من من إنجاز الطالب الباحث بسلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس السويسي - سلا:

الاستدلال القانوني سؤال عن كيف نفكر قانونيا؟

توطئة:

القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة…
اادستورالمغربي ) ف.(6

ليس السُّمُو في القانون لكونه تعبيرا ناقلا ما تريده الأمة فقط، بل لكونه أيضا تفكيراعاقلا
بإرادتها الحرة . فهاتان مقدمتان متلازمتان . لكن ربما لا يعبرالقانون عن إرادة الأمة، كما في
كثيرمن القوانين المعبرة عن إيديولوجية وقيم وقوة طائفة من الأمة لا عن الأمة ؛ أوقد لاتفكر الأمة
في قانونها، كما إذا كانت قوانينها منقولة عن غيرها؛ وكلاهما قادِحٌ في القانون. فإذن لايسمو
القانون إلا بالأمة المُفكرة والمُعبرة عن إرادتها بحرية.

والذي يقتضيه التفكيرفي القانون، أنَّ هناك عقلا مُنْتِجا ومفسرا وناقدا للنصوص القانونية، وإلا
كان القانون خِلـْـواً من المَعْقولِيَّة التي تدل على بنيته المنطقية ونسقه الاستدلالي، وهوعائق معرفي
يَحُول بين الباحث والمقاربة المعرفية القائلة بأن لكل قانون سؤالا إبيستمولوجياً، يبحث عن مبادئه
ومسلماته وحقائقه ، ويكشف ما وراء المتن القانوني من أسئلة معرفية كثيرة، لعل من أبرزها: كيف
نفكرفي القانون ؟. وعلى هذا السؤال ينبني النظر في الاستدلال القانوني من حيث هو تفكيرمنهجي
في القانون مبنىً ومعنىً . ومن أهميته المنهجية أيضا، أنه لا يُقتـَصَرفيه على القانون، بل يحتاج
إلى معرفة قانونية تتوزعها مجالات معرفية كثيرة؛ كالابيستمولوجية القانونية،و علم الاجتماع
القانوني، والانثربولوجية القانونية، واللسانيات القانونية، والمنطق القانوني، وفلسفة القانون…؛
مما جعل الاستدلال فاحصا عن مدى وجود فكرأوعقل قانوني (raison juridique). وإلى هذا كله
فإنه من الوسائل المستعملة فيما يُسمى ” التقنية القانونية” ( la technique juridique)، التي من
من شأنها أن تقيس فعالية القانون كـَمـّاً وكـَيـْفاً .

فظاهرٌ من الاستدلال القانوني أنَّ مجال النظرفيه دائرٌ بين القانون ومجالات أخرى، ولا ريب أن
هذا يَشْـكُـل على كثير من الباحثين، لاقتصار القانونيين على القانون،ولتقصيرغيرهم فيما هوقانوني.
فإذا انضاف إلى ذلك غياب فكرقانوني منتج ومستقل، زاد الإشكال في تناول القوانين تناولا
استدلاليا. إذ ما لا يُفـَكَّـرفيه، ويكون منسوخا)أوممسوخا( من بيئة قانونية مغايرة، كيف يُستدل عليه.
ومع ما يثيره الباحثون من إشكالات في الاستدلال القانوني، وما يستلزم من معرفة قانونية صعبة
المُـتـَناوَل، فإنه لاينبغي أن يكون نِـسْـياً في الدراسات القانونية مادام متعلقا بالقانون . وقد رأينا أن
نُوِرد هذا المقال، توضيحا لمفهوم الاستدلال القانوني ، ولأنواعه ، ولمناهجه ؛ بما يساهم في تطوير
المعرفة القانونية .
أولا: مفهوم الاستدلال القانوني

في البحث عن الاستدلال القانوني، ينبغي تحديد جملة من المفاهيم التي تؤطره منهجيا وإبستمولوجيا (معرفيا)، والعلاقة الناظمة بين بعضها البعض، وهذا ما يشار إليه بالإطار المفهومي.
وبَيِّنٌ أن المفهومين المركزيين اللذين يؤطران ما نبحث عنه ، و فيه ، هما: ˝الاستدلال˝ و ˝القانون˝، ولكن هذا لا يعني إغفال الحقل الدلالي (champ sémiotique) لكليهما، وهو كل المفاهيم التي لها بالمفهومين المذكورين علاقة ما، سواء كانت من قبيل الترادف أو التباين، أو تقابل الجزء من الكل، والكل من الجزء . مثال ذلك :
– ما يربط بين مفهوم الاستدلال والنظر والتفكير والتركيب والتحليل والاستنتاج والحجاج…إلخ.
– وما يربط بين مفهوم القانون والدين والأخلاق والعرف والقيم والعلم….إلخ.
وإجمالا، كل ما له علاقة ما بالاستدلال القانوني، فهو مما ينبغي استدعاؤه فكريا لتحديد مفهومه.
ونَظـَرُنَا في مفهوم الاستدلال القانوني تحليليٌ وتركيبيٌ .
1- تحليل المفهوم : الاستدلال/ القانون
أ- ما الاستدلال ؟
˝ الاستدلال˝ في البناء اللغوي مصدر من باب الاستفعال، ويأتي بمعنى “طلب الفعل أو السؤال عن الشيء” . فإذن: الاستدلال لغة هو: “طلب الدليل” .وقد وَرَدَ هذا المعنى في إطلاقه الاصطلاحي، فقيل إنه : “طلب الدلالة، وقد يكون ذلك بالنظر والرؤية، وقد يكون بالسؤال عنها.” ؛ وقيل هو: “البحث والنظر… ومسألة السائل عن الدليل” ؛ وقيل هو: ” تقريرالدليل لإثبات المدلول” ؛ وعُرِّفَ أيضاً بأنه ” النظر في الدليل عند علماء الأصول والمتكلمين، وإقامة الدليل عند المنطقيين” .
وقد تـُـصُرِّفَ في لفظ الاستدلال بالاشتقاق منه، كما يلي :
– المُستدِل، وهو: “الطالب للدلالة، ويطلق على من ينصب الدلالة، وعلى السائل عنها.”
– المُستدَل، وهو: “المُطالب بالدلالة.”
– المُستدَل له، وهو:”الذي أقيمت له الدلالة، وقد يكون هو الحكم المطلوب بالدلالة.”
– المستدل عليه، وهو:” المطلوب بالدلالة، ويطلق على الخصم المقهور بالدلالة.” ،وعلى “الحكم الذي هو التحريم والتحليل.”
فهذه الألفاظ على اختلاف اشتقاقها، راجعة إلى معنى واحد ، وهو الدلالة أو التدليل، وكلاهما مما يطلب في مفهوم الاستدلال، على ما قدمناه، إلا أن هنا سؤالا أولا عن الدلالة والدليل: هل هما مترادفان أو متباينان ؟
المعتبر عند البعض أنه لا فرق بينهما، إذ الدلالة هي ” كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر.”، و الدليل هو ” الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر” ، ومنهم من فرق بينهما، بأن الدلالة هي ” ما يتوصل به إلى معرفة ما لا يعلم.”، والدليل هو ” ما يستدل به من نص أو غيره” أو هو “عبارة عن قياس” .
وأما السؤال الثاني، فيخص الدليل وما يساق معه في الحقل الدلالي، كالبرهان والحجة والسلطان والآية والأمارة والعلامة والبينة والسند والشاهد والقرينة….، فهل هي ألفاظ مترادفة أو متباينة ؟. وقد ذهب البعض إلى حملها على الترادف، وقال آخرون بتباينها . فلذلك يجب على كل ناظر في الاستدلال، مراعاة مفهومه في التداول اللغوي العربي.
فإذا ثبت هذا، انتقلنا إلى مفهوم الاستدلال في التداول اللغوي غير العربي، حيث يشار ب “REASONING” في الانجليزية إلى ” فعل أو عملية استعمال العقل، أو الحجج الناتجة عن ذلك” .وب ” RAISONNENEMT” في الفرنسية إلى “نشاط العقل، والكيفية التي بها يُمارَسُ”.
فالاستدلال إذن بالنظر إلى التعريفين المشار إليهما، يحيل إلى العقل، ولعل هذه الإحالة هي التي تفسر ترجمة “reasoning” في بعض المعاجم ” بالتعقل” ، و “بالتفكير” . ولا حاجة إلى مثل هذه الترجمة مع شيوع لفظ الاستدلال في كتب المنطق ، وأصول الفقه ، والرياضيات.
وما قيل في تعريف الاستدلال، من أنه إعمال العقل في الأشياء، فوارد أيضا في تعريفه الاصطلاحي، لكن مع إضافة عناصر إجرائية ( (operationalلجعله أكثر تحديدا .
وهذا ظاهر في مدلوله المنطقي، من حيث إن الاستدلال هو: ” العملية التي ينتقل فيها الفكر من قضية أو عدة قضايا إلى نتيجة” . ، وبتعريف آخر، هو “عملية استطرادية للفكر قوامها التأليف المنطقي للأحكام للتأدي إلى نتيجة ” . وأما معناه عند الفلاسفة، فالاستدلال هو: ” استخراج حكم من حكم آخر”. ( kant)، أو هو:” انتقال الفكر على نحو تعاقبي”.
فمؤدى التعريفات المذكورة واحد، وهو أن الاستدلال عبارة عن إعمال الفكر، للانتقال من شيء إلى آخر انتقالا منطقيا. فإذا أضيف إلى ذلك التعريفات السابقة الواردة في التداول اللغوي العربي، أمكن تحديد مفهوم الاستدلال لغة و اصطلاحا.
على أن الذي يعنينا هنا ليس مطلق الاستدلال، بل الاستدلال المضاف إلى القانون .
ب- ما القانون ؟
إن مفهوم كل قانون، هو تقعيده للظواهر التي يجري عليها حكمه. وهذه القواعد القانونية هي التي تنظم السلوك المرغوب فيه ، والمرغوب عنه . وكل إخلال بها يرتب جزاء، بقدر ما هو منصوص عليه في النص القانوني. والنصوص القانونية في هذا الباب كثيرة ومختلفة، باختلاف مصدرها، وموضوعها، والمخاطب بها، وأبعادها الزمانية والمكانية …إلخ . وإذا اختلفت النصوص القانونية، فلا ريب أن تختلف أنحاء النظر في القانون.
والسؤال الآن : إذا كان الاستدلال المراد هنا هو “القانوني”، فأي قانون هو؟ أهو القانون الوضعي، أم القانون الطبيعي، أم القانون الديني ( كالقانون الشرعي بالنسبة للمسلمين، والقانون التوراتي بالنسبة لليهود، والقانون الكنسي بالنسبة للنصارى)، أم القانون الروماني والجرماني والانجلوسكسوني والاسلامي والآسيوي والافريقي…؛ وسواها من الأنظمة القانونية ؟
فهكذا ينبغي أن يُفهم الوصف “القانوني” الذي يوصف به الاستدلال، لا أن يقتصر على القانون الوضعي الذي تصدره الدولة، مع إغفال غيره، فيؤدي ذلك إلى ما يسمى ” الأحدية القانونية ” (Monisme Juridique)؛ وهذا بخلاف من يقول ” بالتعددية القانونية ” (Pluralisme Juridique)، من أجل استثمار كل خطاب قانوني. ولعل هذا لا يتسع له المقام، فلنكتف بالإشارة إلى ذلك، وغرضنا هنا متصل بما تسنه الدولة من قوانين.
فقد اتضح: ما الاستدلال، وما القانون، وبقي أن نركب بينهما، لتحديد مفهوم الاستدلال القانوني.
2- تركيب المفهوم : الاستدلال القانوني
اختلف الباحثون في تعريف الاستدلال القانوني، ويمكن إيجاز ذلك في التعريفات التالية:
– هو” نشاط فكري يُنتقل فيه من بعض القضايا الموضوعة موضع مقدمات إلى قضية جديدة، بموجب علاقة منطقية، تربطها بالقضايا الأُوَّل.”
– هو ” صَنْعَة الفكر القانوني.” ماكس فيبر.
– هو ” المسلك الفكري التدرجي الذي يمكن من تعيين المشكلة، وتحويلها إلى عبارات قانونية، واختيار العناصر الضرورية في حلها، مع صياغة جواب معلل لها.”
– هو ” العملية الفكرية التي بموجبها يترافع المحامون، ويفصل القضاة في الدعاوى المرفوعة إليهم.”
– هو ” التفكير المتعلق بالقانون، أو بالكيفية التي يجب على القاضي أن يحكم بها”
– هو ” جملة العمليات التي تـُقـَـعِّد القانون. ”
– هو ” ما يُتوسل به من المعرفة المرتبة ترتيبا عقليا للتوصل إلى الحل القانوني.”
وفي التعريفات المشار إليها ملاحظتان:
الأولى، أن مفهوم الاستدلال القانوني ،لا يكاد يختلف في معناه عما مر بنا في تعريف الاستدلال، فالعُمدة في التعريفين – الإفرادي ( الاستدلال) والتركيبي ( الاستدلال القانوني )- على العقل الناظم للتفكير القانوني.
الثانية، أن بعض العبارات المنطوية عليها التعريفات المذكورة، قد يلتبس معناها على غير الدارس للمنطق، فيخالها عبارة قانونية، وذلك نحو:
– عبارة ” القضايا “، فإنه ليس المراد بها في الاستدلال القانوني، ما يُتنازع فيه ويعرض على القاضي للقضاء بين الخصمين، بل يراد بها: ” القول المحتمل للتصديق والتكذيب، مثل قولك : “زيد قائم”، فإن هذا القول يحتمل أن يقال لقائله، “صدقت” وأن يقال له ” كذبت” . وكل قضية تشتمل على جزءين: ما يحكم عليه،ويسمى” الموضوع” (زيد)، وما يحكم به، ويسمى” المحمول ” (القائم).

ولذا لزم الحذر المنهجي في استعمال مفهوم الاستدلال في المجال القانوني، لا لأن القانون يستعصي على المقاربة الاستدلالية، ولكن لأن الاستدلال يقتضي الإلمام بمعرفة منطقية ولسانية حتى يصيرالنص القانوني ” نصا استدلاليا”.
ذلك إذن هو مفهوم الاستدلال القانوني تحليلاً وتركيباً . فما أنواعه ؟

ثانيا أنواع الاستدلال في القانون
يختلف الاستدلال في القانون بحسب المُستـَدِّل والمُستـَدَل عليه، وقد عَــدَّ بعض علماء المنطق من الأنواع التي يستعملها رجل القانون، ” الاستدلالات البرهانية و الاستدلالات الحجاجية ” ؛ ولأهمية هذا التصنيف ، نجمله فيما يلي :

1 – الاستدلالات البرهانية
هي التي تكون فيها النتيجة لازمة لزوم يقينيا عن المقدمات . و تنقسم إلى قسمين: خبرية وإنشائية ( أو معيارية).
أ – الاستدلالات البرهانية الخبرية
هي التي تؤلـَّف بين قضايا خبرية تحتمل الصدق والكذب؛ منها ما يعرف بمبدأ الوضع (أو مبدأ استثناء عين المقدم). وصورته: في كل حالة إذا صدقت “ب” صدقت “ج” لكن في هذه الحالة تصدق “ب” ، فإذن تصدق “ج” .
ومثاله علاقة الشغل بين المشغل والعامل، في كل حالة إذا أدى العامل عمله استحق الأجر، وفي هذه الحالة هذا العامل أدى عمله، فإذن في هذه الحالة يستحق الأجر.
ويندرج تحت الاستدلالات البرهانية الخبرية، ما كانت نتيجة ظنية، ولو أنه سلك طريقا برهانيا، لاشتماله على مقدمة ظنية على الأقل، بمقتضى القاعدة المنطقية التي تنص على أن النتيجة تتبع أضعف المقدمات كما أو كيفا.
ب – الاستدلالات البرهانية الإنشائية (أو المعيارية)
هي التي تؤلـَّف بين قضايا تحتوي إحداها على الأقل على لفظ يدل على الوجوب أو الحظر أو الإباحة أو ما يدخل في معانيها ( مثال وجوب إنفاق الزوج على الزوجة). و من القواعد التي تنبني عليها هذه الاستدلالات ما يلي:
● كل ما كان واجبا فعله، كان محظورا تركه،
● كل ما غير واجب ولا محظور كان مباحا
● كل ما لزم عن الواجب فهو واجب
● الواجب ما كان تركه يقتضي العقاب
● المحظور ما كان فعله يقتضي العقاب
● المباح ما لا يقتضي فعله ولا تركه عقابا.

2 – الاستدلالات الحِجاجية
هي التي تكون فيها النتيجة مستقلة بطريق غير يقيني من المقدمات. و تتنوع إلى ” جدلية” و”موضعية” وخطابية” .
أ- الاستدلالات الجدلية
هي التي تجري في الجلسات الحوارية المتعلقة بالمساجلات بين الوكلاء والمحامين، أو بالمداولات بين المستشارين.
ومن القواعد التي تضبط حل النزاع بين المتحاورين ما يلي :
● ليس من حق المتحاورين أن يمنع أحدهما الآخر من الادعاء أو الاعتراض حسب الطرق المقبولة في مجال التحاور ( هذا مبدأ عام مستنتج من نصوص المسطرة المدنية).
● على كل من ادعى دعوى أن يدافع عنها إذا توجه عليها اعتراض الخصم.
● لا يستقيم الاعتراض إلا إذا توجه على قضية ظهر ادعاؤها من لدن الخصم.
● لا يستقيم الدفاع عن الدعوى إلا إذا أتى المدعي بدليل يثبتها بصفة عامة، أو أتى خصمه بدليل ينقضها في بعض الحالات (مثال الأجير الذي يدعي التعسف في طرده يكون عليه مبدئيا إثبات هذا التعسف، لكن المحكمة قد تطالب خلال البحث المؤاجر بإثبات الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها العامل واستحق من أجلها الطرد).
● يتم الدفاع عن الدعوى إذا حصل إثباتها بدليل مسلم به من لدن القضاء أو سلك المدعي طريقا سليما مقبولا في الإقناع.
● يحسن بالمتحاورين أن يجتنبا استعمال الألفاظ والعبارات الغامضة والملتبسة والغريبة.
ب- الاستدلالات الموضعية
هي التي تستند إلى “المواضع”، والموضع هو قاعدة لا ترقى إلى عمومية القانون المنطقي لاقترانها بالمضمون تـُعتمَد في إنشاء النصوص و تأويلها.
وتنقسم المواضع إلى نوعين : ” المواضع العامة” و ” المواضع الخاصة” .
أما المواضع العامة ، فهي القواعد التي تضبط الممارسة العقلية في مجالات معرفية مختلفة. ويمكن التمييز فيها بين:
– مواضع الكم، وهي القواعد التي تقضي بأن الأكثر أفضل من الأقل؛ من أمثلتها: الكل أفضل من الجزء.
– مواضع الكيف التي تقضي بأفضلية السابق على اللاحق، كأن تكون الغاية أفضل من الوسيلة، والمبدأ أفضل من الواقع.
وأما المواضع الخاصة، فهي قواعد تضبط الممارسة العقلية في مجال القانون بالذات، ومن جملتها ما يلي:
• إن القانون اللاحق ينسخ القانون السابق.
• إن القانون الخاص ينسخ القانون العام.
• أن القانون الأسمى (الدستور) ينسخ القانون الأدنى.
• أن الأصل براءة الذمة وفراغ الساحة.
• الشك يكون لفائدة المتهم.
• لا محظور مع الضرورة.
• لا عقوبة بدون نص.
• لا تكليف مع عدم الاستطاعة.
• لا عذر لأحد في جهل القانون…إلخ .
ج- الاستدلالات الخطابية
هي التي ترمي إلى إقناع الغير بواسطة البيان ، وتصنف إلى ثلاثة أنواع :
– الاستدلالات التي تدعي عدالة القضية المدافع عنها، أو تستند إلى المكانة الأخلاقية للمتقاضي.
– الاستدلالات التي تتوجه إلى عواطف ومشاعر القضاة، استدرارا لعطفهم، ورغبة في التخفيف من العقوبة.
– الاستدلالات التي تتوسل بالإمكانيات البلاغية للغة ،والقدرات الأسلوبية المتنوعة لتحصيل التأثير في الغير.
وقد يلجأ القانوني إلى تركيب هذه الأدلة المتنوعة ، وترتيبها على وجوه تختلف باختلاف المقام ترتيبا يزيد من فعاليتها ، ويضمن لها أكبر نصييب من التأثير والإقناع، كما هومبين في الشكل التالي:

الاستدلالات

برهانية حجاجية

خبرية معيارية جدلية موضعية خطابية

والملاحظ أن هذه الاستدلالات البرهانية و الحجاجية ، وما يندرج تحتها ، هي التي بها يحُوز القانوني القدرة على التفكير المنطقي في القانون ، وبها يميزبين المعقول واللامعقول من القوانين ، فإن القانون هو قانون بالتعبيرعنه في فصول ومواد وفقرات، ويصيرتفكيرا متى استـُدِّل عليه برهانيا وحجاجيا. ولذلك هومحتاج إلى نماذج نظرية ، ومناهج عملية في الا ستدلال عليه.

ثالثا – نماذج ومناهج الاستدلال القانوني
1 – نماذج الاستدلال القانوني
أ – النموذج الوضعي
القانون في اصطلاح الوضعية القانونية ينصرف إلى ما هو نافذ، ومصدره الإنسان، وذلك في مقابل ما هو ميتافيزيقي، ولذا ينبغي الممايزة بين القانون كما هوكائن ، والقانون كما ينبغي أن يكون .
فللقانون إذن عند الوضعين أساسٌ وضعي، ويضيفون إلى ذلك أن يكون مُقـَعَّدا(من قعد القاعدة:وضعها)، إذ يكفي النظر في أشكال القواعد لإضفاء الصبغة القانونية على القانون.
ومن هنا يميل الوضعيون في دراسة المصادر الشكلية للقانون إلى دراسة مضمونه المادي، والمقصود أنهم ينظرون إلى القواعد القانونية من حيث هي قواعد، لا من حيث هي نتاج مجتمعي، مما جعل نظرهم إلى القانون ” من الداخل” معتبرين إياه نسقا مغلقا .
كل ذلك أفضى بهم إلى اختزال دلالة القانون فيما هو شكلي ومعياري، من أجل تحليله تحليلا موضوعيا وعلميا.
وإذ ينبني القانون على هذا النموذج الوضعي، فإن الاستدلال القانوني لا يعدو أن يكون تحليلا للقانون، وللقانون وحده، وهو الصادر عن إرادة المشرع، بحيث لا دلالة للقانون بمنأى عما يريده المشرع، ويكاد الوضعيون القانونيون يتخذون من هذا التصور أساسا ثابتا في تحديد وظيفة الاستدلال القانوني، الذي يقوم هنا مقام القانون، ويرتكز على متوالية قانونية واحدة ومحصورة، وهي ذات طابع تجريدي وبياني، ومنتظم من النص القانوني لا غير، وهو ما يصدر عن المشرع. بيد أنه يبقى السؤال عما إذا لم يكن في مقدور النص لوحده تقديم الحل القانوني لمشكلة ما، فما العمل إذن؟
هنا ينبغي التوسل بالاستدلال للفحص عن مقاصد المشرع، وذلك باستنتاج النتائج بناء على المبادئ التي ينطوي عليها النص القانوني. ولذلك يُعد المقترب الوضعي في الاستدلال نموذجا مجردا، لاقتصاره على نص القانون ذي الطبيعة الاختزالية، ولتوسله بمنطق الاستنباط فقط.

ب – النموذج الواقعي
يرى الواقعيون أن دلالة القانون لا تنهض إلا بما يضيفه المخاطـَب به على تلك الدلالة، معنى ذلك أن النص القانوني مرتبط بدلالات خارجة عن بنيته الداخلية، وهو ما جعل الاستدلال يكون من طريقين:
– بتوسيع المتوالية المعيارية، حيث يندرج في الاستدلال القانوني عناصر ذاتية، لم ترد في نص القانون ذي الطبيعة المجردة والعمومية.
– بالسلطة التقديرية التي تتيح لقارئ القانون تنويع النتائج المستخرجة من قراءته، بحسب ما يتراءى له من الاعتبارات للمشكلة التي يسعى إلى حلها.
و ما يُلاحَظ هو أن الاستدلال القانوني في تصور الواقعية مستند إلى الواقع المجتمعي، وذلك بتوسع أفق الاستدلال، ليشمل ما وراء المتوالية القانونية من العناصر الواقعية- السياسية والنفسية والذاتية…- ، القمينة بتقليل أو إزاحة الطابع التجريدي للنص الذي أنزله المشرع على الواقع، وكذا بتنوع الاستدلال المنطقي، ليضم شتى المتواليات التي من شأنها أن تسعف القاضي بمعالجة الوقائع وفق شروط أقرب ما تكون إلى الواقع.
على أنه لا بد هنا من الإشارة إلى أن جعل القانون نتاجا لنشاط القاضي، ما هو إلا إنتاج لخطاب قانوني غير مقيد بحدود موضوعية، وعند ذلك يتأثر القانون بذوات القضاة وأمزجتهم وآرائهم الشخصية.
وبصرف النظرعما يخل بالاستدلال القانوني في المقترب الواقعي، فإن أفكاره تنتظمها مدرستان: الواقعية الأمريكية ، والواقعية القانونية السكندنافية.

● الواقعية الأمريكية
اعتمد القائلون بها على أربع خـصائص :
المفهوم الأداتي أو الوظيفي للقانون، ومقتضاه أن القانون لا يمكن أن يُختزل في مجرد قواعد ومفاهيم مستنبطة من بعض المبادئ الأوَّل، كما يقول بذلك الوضعيون، ولكنه عبارة عن وسيلة للاستجابة لمَراغِب ومطالب المواطنين.
غموض القواعد القانونية، ومردها إلى وجود عبارات مبهمة من شأنها أن تجعل تطبيق القانون مُستشكـَلا، لأن القاعدة القانونية ذات الصياغة العامة والمجردة تنطوي على بنية مفتوحة، ككل عبارة لغوية أخرى، وليس الإشكال هنا فيما يَسهُل الاستدلال عليه من منطوق النص القانوني، بل الإشكال فيما يصفه الواقعيون ” بالدعاوى العويصة” (hard cases) التي تستدعي من القاضي استفراغ وسعه الاستدلالي للفصل فيما هو أعوص.
السلوكية (behaviorism)، ومفادها أن القانون لا يكمن في عبارات المشرع، و لا في المصنفات الفقهية، ولكن في الأفعال المحسوسة للمحاكم، وفي سلوك القضاة الذين يصنعون القانون. وإذا كان كذلك، فالسؤال عما تقوم به المحاكم،والآثار المترتبة على أحكامها، هو الذي يكشف عن سيرورة الاستدلال القانوني.وهكذا فكل قانون لا تعضده التجربة القضائية المستندة إلى سلوك القضاة ، فلا مدلول له.
 اللامفهومية، ومعناها التشبث بالوقائع الواردة في الدعاوى التي تبت فيها المحاكم، لأن المفاهيم القانونية غير محايدة، لا سياسيا ولا أكسيولوجيا (قيميا)؛ ولهذا لا يمكن بناء الاستدلال القانوني على المفاهيم القانونية، بل لابد من الاعتماد على ما تصدره المحاكم من أحكام قضائية ، أو السلطات الأخرى التي تطبق القانون.

● الواقعية السكندنافية:
إن القانون بالنسبة إلى الواقعيين السكندنافيين، ليس مثلا أعلى أو نظاما معياريا في ذاته، ولكنه عبارة عن ظاهرة نفسية، تتجلى في الاعتقاد بوجود قواعد آمرة، تحدد للمخاطب بها السلوك المرغوب فيه والمرغوب عنه، والاعتقاد المذكور هو الواقع الحقيقي الذي يمكن الاستدلال عليه . أما ما يعرف في الفقه الألماني ” بإرادة الدولة “، وفي الفقه الفرنسي ” بالإرادة العامة “، فهذه مجرد مفاهيم ميتافيزيقية، لأنها لا تشير إلى شيء يمكن التحقق منه. وتبقى إرادة الفرد أو المواطن هي أساس القانون . وهكذا لاسبيل إلى الاستدلال القانوني إلا بإزاحة كل ما هو ميتافيزيقي عن مجاله، وهذا ينبغي إسناده إلى علم القانون ، حتى يميز ما هو واقعي مما هو ليس كذلك.
وأما النظرية القانونية، فإن وظيفتها في الاستدلال القانوني تمكين المستدل من كل ما يتعلق بنقد المفاهيم القانونية المتداولة، مع إتاحة مفاهيم صحيحة، وهي التي ترجع إلى وقائع يمكن ملاحظتها. وما ينطبق على صحة المفاهيم ، فهو كذلك بالنسبة لصحة القانون نفسه، والتي تقاس بالنظر إلى مدى تطبيقه – أي فعاليته – .
وكما أن القانون عبارة عن ظاهرة نفسية، فهو كذلك جملة من المعايير، لأن البعد المعياري للقواعد القانونية هو الذي يضمن لها قوتها الإلزامية، وهنا يمكن الوقوف على الفارق الأساس بين الواقعية السكندنافية التي توصف “بالمعيارية الواقعية” ، وبين الواقعية الأمريكية التي توصف بالتجريبية الاختزالية ( اختزال القانون فيما يصدر عن المحاكم).

2 – مناهج الاستدلال القانوني
1 – المناهج الاستقرائية والاستنباطية
يطلق الاستقراء على ” الانتقال من الوقائع إلى القانون. أو من الحالات الفريدة والخاصة إلى قضية أعم” ، ويقابله الاستنباط، وهو”الانطلاق من المبادئ العامة أوالقانون إلى الوقائع الخاصة ” .
فواضح إذن أن المنهج الاستقرائي يترتب متصاعدا من الواقعة إلى القانون.
وصورته هكذا :
الواقعة

القانون
وأما المنهج الاستنباطي ، فهو يترتب متنازلا من القانون إلى الواقعة.
وصورته هكذا:

القانون

الواقعة
هذا، وينقسم الاستقراء إلى استقراء تام، وهو ما يبنى على مجموع الحالات الملحوظة؛ وإلى استقراء غير تام، وهو ما يتجاوز الحالات الملحوظة، ليستوعب حتى تلك التي لم تلاحظ، والمندرجة تحت نفس النوع . وأما ما يرجع إلى الاستنباط ، فهو أيضا منقسم الى استنباط صوري، حيث تكون فيه النتيجة ضمن المقدمات من غير أن تضيف إليها شيئا؛ وإلى استنباط إنشائي، وهو ما تضيفه النتيجة إلى المقدمات .
وإذا كان لكل واحد من المنهجين الاستقرائي والاستنباطي خصائصه، فإنهما معا مُعتبران في الاستدلال القانوني. وذلك أن الاستقراء مما يكثر استعماله ، لا سيما عند تكييف الوقائع التي تستتبع تطبيق قواعد القانون؛ ويمكن أيضا الانطلاق من ملاحظة الأنظمة القانونية الموجودة لمؤسسات مختلفة، من أجل استنتاج جملة من المبادئ. كما استطاع الاجتهاد القضائي ، مستدلا بما يسمى” الاستقراء التعميمي ” ( induction amplifiante)، استخراج مبادئ عامة للقانون، انطلاقا من قواعد مكتوبة، ومما انتهى إليه الفقه القانوني .
وهذا جَارٍ أيضا في الاستنباط ، من حيث إن الوقائع الملحوظة إذا كانت تنطبق عليها قاعدة قانونية ما، فإنه يلزم أن تنتظم فيها تلقائيا. ولكن ليس الأمر بهذه التلقائية، لأنه بخلاف ما يجري في الظواهر الفيزيائية، فإن الأثر أو النتيجة القانونية التي ترتبط بالشروط المقررة قانونا ليست تلقائية، وذلك أن العلاقة السببية بين الواقعة والقانون لا تنتظم إلا على صعيد التصورات الفكرية. وهنا يكمن الفرق الأساس بين القانون العلمي والقاعدة القانونية، إذ النتيجة في الحياة القانونية لا تتبع بالضرورة السبب: فالسارق مثلا، قد لا يُعرف ولا يُعتقل ولا يُعاقب، مع أنه يستحق العقوبة. أضف إلى ذلك، أن الواقعة أو الفعل لا يُنتج بنفسه الآثار القانونية، بل لابد في إنتاجه، من وجود قاعدة قانونية تنطبق عليه. كما يجب أيضا وجود سلطة تحدد القاعدة القانونية المطبقة على الوقائع، بحسب سيرورة محددة، وآليات معينة (الدعوى القضائية، القاضي، الأدلة، الحكم، التنفيذ…)، حتى تكون النتائج التي يرتبها القانون على الواقعة متحققة.
ثم إن المستدل في القانون ليس حرا في اختيار المفاهيم المستعملة، ولا المسلمات التي يعتمد عليها، لأنه ملزم باحترام القانون، وألا يكون بمعزل عن الواقع، و إلا وقع في التناقض والتعارض. فالقانون لا يمكن أن يكون مجرد استدلال فكري، بل يجب أن يستجيب للمقتضيات المحسوسة للحياة الاجتماعية، ناهيك عن أن المفاهيم والقواعد القانونية لا تكون واردة على سبيل الحصر، وإنما هي متعددة ومتجددة بتجدد الوقائع والنوازل، مما قد يؤدي إلى التعارض بين السابق واللاحق. ولذلك، فإن ترابط القضايا القانونية لا يُفضي، كما في الرياضيات، إلى نتيجة لازمة، بل تكون، في أكثر الأحيان، مُحتمَلة.
فالنتائج القانونية إذن، وإن استـُنتجت منطقيا ، من العلاقة بين الواقعة محل النظر والقاعدة القانونية، فالاستدلال القانوني ليس مجرد عملية استنباطية.
والحاصلُ أن الاستدلال القانوني، ليس سوى جملة من الروابط والانتقالات من الخاص إلى العام إذا ما استـُعمل المنهج الاستقرائي، ومن العام إلى الخاص إذا ما تـُوُسِّل بالمنهج الاستنباطي.
2 – المنهج البرهاني

لو فرضنا قاتلا تسبب عمدا في قتل غيره، فعقوبته بموجب القانون الجنائي المغربي، السجن المؤبد، وعليه دل الفصل 392، حيث ينص: “كل من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا، ويعاقب بالسجن المؤبد”. فهذه قاعدة قانونية مركبة من جزءين : أولهما يفترض سلوكا معينا ؛ والثاني الأثر القانوني الذي يرتبه المشرع جزاء للسلوك المفترض.
ثـُم هَبْ أن (زيدا) قتل غيره قتلا عمدا، فهو إذن قاتل، فهذه واقعة. ولما كان كل قاتل قتلا عمدا يعاقب بالسجن المؤبد (القاعدة القانونية).
وزيد قتل غيره قتلا عمدا (الواقعة).
فإذن زيد يعاقـَب بالسجن المؤبد (الجزاء).
وبصياغـةٍ رمزيـة ، فسـِياقـُها الاستدلالي على هذا :
كل ( أ) ( ب)
و(ج ) ( أ )
فإذن (ج) (ب) .
حيثُ (أ) يرمز إلى العنصر المشترك بين (ب) و(ج) ؛ و(ب) ترمز إلى المحكوم به ؛ و(ج) ترمز إلى المحكوم عليه.
فيكون المجموع إذن ثلاثة أمورتـُسَمّى “حدودا” . وهي على ثلاثة أضْرُبٍ :
الحد الأكبر : هو الذي يكون محكوما به أو محمولا في النتيجة، وقد رمزنا إليه بالباء(ب).
الحد الأصغر : هو الذي يكون محكوما عليه أو موضوعا في النتيجة، وقد رمزنا إليه بالجيم (ج).
الحد الأوسط : هو الحد المشترك بين الحدين، الأكبر والأصغر، والناظم للعلاقة بينهما، على أنه لا يظهر في النتيجة، وقد رمزنا إليه بالألف (أ).
فهذه الحدود الثلاثة، هي الأقسام التي ينتظم منها ما يَصطلح عليه المنطقيون ” القياس ” (syllogisme) البرهاني، ويريدون به : ” كل قول مؤلف من قضايا تسمى مقدمات متى سُلِّمت، لزم منها قضية جديدة هي النتيجة ” .
لنعتبر القول الآتي: كل إنسان فانٍ
زيد إنسان
فإذن، زيدٌ فانٍ
فهذا قياس برهاني مركب من قضيتين:
1- قضية كلية، وهي المشار إليها في المثال ب ( كل إنسان فانٍ)، وهذه تسمى في المنطق ” المقدمة الكبرى ” (prémisse majeure)، واختصارا يطلق عليها ” الكبرى” (la majeure).
والمقدمة الكبرى تشتمل على جزءين، يسمى الأول الموضوع (sujet) وهو المحكوم عليه (الإنسان)؛ ويسمى الثاني المحمول (le prédicat) وهو المحكوم به (الفناء).
2- قضية جزئية، وهي المشار إليها في مثالنا ب ( زيد إنسان)، وهذه تسمى في المنطق ” المقدمة الصغرى ” (prémisse mineure)، واختصارا يطلق عليها “الصغرى” (la mineure) وللمقدمة الصغرى أيضا محمولها وموضوعها.
وبتأليف المقدمة الكبرى (كل انسان فانٍ) والمقدمة الصغرى (زيد إنسان) ، يلزم منه “النتيجة” (conclusion) (زيد فانٍ).
وإذا عُدنا إلى المثال القانوني السابق، فإنه عبارة عن قياس مركب من :
• مقدمة كبرى، وهي قولنا: (كل قاتل قـَتـْلاًعمدا يعاقب بالسجن المؤبد)
• مقدمة صغرى، وهي قولنا: ( زيد قتل غيره قتلا عمدا)
• النتيجة، وهي قولنا : ( زيد يعاقب بالسجن المؤيد)
ولعل سائلا يسأل : كيف نُركـِّب المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى في القياس القانوني؟. والجواب أنه يتركب هكذا:

القياس القانوني : المقدمة الكبرى = القاعدة القانونية
المقدمة الصغرى = الواقعة
النتيجة = الحُكم

وخلاصة ذلك، أن يكون الاستدلال القانوني الذي يستند إلى القياس البرهاني ذا منحى منطقي؛ إلا أن واقع الحياة القانونية يدل على أن الاستدلالات القانونية لا تؤسس على قياس واحد، بل على عدة أقـْيـِسَة يزداد تعقدها أو ينقص بحسب المسألة القانونية محل النظر، مما يترتب عليه سلسلة من الأقيسة المتعاقبة .

3 – المنهج الجدلي
الجدل هو “فن المحاورة” ، و “المناقشة” . هذا أصله . ثم استـُعمل في المنطق للدلالة على “القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات” . والمراد ˝بالمشهورات˝ القضايا التي لا يقال فيها إلا على مجرد الشهرة. مثل قولك: الكذب قبيح، العدل واجب، الظلم قبيح …فهذه أمور تتكرر على السمع منذ الصبا، ويتفق عليها أهل البلاد لمصالح معاشهم، فتـُسارِع النفوس إلى قبولها، لكثرة الإِلف. وهذه المشهورات، قد تتفاوت في القوة والضعف، بحسب اختلاف الشهرة، واختلاف الأخلاق والعادات، وقد تختلف في بعض البلاد . وأما ˝المُسَلَّمات˝ فهي التي سلمها الخصم،أو كان مشهورا بين الخصمين فقط، فإنه يُستعمل معه دون غيره، فلا يفارِق المشهور إلا في العموم والخصوص؛ فإن المشهور يُسلِّمه العامة، والمُسَلـَّم يُسلِّمه الخصم فقط .

وليس من شرط المشهور والمسَلم أن يكونا لامحالة صادقين، بل كثيرا ما يُسَلَّم الباطل، وكثيرا ما يشتهر ما هو كاذب، وكثيرا أيضا ما يشتهر ما هو حق مطلق .
فاقتضى ذلك ، أن الجدل استدلال مبني على مقدمات غير يقينية، والغرض منه هو “الإقناع والإلزام” أو “إفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان” ، أو تعويد الإنسان أن لا يقنع ببادئ الرأي، وما يوجبه الخاطر الأول، والسانح السابق، وظاهر النظر، دون الاستقصاء والتنقيب عن مقدمات (…) لايُؤمَن أن يكون فيها كذب، من غير أن يشعر به الإنسان .
واختصارا ، فإنه لا يُقبل أي مبدأ بدون قبول نقيضه، وذلك باستعمال كافة وسائل الإقناع والإفحام والنقد والتبرير، لفحص كل أطروحة ممكنة، ونقيضها من أجل تركيب نتائج معينة. ومن هنا، فإن الاستدلالات الجدلية لا تستبعد القياس المنطقي، ولكن لا يتعلق الأمر بصيغة بلا مناقشة، بل القياس الجدلي يستند إلى مقدمات مسلمة أو مشهورة، وتحتمل الصدق أو الكذب؛ مع النظر في جوهر المقدمات أكثر من النظر في بنية الاستدلال. وهذا وإن كان يُفضي إلى حُكم ما، فإن الانتقال فيه من المقدمات إلى النتيجة ليس حتميا.
وإذا فـُحِص عن الاستدلالات الجدلية في القانون، ظهرأنها واردة فيه من أنحاء شتى، إذ ما أكثر المقدمات المشهورة في القضايا القانونية، وما أكثر القوانين التي تُسَلم “ببادئ الرأي”، لاسيما مع الافتقار إلى الثقافة القانونية . ومن هذا القبيل أيضا المرافعات القضائية والمناقشات البرلمانية الي تسلك المسلك الجدلي في الاستدلال.
وإلى هذا المعنى أشار بِّيرلمان – وهو من المنطقيين القانونيين- بأن الاستدلال القانوني لا يقتصر على الحساب والبرهنة والاستنتاج، ولكنه أيضا يدلي بالحجج المؤيدة أو المعارضة لأطروحة ما . ويبقى أن نسأل: كيف السبيل إلى الاستدلال الجدلي في القانون؟. إن المستدل هنا يقوم بمقابلة أقيسة مختلفة ببعضها البعض، وذلك باستخراج المقدمات المقبولة اجتماعيا ، أو التي تنشأ عن ملاحظة النظام المجتمعي والقانون، أو عن المسلمات الإيديولوجية ، ثم فحص كل مقدمة لتحصيل النتائج المترتبة عليها، وبمقابلة ما ينتج ببعضه البعض، يمكن اختيار النتيجة التي تنطبق على المسألة موضع القياس الجدلي. وإذا ثبت أنه لا بد من اعتبار مقدمات مختلفة في الاستدلال القانوني الجدلي، فإن فحوى ذلك أن تختلف حججه كما وكيفا واتساقا ، حتى ينهض أساسا للإقناع أو الإلزام. ومن الحجج التي تـُساق في هذا المقام :
• الحجج السلطانية القانونية: هي التي تستمد حجيتها من النصوص القانونية، والاجتهادات القضائية، والآراء الفقهية، أو من الممارسة الإدارية. وفي الأنظمة الرومانية والجرمانية ما يدل عليها، إذ إليها يُرجع في المرافعات القضائية، لِما فيها من الأمن القانوني والعدالة.
• الحجج النفسية: ما يتعلق بأسباب القانون، ومقاصد المشرع المستخرجة من الأعمال التحضيرية.
• الحجج التاريخية: تـَتـَبُّع النصوص القانونية في سيرورتها الزمنية بما يحدد علاقة القانون اللاحق بالقانون السابق.
• الحجج المنطوقية: ما يَظهرمن منطوق النص القانوني، من غيرتأويل .
• الحجج المفهومية: ما لا يُفهم إلا بتأويل النص القانوني، واعتبار قرائنه السياقية.
• الحجج المنطقية: ما يَحُول دون تعارض القواعد القانونية . وإذا ما تعارضت قاعدتان قانونيتان، فهناك قاعدة أخرى يمكنها أن تزيح واحدة من تـَيـْنـِكـَ القاعدتين.
• الحجج الخُلفية : (apagogiques)،( من الخُلْف = المحال الذي ينافي المنطق ويخالف المعقول).وهي ما يكشف عَوَار النصوص القانونية، ببيان النتائج غير المعقولة المترتبة عليها.

وزاد بعضهم للحجج المستعملة في الاستدلال القانوني، صنفا آخر، وهو :
● الحجج النصية : أنْ يُؤتى في الاستدلال بالنصوص القانونية الملزمة ( الدستور، القانون الجنائي، العقد….).
● الحجج القضائية : ما كان الاستدلال فيه مبنيا على الاجتهاد القضائي.
● الحجج التاريخية المقصدية: النظر في مقاصد المشرع ، أو الطرف المتعاقد.
● الحجج الأدائية : هي التي تقدر نتائج قاعدة ما بالقياس إلى كلفتها.
● الحجج الأخلاقية : ما له علاقة بالنظام الأخلاقي السائد.
وتفصيلُ ذلك أمردقيق يستدعي معرفة قانونية أدق مما ورد في هذا المقال .

خاتمة

لقد ساقنا النظرفي الاستدلال القانوني إلى تحديد مفهومه تحليلا وتركيبا ؛ وإلى إفراز أنواعه البرهانية والحجاجية ؛ وإلى الوقوف على نماذجه الوضعية والواقعية، وعلى مناهجه الاستقرائية والاستنباطية والبرهانية والجدلية . فما الذي يترتب على جميع ذلك ؟

من النتائج العامة في الاستدلال القانوني :
▪ أن في الاستدلال تفكيرا عاقلا في القانون مبنى ومعنى، بحيث يزيد من عموميته وتجريده .
▪ أن فيه تحريرا من سلطة المشرع أو قوة الشيء المقضي به .
▪ أن فيه تطويرا للقدرة التفسيرية والفهم والنقد والتوقع .

من النتائج الخاصة في الاستدلال القانوني :
▪ أنه لابد في فهم القانون من معرفة قانونية أوسع مما هو قانوني .
▪ أنه لابد من إعادة النظرفي مفهوم القانون تشريعا وقضاء وفقها .
▪ أنه لابد من تأسيس القانون على مناهج علمية تدريسا وبحثا .

إقرأ أيضاً

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011

التأطير الدستوري لمقتضيات  الوظيفة العمومية على ضوء دستور 2011 الوعبان لرباس  باحث في سلك الدكتوراه …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *