البرلمان ذي المجلسين: بين دواعي الاختيار وأثره على ممارسة الوظائف البرلمانية

البرلمان ذي المجلسين: بين دواعي الاختيار وأثره على ممارسة الوظائف البرلمانية

فـؤاد     Fouad

أشـن   OUCHEN

باحث في سلك الدكتوراه، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس السويسي، الرباط، شعبة القانون العام.

[email protected] 

مقدمة

تختلف المؤسسة البرلمانية في بنيتها من دولة لأخرى، ويبرر هذا الاختلاف إما باختلاف طبيعة النظام السياسي الذي يأخذ به كل بلد على حده، وإما باختلاف المعطيات التاريخية والاجتماعية التي أثرت في تطور هذه المؤسسة.

ويعمل كل نظام سياسي على مراعاة هذه المحددات، والأخذ بمؤسسة برلمانية تعبر بحق عن الواقع السياسي والاجتماعي لهذه الدول، والتنصيص على الآليات الكفيلة لكي تكون هذه المؤسسة فاعلة ومتفاعلة مع محيطها.

بالنسبة للمغرب، فقد اتجه في أول دستور له إلى التأسيس لبرلمان يقوم على غرفتين، مجلس النواب ومجلس المستشارين، وقد أتى هذا الاختيار بالرغم أن المغرب دولة بسيطة وليس بدولة مركبة فيدرالية يستدعي تكوينها ثنائية مجلسية  وذلك تماشيا مع دوافع اختيار هذا النمط في التجارب المقارنة.[1] ورغم تخليه عن الثنائية البرلمانية في الدساتير اللاحقة، إلا أنه عاد لإحيائها في دستوري 1996 و 2011.

وقد تباين تقييم الباحثين والدارسين لهذا النمط بين من يعدد إيجابياته ويؤكد على حتميته من أجل إقامة مؤسسة برلمانية قوية من النواحي التمثيلية والوظيفية، ومن جانب آخر هناك من ينتصر لنمط المجلس الواحد ويعتبر نظام الغرفتين مجرد ترف مؤسساتي يساهم في تشتيت القوى من خلال تكرار نفس الوظائف داخل المؤسسة البرلمانية.

وسنعمل في هذه البحث على التعريج على مختلف المبررات التي يستند إليها أنصار البرلمان ذي الغرفتين، وكذا استعراض نقاط القوة ونقاط الضعف التي أبانت عنها الممارسة البرلمانية في هذا ظل النمط البرلماني.

وسنعمل على تقسيم هذا البحث إلى مبحثين، سنخصص الأول للبحث في مبررات تبني الثنائية البرلمانية بالمغرب على ضوء التجارب المقارنة، في حين سنعمل في الثاني على تقييم نظام الغرفتين على ضوء الممارسة البرلمانية

المبحث الأول: مبررات الثنائية البرلمانية بالمغرب على ضوء التجارب المقارنة

سنعمل خلال هذا المبحث على التعريج على مجموعة من التجارب التي سنختارها بحسب المعايير التي تتحكم في اعتماد نمط الثنائية البرلمانية، وبخاصة المعايير المتعلقة بطبيعة الدولة وشكلها، وكذا التنقيب في العوامل التاريخية التي ساهمت في تطور نظام الغرفتين، على أن نتطرق بعد ذلك إلى نظام الغرفتين في التجربة المغربية ومعرفة العوامل التي ساهمت في انبثاقه، ثم التخلي عنه قبل العودة إليه في دستوري 1996 و 2011.

وسنقسم هذا المبحث إلى فرعين، سنعرض في الأول لدوافع الأخذ بنظام الغرفتين في بعض التجارب المقارنة، ثم سنتطرق في الفرع الثاني لدوافع إقرار نظام الغرفتين في التجربة المغربية.

الفرع الأول: مبررات الأخذ بنظام الثنائية البرلمانية في بعض التجارب المقارنة

تأخذ معظم دول العالم في الوقت الراهن بالبرلمان القائم على المجلسين، واختلفت الأسباب التي دفعت كل دولة للأخذ بهذا النظام، فهناك من الدول من اختار هذا النمط بسب الطبيعة المركبة للدولة، وبالتالي ضرورة إنشاء غرفة لتمثيل الجهات داخل البرلمان الفدرالي، وهناك دول أخرى اختارت هذا النمط لإتاحة الإمكانية لاستمرارية التمثيلية للطبقات الارستقراطية داخل المؤسسة البرلمانية إلى جانب المجالس المنتخبة بالاقتراع العام المباشر من قبل الشعب.

وبالعودة إلى مجموعة من التجارب المقارنة، نجد العديد من الأنظمة السياسية ذات الطابع المركب تأخذ بنمط الثنائية البرلمانية كآلية لتمثيل الجهات في برلماناتها الفيدرالية، حيث تخصص غرفة ثانية لهذا الغرض إلى جانب الغرفة الأولى التي تمثل شعب الدولة الفيدرالية بأكمله. ورغم أن العديد من الدول الفيدرالية سارت في هذا النهج إلا أن هذه التجارب المقارنة تختلف من بلد لآخر في الطريقة التي تمنح فيها التمثيلية للجهات في برلماناتها، وسنقتصر في تطرقنا للدساتير التي تأخذ بنمط الثنائية البرلمانية كأسلوب لتمثيل ولاياتها في البرلمان الفيدرالي، على تجربتين مهمتين وهما: تجربة فيدرالية ألمانيا، ثم تجربة الولايات المتحدة الأمريكية.

النموذج الألماني: من الدول التي تعتمد نمط الثنائية كآلية لتمثيل الجهات في الغرف الثانية نجد فيدرالية ألمانيا التي ينص دستورها الفيدرالي،[2] على تشكل البرلمان من غرفتين هما: البوندستاغ،[3]  والبوندسرات.[4]

فبالنسبة للبوندستاغ فهو يعد الغرفة الأولى في البرلمان، ويتم انتخاب أعضائه عن طريق الاقتراع العام المباشر، ويمثل كل فئات الشعب الألماني،[5] وتمتد ولاية البوندستاغ لمدة أربع سنوات.[6] ولا يخضع لأية معايير مرتبطة بالتقسيم الجهوي لألمانيا، وإنما يمثل الشعب الألماني ككيان موحد.

أما البوندسرات فتمثيليته مرتبطة بالجهات، حيث تشارك عبره ولايات الاتحاد في عمليات التشريع والإدارة على الصعيد المركزي، وكذا في ما يتعلق بشؤون الاتحاد الأوربي،[7] ويتشكل هذا المجلس من أعضاء في حكومات الولايات، حيث تقوم هذه الحكومات بتعيين وإقالة الأعضاء الذين يمثلونها في البوندسرات، وتُمثل الولايات في هذا المجلس بحسب عدد السكان، حيث ينص القانون الأساسي الألماني على أنه يكون لكل ولاية ثلاثة مقاعد على الأقل في البوندسرات، وكل ولاية يزيد عدد سكانها عن مليوني نسمة تحظى بأربعة مقاعد، والولايات التي يزيد عدد سكانها عن ستة ملايين نسمة يمنح لها خمسة مقاعد، في حين تحظى الولايات التي يفوق عدد سكانها سبعة ملايين بستة مقاعد في البوندسرات.[8]

وعليه فقد عمل المشرع الألماني على المزج بين معياري ضمان التمثيلية في المجلس بعدد مقاعد لا يقل عن ثلاثة مقاعد، ومعيار التمثيلية بناء على عدد السكان الذي تشمله الولاية، وذلك من أجل خلق التوازن داخل البوندسرات من جهة وضمان حد أدنى من المقاعد لكل ولاية من جهة أخرى.

النموذج الأمريكي: من النماذج الفيدرالية التي اعتمدت نمط الثنائية المجلسية من أجل ضمان تمثيلية للولايات نجد التجربة الدستورية للولايات المتحدة الأمريكية ، حيث يتكون الكونغرس من مجلسين مجلس النواب ومجلس الشيوخ.[9]

بالنسبة لمجلس النواب فهو يتألف من أعضاء يتم اختيارهم من قبل الشعب كل سنتين،[10] ولا تخضع تمثيليته للاعتبارات الجهوية، وإنما يمثل الشعب الأمريكي باعتباره كيانا واحدا.[11]

 أما مجلس الشيوخ، فهو مخصص لتمثيل الولايات داخل الكونغرس، حيث تخصص لكل ولاية مقعدان داخل مجلس الشيوخ، وذلك بغض النظر عن عدد سكانها ومساحتها وقوتها الاقتصادية، ويتم تجديد ثلث المجلس على رأس كل سنتين، في حين يتقلد نائب الرئيس الأمريكي مسؤولية رئاسة مجلس الشيوخ.[12] وقد تم إنشاء هذا المجلس للحفاظ على وحدة الإتحاد الذي تبلور منذ سنة 1777 في إطار ما كان يسمى بالاتحاد التعاهدي بين الدول المستقلة.[13]

والأخذ بنظام الغرفتين في هذه الدول ذات الشكل المركب يبدو أمرا واقعيا، حيث يشكل عاملا أساسيا في الإبقاء على تماسك الإتحاد من خلال تصريف مختلف المشاكل التي يمكن أن تتعرض لها الجهات داخل البرلمان الفيدرالي.

 إلى جانب تمثيل الجهات، فمن الدوافع التي تبرر الأخذ بنظام الثنائية البرلمانية نجد عوامل ذات أبعاد تاريخية تتجلى في ضمان تمثيلية الطبقات الارستقراطية داخل البرلمانات، وذلك إلى جانب المجالس التي تمثل الشعب،[14] ومن النماذج التي اعتمدت هذا النمط الثنائي نجد بالأساس التجربة البرلمانية البريطانية، وكذا التجربة البرلمانية الفرنسية.

النموذج البريطاني: يتألف البرلمان البريطاني من غرفتين، الغرفة السفلى يمثلها مجلس العموم، والغرفة العليا يمثلها مجلس اللوردات.

بالنسبة لمجلس العموم، فهو الهيأة الممثلة للشعب البريطاني لأنه ينتخب انتخابا عاما ومباشرا من قبل الشعب، و تصل مدة ولايته إلى خمس سنوات،[15] وينتخب هذا المجلس من بين أعضائه رئيسا يدعى المتحدث ” speaker”، ويتمتع بصلاحية تنظيم المناقشات داخل المجلس.[16]

أما مجلس اللوردات فهو المجلس الذي يمثل بقايا الطبقة الارستقراطية وتقاليدها التاريخية، وعكس مجلس العموم الذي ينتخب مباشرة من قبل الشعب، فإن مجلس اللوردات يستمد أعضاؤه نيابتهم إما بالوراثة، أو بالتعيين لمدى الحياة من قبل الملك وبناء على اقتراح من الحكومة، ويُرأس مجلس اللوردات بقوة القانون من قبل وزير العدل.[17]

ويضم مجلس اللوردات في تركيبة أعضائه من فئتين: الفئة الأولى وتضم اللوردات الروحيون، ويمثلون رؤساء الكنيسة الأنجليكانية، ويستمرون في عضويتهم للمجلس طالما استمروا في مهامهم الكنسية، وأما الفئة الثانية فهي تضم اللوردات الزمنية وتضم بدوها أربعة أصناف وهم:  اللوردات بالوراثة، واللوردات الذين يعينهم الملك من بين الشخصيات التي قدمت لبريطانيا خدمات جليلة أو أعمالا في مختلف المجالات، واللوردات الذين يمثلون مقاطعة سكوتلاندة، ثم لوردات الاستئناف العادي.[18]

ومن خلال التمعن في طبيعة التمثيلية التي يتشكل منها مجلس اللوردات، نجد أن العمل الجهوي مغيب، ومن ثم فإن إنشاء الغرفة الثانية في بريطانيا يختلف من حيث الدوافع مع ما تم التطرق إليه عند التعرض للتجربتين الألمانية والأمريكية، إلا انه يجب الإشارة إلى أن السلط البرلمانية يتحكم فيها مجلس العموم باعتباره الغرفة المنتخبة من قبل الشعب، كما أن رئيس الوزراء وحكومته تنبثق من هذا المجلس بناء على نتائج الانتخابات التشريعية.

النموذج الفرنسي: يجد نمط الثنائية البرلمانية في فرنسا جذوره التاريخية في دستور1795، والذي نص على تكون البرلمان من مجلسين، وهما مجلس الشيوخ الذي كان يتكون من خمسة وعشرون عضوا، ومجلس الخمسمائة الذي يتشكل من 500 عضوا. ثم سمي مجلس الشيوخ في ظل دستور 1814 باسم مجلس النبلاء،[19] وكان يكتسب أعضاؤه عضويتهم في المجلس عن طريق التعيين لمدى الحياة، أو بتوريث العضوية، وكان يضم بالأساس أعضاء الأسرة المالكة والطبقة الارستقراطية المخلصة للأسرة المالكة.[20]

وتأرجح البرلمان الفرنسي بين النمط الثنائي والنمط الأحادي في الدساتير اللاحقة إلى أن استقر في دستور 1958 على نمط الازدواج البرلماني، حينما أصبح البرلمان الفرنسي يتكون من غرفتين: الغرفة الأولى تسمى بالجمعية الوطنية، في حين تسمى الغرفة الثانية بمجلس الشيوخ، حيث ينص الفصل الرابع والعشرون من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لسنة 1958 على أنه “يتكون البرلمان من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ”،[21]

ويُنتخب نواب الجمعية الوطنية بالاقتراع المباشر ولا يجوز أن يتجاوز عدد أعضائها خمسمائة وسبعة وسبعين عضوا.[22]  في حين ينتخب مجلس الشيوخ بالاقتراع غير المباشر لمدة ست سنوات، ولا يجوز أن يتجاوز عدد أعضائه ثلاثمائة وثمانية وأربعين عضوا، وهو يضمن تمثيل الجماعات الإقليمية للجمهورية.[23]  ويوجد ممثلون عن الفرنسيين المقيمين خارج فرنسا في الجمعية الوطنية وفي مجلس الشيوخ.[24]

وإذا كانت تجربة تأسيس المجلس العلوي الذي يمثل الطبقة الارستقراطية قد تطورت في أوربا خلال القرن التاسع عشر، فإن الهدف الذي أنشئت من أجله هو إضعاف المجالس السفلى التي تمثل الشعب بعد الدمقرطة التي خضعت لها هذه الدول، إلا أن هذه المجالس السفلى قد تقوت مع مرور السنين مقابل تراجع في أدوار المجالس العليا مثلما هو الشأن في بريطانيا،[25] كما حدث تحول في طبيعة التمثيلية التي تتشكل من خلالها المجالس العليا حينما تم التخلي عن تمثيل الطبقات الأرستقراطية كما هو الحال في فرنسا.

الفرع الثاني: دوافع إقرار نظام الغرفتين في التجربة المغربية

مع إقرار أول دستور للمغرب سنة 1962، تم التنصيص على أن البرلمان يتكون من غرفتين:[26] مجلس النواب الذي يُنتخب بالاقتراع العام المباشر لمدة أربع سنوات،[27] ومجلس المستشارين المنتخب بالاقتراع الغير المباشر، وتحدد مدة ولايته في ست سنوات، ويجدد نصف المجلس كل ثلاث سنوات ويعين عن طريق القرعة الأعضاء الذين يشملهم أول تجديد.[28]

وبالنسبة لعدد النواب والمستشارين، وطريقة انتخابهم وشروط القابلية للانتخاب وموانعها، فإن الدستور لم يحددها، وإنما أحالها على قانون تنظيمي أصدره الملك ونص على تشكيل مجلس النواب من 144 نائبا، ومجلس المستشارين من 120 مستشارا.[29]

وفي ما يتعلق بدواعي الأخذ بالنمط الثنائي فمن حقنا أن نتساءل بناء على الاستنتاجات والملاحظات التي تم تسجيلها بعد التطرق للتجارب المقارنة: هل كانت هناك طبقة ارستقراطية ينبغي إعطاؤها تمثيلية إلى جانب مجلس النواب في البرلمان المغربي؟ وهل كان المغرب يتوفر على تنظيم جهوي يستدعي الأخذ بنمط الثنائية في البرلمان لتعزيز تمثيلية هذه الجهات ؟

 إن البحث في ظروف إقرار أول دستور للمملكة لا نجد معه توفر أي من المبررين السابقين، فبالنسبة لوجود طبقة ارستقراطية فالتجربة البرلمانية المغربية كانت في بداياتها، ومن ثم فلا يوجد أي مبرر للأخذ بهذا النمط من هذه الزاوية في ظل غياب طبقة ذات مصالح يقتضي استمرارية تمثيلها إلى جانب ممثلي الشعب في الغرفة السفلى.

وفي ما يتعلق بالتنظيم الجهوي فالمغرب لم يكن يتوفر على تقسيم جهوي يفرض عليه منح تمثيلية للجهات في البرلمان، وإنما كان يقتصر على الإقليم كوحدة للتقسيم الترابي، ولم يكن يشير الدستور إلى التقسيم الجهوي بتاتا، وأول ظهير ينظم الجهات في المغرب لم يصدر إلا في 16 يونيو 1971،[30] أي في ظل الدستور الثاني للمملكة الذي تم إقراره سنة 1970، وحينها كان المغرب قد تخلى عن نمط البرلمان ذي الغرفتين.

ويبقى المبرر الوحيد الذي دفع المغرب إلى الأخذ بنمط الثنائية البرلمانية في أول تجربة دستورية له هو الاعتماد الشديد على الهندسة الدستورية للجمهورية الفرنسية المعتمدة في دستور 1958 والتي تأخذ بهذا النمط، خاصة وأن هذا الدستور تمت صياغته من قبل فقهاء دستوريين فرنسيين.

على مستوى توزيع الاختصاصات بين غرفتي البرلمان في دستور 1962، كانت موازين القوى تميل إلى ترجيح كفة مجلس النواب المنتخب بالاقتراع العام المباشر مقارنة مع ما كان يتمتع به مجلس المستشارين من اختصاصات ونلخصها كما يلي:

  • على المستوى التشريعي: كان دستور 1962 يمنح اختصاصات تشريعية مهمة لمجلس النواب بالمقارنة مع تلك التي منحها لمجلس المستشارين، حيث كان إيداع مشاريع القوانين يتم بالأولوية لدى مجلس النواب،[31] كما كان يتوفر هذا الأخير على سلطة البث النهائي في النصوص، حيث أنه إذ لم تقع الموافقة على مشروع أو مقترح قانون بعد قراءتين في كل مجلس، أو بعد قراءة واحدة في كل مجلس في حالة إعلان الحكومة للاستعجال، يعرض المشروع أو المقترح على مجلس النواب لإقراره أو رفضه بأغلبية ثلثي أعضائه.[32] ومن هنا يتبين بجلاء التفوق الذي كان يحظى به مجلس النواب على مستوى التشريع بالمقارنة مع مجلس المستشارين.
  • على المستوى الرقابـي: بالنسبة للوظيفة الرقابية فإن الحكومة كانت مسؤولة سياسيا أمام مجلس النواب فقط دون مجلس المستشارين،[33] وتتجلى هذه المسؤولية في احتكار مجلس النواب لوسائل الرقابة المثيرة للمسؤولية السياسية، وهي ملتمس الرقابة،[34] وطرح الثقة من قبل الحكومة.[35] إضافة إلى ذلك كان لمجلس النواب فقط حق توجيه الاتهام لأعضاء الحكومة عند ارتكابهم لجنيات أو جنح،[36] ليحالوا بعدها على المحكمة العليا للعدل.[37]

ولم تدم كثيرا التجربة الدستورية لسنة 1962 ومعها تجربة الثنائية البرلمانية الناشئة بالمغرب، حيث أصبح دستور 1970 يأخذ بنظام المجلس الواحد، هو مجلس النواب بدلا من مجلسي النواب والمستشارين. وقد حذفت كل المواد المتعلقة بنظام المجلسين، ويقوم هذا النمط على انتخاب ثلث أعضاء مجلس النواب بطريقة  الاقتراع الغير المباشر، وذلك من هيأة ناخبة تتألف من أعضاء المجالس الحضرية والقروية ومن لدن هيأت تتألف من المنتخبين بالغرف المهنية وممثلي المأجورين، وهي التمثيلية التي كان يحظى بها مجلس المستشارين في دستور 1962.[38] وهذا النمط الأحادي جاء كإجراء موازي لإجراءات أخرى تهدف إلى تقوية صلاحيات الملك في ثاني دستور عرفه المغرب،[39] وقد استمر النمط البرلماني ذي الغرفة الواحدة إلى حين إقرار دستور 1996.

فبعد ما ظلت دساتير سنوات 1970، 1972 و 1992 تأخذ بنمط الغرفة الواحدة، أعاد دستور 1996 إحياء تجربة الثنائية البرلمانية الذي كان من خلال إحياء غرفة مجلس المستشارين،[40] إلا أن نمط الازدواجية البرلمانية الذي تم التنصيص عليه في دستور 1996 منح صلاحيات مهمة لغرفة مجلس المستشارين، سواء على المستوى الرقابي أو على المستوى التشريعي، وذلك مقارنة مع الثنائية البرلمانية التي نص عليها دستور 1962.[41]

وبالعودة إلى الظروف التي كانت سائدة قبيل إقرار دستور 1996، نجد أن هناك مجموعة من الأسباب التي أدت بالمغرب إلى العودة إلى نمط الثنائية البرلمانية، خاصة ما يرتبط بالرغبة في تأهيل الجهة بالمغرب ومن ثم إحياء نظام الغرفتين، ومنح مجلس المستشارين صلاحيات تمثيلها داخل البرلمان المغربي، وذلك لاستكمال ما أتى به دستور 1992 الذي أصبحت معه الجهة ولأول مرة ذات سند دستوري، وبالتالي فدستور 1996 كان يجب عليه أن يعزز هذه المكاسب من خلال منح الجهات تمثيلية في الغرفة الثانية،[42] وعقب ذلك تم إصدار قانون جديد في الثاني من أبريل سنة 1997 ينظم اختصاصات الجهات.[43]

أيضا، فقد ظل نظام الغرفة الواحدة محط انتقادات طيلة فترات الأخذ به، وذلك بسبب تداخل نوعين من أنواع الاقتراع في انتخاب أعضاء مجلس النواب، وبالتالي لم تكن لمؤسسة الوزير الأول والمجلس الحكومي أي دور فعال في الحياة السياسية من خلال المردودية الضعيفة الناتجة عن عدم توفر الحكومة على أغلبية واضحة تساندها داخل البرلمان.[44]

كما ساهمت الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الفترة في الدفع إلى العودة إلى نظام الغرفتين، وهي ظروف عرفت تدهورا خطيرا بسبب السياسات الحكومية المتبعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وهكذا عرف المغرب وضعية متأزمة نتيجة قلة فرص الشغل وارتفاع نسب البطالة والأمية وتدني مستوى الدخل الفردي والمستوى المعيشي للسكان،[45]  ومن ثم فإن إنشاء مجلس المستشارين بتركيبته الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن يلعب دورا هاما في إيجاد الحلول الملائمة لهذه الأوضاع المتردية. [46]

المبحث الثاني: تقييم نظام الغرفتين على ضوء الممارسة البرلمانية

من خلال الممارسة البرلمانية في ظل نظام الغرفتين، اختلف الفقهاء والباحثون في تقييم تأثير هذا النمط على عمل المؤسسة البرلمانية، حيث أن هناك من يرى أن هذا النمط يساهم بشكل إيجابي في القيام بالأدوار الموكولة للمؤسسة البرلمانية وتحسين المردودية، وبالمقابل فإن هناك من يرى عكس ذلك ويعتبر نظام الغرفتين وسيلة تعرقل السير العادي للبرلمانات، وتجزئ من مجهوداتها.

وسيتم التطرق لمختلف النقاط المرتبط بتقييم نظام الغرفتين وأثره على المؤسسة البرلمانية في فرعين، الأول سيكون من أجل عرض مزايا هذا النظام، في حين سيكون الثاني لبسط السلبيات وكذا الانتقادات التي توجه إليه.

الفرع الأول: إيجابيات الأخذ بنظام الغرفتين

يُنظر إلى الثنائية البرلمانية على أنها أداة فعالة لخلق التوازنات داخل المؤسسة البرلمانية ووسيلة لتصريف الصراعات والأزمات التي تحدث بين المؤسسات السياسية وبخاصة بين المؤسسة البرلمانية والسلطة التنفيذية، إضافة إلى مساهمة هذا النمط في تحسين مستوى جودة النصوص التشريعية الصادرة عن المؤسسة البرلمانية من خلال الدراسة المتكررة والمتأنية للنصوص المعروضة على البرلمان.

وإذا كانت طبيعة شكل الدولة ذات النظام الفيدرالي تفرض من الناحية الموضوعية اعتماد نظام الغرفتين، فإن هناك اتجاها قاده مجموعة من الفقهاء والباحثين الذين أعجبوا بهذا النظام رأو فيه العديد من العناصر التي تساهم في دعم الأسس الديمقراطية للدول، عبر خلقها لتمثيلية مختلف الوحدات الترابية والحؤول دون هيمنة الغرفة الأولى، وتأسيس توازن على مستوى ممارسة السلط، والرفع من جودة عمل المؤسسة البرلمانية وضمان اشتغالها بنوع من الهدوء وعدم الاندفاع.[47]

ولذلك فمن المزايا المهمة التي تحسب لنمط الثنائية البرلمانية نجد خلق نوع من التوازن بين سلطات الدولة، ويتجلى هذا التوازن على مستوى العلاقة بين الجهة والدولة الفيدرالية، كما يتمثل أيضا في خلق التوازن بين المؤسسة التشريعية والمؤسسة التنفيذية.

فبالنسبة للتوازن الذي يحققه نظام الازدواجية البرلمانية في الأنظمة الفيدرالية بين الجهات والسلطات المركزية، فإنه يكون من خلال طرح الإشكالات التي تواجه الجهة داخل البرلمان الفيدرالي، حيث أن المجلس الأول غالبا ما يتغاضى عن طرح مثل هذه الأمور بسبب تركيز عمله على القضايا التي تهم الدولة الفيدرالية ككل.

ولذلك تأتي ضرورة الأخذ بنظام المجلسين في الدول الفيدرالية، لأنه لا بد أن يوجد مجلس أعلى يمثل الجهات تمثيلا متساويا، في مقابل المجلس الأدنى الذي يمثل شعب الدولة الاتحادية في مجموعه.[48] وهنا يعكس المجلس الأول النزعة الخصوصية للجهات المشكلة للدولة الفيدرالية ويمثل مصالحها على قدم المساواة وذلك بصرف النظر عن مساحاتها أو عدد السكان أو الإمكانيات الاقتصادية، في حين يكون المجلس الثاني معبرا عن مصالح الاتحاد بأكمله.[49]

وإذا كان الأمر يبدوا وكأن هذا النمط البرلماني الذي يقوم على الازدواجية، يساهم أكثر في تشتيت وحدة الدولة، والمساهمة أكثر في تضارب قراراتها بين ما هو مرتبط بمصالح الجهة، وما هو مرتبط بمصالح الدولة الفيدرالية، فإن الأنظمة الديمقراطية تنحى إلى منح مكوناتها مجالات للتعبير عن حاجياتها في إطار مؤسسات الدولة، خاصة تلك الدول التي تكون فيها الجهة متسمة بالخصوصية اللغوية والعرقية والثقافية، ومن ثم فإن مطالب هذه الجهات يعبر عنها في إطار تمثيليتها في المجلس الأعلى تفاديا لاستثمارها في تنمية النزعة الانفصالية.

الجانب الثاني الذي يتمثل فيه التوازن الذي يخلقه نمط الثنائية البرلمانية يكون بين المؤسسة التشريعية والمؤسسة التنفيذية، وذلك لتجنب الأزمات وتعطيل السير العادي لمؤسسات الدولة.

وبناء عليه، فإذا كانت السلطة التشريعية في يد مجلس نيابي واحد فإنه قد يستبد بها ويتعسف في استعمالها في مواجهة السلطة التنفيذية، في حين إذا توزعت هذه السلطة على مجلسين نيابيين فإن ذلك سيكون مانعا من الاستبداد، وعاملا مساعدا على وجود التوازن بين السلطات العامة للدولة.[50]

فالمجلس الأعلى نظرا لطريقة تكوينه ومدة عمله، يعتبر بمثابة عامل استقرار وثبات للدولة ولسياساتها، هذا إضافة إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه في تبديد الخلافات في حال نشوب نزاعات وصدامات بين السلطة التنفيذية ومجلس النواب.[51]

ويتقوى دور التوازن الذي يلعبه المجلس الأعلى في الدول التي يتشكل فيها من فئات غير حزبية (ممثلي الغرف المهنية، والنقابات مثلا)، وهنا يتجرد الأعضاء من العواطف السياسية التي قد تنساق  بشكل أعمى وراء الصراعات التي تحدث في الغرفة الأولى،  ومقابل ذلك ينجذبون أكثر إلى الحرص على استمرارية عمل المؤسسات وتجنيبها الصراعات والأزمات.

من جهة أخرى، لم يعد تقييم عمل المؤسسة البرلمانية ، بكم النصوص التشريعية التي تقرها، وإنما يكون ذلك بحسب جودة هذه النصوص، وتتمثل أساسا هذه الجودة في تناسق مضامين النص القانوني وإحاطتها بمختلف الجوانب التي يستهدف النص تنظيمها، وإذا كان يتم ربط تحقيق هذا الهدف بتوفر المؤسسة البرلمانية، – سواء كانت تأخذ بالنمط الأحادي أو النمط الثنائي- على الإمكانيات البشرية واللوجيستيكية الضرورية، فإن هناك من يعتبر النمط الثنائي البرلماني مساهما بقوة في تحقيق هذا الهدف من خلال منع التسرع في العملية التشريعية، وذلك عبر منح النصوص التي يتم دراستها في البرلمان الوقت الكافي لمناقشتها قبل التصويت عليها.

 حيث أنه غالبا ما ينساق المجلس الأول الذي انبثقت منه الحكومة وراء ضغوطات هذه الأخيرة، ويخضع لرغبات الجهاز الحكومي للإسراع بإخراج نصوص معينة إلى حيز الوجود، وهو ما يجعل عمله التشريعي أكثر عرضة للخطأ والقصور.

ومقابل ذلك يكون  المجلس الثاني محررا من ضغوطات الحكومة وتوجيهاتها بالإسراع في المناقشة والمصادقة على النصوص المعروضة عليه، وهو الأمر الذي يمكنه من دراسة النصوص بترو وتأن. ومن هنا فإن وجود مجلسين يضمن إتمام العملية التشريعية على أكمل وجه، سواء من وجهة النظر الموضوعية أو الشكلية، حيث يتم مناقشة مشاريع ومقترحات القوانين مناقشة عميقة ومستفيضة قبيل إصدارها حتى تكون معبرة بحق عن حاجيات المجتمع.[52]

و من جهة أخرى، فحتى وإن أخطأ المجلس الأول في صياغته للنص القانوني، أو حدث قصور أو تضارب في هذا النص، فإن المجلس الثاني يعمل على تصحيح هذه الهفوات من خلال إدخال التعديلات على النص الذي صادق عليه المجلس الأول. وبذلك ينقذ الموقف ويقيل زميله من عثرته.[53]

فنمط الثنائية البرلمانية في غالب الأحيان يشرك كلا المجلسين في المسطرة التشريعية  وهو ما يضمن دراسة النص مرتين على الأقل (مرة في كل غرفة)، وفي كل غرفة يدرس النص في اللجان المختصة التي تتوفر على كفاءات متخصصة في المجال الذي يريد النص المعروض عليها تنظيمه، بل وقد يصل الأمر إلى تشكيل لجنة فرعية للتعمق في دراسة هذا النص، وذلك قبل عرضه على الجلسة لمناقشته من قبل باقي أعضاء المجلس الذين لهم الحق أيضا في تقديم تعديلاتهم، ثم التصويت عليه، ونفس هذه العملية تتكرر في الغرفة الثانية.

ويساهم نظام الغرفتين في تجويد النصوص التشريعية أيضا عبر تشكل المجلس الأعلى من كفاءات عالية التكوين في مختلف المجالات بسبب طريقة انتخاب أعضائه، وهو ما يمكن استثماره لرفع مستوى الهيأة التشريعية ككل،[54]

ولذلك فإن الأخذ بنمط الازدواجية البرلمانية، يقلل من الهفوات التشريعية، ويساهم أكثر في الرفع من جودة النصوص التشريعية الصادرة عن البرلمان، وذلك من خلال تصحيح كل غرفة للأخطاء التي وقعت فيها الغرفة الأخرى.

إلا أنه رغم تعدد المزايا التي تحسب لهذا النظام، فإن هناك من ينظر إليه من زوايا أخرى ويحمله مسؤولية مجموعة من السلبيات التي تؤثر على سير المؤسسة البرلمانية.

الفرع الثاني: سلبيات الأخذ بنظام الغرفتين

مقابل النقاط الإيجابية التي تحسب للبرلمانات القائمة على الازدواج، هناك من يركز على الجانب السلبي لهذا النمط عبر تحميله المسؤولية في تجزيء السيادة التي لا تقبل التجزيء في الأصل ، إضافة إلى مساهمته في تكريس البطء في الوظيفة التشريعية داخل المؤسسة البرلمانية ، وعرقلة هذه الوظيفة بسبب تعقد المسطرة التشريعية التي تستلزم مرور النصوص القانونية من نفس المراحل داخل كل غرفة على حدة.

أولا:  تجزيء السيادة

يتمسك بهذا الاتهام بالخصوص أنصار نظرية “السيادة للأمة”،[55] حيث يعتبرون أن وحدة الأمة وطابعها الذاتي المجرد عن الأفراد يؤدي لاعتبار السيادة التي تتمتع بها وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها، فالشخص الواحد الذي هو الأمة لا يمكن أن يكون له إلا إرادة عامة واحدة تعبر عن نفسها بإرادة عامة واحدة لا تقبل التجزئة.[56]

وتعتبر البرلمانات أهم المؤسسات التي تعبر عن السيادة لكونها تنتخب من قبل الشعب، وهذه الصفة التمثيلية هي التي تكسب البرلمان الارتباط بالأمة وتمثيل سيادتها.[57] حيث يعهد إلى المؤسسة البرلمانية بأحد أهم وظائف الدولة وهي عملية سن التشريعات.

ويؤخذ على البرلمانات ذات الغرفتين، على أنها تساهم في تجزيء السيادة ، وذلك من منطلق أن كلا المجلسين منتخبان ويعبران عن أراء وأفكار الناخبين الذين انتدبوهم لتمثيلهم، والحال أن هذه المهمة الحساسة يجب أن توكل إلى جسم واحد كي لا يقع تعارض في اتخاذ القرارات ومن ثم تجزيء السيادة.

ولذلك فمعارضو نظام الثنائية البرلمانية المنتصرين لوحد السيادة، ومن ثم لوحدة المجالس التمثيلية، يعتبرون بأن الأمة وحدة واحدة لا تتجزأ وكذلك إرادة الأمة واحدة لا تقبل التجزئة، وبالتالي لا يجوز تمثيلها إلا بهيأة واحدة يتم اختيارها من قبل هيأة الناخبين، وبالنتيجة فإن هذه السيادة لا يصح أن يعبر عنها مجلسان.[58]

وعليه، فإن انتخاب مجلسين في البرلمان للقيام بالمهام التمثيلية، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، خاصة في حال وصول طيف سياسي إلى أحد المجالس يناقض الذي يسيطر على الأغلبية في المجلس الأخر، وهنا يؤدي توفر هذان المجلسان على سلطات تقريرية متساوية، إلى شل عمل المؤسسة البرلمانية ويحدث تعارض بين جهازين منتدبين لتمثيل سيادة الأمة. ومن ثم تتحقق مقولة بنيامين فرانكلين، والذي  يعتبر أحد أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، حينما شبه نظام المجلسين بالعربة التي يجرها جوادان في اتجاهين مختلفين.

إضافة إلى ما سبق، فإن طبيعة التمثيلية التي يحظى به كل مجلس على حدة، بإمكانها أن تؤدي إلى الاختلاف في بعض المسائل الجوهرية، وقد يؤدي تمسك كل مجلس بوجهة نظره إلى تعطيل عمل المؤسسة البرلمانية، وهو الأمر الذي يتعارض مع الصالح العام.[59]

كما يعاب على هذا النمط المجلسي أنه لا يساوي بين المواطنين في اختيار ممثليهم، فهناك من يأخذ فرصين للاختيار ( فئات المأجورين، وممثلي الهيآت النقابية…)، حيث يختارون ممثليهم في كلا الغرفتين، في حين لا يحظى المواطنون الآخرون إلا بفرصة واحدة فقط للإختيار في الغرفة الأولى.

كل هذه المبررات جعلت العديد من الدارسين يدعون إلى التخلي عن نمط الازدواجية البرلمانية، وتوحيد العمل البرلماني في مجلس واحد، يعبر لوحده عن السيادة التي لا تقبل التجزيء والتوزيع على أجهزة مختلفة.

ثانيا: تكريس البطء في العملية التشريعية

تم التطرق في الفرع السابق إلى أن النمط الثنائي يحسب من بين ما يحسب له من إيجابيات، جودة النصوص التشريعية التي تصدر عليه، بالنظر إلى أن النصوص التي تصدر عن البرلمان المشكل من غرفتين، تحظى بالدراسة مرتين على الأقل قبل إصدارها، وهو ما يحسن من جودة هذه النصوص، ويقلل من هامش الوقوع في التضارب والسقوط في الأخطاء. إلا أنه وعلاقة بوظيفة التشريع، فإن هناك من ينظر إلى أن تداول مجلسي البرلمان بهذه الطريقة في النصوص المعروضة عليه عاملا سلبيا أكثر مما هو عامل إيجابي.

ويتجلى هذا النقد في بطء العملية التشريعية، ذلك أن القوانين تتطلب لدخولها حيز الوجود أو التنفيذ، المصادقة عليها من طرف المجلسين معا، وهذا ما يستغرق وقتا طويلا مما يؤدي إلى عرقلة العمل الحكومي، وبالتالي عرقلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.[60]

وبالإضافة إلى أن وجود مجلسين بإجراءات مستقلة يؤدي إلى عرقلة التشريعات، لا سيما وأن نظام الديمقراطية في مجموعه يتسم بالبطء، بل يمكن لذلك أن يؤدي إلى شل هذه التشريعات بشكل كامل، وبخاصة إذا كانت اختصاصات الغرفتين وسلطاتهما متشابهة ومتوازنة.[61]

في حين أن نظام البرلمان الذي يتشكل من مجلس واحد فقط، يتميز بالسرعة والبساطة في ما يرتبط بالعملية التشريعية، ويتفادى الإجراءات الطويلة والمعقدة التي من شأنها الوصول إلى حد إعاقة إصدار القانون.[62]

ويمكن الحديث أساسا عن سببين مرتبطين بتبني نظام الغرفتين من شأنهما إبطاء العملية التشريعية:

  • العامل الأول: وهو عامل إجرائي، يتمثل في مرور النصوص القانونية التي تتم دراستها داخل البرلمان بشكل إجباري بكل المراحل التي تفرضها المسطرة التشريعية، من دراسة في اللجان ومناقشة  في الجلسات، وما يرتبط بذلك من إمكانية لإدخال للتعديلات، وهي نفس المراحل التي يتم تكرارها في المجلس الأخر، بل إن هذه العملية يمكن أن يتم تكرارها أكثر من مرتين، وذلك بحسب طبيعة المحددات التي تحكم عملية التداول في النصوص بين المجلسين.
  • العامل الثاني: وهو ذا طابع سياسي، ويتجلى في تعمد أحد المجلسين في عرقلة عملية المصادقة على نص معين، إما بسبب عدم اتفاقه مع المجلس الأخر حول مضمونه، ومن ثم يرفض التصويت عليه بالإيجاب، وإما رغبة منه في عرقلة عمل الحكومة، من خلال عرقلة السير العادي للعملية التشريعية، وهذا العامل مرتبط بالغرف الثانية التي لاتنبثق منها الحكومة، وفي نفس الوقت تتوفر على سلطات حقيقية في ما يتعلق بالتشريع.

خاتمة

على الرغم من الخلافات الحاصلة بين رجال السياسة وفقهاء القانون حول الجدوى من تشكل البرلمان من مجلسين، إلا أن الممارسة على المستوى العالمي كرست لازدواجية المؤسسة البرلمانية.

وإذا كان من المسلم به أن بنية المؤسسة البرلمانية تؤثر بشكل كبير على ممارسة الوظائف والاختصاصات الموكولة لها، فإنه أصبح من اللازم تعزيز آليات التنسيق، خاصة في النظامين الداخليين للمجلسين، وذلك من أجل توحيد الجهود وتجنب التعارض والتكرار في عمل المجلسين.


[1]  محمد معتصم، النظام السياسي الدستوري المغربي، مؤسسة إيزيس للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1992 ص 92

[2]  القانون الأساسي الألماني لسنة 1949

[3]  المادة الثالثة من القانون الأساسي الألماني

[4]  المادة الرابعة من القانون الأساسي الألماني

[5]  المادة 38 من الفصل الثالث من القانون الأساسي الألماني

[6]  المادة 39 من الفصل الثالث من القانون الأساسي الألماني

[7]  المادة 50 من الفصل الرابع من القانون الأساسي الألماني

[8]  المادة 51 من الفصل الرابع من القانون الأساسي الألماني

[9]  الفقرة الأولى من المادة الأولى من دستور الولايات المتحدة الأمريكية

[10]  الفقرة الثانية من المادة الأولى من دستور الولايات المتحدة الأمريكية

[11]  محمد عرب صاصيلا، الموجز في القانون الدستوري، 1981 ، ص 186

[12]  الفقرة الثالثة من المادة الأولى من دستور الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1787

 محمد عرب صاصيلا، مرجع سابق  ص 172 [13]

[14]  المختار مطيع، المبادئ العامة للقانون الدستوري والمؤسسات السياسية، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى، 1995، ص  48.

[15] عادة ما يتم حل مجلس العموم من قبل رئيس الوزراء في السنة الخامسة وقبل إتمام الولاية التشريعية للمجلس، وذلك لفسح المجال أمام  انتخابات تشريعية لانتخاب المجلس الجديد.

[16]  محمد عرب صاصيلا، مرجع سابق ص167

[17]  أحمد بنكوكوس، النظم السياسية، دار النشر الجسور، وجدة، الطبعة الثانية، 1999، ص  15.

[18]  محمد عرب صاصيلا، مرجع سابق  ص ص 166-167

[19]  تعرف لويس الثامن عشر في بريطانيا على نمط الثنائية البرلمانية بشكل مفصل خلال الفترة التي قضاها في منفاه هناك، وأدرك أن هذا النمط البرلماني من الأسباب الرئيسية لاستقرار النظام السياسي وفعاليته، وتمكن بعد ذلك من إقناع نابليون بهذه الفكرة. للتفصيل أكثر يراجع: محمد أبو زيد محمد، مرجع سابق، ص ص  314- 315

[20]  نفس المرجع، ص  من 312 إلى 314

[21]  الفقرة الثانية من الفصل 24 من دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958

[22]  الفقرة الثالثة من الفصل 24 من دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958

[23]  الفقرة الرابعة من الفصل 24 من دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958

[24]  الفقرة الخامسة من الفصل 24 من دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958

[25]  المختار مطيع، المبادئ العامة للقانون الدستوري والمؤسسات السياسية، مرجع سابق، ص ص 48-49

[26]  الفصل 36 من دستور 1962

[27]  الفصل 44 من دستور 1962

[28]  الفقرة الثانية من الفصل 45 من دستور 1962

[29]  عبد العزيز لوزي، المسألة الدستورية والمسار الديمقراطي في المغرب، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، دار النشر المغربية، العدد الخامس، 1996، ص 72

[30]  رشيد لبكر، التطور الدستوري للجهة بالمغرب، مجلة مسالك في الفكر والسياسة والاقتصاد، عدد مزدوج 19-20 ، 2012، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص 146

[31]  تنص الفقرة الثانية من الفصل 55  من دستور 1962على ” توضع مشاريع القوانين بادئ ذي بدء بمكتب مجلس النواب ليدرسها المجلس”

[32]  الفقرة الثانية من الفصل 62 من دستور 1962

[33]  إضافة إلى ذلك فالحكومة مسؤولة أمام الملك حيث تنص الفقرة الأولى من الفصل 65 من دستور 1962 على أن ” الحكومة مسؤولة أمام الملك وأمام مجلس النواب”

[34]  الفصل 81 من دستور 1962

[35]  الفصل 80 من دستور 1962

[36]  الفصل 88 من دستور 1962

[37]  الفصل 89 من دستور 1962

[38] عبد الكريم غلاب، التطور الدستوري والنيابي بالمغرب، الطبعة الأولى، 1988، ص 272

[39] Mohammed Amine BENABDALLAH , Le bicaméralisme dans la constitution marocaine de 2011 , ouvrage collective sous titre : la constitution marocaine de 2011 analyses et commentaires , lextenso-ediions , 2012 , P 113

[40]  الفصل 36 من دستور 1996 ينص على “يتكون البرلمان من مجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين، ويستمد أعضاؤه نيابتهم من الأمة وحقهم في التصويت حق شخصي لا يمكن تفويضه”

[41]  حيث كان بإمكان مجلس المستشارين إثارة المسؤولية السياسية للحكومة من خلال التقدم بملتمس رقابة، كما أن الخلاف بين المجلسين بشأن نص معين يقتضي تشكيل لجنة ثنائية مختلطة، وهو ما يعني إعطاء سلطات فعلية للغرفة الثانية على غرار الغرفة الأولى.

[42]  رشيد لبكر، مرجع سابق، ص  من 149 إلى 151

[43]  الظهير الشريف رقم 1-97-84 الصادر بتاريخ 2 أبريل 1997 المتعلق بتنفيذ القانون رقم 47-96 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 4470 بتاريخ 3 أبريل 1997.

[44]  محمد الداودي، مرجع سابق، ص 173

[45]  نفس المرجع، ص  174

[46]  عبر الملك الراحل الحسن الثاني عن الرغبة في العودة إلى تبني نظام الثنائية البرلمانية بقوله: ” إن ذلك الثلث المنتخب بكيفية غير مباشرة في البرلمان الحالي لا يمثل القوة الحية التي تغذينا كل يوم، والتي تعمل لنا ولبلدها كل يوم، ألا وهي الغرف المهنية والطبقة الكادحة المأجورة والمجالس المنتخبة والجماعات المحلية، هذه هي القوة العاملة النابضة يوميا، كانت في الحقيقة مهضومة الحق حينما تمثلت فقط بالثلث في البرلمان…”مقطع من الخطاب الملكي لـ 20 غشت 1996،  مذكور عند محمد الداودي، مرجع سابق، ص  174

[47]  إدريس لكريني، نظام الغرفتين في السياق المغربي: ترف سياسي؟، جريدة القدس العربي، العدد 5886، الأربعاء 2 جمادى الأولى 1429.

[48]  محمد أبو زيد محمد، الازدواج البرلماني وأثره في تحقيق الديمقراطية، دراسة مقارنة تطبيقية على النظام الدستوري المصري، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص  16

[49] عبد الغني بسيوني عبد الله، النظم السياسية: أسس التنظيم السياسي، المكتبة القانونية، الدار الجامعية، 1984، ص: 247، مذكور عند محمد أبو زيد محمد، نفس المرجع، ص  16

[50]  محمد أبو زيد محمد، نفس المرجع، ص  16

[51]  صلاح الدين فوزي، مرجع سابق، ص 6

[52]  نفس المرجع، نفس الصفحة

[53]  محمد أبو زيد محمد، مرجع سابق، ص  17

[54]  إدريس لكريني، مرجع سابق.

[55]  وليس أنصار نظرية السيادة الشعبية

[56]  محمد عرب صاصيلا، مرجع سابق، ص  78

[57]  عبد الكريم غلاب، سلطة المؤسسات بين الشعب والحكم: دراسة دستورية سياسية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1987، ص  36

[58]  محمد أبو زيد محمد، نفس المرجع، ص  15

[59]  نفس المرجع، ص  14

[60]  محمد الداودي، المراجعة الدستورية لعام 1996 والعودة إلى البرلمان ذي الغرفتين ، سلسلة الدراسات القانونية والسياسية والاقتصادية، الطبعة الأولى، يونيو 1999، ص  178

[61]  إدريس لكريني، نفس المرجع.

[62]  صلاح الدين فوزي، مرجع سابق، ص 2

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *