين العام والخاص، بما يساهم في تفعيل الأمن المجتمعي ؛ لذلك فقد توجهت السياسة الجنائية للمشرع المغربي إلى الأخذ بها رغم الانتقادات التي اتجهت السياسة الجنائية للمشرع المغربي إلى الأخذ بها رغم عدم تحقيق الفعالية المنشودة في التكريس التشريعي والتنزيل الواقعي.

ولبحث أهمية هاته البدائل نرى أن نسلط الضوء على موقع بدائل العقوبات السالبة للحرية في الفكر العقابي المعاصر، ثم التجاذب النظري المثار حول هاته التدابير على المستوى المفاهيمي في ضوء الفقه الإسلامي والتشريعات الحديثة.

Abstract :

the contemporary criminal justice crisis has prompted a search for alternatives to overcome its effects, such as legislative inflation, prison overcrowding, the phenomenon of recidivism, and the ineffectiveness of freedom depriving punishments, especially of short duration, with the simple delinquency crisis that they leave behind ; and since alternative disput resolutions are today an importantes methodes in resolving conflicts, all of this necessitated the necessity of finding more effective and more effective punitive alternatives to achieve the purpose of the punishment represented in public and private deterrence and thus achieve societal security ; therfore, The criminal policy of the Moroccan legislator tended to adopt it, despite the failure to achieve the desired effectiveness in legislative enshrinement and downloading.

In order to discuss the importance of these alternatives, we see that we shed light on the location of alternatives to penalties that deprive of freedom in contemporary punitive thought (first axis), then the theoretical tension raised around these measures at the conceptual level in the light of Islamic jurisprudence and modern legislation.

مقدمة:

إن واقع أزمة العدالة الجنائية التي أرخت بظلالها على جل توجهات السياسة الجنائية المعاصرة حتمت على التنظيمات التشريعية البحث بجدية عن بدائل مناسبة وقادرة على مواجهة الزحف الإجرامي بمظاهره المتعددة وآثاره البليغة على الفرد والمجتمع على حد سواء.

الواقع الذي تعد من أبلغ تجلياته مجموعة من المظاهر من بينها ظاهرة التضخم التشريعي وظاهرة اكتظاظ السجون، ثم ظاهرة العود الإجرامي، وما يرافق الجريمة عموما من آثار ممتدة للأسرة ومتجاوزا كليا لمبدإ شخصية العقوبة من تمثلاتها الواضحة ظاهرة الوصم الإجتماعي.

لذلك نلاحظ ونحن نستقرئ التطور التاريخي للسياسة العقابية على مستوى الفكر الجنائي الدولي حدوث ما لن نقول عنه طفرة بل كوصف أدق تدرج وظيفي للفكر العقابي، ذلك أن النظرة التقليدية للعقوبة لم تعد ذات النظرة التقليدية المقتصرة على فكرة إيلام الجاني والإنتقام منه دون أي أبعاد تصب في مصلحته أو مصلحة عشيرته أو مجتمعه، وهو توجه المدرسة العقابية الكلاسيكية الذي تجاوزته لاحقا المدرسة العقابية الحديثة.

إذن واستجابة لدعوات المنظمات الدولية التي دقت ناقوس خطر الأزمة الجنائية حثت التشريعات الوطنية للدول على ضرورة البحث عن بدائل جدية للسياسة العقابية التقليدية التي أثبتت عدم نجاعتها في مقاربة موضوع الظاهرة الإجرامية؛ ومن أهم هذه المقترحات المقدمة كبديل بدائل العقوبات السالبة للحرية أو بشكل أوسع وأشمل كما نعالجها في هذا المقام العقوبات البديلة.

وللإنصاف العلمي والتاريخي فالسبق للشريعة الإسلامية في تبني هذا النهج ضمن المنظومة العقابية لما يزيد عن أربعة عشر قرنا قبل أن تدرك التشريعات الوضعية الحديثة وتنتبه لأهميتها وفعاليتها بحيث حثت على اعتمادها، وخيرا فعلت في ظل النجاعة التي أثبتتها بعض نماذج البدائل العقابية ببعض النظم التشريعية.

وإلماما بموضوع العقوبات البديلة في ظل الأزمة الجنائية المعاصرة، نتوقف بداية مع استعراض بعض مواطن الإختلاف المطروحة والتي تشكل بدايات النقاش حول مفهوم العقوبات السالبة للحرية باعتبارها ما تزال حديثة التكريس التشريعي وكذا التنزيل الواقعي على مستوى التشريع الوطني للدول التي تبنتها.

لنتطرق في هذا المقام لتبين موقع بدائل العقوبات السالبة للحرية في الفكر العقابي المعاصر(محور أول)، ثم التجاذب النظري المثار حول هاته التدابير على المستوى المفاهيمي في ضوء الفقه الإسلامي والتشريعات الحديثة(محور ثان).

المحور الأول : العقوبات البديلة: سؤال الماهية القانونية والمشروعية في الفقه الإسلامي

في ظل تفاقم آثار أزمة العدالة الجنائية اتجهت معظم النظم التشريعية نحو البحث عن بدائل للعقوبة أملا في تحقيق الردع المنشود من المقاربة العقابية، وهو ما يندرج ضمن مبدإ تفريد العقوبة الذي تحولت معه الغاية من هذه الأخيرة – العقوبة- من مجرد حصرها في وظيفة الانتقام والتنكيل إلى الإصلاح والتأهيل.

فأمام هاته الأزمة لم يعد من مناص من اختبار خيارات جديدة في أفق التصدي للإجرام.

وقبل تعرف أبرز البدائل العقابية التي تتيحها السياسة الجنائية المعاصرة لابد من بحث الجانب المفاهيمي لها بصفة عامة وكذا السياق العام لبروز الحاجة إلى إعمالها من منظور النظم التشريعية الحديثة( الفقرة الأولى) مع أهمية تعرف أساس مشروعيتها في الشريعة الإسلامية(الفقرة الثانية).

فقرة أولى: البدائل العقابية وفق التوجهات المعاصرة للسياسة الجنائية : قراءة في المفهوم وحيثيات النشأة

شهد مفهوم العقوبات السالبة للحرية عموما مجموعة من التعاريف الفقهية المتباينة نحاول عبرها استجلاء المفهوم العام لها (أولا) وإطار بروز توجه الفكر التشريعي العقابي إلى تبنيها(ثانيا).

            أولا: ماهية البدائل العقابية: لغة اصطلاحا وقانونا

على المستوى اللغوي[1] فالعقوبة البديلة من البدل والبدَل، والبديل في اللغة يعني العوض، وبدل بدلا وبدّل الشيء غيره واتخذه عوضا منه ، وبدل الشيء شيئا آخر جعله بدلا منه ؛ واصطلاحا[2] ينصرف مفهوم العقوبة البديلة إلى أنها فرض عقوبة غير سالبة للحرية ضد المحكوم عليهم، وقد عرفها البعض بأنها مجموعة من البدائل التي يتخذها القاضي تتمثل في إبدال عقوبة السجن بخدمة يؤديها السجين لفئة من فئات المجتمع أو لموقع خيري أو الالتحاق بمرفق تعليمي يستفيد منه السجين بهدف إصلاحه وحمايته من الأذى وتقديم خدمة لمجتمعه.

ويراد ببدائل العقوبة السالبة للحرية إحلال عقوبة من نوع معين محل عقوبة من نوع آخر قضائيا، سواء تم الإحلال ضمن حكم الإدانة أو بعده، ويتم ذلك عند تعذر تنفيذ العقوبة الأصلية أو قيام احتمال تعذر تنفيذها، أو إذا كانت العقوبة البديلة أكثر ملاءمة من حيث التنفيذ بالقياس إلى العقوبة المحكوم بها بداية منظورا في ذلك لحالة المتهم؛ ومن أبرز الاتجاهات الحديثة البديلة للسجن[3] إعفاء المؤسسات العقابية التقليدية من مسؤولية إصلاح المجرمين والاستعانة ببعض مؤسسات الرعاية الاجتماعية القائمة في المجتمع لتقديم بعض الرعاية لبعض أنواع السجناء الذين يعانون من مشاكل طبية ونفسية وعقلية.

كما عرفها بعض الفقه والشراح[4] بأنها لا تختلف عن العقوبة الأصلية من حيث كونها عقوبة يفرضها الشارع الجزائي على من ارتكب الجريمة أو ساهم فيها بدلا من العقوبة الأصلية المتمثلة في الحبس لمدة قصيرة الهدف منها هو الحيلولة دون من يحكم عليه بها دخول السجن أو مركز الإصلاح، فهي تخضع لكافة المبادئ التي تخضع لها العقوبة الأصلية ، كما عرفها آخرون بأنها الجزاءات الأخرى التي يضعها المشرع أمام القاضي لكي تحل بصيغة ذاتية أو موازية محل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فهي تفترض اذن اتخاذ الإجراءات الجنائية وصدور حكم من القضاء، ولكن بدلا من صدور هذا الحكم بعقوبة سالبة للحرية فإنه يصدر بعقوبة أو تدبير آخر لا ينطوي على سلب حرية المحكوم عليه كوقف التنفيذ وتحويل العقوبة الحبسية للغرامة.

ثانيا: بدائل العقوبات السالبة للحرية كتوجه حديث للعقوبة

باستقراء التوجه التشريعي الدولي نحو تكريس بدائل للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة[5] مثلا يلاحظ أن معظم الدراسات المعاصرة في علم العقاب ذهبت إلى أن هذا النوع من العقوبات يبقى قاصرا في مجال إصلاح الجاني وتأهيله ، مرد ذلك قصر المدة الذي من شأنه أن يحول دون تحقيق هذه الإمكانية “الإصلاح” والاستفادة من البرامج التأهيلية.

فمن شأن هاته العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة أن تؤدي بالسجين إلى الاحتكاك بالوسط السجني والاختلاط بمن تعود على هذا الوسط، مع ما يتيحه ذلك من إمكانية اكتساب سلوكيات انحرافية أكثر خطورة، فضلا عن أنها تؤدي إلى تفكيك الروابط المهنية والأسرية للسجين، فالزج بالمحكوم عليه بعقوبة قصيرة في السجن يعد نبذا اجتماعيا ، وفصلا له من النسيج الاجتماعي للمجتمع الذي يعيش فيه، ومن تم حمله على التشبع بقيم وثقافة ونمط مجتمعي مختلف له نظم وقواعد متباينة مع ما هو سائد خارج السجن، إنه صراع بين ثقافتين متعارضتين يتخبط في محيطهما النزيل المبتدئ[6] الذي يكون مطالبا في ظل هذا الوضع بإنشاء علاقات اجتماعية جديدة بينه وبين مجتمعه الجديد.

ومن الآثار السلبية للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة كذلك كونها قد تؤثر على المستقبل المهني للمحكوم عليه عاملا كان أو غير ذلك لعدم ضمان رجوعه إلى عمله وضياع فرص إيجاد شغل جديد، لكونه صاحب سوابق قضائية، فالمحكوم عليه والحالة هاته قد لا يسلم من الوصم الاجتماعي شأنه شأن مرتكب جرائم أشد خطورة، فتترتب عن الظاهرة المذكورة -الوصم الاجتماعي- مجموعة من الآثار الوخيمة سواء على السجين أو على المجتمع، إذ حتى مع فرض ترسخ قناعة الندم لدى السجين وعزمه على تصحيح مساره داخل المجتمع وتحوله من إنسان ضار إلى إنسان نافع للمجتمع قد يصطدم بنبذ المجتمع ورفضه له بعد قضائه للعقوبة المقررة، وهو ما عبر عنه %66,5 من السجناء العائدين[7] حين توجيه استفسار لهم حول أسباب عودهم للجريمة.

فالشخص المنحرف يعاني في جل المجتمعات من ظاهرة الوصم التي تلاحقه خاصة الإجتماعي، عبر ترسخ نظرة الحذر والحيطة من باقي الأفراد تجاه المدان بعقوبة سجنية، غير آبهين للتوبة المحتملة لهذا الشخص بعد قضائه المدة المحكوم بها أو استعداده النفسي للتوبة وندمه وتراجعه عما اقترفه سابقا، وهو ما من شأنه الحؤول دون أي مقاربة تأهيلية للجانح دون استحضار هذا المعطى، والأمر يزداد حساسية وتعقيدا حين يكون المقصود حدثا جانحا.

والعقوبات البديلة عموما[8] تم إقرارها في محاولة من الأنظمة التشريعية للدول لتجاوز آثار أزمة السياسة الجنائية، والتي أبانت وفق المنظور العقابي التقليدي عن عجزها في التصدي للظاهرة الإجرامية، وبالتالي عدم تحقق الردعين العام والخاص، وقد تم التركيز وفق هذا التوجه[9] العقابي الحديث بشكل خاص على بحث بدائل عن العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة نظرا لما أبان عنه إعمالها من غياب فعالية العقاب وعدم تحقق الإصلاح المنشود من فلسفة إعادة الإدماج.

وقد تكرست هذه الهيمنة بصورة غير عادية من طرف القضاء الذي أصبح يلجأ إليها بطريقة آلية ومضطردة ليطبقها في أغلب الحالات المعروضة عليه، على اعتبار أنها تحمي المجتمع وتقيه شر المجرم بإبعاده ووضعه تحت الحراسة، كما تقي المجتمع شر المجرمين المحتملين، وذلك لما لهذه العقوبة من دور وقائي فضلا عن كونها تمنح الجاني فرصة الإصلاح والتأهيل[10].

ومما يعزو اتجاه معظم النظم التشريعية إلى الانفتاح على هذه البدائل خاصة ما يتعلق بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة الرغبة في تجنب الآثار السلبية لإعمال هذه الأخيرة، والتي من مظاهرها مثلا عدم تحقق الردع واكتظاظ السجون، بحيث أضحت من أسباب تكريس أزمة السياسة الجنائية خاصة في التصدي لظاهرة الجنوح البسيط.

 فأزمة اكتظاظ السجون تبرز كأحد ملامح أزمة السياسة الجنائية، بحيث تعاني دول كثيرة من ظاهرة اكتظاظ المؤسسات السجنية نتيجة ارتفاع نسب أعداد المحكوم عليهم[11]، حيث بلغت نسبة ازدحام السجون في إيطاليا % 137 سنة1999، وفي لبنان بلغت سنة 2002 %148، وفي الأردن بلغت %103 سنة 2007.

 ولم يشكل المغرب استثناءا على هذا المستوى إذ بلغ عدد السجناء 74941 سنة 2014، وأصبح العدد 83757 سنة 2018  أي بنسبة زيادة بلغت %11,76 وفقا للبيانات الصادرة عن المندوبية العامة للسجون وإعادة الإدماج في تقرير أصدرته بتاريخ 2018/12/31، كما يوضح الرسم البياني التالي:

ويعد في الوقت الراهن مجرد الاقتصار على إنزال العقاب بإعمال تقنية العقوبة السالبة للحرية منظورا متجاوزا، بل الأهم من ذلك هو مراعاة البعد الإنساني عند تقدير العقوبة واستبدال التصور الانتقامي للعقوبة بتدابير تهدف أولا وقبل كل شيء إلى إصلاح الجاني وتقويم سلوكه في انتظار إعادة إدماجه بشكل إيجابي ومنتج في المجتمع[12]، ما يفسر انفتاح النظم التشريعية على بحث  بدائل عقابية مستحدثة للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة بغية التقليل من اعتمادها ما أمكن بما يتماشى وطبيعة الجرائم والسياسة التشريعية لكل بلد.

كما تعتبر اتفاقية طوكيو[13] من أبرز الاتفاقيات التي دعت إلى ضرورة تبني تدابير عقابية غير سالبة للحرية كآليات جديدة للعقاب.

وبناء عليه، اتجهت العديد من التشريعات المقارنة إلى إقرار بدائل للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة لتجاوز انعكاسات ومظاهر أزمة السياسة العقابية، ولتحقيق الردع المتوخى من إقرار العقوبة كأصل.

وجدير بالذكر أن السياسة الجنائية للمشرع المغربي أقرت بدورها البدائل العقابية وإن لم تكن بشكل موسع، وهو ما سنتطرق له في الآتي من هذا المقال.

وبعد ملامسة الجانب التشريعي لمسار انفتاح النظم الجنائية المعاصرة على البدائل العقابية، لنا أن نتساءل عن مدى مشروعيتها في الفقه الجنائي الإسلامي؟

فقرة ثانية: مشروعية العقوبات البديلة في الفقه الجنائي الإسلامي

قبل بحث إجابة سؤال مشروعية البدائل العقابية على مستوى الفقه الجنائي الإسلامي(ثانيا) نتطرق بداية لتعرف المقصود بالعقوبة والغرض منها(أولا) قصد تبين الإطار العام للعقوبات ومنه استجلاء الدواعي لإعمال العقوبات البديلة وفق النطاق المحدد لها.

أولا: تعريف العقوبة والغرض منها

جاء العقاب في الشريعة الإسلامية أقرب إلى معنى الإصلاح منه إلى معنى الردع والزجر؛ ولا يمكن للعقاب أن يحقق وظائفه وغايته بلا أصول ثابتة للمجتمع، فالفضيلة العامة والمصلحة الجماعية هما بلا جدال أصول المجتمع الرئيسية التي لابد من تغلغلها في المجتمع[14] حتى تحقق العقوبة غايتها الأساسية والمتمثلة في استتباب الأمن المجتمعي.

والأصل في التعزير ثبوت شرعيته إجمالا من الكتاب والسنة والإجماع، والأصل في بدائل السجن عدم حصرها، نظرا لتبعيتها لاجتهاد من هو أهل للإجتهاد من القضاة من ناحية، وارتباطها بتحقيق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع العقوبات من ناحية أخرى، ومن نماذج هذه التعازير يمكن ذكر: الجلد، والحرمان من ممارسة بعض التصرفات، والعزل عن العمل، والإقامة الجبرية في المنزل، وتكليف الجاني بعمل يراه القاضي، وسحب الأوراق الرسمية(جواز السفر) وغير ذلك[15].

ثانيا: أساس مشروعية العقوبات البديلة في الفقه الإسلامي وإطارها

سبق أن تم لفت الإنتباه إلى كون الشريعة الإسلامية كانت سباقة لتبني نظام العقوبات البديلة في إطار التعازير والتي تشكل ردعا للجاني وفي نفس الوقت تضمن عدم المساس بالأمن الأسري لباقي أفراد عائلته، فبدائل السجن لها حكم التعزير؛ والأصل في التعزير ثبوت شرعيته إجمالا من الكتاب والسنة والإجماع كما سبقت الإشارة.

والملاحظ أنه لا خلاف بين الفقهاء على جواز صلح المجني عليه في التعازير التي تعد حقا للعبد، باعتبار هاته الجرائم ذات طابع شخصي للمجني عليه الحق في العفو عنها سواءا عفوا بدون مقابل أو مقابل مال، عملا بقوله تعالى:﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾[16].

وبما أن التعازير[17] تشكل في الفقه الإسلامي الميدان الأنسب لإعمال العقوبات البديلة، نتعرف مشروعيتها وغاياتها:

  1. المشروعية:

 يعد التعزير مشروعا بالكتاب والسنة، ومن القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى:﴿ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا﴾[18]، ففي الآية الكريمة إذن الله عزوجل للأزواج عند نشوز زوجاتهم بتأديبهن بالوعظ والهجر في المضجع والضرب، فدل على ذلك بعمومه على مشروعية التعزير.

ومن السنة ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 🙁 مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين)[19].

ففي هذا الحديث الأمر بضرب الأبناء على الصلاة إذا بلغوا عشرا ، وهذا من التعزير[20].

 يهدف التعزير في الشريعة الإسلامية إلى تحقيق مجموعة من الغايات تتمثل في زجر الجاني وردعه واعتبار غيره به، ذلك أن العقوبة تنطوي على زجر المجرم عن جنايته ابتداءا عند العزم على إتيانها، فإذا تذكر ما ينتظره من عقوبة كف عن المعصية، وكذا يكون فيها ردع له بمعاقبته على فعلته حتى لا يعود لها مرة ثانية لما لاقاه وقاساه من العقوبة على فعلته، وكذا الحال يكون في العقوبة زجر لغير الجاني باعتباره بما حصل للجاني من تأديب، إلى جانب إصلاح الجاني الذي ينهض هدفا من أهداف التعزير[21] والقائم على معاقبة الجاني على جناية ارتكبها أو خشيته من عقوبة على جناية يرتكبها مما يحمله على الكف عن الجريمة، وينطوي ذلك على استقامته وصلاح حاله مما يجعله إيجابيا في القيام بحقوق الله عز وجل وحقوق عباده مشاركا في بناء مجتمعه وعمارة الأرض إلى جانب إنصاف المجني عليه بدفع الظلم عنه وشفاء صدره من الغيظ ، وكذلك تهدف التعازير إلى إصلاح الناس واستقامتهم بتوطين الأمن في المجتمع.

المحور الثاني: أنواع العقوبات البديلة بين التشريعات المقارنة والتشريع المغربي

مما لاريب فيه أن العقوبات السالبة للحرية المفترض أن الغاية من وراء إعمالها إصلاح وتأهيل السجين والتصدي للآثار المرتبطة بالظاهرة الإجرامية عموما كالعود للجريمة وهو ما يرتبط بالمعاملة التقويمية ومدة الجزاء الجنائي التي سيتلقاها المحكوم عليه، ولما كانت العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة بشكل خاص تحول دون إمكانية تحقق الأهداف الآنفة بالشكل المتوخى منها حسب ما أثبتته التجارب العملية والمعللة لتغير منظور السياسة الجنائية لمختلف النظم التشريعية الذي ذهب إلى البحث عن بدائل فعالة تتصدى لأزمة السياسة الجنائية بمظاهرها المعبر عنها.

لذلك نحاول في هذا المقام استقراء بعض النماذج المعتمدة من قبل هاته النظم (فقرة أولى) قبل بحث الآليات العقابية البديلة من قبل المشرع المغربي(فقرة ثانية).

الفقرة الأولى: بدائل العقوبات على مستوى التشريعات المقارنة

في ظل توجه السياسة الجنائية الحديثة لجل الأنظمة التشريعية نحو بحث سبل للتصدي لأزمة العدالة الجنائية، لم تجد هذه التشريعات مفرا من تبني سياسة عقابية بديلة للعقوبة الحبسية خاصة قصيرة المدة، بما يمكن وفقه مجابهة أزمة الجنوح البسيط بصفة خاصة.

وقد تنوعت هذه البدائل بين ما يندرج منها في زمرة البدائل المالية(أولا) وما يتصف بغير المالي(ثانيا)؛ ولنا أن نسرد نماذج من هاته البدائل قبل استقراء تجربة المشرع المغربي في التعاطي مع هاته الآليات.

أولا: بدائل عقابية ذات الطبيعة المالية

تعد الغرامة سواء العادية أو اليومية من أبرز البدائل المالية للعقوبات السالبة للحرية، لذلك نتبّينها وفقا للآتي:

  1. الغرامة العادية:

 يقصد بالغرامة الجزاء الموقع على المحكوم عليه من طرف محكمة مختصة نتيجة عمل يعده المشرع جريمة تؤدى بعد صيرورة الحكم نهائيا لفائدة الخزينة مع الصائر بالعملة المتداولة قانونا في المملكة[22]، وقد أدرجت معظم التشريعات هذا النوع من الغرامة كعقوبة بديلة للعقوبة السالبة للحرية كما فعل المشرع المغربي في مجال الجنح والمخالفات دون الجنايات.

وجدير بالذكر أن للمشرع دور في تحديد مبلغ الغرامة المتراوح بين حدين أدنى وأقصى[23]، وكذا نطاق الجرائم التي تجوز فيها، إلى جانب التفريد القضائي الذي يخول وفقه للقاضي مراعاة الوضع المادي للمحكوم عليه، وهو المبدأ الذي كرسته مجموعة من التشريعات كالتشريع الفرنسي وفقا للمادة 132-20[24] من القانون الجنائي.

أخذت بهذا النظام في بدايته الدول الاسكندنافية كالسويد والنرويج، وقد عرفها بعض الفقه بأنها نظام يقوم على أساس إعطاء القاضي إمكانية الحكم أولا على المتهم بفترة زمنية معينة، ثم بعد ذلك يتم تقييم هذه المدة ماليا وتحويلها إلى غرامة[25]، في حين اعتبر اتجاه آخر بأنها أداء مبلغ مالي محدد لمدة معينة يتم احكم به من قبل القاضي على الجاني.

وتبقى الغرامة البديل المتعارف عليه للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، وهي تستعمل الآن بصورة واسعة نسبة لأنها اقتصادية بالنسبة للمال وواقعية بالنسبة للإدارة ، حيث تحول عقوبة الغرامات في بعض الأحيان إذا لم تدفع إلى خدمات محلية يقوم بها المدان لمصلحة المجتمع المحلي بدلا للعقوبة السالبة للحرية مثل ما هو موجود في انجلترا تحت اسم نظام خدمة المجتمع، وتستعيض غالبية الدول بالغرامة عن عقوبة الحبس أو كعقوبة إضافية إلى الحبس، ولكن غالبا ما يلجأ القاضي إلى الغرامة عندما تكون الجريمة التي ارتكبها الفرد لا تحدث اضطرابا في الأمن والسلامة العامة خاصة إذا كان مقترفها حسن السيرة والسلوك، ولم يسبق له ارتكاب الجرم وأظهر من الأسف ما يوحي بكفاية العقوبة النقدية[26]، وهي الحالات التي يتم إثرها إعمال نظام الغرامة في تجارب الدول المعتمدة لها.

ثانيا: البدائل ذات طبيعة غير مالية

وتتنوع هاته البدائل بين مجموعة من الآليات سواء منها ما يندرج في ما هو اجتماعي أو غيره، نستقي أهمها وفقا لما يلي:

  1. وقف التنفيذ:

 ويقصد به تعليق تنفيذ العقوبة أو تعليق الحكم فور صدوره على شرط موقوف من يحدده المشرع بهدف تأهيل المحكوم عليه دون التعارض مع مبادئ العدالة والردع العام؛ ويحظى هذا النموذج من أبرز بدائل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي تم الاهتمام بها في ميدان التفريد العقابي، وقد تم اعتماده من قبل كل من فرنسا وبلجيكا كنموذجين.

وينصرف معنى هاته الآلية إلى قيام المحكوم عليه بعمل للمصلحة العامة دون أجر ويكون بديلا عن ولوجه للمؤسسة السجنية، وقد أخذت به معظم التشريعات الجنائية باعتباره عقوبة بديلة للسجن، وإن كان هناك[27] من يعتبرها إلزاما للمحكوم عليه بالعمل مقابل مبلغ من المال يسد حاجته وأسرته خدمة للصالح العام في إحدى المؤسسات العامة أو الجمعيات أو غيرها عددا من الساعات خلال مدة معينة تحدد في الحكم.

وهي إجراء قضائي تتخذه المحكمة بحق الجاني بعد الإدانة النهائية له، ويراد به تقييد حرية الجاني

لمدة معينة ومراقبته، وفي حالة إخلاله بالشروط الملزمة له يتم إعادته للسجن.

وإن كان ليس بديلا فعليا عن السجن، فهو لا ينفي فكرة العقاب إلا أنه إجراء يخفف العقاب، كما أنه يخفف من اكتظاظ النزلاء، ويعد الإفراج الشرطي بمثابة مكافأة على السلوك الجيد والتطور الذاتي للسجين[28]، وإن كانت المدة المعينة التي يجب أن يقضيها السجين قبل الاستفادة من هاته الآلية تختلف من تشريع دولة إلى آخر.

ويعني هذا الإجراء إطلاق سراح المحكوم عليه قبل استكمال مدة حكمه، بوضعه تحت مراقبة أو إشراف معين بهدف مساعدته على اجتياز ما تبقى من مدة حكمه بسلوك حسن خارج المؤسسة.

 وتعد من بدائل السجن بحيث يرتبط تطبيقها بنظام الحبس المنزلي  أو بواسطة الكاميرات ثابتة كانت أو متحركة أو عبر السوار الإلكتروني الذي يتم وضعه في معصم أو قدم الجاني، إذ يتم التأكد من احترام هذا الأخير لشروط الوجود في مكان محدد له وفي حالة تجاوزه للحدود المفروضة عليه تعطي هذه التقنيات إشارات لاسلكية لإدارة المراقبة أو شرطة الحي الذي يقطنه، كما تستخدم برامج اتصال على فترات للتأكد من وجود المطلق سراحه في المكان المعني؛ وجدير بالذكر أن المراقبة الالكترونية كبديل للسجن ليست برنامجا في حد ذاتها، ولكنها وسيلة  تستخدم في تشغيل برنامج المراقبة.

الفقرة الثانية: قراءة في البدائل العقابية من منظور المشرع الجنائي المغربي

لم يغفل المشرع المغربي الأخذ بنظام العقوبات البديلة في المنظومة الجنائية وإن لم يكن بشكل واسع، خاصة لما تحظى به من أهمية اليوم على مستوى توجهات السياسة الجنائية الحديثة في التصدي للظاهرة الإجرامية بمختلف مظاهرها كآثار أزمة الجنوح البسيط؛ لذلك نستقرئ بعده بعض هاته البدائل العقابية التي كرسها المشرع المغربي سواء على مستوى القانون الجنائي المعمول به(أولا) أو كتوجه طلائعي على مستوى مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية(ثانيا).

أولا: بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة على مستوى القانون الجنائي النافذ

  لقد أخذ المشرع المغربي شأنه شأن باقي النظم العقابية الجنائية ببدائل لعقوبات السالبة للحرية خاصة قصيرة المدى، منها ما يندرج في زمرة البدائل المالية ممثلا في الغرامة (أ) وما يتخذ صفة البدائل غير المالية كنظام إيقاف التنفيذ والإفراج المقيد بشروط والتدابير الوقائية الشخصية والعينية(ب).

تعد الغرامة المالية كما مر بنا من أبرز بدائل العقوبات السالبة للحرية التي لاقت إقبالا من طرف النظم التشريعية في تكريسها تشريعيا والعمل بها في ميدان العقوبات البديلة، أملا في التخفيف من آثار أزمة السياسة الجنائية ومنها أزمة اكتظاظ السجون.

ويراد بها ذلك الجزاء الموقع على المحكوم عليه من طرف المحكمة المختصة نتيجة عمل يعده المشرع جريمة، تؤدى الغرامة بعد صيرورة الحكم نهائيا لفائدة الخزينة مع الصائر بالعملة المتداولة قانونا في المملكة، وهي بهذا المفهوم تكون عقوبة شخصية، مبرئة للذمة، تخضع في تقديرها للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع أخذا بعين الاعتبار حدها الأدنى والأقصى[29]، وهو التعريف الذي يسير في

نفس اتجاه تعريف الغرامة عموما كما مر بنا في تعريف الغرامة.

وقد عرفها المشرع المغربي في الفصل 35 من ق.ج بأنها :”إلزام المحكوم عليه بأن يؤدي لفائدة الخزينة العامة مبلغا معينا من النقود بالعملة المتداولة في المملكة”.

وعمد المشرع المغربي إلى إقرار الغرامة كعقوبة أصلية في الجنح والمخالفات طبقا لمقتضيات الفصلين 17 و18 من القانون الجنائي مستعملا أداة التخيير”أو”، بحيث جعل أمر الأخذ بها من عدمه للسلطة التقديرية للقاضي طبقا لمبدإ تفريد العقاب، ومن أمثلة ذلك مثلا ما ورد في العقوبات المنصوص عليها في الفصول :349-366-373- 448 وغيرها من نصوص القانون الجنائي؛ كما نص المشرع على الغرامة لوحدها في نصوص محددة بحيث قرر فيها الغرامة فقط دون الحبس طبقا لعدة فصول منها مثلا الفصول: 240- 261-389- 528 من القانون الجنائي.

من ضمن بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة التي تدخل في خانة البدائل غير المالية

والمنصوص عليها ضمن القانون الجنائي المغربي نتطرق لنظام الإفراج المقيد بشروط (1) وكذا نظام إيقاف تنفيذ العقوبة (2).

  1. الإفراج المقيد بشروط

طبقا للفصل 59 من ق.ج.م فالإفراج المقيد بشروط هو إطلاق سراح المحكوم عليه قبل الأوان نظرا لحسن سيرته داخل السجن، على أن يظل مستقيم السيرة في المستقبل أما إذا ثبت عليه سوء لسلوك أو إذا أخل بالشروط التي حددها القرار بالإفراج المقيد فإنه يعاد إلى السجن لتتميم ما تبقى من عقوبته.

والإفراج الشرطي يعد مرحلة وسطا بين التمتع الكامل بالحرية والسجن بحيث من شأنه  كآلية عقابية بديلة التصدي لظاهرة العود وكذا تهييء الفرد للاندماج السلس في المجتمع.

يستمد هذا النظام مرجعيته من نظام التعهد الذي اتخذ صورا مختلفة في التطبيق منذ اعتماده ، ومؤداه أن المتهم يتعهد للمحكمة بأن يسلك سلوكا قويما في المستقبل مقابل إيقاف تنفيذ العقوبة عليه لفسح المجال أمامه للوفاء بهذا الالتزام[31].

وقد كرس المشرع المغربي هذا البديل العقابي ضمن الفصل 440 من ق.ج.م كبديل لتنفيذ العقوبة، وبالرجوع للفصل 55 من ق.ج يتضح أن هذا البديل لا يشمل عقوبة الحبس فقط بل يعد أيضا بديلا عن عقوبة الغرامة بحيث ورد في الفصل المذكور- 55 ق.ج- أنه:” في حالة الحكم بعقوبة الحبس أو الغرامة في غير مواد المخالفات إذا لم يكن قد سبق الحكم على المتهم بالحبس من أجل جناية أو جنحة عادية يجوز للمحكمة أن تأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة شريطة تعليل حكمها أو قرارها ، ويصبح الحكم حائزا لقوة الشيء المقضي به ما لم يرتكب المحكوم عليه خلال تلك المدة جناية أو جنحة عادية ويحكم عليه من أجلها بالحبس أو بعقوبة أشد”.

وحسب الفصل 56 من ق.ج فإن الحكم بإيقاف التنفيذ يصبح كأن لم يكن بعد مضي خمس سنوات من اليوم الذي صار فيه الحكم حائزا لقوة الشيء المحكوم به إذا لم يرتكب المحكوم خلال تلك الفترة جناية أو جنحة عادية حكم عليه من أجلها بالحبس أو بعقوبة أشد ، وبعكس ذلك إذا ارتكب جناية أو جنحة داخل أجل الخمس سنوات المنصوص عليها في الفقرة السابقة ، فإن الحكم بالحبس أو بعقوبة أشد بسبب تلك الجناية أو الجنحة ولو صدر الحكم بعد انصرام الأجل المذكور يترتب عنه حتما بقوة القانون عندما يصير نهائيا إلغاء وقف تنفيذ الحكم.

فهذا البديل كما يتضح يهدف بالدرجة الأولى إلى وقاية الجاني من مغبة السقوط في العود لأنه يحتم عليه ضبط سلوكه خلال السنوات التالية لإدانته، وبالتالي فهو ملزم بسلوك الطريق السوي المطابق للقانون لأنه يعلم مسبقا أن انحرافه عن هذا الطريق يؤدي به حتما إلى إلغاء إيقاف التنفيذ[32].

ومن شأن هذا النظام تجنب الآثار السلبية للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة التي تساهم في ظاهرة اكتظاظ السجون كأحد تمظهرات أزمة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، بما يتيح بالتالي فرص أكبر لتكوين المجرمين العائدين والمحترفين خاصة كون قصر المدة سيحول دون إمكانية استفادة السجناء من التأهيل المأمول.

في إطار توجه السياسة العقابية المعاصرة وعودة للقانون الجنائي المغربي نجده ينص على مجموعة من التدابير الوقائية والتي ضمنها الكتاب الأول منه على مستوى الفصول من 61 إلى 92 منه، حيث نظم إجراءاتها وأحكامها، كما نص على أسباب انقضائها وأسباب إيقافها ضمن الفصول من 93 إلى 104.

فعلى مستوى الفصل 61 من ق.ج تم النص على تدابير وقائية شخصية متمثلة في:

ويبدو أن هذه التدابير باعتبارها كذلك تقلص بشكل كبير من حريات الأفراد التي كان النضال في سبيلها من أهم الأهداف غير أنه من طبيعة الأمور في أي مجتمع منظم ألا تكون حرية الفرد مطلقة دون أية ضوابط تضبطها.

وعليه لابد من أجل ضمان حقوق الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه أن ترد بعض القيود على حريته بشرط أن يتم ذلك وفق تأطير تشريعي وقانوني[33].

كذلك نجد الفصل 62 يتضمن نوعين من التدابير العينية ممثلة في:

إلا أن الإشكال على مستوى الجانب التفعيلي لهاته البدائل يبقى مرتبطا بالجانب الواقعي الذي ما يزال- باستثناء الأخذ ببعض البدائل كالوضع بمؤسسة فلاحية أو علاجية والتطبيق المحتشم للإفراج الشرطي ووقف التنفيذ- يستدعي مزيدا من الأخذ بهاته البدائل العقابية حتى يتم تخطي أزمة السجون

التي تعد أحد تمظهرات هذا الإشكال.

ثانيا: البدائل العقابية على مستوى مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية

عمد المشرع المغربي إلى تعريف العقوبات البديلة من خلال الفصل1-35 من الباب الأول مكرر من مسودة قانون رقم:10.16 القاضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي بأنها تعني تلك العقوبات التي يحكم بها بديلا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبات المحكوم بها من أجلها سنتين، وتحول العقوبة دون تنفيذ العقوبة السالبة للحرية على المحكوم عليه في حالة تنفيذه للالتزامات المفروضة عليه بمقتضاها؛ وجدير بالذكر أن المشرع المغربي ذهب في نفس اتجاه السياسة الجنائية المعاصرة حول موقفها المتجسد في الانفتاح على بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة كرهان للتصدي لآثار أزمة السياسة العقابية، وإن كان تحديد صور هذه البدائل المعمول بها يختلف من تشريع إلى آخر، وهو ما تُرجم على مستوى المسودة باعتماد المشرع لهاته البدائل ضمن السياسة الجنائية، ولنا أن نسوق هنا من الآليات البديلة للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة المدرجة ضمن المسودة صورتين والتي أخذت بها كذلك مجموعة من التشريعات المقارنة، ممثلتين في الغرامة اليومية(أ) والعمل لأجل المنفعة العامة(ب).

طبقا للفصل 10-35 من مسودة مشروع قانون رقم:10.16 القاضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي فالغرامة اليومية هي مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها، ولا يمكن حسب الفصل1-35 من المسودة أن يحكم بالعقوبة البديلة عموما كبديل للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي تتجاوز العقوبة المحكوم بها من أجلها سنتين.

وقد ذهب بعض الفقه[34] في تعريف الغرامة اليومية إلى أن القصد منها هو أن القاضي يحكم على الجاني بمبلغ معين يدفعه يوميا لمدة محددة، ويقوم المحكوم عليه بأداء قيمة الغرامة اليومية مضروبة في عدد أيام الغرامة المحكوم بها في نهاية المدة المحددة للغرامة.

يرجع الفقه أصل فكرة العمل لأجل المنفعة العامة إلى الفقيه بكاريا الذي يرى أن أنسب عقوبة للمذنب هي تلك التي تضع عمله في خدمة المجتمع لإصلاح الاستبداد الذي مارسه بخرق العقد

الاجتماعي[35].

وبالرجوع إلى مسودة القانون الجنائي نجدها تنص على مستوى الفصل 6-35 على أن العمل لأجل المنفعة العامة يكون غير مؤدى عنه وينجز لفائدة شخص اعتباري عام أو جمعية ذات منفعة عامة لمدة تتراوح بين 40 و 600 ساعة.

وعلى مستوى الفصل 7-35 من المسودة يلاحظ بأن المدة الحبسية الممكن استبدالها بعمل لأجل المنفعة العامة محددة في سنتين وهي تمثل الشق الموضوعي من الشروط المتطلبة لإعمال هاته الآلية، إلى جانب الشروط الشكلية المتجلية في حضور المحكوم عليه وموافقته بعد إشعاره بحقه في الرفض طبقا لمقتضيات الفصل 4-35 من المسودة.

خاتمة:

بناءا عليه، يستدعي المقام التأكيد على أن العقوبات البديلة أضحت اليوم في أوج الركائز الهامة للاتجاهات المعاصرة للسياسة الجنائية لمختلف النظم التشريعية، مرد ذلك استقرار التوجه الجنائي الدولي على ما مفاده ثبوت عجز السياسة الجنائية بأدواتها التقليدية في التصدي للظاهرة الإجرامية وآثارها سواء على الفرد أو المجتمع، لنرى وفقا لذلك أن توسيع نطاق مكنة البدائل العقابية  في المنظومة التشريعية الجنائية المغربية من الأهمية بمكان في مواجهة الظاهرة الإجرامية بشكل عام والجنوح البسيط بشكل خاص الحقل المستدعي والمرشح لإعمالها ونجاحها على مستواه، الصنف الإجرامي الذي يجد مقابله المؤطر لهذا النزع من الجرائم  في باب التعازير الفقه الجنائي الإسلامي بما يشكله من نموذج أمثل من حيث إعمال هاته البدائل بتنوع وتعدد أصنافها، بحيث شكلت أرضية تأصيلية للعقوبات البديلة المعمول بها اليوم على مستوى مختلف التشريعات الوضعية المقارنة وهي المرتع الخصب المرجح نجاحها به، سيما وأنه باستقراء الفقه الجنائي الإسلامي غني في باب التعازير التي تعد القالب الذي يمكن تصنيف تلكم البدائل ضمنه والمتح منها خاصة في باب النزاعات الأسرية.


[1] – انظر: فؤاد افرام البستاني، منجد الطلاب، الطبعة:38، دار المشرق،ص:25.

[2] –  انظر: أسامة الكيلاني، العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة، ورقة مقدمة للمركز العربي للبحوث القانونية والقضائية، بيروت، ط:2013، ص:7.

[3] –  انظر: فؤاد عبد المنعم أحمد، مفهوم العقوبة وأنواعها في الأنظمة المقارنة، ورقة عمل مقدمة في ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة، جدة،2011، ص:26.

[4] – انظر في هذا الإطار مثلا :

جاسم محمد راشد الخديم العنتلي، بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، دار النهضة العربية، سنة 2000، ص:115.

[5] – وقد أثار مفهوم العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة جدلا فقهيا لا سيما أمام إحجام التشريعات الجنائية ومنها التشريع المغربي على إعطاء تعريف لها، بالرغم من اعتمادها كدعامة أساسية في سياستها العقابية، فهناك من اعتمد معيار نوع الجريمة لتحديد مفهوم العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة و من اتخذ نمط المؤسسة العقابية، و فريق آخر تبنى مدة العقوبة، إلى جانب معيار المؤسسة العقابية التي يتم تنفيذ العقوبة بها ، وإن كان هذا الأخير معيارا تقليديا أثبتت الدراسات الحديثة ابتعاده عن الصواب باعتباره  يتجاهل عناصر أخرى ذات دور أساسي في تحديد المقصود بالعقوبات القصيرة المدة، كخطورة الجاني وطبيعة الفعل المرتكب، بل يعد كنتيجة أو كأثر لإصدار العقوبة السالبة للحرية، بما يحول دون إمكانية الاعتماد عليه كمعيار لتحديد مفهوم العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.                    

[6] – انظر في هذا الصدد: عبد الرحيم العطري، المؤسسة العقابية وإعادة إنتاج الجنوح، مجلة وجهة نظر، العدد:24، 2005، ص:46.

[7] – أدلى الأستاذ محمد بوزلافة بهاته الإحصائيات إثر مداخلته المقدمة ضمن سلسلة نقاشات قانونية والمنظمة عن بعد من طرف ماستر العلوم الجنائية والدراسات الأمنية بطنجة ودبلوم العدالة الجنائية وحقوق الإنسان ومركز الدراسات والأبحاث الجنائية والأمنية في موضوع: العود للجريمة بالمغرب: الأسباب والحلول، يوم الأربعاء 20 ماي 2021 على الساعة الحادية عشر  23h ليلا.

[8] – ووصف هذا النمط من الممارسة الجزائية في الدول العربية كان في قانون العقوبات القطري حيث جاء في المادة 63 مكرر منه أن:” عقوبة التشغيل الاجتماعي هي إلزام المحكوم عليه بأن يؤدي لمدة محددة عملا من الأعمال المبينة في جدول الأعمال الاجتماعية المرفق بهذا القانون”.

يراجع في هذا الصدد : ياسر بن صالح البلوي، بدائل السجون (الأحكام البديلة) منشور بالموقع الالكتروني:www.jurispedia.org

[9] – لقد اصبح الإهتمام منصبا من طرف جل التشريعات على إيجاد بدائل للعقوبات السالبة للحرية في محاولة لإيجاد حلول شافية ومقنعة في التصدي للظاهرة الإجرامية.

[10] – انظر: محي الدين أمزازي، جدوى إيجاد بدائل للعقوبات الحبسية القصيرة المدى، المجلة العربية للدفاع الاجتماعي، العدد:17، يناير 1984، ص:63.

[11] – انظر بخصوص هذه النسب: يوسف فهد الكساسبة، وظيفة العقوبة ودورها في الإصلاح والتأهيل، دار وائل للنشر والتوزيع، عمان- الأردن، سنة: 2010، ص:268.

[12] – راجع: بنباصر يوسف، أزمة السياسة الجنائية، ظاهرة الجنوح البسيط نموذج، مجلة الواحة القانونية، العدد:4، 2006، ص:5.

[13] – أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة هاته الاتفاقية بتاريخ: 17 دجنبر 1990 بالدورة رقم: 54/1010 ، بحيث دعت الدول على إثرها إلى اعتماد آليات جديدة للزجر والعقاب غير سالبة للحرية ؛ كما أن المؤتمر الدولي لعلم العقاب لسنة 1885 أثار إمكانية اللجوء للعقوبات المقيدة الحرية بدل العقوبات السالبة للحرية قبل أن يبحث المؤتمر الدولي لعلم الإجرام لسنة 1950 مسألة العقوبات السالبة للحرية ضرورة البحث عن بدائل لها.

[14] – وتدور معظم التعريفات المتعلقة بمفهوم العقوبة حول فكرة جوهرية مؤداها أن العقاب لا يوجد إلا بعد حدوث الجريمة فهو يعقبها ولا يتصور العكس بداهة ، بمعنى أنه لا توجد عقوبة بلا أي فعل إجرامي وإلا عد ذلك ضربا من ضروب الاستبداد البين والظلم الظاهر.

انظر في هذا الصدد: عبد الرحيم صدقي، الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية، دراسة تحليلية لأحكام القصاص والحدود والتعزير، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، 1987، ص:42 وص: 225.

[15] – انظر: أحمد الطيب السنوسي، بدائل السجن :دراسة فقهية، مقال منشور على الموقع الإلكتروني:

 Ketabpedia.com  www.، ص:4-5.

[16] – سورة الشورى، الآيات:40-41-42-43.

[17] – والتعزير في الأصل اللغوي يعني المنع والتأديب، وفي الاصطلاح الفقهي هو:” معاقبة المجرم بعقاب مفوض شرعا إلى ولي الأمر نوعا ومقدارا، وذلك في جميع أنواع الجرائم والأعمال الممنوعة التي تستوجب الزجر والتأديب غير موجبات الحدود والقصاص.

انظر: مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 2012، الجزء الثاني، ص:689.

[18] – سورة النساء الآية:34.

[19] – أخرجه أحمد وأبو داود ، كتاب الصلاة لشمس الدين ابن قيم الجوزية، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة.

[20] – انظر : كتاب العقوبات التقويضية وأهدافها في ضوء الكتاب والسنة، 8/75.

[21] –  انظر في هذا الصدد: عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين، ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية، مجلة القضائية ، العدد الأول ، محرم 1432هـ، ص:62.

[22] – انظر: ادريس بلمحجوب، قواعد تنفيذ العقوبات، الجزء الأول، المعهد الوطني للدراسات القضائية، وزارة العدل، مطبعة بابل-الرباط ، 1988، ص:158.

[23] – وإن كانت بعض التشريعات المقارنة كالتشريع النرويجي لم تضع حدودا دنيا وقصوى للغرامة سندها في ذلك أن هذه الحدود تمثل خرقا لمبدإ تناسب الغرامة مع ظروف المجرم المادية.

انظر في هذا الصدد: أيمن رمضان الزيني، العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة وبدائلها- دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، القاهرة ،2003، ص:454.

ومن المعلوم أن الإصلاح الجنائي الألماني لسنة 1975 تخلى نهائيا عن العقوبة الحبسية التي لا تتجاوز مدتها شهرا إلا في الجرائم العسكرية، وجعل من الغرامة عقوبة رئيسية والدليل على ذلك أن %85 من معدل الأحكام الجنائية الصادرة في ألمانيا قضت بالغرامة كعقوبة أصلية، الأمر الذي يؤكد على أهمية الغرامة كبديل للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.

انظر: محيي الدين أمزازي، جدوى إيجاد بدائل للعقوبات الحبسية القصيرة المدى، م.س، ص:69.

[24] – جاء في هاته المادة :

” lorsqu’une infraction est puni d’une peine d’amende, la juridiction peut prononcer une  amende d’un montant inférieur à celle qui est encourue.”

[25] – يراجع: عبد الله درميش، مختلف أشكال بدائل العقوبات السالبة للحرية، مجلة المحاكم المغربية، العدد:86، 2001، ص:22.

[26] – انظر: مصطفى العوجي، التأهيل الاجتماعي في المؤسسات العقابية، مؤسسة بحسون بيروت، 1413هـ، ص:219.

[27] – انظر في ذات الشأن: محمد أبو العلا عقيدة، أصول علم العقاب، دار الفكر العربي، 1994، ص:426

[28] –  voir ici :Paul Keve, Prison life and Human worth,1976, p :92.

[29] – انظر: ادريس بلمحجوب، قواعد تنفيذ العقوبات، الجزء الأول، المعهد الوطني للدراسات القضائية، وزارة العدل، مطبعة بابل، الرباط، الطبعة الأولى، 1988، ص:158.

[30] – اشترط المشرع المغربي لمنح إيقاف التنفيذ عدة شروط على القاضي أخذها بعين الاعتبار حين تمتيع المحكوم عليه بإيقاف التنفيذ في إطار سلطته التقديرية في تفريد العقوبة، وهو ما تم النص عليه طبقا للفصل 55 من القانون الجنائي.

[31] – انظر: البشير الفرشيشي، تأجيل تنفيذ العقاب، مجلة الأحداث القانونية التونسية، ع:4، 1990، ص:10 وما بعدها.

[32] – انظر: جمال مجاطي، بدائل العقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة في ضوء التشريع المغربي والمقارن – دراسة تحليلية وعملية- ، الطبعة الأولى، مكتبة الرشاد، سطات، 2015، ص:99.

[33] – انظر: محمد بوزلافة، الحق في التزام الصمت مدخل لإقرار مبادئ المحاكمة العادلة، المجلة المغربية للقانون الجنائي والعلوم الجنائية، العدد:1، 2014،ص:15.

[34] – انظر: عبد الله درميش، م.س، ص:22.

[35] – انظر: لطيفة مهداتي، الشرعية في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية، الطبعة :1، الشركة الشرقية الرباط،2005، ص:86.

Exit mobile version