الأجهزة الأمنية و المجتمع المدني أية علاقة؟
بوشعيب زيات
أستاذ باحث[1]
على الرغم من حداثة الدراسات في موضوع الأمن” فإن مفاهيم “الأمن” قد أصبحت محددة وواضحة في فكر وعقل القيادات السياسية والفكرية في الكثير من الدول. وقد برزت كتابات متعددة في هذا المجال، وشاعت مفاهيم بعينها لعل أبرزها “الأمن القومي، الأمن الدولي…[2].
مما جعل الأمن كغاية ووظيفة يحتل مكانة بارزة بين المهتمين و المسؤولين و المواطنين في المجتمعات المعاصرة لاتصاله بالحياة اليومية بما يتيحه من طمأنينة النفوس و سلامة التصرفات و المعاملات كما يعتبر الأمن نعمة من انعم الله عز و جل التي من بها على خلقه . فقد قال تعالى في كتابه الكريم( فل يعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف)[3]. وفي نفس المعنى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (من أصبح منكم أمنا في سربه، معافى في جسده عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)[4]. فالحديث يدل على أن أمن الإنسان على نفسه و ماله و بدنه،و قوته يومه أعظم شئ يحصل عليه،لأن اختلال الأمن يؤدي إلى اختلال الموازين و القيم.[5]
وتعتبر البنية الأمنية إحدى البنيات الأساسية في تشكيل ثقافة أي مجتمع من المجتمعات،على اعتبار أن البنيات الاجتماعية تعتمد في تكاملها على بعضها البعض و تتأثر كل بنية بأي خلل يقع في بقية البنيات، نتيجة لفعل التأثير و التأثر تبعا لعلاقة الجزء بالكل و علاقة الكل بالجزء ، لذا فإن التكامل بين البنية الأمنية و باقي البنيات الاجتماعية يعتبر أمرا ضروريا و حيويا في ظل ما تواجهه البنية الأمنية من تحديات حقيقية تتمثل في التطور المضطرد
و المتسارع للأنشطة الإجرامية مما يتطلب توافر إمكانات و قدرات مماثلة لكبح السلوك الإجرامي و الحد منه[6].
و رغم أن الهدف الأساسي للبنية الأمنية هي بسط الاستقرار والنظام داخل المجتمع، إلا أن هده الغاية لا يمكن تحقيقها ما لم تصبح البنية الأمنية جزءا لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية للمجتمع ،على اعتبار أن رجال و نساء الأمن هم قبل كل شيء مواطنون كباقي أفراد المجتمع يؤدون دورهم في صيانة و حماية أمن المجتمع، مما يتحتم معه تقوية الروابط العلائقية بين الأجهزة الأمنية من جهة ، و المجتمع المدني من جهة أخرى.
فماهي ياترى طبيعة علاقة الأجهزة الأمنية بالمجتمع المدني؟
و كيف تطورت هذه العلاقة مع تعاقب السنين؟
للإجابة عن هذين السؤالين اعتمدنا التصميم التالي
الفقرة الأولى: طبيعة علاقة الأجهزة الأمنية بالمجتمع المدني:
السؤال الذي يطرح هنا هو هل يوجد ارتباط وتفاعل بين الأجهزة الأمنية و المجتمع المدني؟ أم أنهما منفصلين ومتباعدين؟.
لايختلف اثنان في أيامنا هذه كون الأجهزة الأمنية والمجتمع المدني مترابطين بشكل واضح خصوصا إذا نظرنا للأجهزة الأمنية ، من مستوى تحليل علاقة الكل بالجزء، بمعنى اعتبار الأجهزة الأمنية احد مكونات المجتمع على غرار باقي المكونات الأخرى، من قضاء و تعليم و صحة[7]…
علما أن هناك علاقة طردية بين نمو المجتمع و بين مستوى أمنه ، و العكس صحيح. فالأمن من هذا المنظور ليس مفهوما عسكريا أو ماديا فحسب، بمعنى أنه لا يهدف فقط إلى حماية الدولة من مختلف التهديدات ذات الطابع العسكري، بقدر ما هو أمنا شاملا للمجتمع و للإفراد و للدولة على حد سواء[8].
إن التفاعل المتبادل بين مكونات المجتمع باختلاف تلويناتها والأجهزة الأمنية يشكل تناغم و تكامل ضروريين لتحقيق أمن المجتمع. ومن تم يتضح للعيان الصلة الوثيقة بين الجهاز الأمني و مؤسسات المجتمع المدني على اعتبار أن هذه الأخيرة تسعى بدورها إلى تحقيق و حماية أمن و استقرار المجتمع و إن اختلفت الوسائل و المقاربات فإن الغاية تبقى واحدة.
فإذا كانت الأجهزة الأمنية تسعى إلى القضاء أو الحد من السلوكيات ذات الطابع الإجرامي فان المجتمع المدني يسعى إلى تقزيم الإرادة الإجرامية لدى الإفراد .
إن مؤسسات المجتمع المدني كانت ولازالت بمثابة كوابح و فرامل اجتماعية هدفها تنشئة المواطنين أفرادا و جماعات على القيم التي من شأنها استتباب الأمن و المساهمة في المحافظة عليه.[9]
الفقرة الثانية: تطور علاقة الأجهزة المالية بالمجتمع المدني :
تاريخيا يمكن الجزم بأن علاقة الأجهزة الأمنية بالمجتمع المدني تميزت بالشد و الجدب قبل أن تدخل مرحلة جديدة تتميز بنوع من التواصل و الانفتاح. وعموما يمكن رصد تطور هذه العلاقة من خلال التوقف عند محطتين تاريخيتين بارزتين، لكل منهما إطارها الثقافي و السياسي و الاقتصادي و الفكري الخاص بها.
أولا: محطة التباعد و التنافر:
تميزت هذه المرحلة بمحاولة فصل المجتمع بكل بنياته الاجتماعية، بما فيها المجتمع المدني، عن الأجهزة الأمنية من خلال ما يسمى في أدبيات علم السياسة بعسكرة المجتمع و الدولة البوليسية، وذلك من خلال منظومة أمنية تميزت بإستراتيجية مبنية على القمع و التعسف غير المبررين، دون احترام للمساطر القانونية و في غياب لأية رقابة قضائية وحتى إن تواجدت فبهدف إضفاء الشرعية لا غير.
كما عرفت هذه المحطة سيطرة و هيمنة الأجهزة الأمنية السرية و بانتشار ممارسات شاذة مثل الاختطافات، الاغتيالات، النفي الاضطراري والاعتقالات التعسفية، دون مراعاة لأية ضمانات حقوقية.
مما اثر على علاقة الأجهزة الأمنية بالمجتمع بكل بنياته، بما فيها المجتمع المدني، و بالتالي بروز شرخ في طبيعة هذه العلاقة والتي اكتست بطابع التباعد و التنافر بين الأجهزة الأمنية من جهة، و المجتمع ككل من جهة ثانية. وفي هذا السياق نذكر أنه و نحن صغار في أحياءنا الشعبية بمدينة الدار البيضاء ،كنا ننادي على بعضنا البعض ولد المراكشي، ولد الربا طي، ولد الدكالي، ولد الصحراوي…. في حين كنا نستعمل عبارة “ ولد البوليسي’’ “ ولد المخزني’’ “ ولد ( جدارمي) الدركي’’. وكأن لسان حالنا يقول إن العاملين في هذه الأسلاك الأمنية لا ينتمون للنسيج الاجتماعي المغربي أو على الأقل أن هناك شرخ و تنافر و تباعد بين البنيات الأمنية وباقي البنيات الاجتماعية الأخرى و على رأسها المجتمع المدني[10].
وللأسف الشديد كان المجتمع ينظر للمؤسسات الأمنية، على أنها أداة قمع و إرهاب للمجتمع، و أصبحت هذه الفكرة تتوارثها الأجيال، فتسببت بشكل كبير في توسيع الهوة و تعميقها بين أفراد المجتمع و مختلف المؤسسات الأمنية.
ثانيا: مرحلة الانفتاح و التواصل:
بفضل انتشار الفكر الحقوقي و المد الديمقراطي و تفعيل مبادئ حماية حقوق الإنسان، ستعرف علاقة الأجهزة الأمنية بالمجتمع المدني تدريجيا تحولا نوعيا، يمكن إبرازه من خلال مستويين :
المستوى الأول: تحول داخل الأجهزة الأمنية نفسها (1).
المستوى الثاني: تغيير في نظرة المجتمع المدني للوظيفة والأجهزة الأمنية (2).
- تطور الداخلي لأجهزة الأمن:
عرفت سنوات التسعينيات من القرن الماضي تحولا متسارعا و جدريا للبنيات الأمنية من الناحية الشكلية و الجوهرية و أساسا من حيث المقاربة الأمنية المعتمدة[11].
لقد تم تجاوز تلك المقاربة الأمنية التقليدية المرتكزة أساسا على الهواجس الأمنية بمفهومها الضيق، ليتم اعتماد مقاربة جديدة مبنية على معادلة متوازنة بين التدخل لحماية الأمن و سلامة المجتمع و الحفاظ على حقوق و حريات المواطنين أفرادا و جماعات. كما تغيرت تلك النظرة التي مؤداها أن تحقيق و استتباب الأمن و المحافظة علية مسؤولية تقع على عاتق الأجهزة الأمنية بمفردها و أن البنيات الاجتماعية الأخرى غير معنية بذلك ، لتحل محلها نظرة جديدة محتواها أن كل البنيات المجتمعية و أساسا مؤسسات المجتمع المدني تتحمل بدورها مسؤولية استتباب الأمن و كذا المحافظة عليه. و بناءا على ذلك فان أي حديث عن حفظ الأمن و الاستقرار لا يقصد به الأجهزة الأمنية وحدها بل جميع بنيات المجتمع وفي مقدمتها مؤسسات المجتمع المدني.
من خلال ما سبق أضحت مسالة إصلاح أجهزة الأمن من المسائل التي تؤرق المجتمعات رسميا و شعبيا وذلك من خلال التغيير التنظيمي لأجهزة الأمن[12]، بحيث يتم تغيير البناء الأمني التقليدي و تبني مقاربة الأمن المجتمعي بإجراء تغيير حقيقي في أداء أجهزة الأمن و العمل بأسلوب مغاير لما كان سائدا
بما في ذلك اختيار العاملين في هذه الأجهزة و التدريب و صلاحيات العمل و التنظيم.
2 تغير نظرة المجتمع المدني للأجهزة الأمنية:
نتيجة لكل ما سبق ذكره من تحولات و بفعل الانفتاح السياسي ونضج المجتمع المدني، بكل مكوناته، ستتغير نظرة هذا الأخير تجاه الأجهزة الأمنية . حيث تم التخلي عن تلك النظرة العدائية و السلبية للأجهزة الأمنية، باعتبارها خصما بل أحيانا بمثابة عدو يجب محاربته، و حلت محلها نظرة ايجابية تتخذ من الأجهزة الأمنية بمختلف مستوياتها و أنواعها بمثابة شريك فعال كباقي الشركاء والفرقاء الاجتماعيين الآخرين، مع تسجيل فارق وحيد هو كون الأجهزة الأمنية لها خصوصية منفردة أملتها طبيعة وظيفتها. وبالنتيجة فلا تحقيق للأمن داخل المجتمع دون تعاونهما، كل من مكانه دون تعارض بينهما وإن اختلفت أساليبهما تبقى الغاية واحدة ألا و هي أمن وطمأنينة المجتمع.
إن تغير نظرة المجتمع المدني اتجاه الأجهزة الأمنية وكذا التحولات الداخلية التي عرفتها هذه الأخيرة، سواء من حيث الشكل أو الموضوع وأساسا من حيث المقاربة الأمنية المعتمدة، سيفضيان إلى انفتاح جهاز الأمن على كل بنيات المجتمع و أساسا على مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها وسيطا بين الدولة و المجتمع و عليه ظهر مفهوم جديد سيطبع علاقة الأمن بالمجتمع ألا و هو مفهوم الشراكة المجتمعية لتحقيق الأمن .
هذا المفهوم الجديد ، والذي سيتم تبنيه من طرف الأجهزة الأمنية في العديد من الدول، يرتكز على تحقيق التوازن في العلاقة بين الطرفين وكذا تولي المسؤولية بشكل تشاركي في محاولة حفظ الأمن خصوصا في زمن الجريمة المنظمة وعالمية الإرهاب كجريمة يصعب مواجهتها دون تكاتف جهود الجميع محليا و قاريا و دوليا.
إن التفاعل المتبادل بين بنيات المجتمع و الأجهزة الأمنية يمثل في زمن العولمة تكاملا ضروريا لاستقرا وامن وسلامة المجتمع. و عليه فإذا كانت مسألة تحقيق الأمن و استتبابه تقع في الأساس على عاتق جهاز الأمن بالدرجة الأولى على اعتبار انه وظيفتها الأساسية ، فان توفير الأمن يبقى مسؤولية كافة البنيات المجتمعية الرسمية وغي الرسمية، لذلك من الضروري وجود علاقة قوية متينة بين البنية الأمنية و المجتمع المدني لمنع الانحراف و الجريمة و المشاركة سويا في مكافحتها[13].
و خلاصة القول فإن تحقيق الأمن و الاستقرار في المجتمع عمل تشاركي يقتضي تكاثف جهود الجميع كل من موقعه، فالجميع معني بدرجة أو بأخرى بالمساهمة في ترسيخ الأمن في المجتمع، لينعم الكل بالسكينة و الاطمئنان.
لائحة المراجع المعتمدة:
- عبد المعطي زكي، الأمن القومي: قراءة في المفهوم و الإبعاد، المعهد المصري للدراسات، ص
- أهمية الأمن و الاستقرار للفرد و المجتمع ، مقال لمحمد البوشواري.
- محمود بن محمد سفر، الأمن مسؤولية الجميع : رؤى مستقبلية، ورقة عمل مقدمة لندوة المجتمع و الأمن المنعقدة بكلية الملك فهد الأمنية .
- انظر جلال خشيب ـ آمال وشنان ، الدولة و المجتمع المدني.. حدود التأثير و التأثر، مركز إدراك للدراسات و الاستشارات.
- عبد المنعم المشاط ،الأمن القومي العربي : أبعدده و متطلباته ، معهد البحوث و الدراسات العربية ،القاهرة 1993 .
- شادية احمد التل- دور مؤسسات المجتمع المدني في التوعية الأمنية- جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية- الرياض- الطبعة الأولى 2010.
- عدنان حاد ، المقاربة الأمنية في الانفتاح على المجتمع المدني .
- بخدا عبد الكريم، الحكامة الأمنية: مقاربة جديدة لإصلاح المنظومة الشرطية في دول المغرب العربي ـ حالة تونس و ليبيا، دفاتر السياسية و القانون، العدد 17 ، يونيو 2017.
[1] ـ أستاذ القانون العام ، و عضو مختبر البحت في العلوم القانونية و السياسية و التواصل بالكلية المتعددة التخصصات، بني ملال.
[2] ـ عبد المعطي زكي، الأمن القومي: قراءة في المفهوم و الإبعاد، المعهد المصري للدراسات، ص
[3] ـ الآية 2 و 3 من سورة الماعون.
[4] ـ أخرجه الترمذي في سننه و حسنه الألباني.
[5] ـ انظر : أهمية الأمن و الاستقرار للفرد و المجتمع ، مقال لمحمد البوشواري.
[6] ـ محمود بن محمد سفر، الأمن مسؤولية الجميع : رؤى مستقبلية، ورقة عمل مقدمة لندوة المجتمع و الأمن المنعقدة بكلية الملك فهد الأمنية .
[7] ـ انظر جلال خشيب ـ آمال وشنان ، الدولة و المجتمع المدني.. حدود التأثير و التأثر، مركز إدراك للدراسات و الاستشارات.
[8] ـ عبد المنعم المشاط ،الأمن القومي العربي : أبعدده و متطلباته ، معهد البحوث و الدراسات العربية ،القاهرة 1993 ،ص ص14ـ17
[9] – انظر شادية احمد التل- دور مؤسسات المجتمع المدني في التوعية الأمنية- جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية- الرياض- الطبعة الأولى 2010.
[10] ـ تجدر الإشارة هنا إلى أن المغرب لم يعش أو لم يصل إلى درجة عسكرة المجتمع أو ما يعرف بالدولة البوليسية ،حيت انه ومند بزوغ فجر الاستقلال سيتبنى المغرب ترسانة قانونية تكفل و تضمن حقوق الأفراد و الجماعات و نخص بالذكر هنا: قانون الحريات العامة ظهير 1958 و دستور المملكة الأول لسنة 1962، رفض فكرة الحزب الوحيد ، إلى غير ذلك من الإجراءات و القوانين التي جعلت من المغرب يتميز بتجربته السياسية عن باقي الدول النامية . غير أن كل هذا لم يمنع المغرب أن يتجنب تنافر و تباعد أجهزته الأمنية وباقي مكونات المجتمع المدني.
[11] ـ انظر: عدنان حاد ، المقاربة الأمنية في الانفتاح على المجتمع المدني .
[12] ـ بخدا عبد الكريم، الحكامة الأمنية: مقاربة جديدة لإصلاح المنظومة الشرطية في دول المغرب العربي ـ حالة تونس و ليبيا، دفاتر السياسية و القانون، العدد 17 ، يونيو 2017.
[13] ـ محمود بن محمد سفر، الأمن مسؤولية الجميع : رؤى مستقبلية، مرجع سابق.