تحيل إشكالية الحكم في الحضارة الإسلامية إلى مفهوم الخلافة كمكون أساسي للموروث السياسي الإسلامي. فالخلافة كمؤسسة سياسية ،ذات المرجعية الدينية، توجد في قلب التمثل الإسلامي للسياسي و كتجربة تاريخية مازالت حاضرة كمكون أساسي للثقافة السياسية الإسلامية كمخيال و نموذج يعاد إنتاجه عبر ترميزات لا تكشف عن رهانات الأطراف المتصارعة سوى بطريقة غير مباشرة.
إن رصد الخلافة كمنظومة قيم و كتجربة يستدعي الرجوع إلى المرحلة التأسيسية للأمة الإسلامية برمزيتها و الصراعات التي أنتجت في التاريخ الإسلامي لرصد جدلية السياسي و الديني في الحضارة الإسلامية. على أن هذا المسعى تواجهه مجموع الإكراهات[1] التي تواجه كل باحث في موضوع الخلافة من زاوية تاريخية[2]. و إذا كان من المستبعد تجاوز هذه الإكراهات ،لأنها تتجاوز قدراتنا، فلابد على الأقل من السعي إلى دراسة الظاهرة بإدماجها في تاريخ تأويلي يسعى إلى إعادة تركيب الماضي[3]. هذا ما يدفعنا، مكرهين، إلى توسيع زاوية النظر و التعامل مع الموضوع من زاوية سوسيو-تاريخية يمكن معها و صف الديانات السماوية كدعوات عليا لشرعنة أوضاع اجتماعية من إنتاج بشري.
المبحث الأول: إشكالية الخلافة في التجربة التاريخية الإسلامية
تحيل الخلافة نظريا لرئاسة الدولة الإسلامية و النيابة عن الرسول في حكم الأمة و السهر على الدين، و هي في الاصطلاح الفقهي الرياسة العامة في أمور الدين و الدنيا نيابة عن النبي صلى الله عليه و سلم[4]. فهي المؤسسة العليا المكلفة بتدبير الحضارة الإسلامية، باستخلاف الرسول، و تكليف بتدبير شؤون المسلمين في حياتهم الدنيا و العمل على نجاتهم في الآخرة[5]. أما في دلالتها اللغوية فالخلافة، من خلف يخلف استخلافا، و استخلف على وزن استفعل، تعني انتقال شيء من شخص لآخر. إن الدلالة اللغوية التي يحيل إليها المعنى الحرفي للكلمة، هو ما كان مطلوبا بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم، أي الحلول محله مع مراعاة انتهاء النبوة و استمرارها فقط عبر القرآن[6] . إن ما كان مطلوبا هو الاستمرار على النهج المحمدي في قيادة الحضارة الإسلامية، لهذا تم استخدام مصطلح الخلافة عوضا عن ألقاب أخرى كانت معروفة آنذاك لدى العرب، كالملك أو إمبراطور.. الخ، إذن الاختيار لم يكن اعتباطيا بل تعبيرا عن المهمة التي يحملها[7]. و قد استعمل القرآن* المصطلح بالمفرد و الجمع، فالمفرد يحيل إلى الاستخلاف فيتضمن دلالة ممارسة السلطة، أما الجمع فيحيل إلى “السكن” و العمارة[8] . و قد بحث Rudi Paret عن تأويل موحد للكلمة بالإحالة إلى مصدرها، خلف بالاستخلاف، و اعتبر أن الآيات الاثنا و عشرون التي وردت فيها الخلافة بالجمع ، و الآيتين بالمفرد، تهم أساسا التاريخ و تتضمن فكرة الاستخلاف، الحلول محل / التعويض، و أحيانا أخرى التموقع “وراء شيء ما أو شخص ما” “البقاء في الوراء”[9]. إذن القرآن لم يستعمل الخلافة كمؤسسة سياسية فقط حيث تعددت الدلالات التي يحملها إياه .
على أن أسباب الخلاف حول الخلافة لا تعود إلى النص و عدم التحديد بل إلى أسباب سوسيو-تاريخية و سياسية. ذلك أن السياق الذي تم فيه إعادة إنتاج مصطلح الخليفة عبر استعارته من النص المقدس، تعود إلى وفاة النبي سنة 632م، و بروز خلاف بين المهاجرين و الأنصار حول من سيخلفه، تجسد فيما دار في “سقيفة بني ساعدة” على إثر بيعة الأنصار لسعد بن عبادة و رفض المهاجرين لذلك[10]. لتعود الخلافة على إثر هذا الاعتراض، بعد نقاش معروف يغنينا عن التطرق إليه، إلى أبا بكر كأول خليفة في التاريخ الإسلامي الذي أخذ لقب “خليفة رسول الله” و رفض لقب “خليفة الله” الذي اعتبره تيوقراطي جدا[11]. و سيقوم أبا بكر قبيل وفاته بيعين عمر بن الخطاب في سنة 634م الذي استثقل لقب “خليفة خليفة رسول الله” و فضل لقب أمير المؤمنين، الذي أصبح منذ ذلك الحين مرادفا “للخليفة”[12]. إن ظهور لقب أمير المؤمنين في تلك المرحلة يرمز إلى وصول مؤسسة الخلافة إلى درجة من التجريد جعلها منفصلة عن الأشخاص الذين يمارسونها*. و لعل تعيين عمر سنة 644 لهيئة من ستة أشخاص للحسم في مسألة خلافته ما يؤكد على ذلك، هذه الهيئة ستختار عثمان بن عفان، اغتياله في 656م سيفتح الباب على مصراعيه لأزمة اصطلح عليها “بالفتنة الكبرى” اختير علي في قلبها، إلا أنه لم يتمكن من فرض نفسه على منافسيه، خاصة معاوية[13]. ليتم اغتيال علي بدوره من طرف أنصاره السابقين، هذه باختصار الأحداث التاريخي المتواترة، تطرح إشكالات أكثر مما تعطي إجابات**.
إن الخلافة الراشدة التي دامت تقريبا زهاء ثلاثون من سنة 632 م إلى 660، التي يتم تقديمها كاستمرار لمنطق الرسالة و امتداد لدولة المدينة التي أسس الرسول سنة 622 و كحل للأزمة التي أعقبت وفاته، أنتجت في المقابل مشاكل أخرى، أو بالأحرى أنها لم تخمد بذور الأزمة القابعة في عمق المجتمع، و لا أدل على ذلك أن ثلاث من الخلفاء الراشدون تم اغتيالهم مما يعكس جو الصراع الذي كان حول الخلافة و عبرها[14] . *
إن أزمة الخلافة حين طفت إلى السطح، لم يتمكن المسلمون من ترجيح مقتضيات القرآن على الصراعات القبلية القديمة. و بدت مسألة ما إذا كان الرسول صلى الله عليه و سلم قد عين علي قبل وفاته ثانوية مقابل الصراعات القبلية*، التي ستتعقد أكثر بتوسع رقعة الإسلام و ظهور قوى اجتماعية أخرى[15]. هذا ما يفسر حدة الصراع حول الخلافة لما تكتنِزه من صراعات قبلية و قومية- إثنية، كما يفسر من جهة أخرى أهمية المفهوم الذي يوجد في مركز التصور الإسلامي للسياسي لأن جميع المفاهيم السياسية التي أنتجت الحضارة الإسلامية من سلطنة، شوكة، بيعة، شورى … الخ، تنسج علاقة معينة معها. فالمرجعية النظرية للسياسي في الإسلام تعد الخلافة نواتها الصلبة. إن الأهمية التاريخية للمفهوم في علاقته بالدولة الإسلامية و نظم الحكم التاريخية يحيلنا إلى جدلية السياسي و الديني في التجربة التاريخية الإسلامية.
المبحث الثاني : الخلافة و جدلية السياسي و الديني في الحضارة الإسلامية
إن رصد مفهوم الخلافة يسمح بتناول الإشكالات النظرية و التاريخية للعلاقة بين الدين و السياسة* في التجربة الحضارية الإسلامية، أي لتمفصل خطاب العناية الإلهية و خطاب تملك العلاقات البشرية المنتجة لظواهر السلطة و الدولة [16]. هذا ما يضعنا أمام إشكالية السيادة، فلمن السيادة في الإسلام؟ أ لله أم للأمة ؟. نقترح أن يكون منطلق الإجابة على هذا السؤال النص القرآني، للوصول عبر الإشكالات النظرية التي تطرح إلى الإشكالات السوسيو-تاريخية لتمفصل السياسي و الديني يقول تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي اْلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ اْلآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء، آية 59). توحي الآية أن الطاعة هي أصلا لله و للرسول صلى الله عليه و سلم و لأولي الأمر، هذا الترتيب يمكن أن يوحي أن الله هو صاحب السيادة في الدولة الإسلامية، و من ثمة فالطاعة واجبة لما يأمر به بمعنى أن المشيئة الإلهية هي المصدر الحقيقي للسيادة، يقول تعالى: ﴿للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ اْلأَرْضِ وَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. و قد فرض الله سلطانه بطريق الأنبياء*، حسب القصص القرآني، إلا أن اختياره لمحمد صلى الله عليه و سلم كخاتم النبيئين يعني ضمنيا إمكانية تفويض ممارسة السيادة لغير الأنبياء[17]. في هذا الإطار يقول تعالى: ﴿وَ اللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة، آية 248)، و يقول أيضا: ﴿قُلٍ الَّلهُمَ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزَعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران، آية 26). إذن حسب الآيات الاحتمالين واردين، فكيف السبيل إلى تجاوز هذا الإشكال الذي على ما يبدو لا يمكن أن يحسم بالنص. يدعو محمد أركون في هذا الصدد إلى التمييز بين السيادة الإلهية العليا و السلطة السياسية في الإسلام[18]. هذا التمييز يسمح باستيعاب و فهم التحولات التاريخية التي وقعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم؛ فعلى الرغم من عدم نص القرآن على الخلافة كمؤسسة سياسية، و عدم تعيين الرسول لمن يخلفه، بادرت النخبة العربية الإسلامية حتى قبل دفنه إلى تعيين/اختيار من يخلفه. هذا يعني أن جميع السلطات تم تفويضها من طرف الأمة للخليفة باستثناء السلطة التشريعية*. كما أن هذا التمييز يسمح بالإجابة على سؤال جوهري : هل الإسلام تيوقراطي؟ ليكن منطلقنا هذه المرة، الفكر الإسلامي، الذي فرضت عليه إشكالية الخلافة نفسها منذ الأزمة التاريخية التي أفرزت، هذا الاهتمام عبر عنه علم الكلام منذ البداية بتبرير مبادئها و أصلها و ضرورتها. و قد استمر المتكلمون يخوضون في هذه القضايا حتى ظهور الدولة العباسية، التي دفعت حاجة تبرير واقعها إلى تسخير الفقهاء، فانتقلت بذلك مسألة الخلافة من اختصاص المتكلمين إلى الفقهاء**. إن الفقهاء و المتكلمين يتفقون، رغم اختلافهم، أن الدولة التي تطبق الشرع حرفيا ليست خلافة لأنها تهدف إلى غاية دنيوية، و هذا هو الغالب تاريخيا، لأن الخلافة هي النظام الذي يهدف من وراء المصلحة الدنيوية المحققة إلى مقصد الشريعة أي مكارم الأخلاق. إن شرط الخلافة هو تجاوز الدولة لأهدافها الذاتية فتكون بذلك أداة لتحقيق هدف أعلى[19]. هناك إذن فرق بين فكرة الخلافة و الخلافة كنظام تاريخي، فرغم صعوبة تحديد بدقة زمن تحول الخلافة الحقيقية إلى خلافة صورية، إلا أن هناك إجماع على اختلافهما[20]. فما هي الخلافة التاريخية و هل هي الدولة الإسلامية؟* بخصوص بنية الدولة الإسلامية فهي تتكون من العناصر التالية: الدهرية العربية، الأخلاقية الإسلامية و التنظيم الهرمي الأسيوي[21]. و الطوبى التي عبرت عنها الاتجاهات الفقهية و الفلسفية و التاريخية، التي رغم اتخاذ كل منها لموقف خاص يتراوح بين الموافقة، النقد و الإنكار، فقد أظهر ابن خلدون أن هذه المواقف لا تتنافى بقدر ما تتكامل، كل منها يعلل الآخر فتعكس بذلك الواقع التاريخي*. و الطوبى** بالضبط، تأكد هذا الواقع، فهي انعكاس للواقع السياسي لأنها ظله، و إن كانت متضايقة منه فهي نفس الوقت وسيلة لتقويته و تكريسه فتتداخل بذلك مع الإيديولوجيا[22]. فباستثناء فترة الوحي و الإلـهــام فالحضارة الإسلامية لم تعرف دولة إسلامية بالمعنى الصحيح أي الخلافة الحقيقية لذلك فهي طوبى الفكر السياسي للفقهاء. لكن هذا لا يعني أنها مجرد وهم خادع، لما فيها من استشفاف للمستقبل، فهي تشير خفية لما يطلعون إليه من دولة، هكذا نفهم سبب حلولها باستمرار في مخيلتهم[23]. هذا الحلول يأخذ حسب الأوضاع أشكال مختلفة خلافة، دولة شرعية، ديمقراطية، أصلية، … الخ القاسم المشترك بينها إحالتها على هذه المرحلة. و قد أثبت صالح العلي وجيب، أن الديمقراطية العربية لم تكن أبدا سوى شركة بين أفراد غير متساويين كانوا يعيشون على الريع (العطاء). لكن رغم هذه النتيجة يظل المشكل قائم لأنه يعجز عن تفسير أسباب انبهار العرب بها[24] إذن لا يكفي التأكيد أن الخلافة طوبى و الوقوف في حدود هذه النتيجة، لأن ذلك يطرح إشكالات أخرى. فإذا كانت الطوبى في الغرب تختلف عن الألفية* (الطوبى الدينية عموما) فيمكن القول أن طوبى الخلافة تتمازج مع الطوبى الدنيوية (المدينة الفاضلة) في فكر السياسي الإسلامي[25] . و لكن رغم أن الخلافة طوبى فلا يمكن إنكار أنها تحيل إلى فترة زمنية لا يمكن إنكار واقعيتها التاريخية، و قد وقع الاختيار على عهد دولة المدينة (622-632) و جزأ من الخلافة الراشدة، يطول أو يقصر، لأنه وحده يلائم هذا التصور لأن الكل يعلم أن الأمور ستتغير تحت الحكم الأموي و العباسي[26]. و طوبوية هذا التصور تكمن في ربطه تحقيقه بمعجزة لا يمكن التنبؤ بوقوعها، رغم إحالته على واقع تاريخي. هذا التصور يدعو إلى رؤيا أحادية للسياسي، تصبح معه الساسة لا انجاز الممكن بل تحقيق الواجب فلا تختلف بذلك في شيء عن الورع و التقوى[27]. هذه الرؤيا لا ترجع إلى النص المقدس (قرآن و سنة)، لأن النص الديني يتيح احتمالات كثيرة للتأويل*، بل إلى الدينامية السوسيو-سياسية و التاريخية، بالإضافة إلى إستراتيجية الفاعلين. فالقضايا الكبرى التي طرح القرآن – من كفر، إيمان، … الخ- تحكمت فيها الخيارات الحزبية فأصبح النص القرآني يوفر تبريرات قاطعة لمختلف الفرق من سنة و شيعة و خوارج[28].
هذا يحيلنا إلى إشكالية تمفصل الدين و السياسة و الإسلام عبر الإجابة عن السؤال التالي: هل الإسلام تيوقراطي؟ بعيدا عن الطروحات الثقافوية التي تلصق هذه الصفة بالإسلام كدين و ترجعها إلى قيم تقبع في عمق الظاهرة الدينية و فرض نفسها في مرحلة معينة و ما زالت مستمرة إلى الآن.
إن نعت الإسلام بالتيوقراطية، و حسب المضمون اللغوي للكلمة، صحيح في حدود الإحالة إلى السيادة الإلهية، حسب أركون، و هذا ما تزكيه مجموعة من الآيات. أما إذا كان القول يحيل إلى الدولة التاريخية (السيادة السياسية) ففي ذلك خلط واضح لأن السلطة في التاريخ الإسلامي تعني حكم السلطان حسب نزواته[29]. إن وصف هذه الدولة بالتيوقراطية لتوظيفها الدين لأهدافها، أو بالأحرى لفائدة المستحوذين عليها، ثابت تاريخيا على ألا تحيل هذه الصفة للإسلام كدين – كعقيدة. و قد أكد علي عبد الرازق أن الإسلام لم يفرض أي دستور سياسي على المسلمين يدعى خلافة التي لا أساس ديني لها، و اعتبر أن الإسلام يفرق بين الدين و السياسة[30]. و حسب بادي (Badie) فإذا كان السياسي يستمد شرعيته من مجاله الخاص في التجربة الأوربية، فشرعيته يستمدها في التجربة الإسلامية من خارجه من الديني أو من النموذج المثالي “الخلافة”[31] عكس أوربا القرون الوسطى التي أنتجت مجالا سياسيا مستقلا، لعبت فيه الكنيسة دورا أساسيا في بناء الديني و السياسي في مجالين متباينين مستقلين[32].
إن التحول الذي عرفه دلالة الكلمة الخلافة و تحولها من خلافة النبي صلى الله عيه و سلم إلى إمارة المؤمنين ثم إلى خلافة الله في الأرض، بكل التضمينات و الايحاءات التي يحيل إليها هذا التحول. هذا رغم وجود نصوص دينية يمكن أن تشرعن كل التوظيفات، فإن ذلك لا يمكن أن يحجب عنا الجذور الأسوية للتوظيف الأخير (خلافة الله)، خصوصا إذا استحضرنا كون الدولة الإسلامية حصيلة تركيب، إن لم نقل تراكب، التنظيم الهرمي الأسوي مع مزجه بالموروث العربي في إطار الدعوة الإسلامية، فلا يمكن توظيف عناصر من بنية معينة (الفارسية هنا) بدون أن ترمي البنية كلها بظلالها على البنية المستعيرة[33]. و هذا مرتبط تاريخيا بالدولة العباسية التي تعكس تحالف حضاري فارسي-عربي في إطار الإسلام دخلت معه الخلافة مرحلة خلافة الله في الأرض؛ هذا بدون الوصول إلى تبني التمثلات الأسيوية في حدود القصوى، كما لا يمكن إنكار بذور هذا التوظيف في مراحل سابقة. هذا ما دفع الأستاذ العروي إلى رفض اعتبار الدولة كانت تاريخية بسبب الإسلام، مع إجازته القول أن الإسلام كعقيدة لم تغير شيئا في الدولة الأسوية التيوقراطية، و أقر أن الإسلام يهدف إلى أن تكون الكلمة العليا في الدولة و المجتمع لله، مع تأكيد، أن ذلك لم يتحقق في أغلب فترات التاريخ الإسلامي[34].
إن ما يرمز لتداخل السياسي و الديني في الإسلام هو شعار الإسلام دين و دولة، الذي أريد له أن يعكس جوهر الإسلام، في حين أن العبارة مرتبطة بسياق القرن التاسع عشر، بالفكر السلفي في مواجهته المد الليبرالي، فتم سحب هذه العبارة على التاريخ الإسلامي و اعتبارها وصف للواقع. و يرى العروي أن كلمة إسلام في العبارة تعني الحضارة التي تطورت عبر التاريخ في دار الإسلام و لا تعني العقيدة. من منتجات هذه الحضارة حكم سلطاني مطلق يحافظ لأسباب سياسية على قواعد الشرع، من مميزات هذا النظام تساكن الدين و الدولة دون أن يغير في العمق أحدهما الآخر.[35]
يمكن القول أن الخلافة التاريخية تعكس تحول الكلمة من دلالة إلى أخرى من خلافة الرسول صلى الله عليه و سلم التي يحيل لها لقب خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمير المؤمنين إلى خلافة الله في الأرض (ظل الله في الأرض) و في كل مرة يتم تجنيد النص الديني لشرعنة هذه الاستعمالات، إن عبر تأويل النص القرآني أو اختلاق الأحاديث، في سياق التحولات السوسيو-تاريخية و الاقتصادية و السياسية التي عرفتها الحضارة الإسلامية، و انفتاحها منذ البداية على الحضارات التي دخلت في حظرتها. مما انعكس على تمثل هذه الحضارة لإشكالية الحكم (إشكالية الخلافة)، التي لم تكن ثمرة التطبيق العملي و التاريخي لمفهوم محدد في عقيدة جامدة تفرض مضمون معين للنظام السياسي يتداخل فيه السياسي و الديني. و كمفهوم فأهميتها ترجع إلى كونها توجد في مركز التصور الإسلامي للسياسي كنواة صلبة تحيل إليها جميع المفاهيم التي أنتجت هذه الحضارة.كما تكمن أهميتها في علاقتها بالدولة الإسلامية التاريخية و نظم الحكم التاريخية، المرتبطة بالرهانات السياسية للصراع حول المفهوم، التي لا يمكن التطرق إليها مع إغفال أشكال الصراع العقائدي بين السنة و الشيعة.
[1]– Paul VEYNE : Histoire. Encyclopeadie Universalis , Paris, V11, p : 464.
يعتبر العروي أن الصعوبات التي تواجه المفكرين عندما يحاولون تحليل مغزى التاريخ تنحدر كلها من هذا الازدواج في المعنى […] الازدواج بديهي لأن الوقائع لا تعرف لا تلمس إلا في/و بالسرد شفويا كان أو كتابيا:
عبد الله العروي: العرب و الفكر التاريخي. المركز الثقافي العربي، بيروت، 1973، ص: 78.
بخصوص دارسة التاريخ الإسلامي يواجه الباحث، خصوصا في تلك المرحلة، عدة إكراهات نلخصها فيما يلي:
– الدلالة المزدوجة لكلمة تاريخ نفسها، فهي سلسلة الوقائع الماضية، و تعني في نفس الوقت الكيفية التي تسرد بها تلك الوقائع.
– تداخل التاريخ كدراسة لوقائع الماضي و بين النظرة الشاملة التي يلقيها مجتمع ما على مجموع حوادث الماضي، كنظرة جماعية و غير واعية.
– تمطيط التقديس الديني على مرحلة تاريخية ككل. و كنتيجة هذه النقطة.
– وجد التأليف التاريخي في العقيدة الدافع الأول و العماد الأخير، يجد في الدين الصلة و المبررات، و من ثمة فمضمون التأليف يحدد المضمون و الأسلوب يدرر المضمون.
– اعتبار مرحلة الدعوة و الخلفاء الراشدون عصر ذهبي يقاس التاريخ عليها
عبد الله العروي: العرب و الفكر التاريخي.ن،م،س.ص:79 .
بخصوص الإكراه الأخير يعتبر العروي أن فكرة العصر الذهبي الذي يبتعد أكثر فأكثر هي من صميم الدعوة المحمدية.
العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء. 1995 . ص: 103.
كما أن الروئ السائدة حول المرحلة تزكي كلها هذه الفكرة، و تتفرع إلى ثلاث:
الرؤيا 1- تؤكد وجود عصر ذهبي، توازنت فيه المكونات الطبيعية و البشرية و الإلهية، يظهر و ينهار في وقته، هذه النظرة موافقة لما جاء في القرآن، أو ليست الدنيا، كما يدل عليها اسمها كلها انحطاط و انهيار (ص: 99).
الرؤيا 2- تصور التاريخ العربي الإسلامي بصورة الإخفاق و العجز (ص: 100). أستقي من هذا الحكم فترة معينة، تطول أو تقصر، و يسدل عن الباقي ستار الخيانة. الخونة بالنسبة لهذه الرؤيا هم كل مرة: اليهود، المسيحية، بقايا المجتمع الجاهلي.
الرؤيا 3- الإسلام خانته الظروف، المصادفة تحمل قناعة الضرورة الاقتصادية، باختصار سر عظمة الإسلام أو انحطاطه تكمن في سوء أو تحسن الأحوال الاقتصادية.. هكذا يتم إنقاذ العقيدة و تستقيل عن تقلبات الدهر .
و قد أورد العروي هذه الرؤيا في فصل أسماه: التاريخ الاعتباري، و هي عبارة عن نظم فكرية مجردة تنزع إلى تفسير المسار التاريخي في المرحلة المتفائلة، أما حين تتجه المرحلة إلى التفسخ تتغير رؤى التاريخ، فيتم إنتاج صور أيقونية تتجسد فيها حقيقة و حصيلة مجموع التاريخ و تهدف إلى أن تصير الروح مركز ثقل التوازن، و هذه الصور الأصنام هي: العقيدة الدينية، الثقافة الأدبية فاللغة العربية، العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ن.م.س، ص: 107.
[2] – العروي: العرب و الفكر التاريخي .ن.م.س. ص: 81.
يذهب العروي إلى أن التأليف التاريخي العربي لا يهدف إلى معرفة الماضي فقط، بل يهدف إلى تحديد حكم شرعي لصالح فرد أو جماعة. لهذا كثر بين المؤلفين في التاريخ الأول الفقهاء، و قد اعتمد المؤلفون على النقل و الرواية أي على شهادة المعاصرين للأحداث.
نفس الفكرة عبر عنها أركون: ما يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن كل الفاعلين يستعملون نفس المنظور بنفس المسلمات الفقهية: مراقبة التاريخ بالدعوة – نفس المناهج: مجموعة من الشهود المباشرين، وظيفة المراقبة و نقل هذه الشهادات: ARKOUN : La pensée arabe, PUF, Paris, 1992.p : 68
[3] -ARKOUN : La pensée,… op.cit, p : 22.
يقول العروي: دولة المدينة … أسطورة أكثر مما هي واقع. فليكن. هل يعني أنها مجرد وهم خادع؟ أو لا يعني بالعكس أنها استشفاف للمستقبل؟… إذا صح هذا هل يحق لنا أن نندهش إذا لاحظنا أنها حالة باستمرار في مخيلتهم. العروي : الإيديولوجية العربية .ن،م، س. ص: 130.
العروي يقترح لدراسة التاريخ الإسلامي الوعي التاريخي النقدي (الوعي التاريخاني) و هذا مرتبط بمشروعه الفكري من جهة و من جهة بحكم أن المادة الأولية المتواترة عن هذا التاريخ هي من الأصل عمل تأويلي، فعبر النقد الإيديولوجي يمكن الاستفادة من هذه الأعمال لإدراك معناها و قيمتها بصفتها وحدة متكاملة.
عبد الله العروي: الإيديولوجية العربية المعاصرة. ن.م.س، ص: 127. بخصوص التاريخانية أنظر:
Hubert Darisch : Historacisme. Encyclopeadia. Universalis. Paris, 1995, V11- p : 510-513.
[4]– Ben Achour (Y): “Islam et constitution”. in Revue tunisienne de Droit, 1974, p : 80.
أورد رشيد رضا التعريف التالي للخلافة : “الخلافة، الإمامة العظمى و إمارة المؤمنين، ثلاث مصطلحات ذات دلالة واحدة، تحيل إلى الموقع الديني و الزمني لرئيس الدولة الإسلامية” و قد أورد في كتابه “الإمامة العظمى” مجموعة من التعاريف لكل من الغزالي و الماوردي و التافتزاني أنظر:
Henri Laoust : Le Califat dans la doctrine de Rachida Rida, Ed. Paris, 1986, p : 10.
[5] عبد اللطيف أكنوش: تاريخ المؤسسات و الوقائع الاجتماعية بالمغرب، إفريقيا الشرق. الدار البيضاء، 1988، ص: 34.
برهان غليون: نقد السياسة – الدولة و الدين، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993، ص: 60.[6]
غليون: نقد السياسة .ن.م.س، ص:60. [7]
* استعمل القرآن الكريم مصطلح خليفة بالمفرد في سورتين يخاطب فيهما كل من داود و الملائكة، يقول تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اْلأَرْضِ﴾ (ص، آية 26)؛ يقول أيضا مخاطبا الملائكة: ﴿وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّيِ جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة آية 30). في السورة الأولى كلمة خليفة يمكن أن تحيل إلى صاحب السلطة، رغم أن هذا اللقب الذي لقب به داود لم يعط أي تعريف. و القرآن، حسب أحد الباحثين، لم يحدثنا عن من أورث داود هذه السلطة، الجواب يوجد في إنجيل صامويل 5: كل قبائل إسرائيل جاءت داود … فقالوا له – ها نحن عظامك و لحمك قال لك الله: أنت من سيقود بني إسرائيل شعبي و أنت من سيقود بني إسرائيل.
Voir : la Bible, Ancien Testament I, T.O.B, Livre de poche, Paris, 1979, p : 167
Cité par : Agnouche Abdelatif : Histoire Politique du Maroc. Pouvoir-légitimité-institutions. Afrique Orient, Casablanca, 1987, p : 285.
أما استعمال القرآن لمصطلح الخلافة بالجمع فقد ورد في 22 سورة بنفس المدلول، سنكتفي ببعض الأمثلة: يقول تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اْلأَرْضِ﴾ (يونس، آية 13) – ﴿وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ (الأعراف، آية 69)، ورد المصطلح بالجمع أيضا في سورة التوبة الآية 39، الحديد الآية 7، الأعراف الآية 74، النمل الآية 39، الأنعام الآية 133، يونس الآية 73. كل هذه الآيات تحوم حول فكرة استبدال الله للشعوب و الأجيال حين يذهب أجلهم، أو حين يقترفون سلوكا سيئا يفقدهم الحق في الوجود فيستبدلهم الله بشعوب و أجيال أخرى Agnouche : Histoire Politique …
[8] W.R.Watt* : “Islamic political tought” Edimlheurg, 1968, p: 32 et 5
Cité par AGNOUCHE: Histoire Politique … op.cit, p : 285.
[9] Rudi Paret : « Signification coranique de « Khalifa » et d’autres dérivés de la racine « Khalifa », St. Is. XXXI, p : 211.
[10] – أكنوش: تاريخ المؤسسات و الوقائع … ص: 32.
* R.Watt مستشرق انجليزي معاصر.
[11] Agnouche : Histoire politique …, op.cit, p : 287.
[12] Ibid
امتاز عهد عمر بن الخطاب بظهور أهم المؤسسات الإسلامية نتيجة للفتوحات و توسع الدولة و تعقد الحياة المدنية و العسكرية.*
[13] Agnouche : Histoire …, op.cit, p : 40.
** يرى العروي بهذا الخصوص: “أن التاريخ الإسلامي، لسوء الحظ هو قبل كل شيء مجموعة أخبار. الوثائق المحايدة، الأصلية أو الأولية حسب اصطلاح كل فريق، قليلة، و حتى و إن وجدت، فلا تملك سوى قيمة تأشيرية تمكن الدارس من معرفة معد الشكل دون أن تمده بوسائل الحل”.
عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي بيروت/الدار البيضاء. 1995، ص: 123. أثار الكتاب حين صدوره 1967 ضجة في العالم العربي. أهمية هذا الكتاب تكمن في كونه الصرح الذي سيبني عليه العروي مشروعه الفكري، الذي يتمحور حول الأشكال التالي: كيف يمكن استيعاب منطق الليبرالية بدون المرور بمرحلة الليبرالية؟ أو بصيغة المؤلف في كتابه: ضرورة استيعاب منطق الليبرالية و إمكانية استيعابها تحت غطاء الماركسية (و هذا هو مضمون الماركسية الموضوعية أو التاريخية).
العروي : الإيديولوجيا العربية … ص: 17، للمزيد من التوضيح انظر: العروي: العرب و الفكر التاريخي. المركز الثقافي العربي، بيروت، 1973. خصوصا الفصل الأول: منطق الإيديولوجيا العربية المعاصرة.
[14] Mohamed ARKOUNE : La pensée arabe, PUF, Paris, 1992, p : 26.
* بنو أمية و بنو هاشم في مكة و الأوس و الخزرج في المدينة.
[15] ARKOUN : La pensée arabe. op.cit
* يذهب ساعف إلى أن السياسي في الفكر السياسي الإسلامي يحيل مرة إلى “السيادة الإلهية” و مرة إلى “السلطة السياسية الدينية” و أحيانا أخرى إلى التجارب التاريخية للأمة الإسلامية. عبد الله ساعف: أبحاث في تاريخ الفكر السياسي المغربي، (مقدمة). النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1998 .ص: 5.
[16] كمال عبد اللطيف: “الخطاب السياسي في الإسلام” في: أبحاث في تاريخ الفكر السياسي المغربي. (مؤلف جماعي) تحت إشراف: عبد الله ساعف، النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1998، ص: 11.
حاول الباحث التفكير في مجال و حدود “السياسي”، و في المرجعيات النظرية و التاريخية، كما حاول تنميط الخطاب السياسي و إعادة صياغة المفاهيم السياسية الكبرى و القضايا التي حكمت البنية النظرية للسياسي في الإسلام، من زاوية علاقة الديني بالسياسي في إسلام العصر الوسيط.
الملاحظة التي يمكن إبداؤها أن العمل الفصل على أهميته، جاء للأسف في صفحتين، عمل سريع إذا، لأنه ورقة عمل تقدم بها الباحث كمساهمة في الندوة التي نشرت أعمالها في الكتاب المذكور. الندوة عقدت في كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية، جامعة محمد الخامس، أكدال بالرباط في 1997.
* باستثناء ذي القرنين الذي لم يكن نبيا، و ذو القرنين حسب التعبير القرآني هو ألكسندر الأكبر ، يقول تعالى: ﴿وَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ, فِي اْلأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ (سورة الكهف، آية: 82-83).
[17] حسني عبد اللطيف: “مدخل لدراسة الفكر السياسي المغربي” في: أبحاث في تاريخ الفكر السياسي المغربي. ن.م.س، ص: 13.
[18] بصدد هذا التمييز: محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، بيروت، 1986 – الفكر الإسلامي: قراءة علمية. بيروت. 1987، ص: 159-186.
محمد أركون من نخبة الفكر المعاصر يشتغل في إطار مشروع فكري يتمحور حول نقد العقل الإسلامي من أعماله نخص بالذكر:
–Pour une critique de la raison islamique, ed. Rai, roummevellorse, 1984 – Islam, morale et politique, Unesco – Desclée de Brouwer, 1986 – Aspects de la pensée musulmane classique, Paris, 1963 – La pensée arabe, PUF, Paris. 1993.
العديد من هذه الأعمال تمت ترجمتها للغة العربية، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات، كما ألقى مجموعة من المحاضرات في الجامعات الفرنسية يعرف فيها بمشروعه الفكري.
* على الأقل في البداية، لأن التحولات التي واكبت توسع رقعة الإسلام و اتساع الإمبراطورية و ما تزامن مع ذلك من تحولات بنيوية سوسيو-اقتصادية و ثقافية أفضت إلى ظهور السياسة الشرعية على الشرع، في العهد العباسي، كأساس للحكم. و منطق السياسة الشرعية يكمن في إمكانية ابتكار الخليفة لقواعد في حالة سكوت الشرع خدمة لضرورة الحكم، و كذا إمكانية تعليقه لبعض القواعد الشرعية في حالة الضرورة. هذه الاستثناءات ما لبث أن تحولت إلى قاعدة في تاريخ الخلافة، بل ستعوض الشريعة التي ظلت سجلا نظريا فقط.
محمد معتصم: التطور التقليداني للقانون الدستوري المغربي. دكتوراه الدولة. كلية الحقوق بالدار البيضاء. 1988. ص:50، الهامش رقم 12.
** يقر العروي أن من الصعوبة بما كان تحديد موقف الفقيه من السياسة و الدولة في الإسلام رغم كل ما كتب […] لكونهم يتكلمون عن الخلافة في حين أنهم يعيشون تحت نظام لا يمت إليها إلا بأهوى الصلات.
عبد الله العروي: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء. 1999، ص: 101.
[19] العروي: مفهوم الدولة، ن.م.س، ص: 103.
[20] العروي: مفهوم الدولة …. ص: 103
* طرح الأستاذ العروي سؤالا مماثلا: هل الخلافة هي الدولة الإسلامية؟- العروي: مفهوم الدولة …. ص: 95، و في محاولته الإجابة عنه دعا لإدراك تجربة الفرد العربي في السياسة إلى مقابلة وصف الواقع التاريخي بتطلعات الطوبى. نفس الفكرة دعا لها أركون كما رأينا (هامش 1 – ص:6).
الملاحظ أن هناك تقارب بين المفكرين في العديد من القضايا لتقارب مشاريعهما الفكرية نقد العقل الإسلامي (أركون) و تحديد العقل العربي قصد تحديثه. (العروي)، إلا أن ذلك لم يدفع أي باحث للقيام بدراسة مقارنة بينهما .
[21] العروي: مفهوم الدولة، ن.م.س، ص: 95. يعترف بصعوبة إدراك هذا المركب منه يرى أن هذه الصعوبة لا تعني الطعن في التجربة العربية في ميدان السياسة.
* عوض التيه في مختلف الاتجاهات الفكرية اختار العروي، بذكاء، بن خلدون كممثل لها. و يبرر هذا الاختيار بعد عرضه لرأي ابن خلدون، فيقول: “لقائل أن يقول: هذا كلام مؤرخ واحد بين عشرات المؤرخين المسلمين. من ذا الذي يضمن صحة نظرته إلى تاريخ الإسلام؟ … سؤال طرح مرارا في أشكال مختلفة: هل ابن خلدون متبع أو مبتدع؟ … ابن خلدون مبتدع و متبع في نفس الوقت، كجميع كبار المفكرين … لا يفوق ابن خلدون من سبقه في صناعة التاريخ إلا بعد أن يتفق معهم في جل الأمور … لو كان فكره غريبا عن مسار الفكر الإسلامي لما نفعنا بشيء .
ليست أصالة ابن خلدون في أحكامه بل في السرد و التعليل ذلك أنه عندما يصف أحوال الدولة الإسلامية يتوخى وصف أحوال الدولة العامة. تكمن أصالته في أنه نقب عن جذور أحكام المؤلفين السابقين له، فكشف عن الأرضية التي كان وقف فوقها كل من العلماء، المؤرخين و الفلاسفة عندما كتبوا في موضوع السياسة و الخلافة، و بذلك علل موقفهم جميعا – العروي: مفهوم الدولة، ن.م.س، ص: 100.
** كلمة طوبى/يوطوبيا، استعملت لأول مرة من طرف توماس مور كعنوان لرواية تم نشرها في لوفان نونبر 1516، و هي اسم جزيرة خيالية تعني “اللامكان” أنظر:
Henri Desroche : Utopie, Encyclopeadia Universalis, Paris, 1990, V 23, p : 264.
بخصوص توماس مور أنظر الكتاب الهام: Jean Yves Lacroix : L’Utopie, Bordas, Paris, 1994
يعتبر Lacroix كتاب مور كحدث لا ينتمي إلى تاريخ الأفكار لأنه ينتمي إلى تاريخ الفلسفة (ص: 11)
[22] العروي: مفهوم الدولة، ن.م.س، ص: 114.
كارل مانهايم في كتابه: الإيديولوجيا و الطوبى، اعتبار الكلمتان تشتركان في معنى واحد: الابتعاد عن الواقع و العجز عن إدراكه، إلا أنهما يختلفان في أسباب العجز، فعجز الإيديولوجيا يرجع إلى كونها متخلقة بوضع تجاوزه التطور، و عجز الطوبى يرجع إلى تعلقها بمستقبل مستبعد التحقيق، و قد حافظ مانهايم على هذا التمييز فعرف الطوبى بأنها نوع من التفكير يتمحور حول تمثل المستقبل و استحضاره بكيفية مستمرة و عرف الإيديولوجيا بأنها التفكير الذي يهدف إلى استمرار الحاضر و نفي بدور النفس الموجودة فيه.
فكل منظومة فكرية تكتسي صبغة إيديولوجيا أو طوباوية حسب الظرف التاريخي الذي تظهر فيه الفئة الاجتماعية التي تستعملها. باختصار: الطوبى عند مانهايم هي ذهنية الطبقات إبان صعودها و الأدلوجة ذهنية الطبقات في حالة انحدارها Karl Manuheim : Idéologie et Utopie, Marcel Rivière, Paris, 1956. أنظر، عبد الله العروي: مفهوم الإيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 5، 1993، ص: 47.
[23] عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ن.م.س، ص: 130.
[24] – العروي : ن.م.س، ص: 130.
* الألفية ترجمة لكلمة Millénarisme و هي نظرية بعض الكتاب المسيحيين القائلين بملك المسيح على الأرض مدة ألف سنة قبل القيامة.
أنظر بصدد التمييز Henri Desroche L’HTOPIE, op.cit, p : 267، رغم أنه يعترف بإمكانية التداخل بين الطوبى الدينية (الألفية) و الطوبى العلمانية. Lacroix رغم اعترافه أن الإيمان و الطقوس الدينية حاملة لنزعة طوبوية، فهو يقر أن اليوتوبيا ليست مدينة الله في الأرض مفصلة بشكل أدبي، تعلن قربها، و يخلص إلى أن بين الألفية و اليوتوبيا، توجد قطيعة، فلا يمكن أن نعتبر اليوتوبيا مجرد ألفية معلمنة Lacroix : L’UTOPIE, op.cit, p : 45.
Raymond Reyer يذهب أبعد من ذلك و يعتبر أن المدينة السموية تعيق اليوتوبيا، بكل ما تتضمنه من يوطوبي بالضبط.
Reyes : L’Utopie et les Utopies, Reed, Gérard Routfort, Paris, 1988, p : 149
[25] العروي: مفهوم الدولة، … ص: 118، هامش رقم 39.
[26] عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ن.م.س، ص: 130.
[27] ن.م.س، ص: 129.
* يرى العروي “أن العقيدة كلام أولا (قرآن، حديث، أخبار) و الكلام ألفاظ جامدة لا بد من تحريكها، أي قراءتها و فهمها و تفسيرها و هذا ليس فيه إجماع. و العقيدة عمل ثانيا و العمل إشارة لا بد من توضيحها حتى و إن وصلت إلينا عبر نقل متواتر و هذا فيه اختلاف”. عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ن.م.س، ص:108. نفس الفكرة عبر عنها تقريبا أركون بخصوص القرآن:
« Le Coran est un corpus fini et ouvert d’énoncés en langue arabe auxquels nous ne pouvons avoir accès qu’à travers le texte ainsi fixé à fonctionné simultanément comme une œuvre écrite et comme une parole liturgique » ARKOUN, La Pensée Arabe, op.cit, p : 11.
فضلت إيراد الجملة باللغة الأصلية لها.
كلمة قرآن مصدر لفعل قرأ، و في القرآن نفسه نجد أن جذر المادة قرأ يدل بالأحرى على معنى التلاوة. و ذلك لأنه لا يفترض مسبقا وجود نص مكتوب أثناء التلفظ به للمرة الأولى من قبل النبي صلى الله عليه و سلم؛ فنجد مثلا الآيتين 16-19 من سورة القيامة تقولان:﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّا عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ الفكرة الأساسية تكمن في التلاوة المطابقة للخطاب المسموع، لا المقروء. يفضل أركون التحدث عن الخطاب القرآني و ليس النص القرآني، عندما يصف المرحلة الأولية للتلفظ (التنصيص) من قبل النبي. ذلك أن مرحلة الكتابة (أي كتابة الخطاب القرآني) قد جاءت فيما بعد في ظل الخليفة الثالث عثمان (بين 645-656) محمد أركون: الفكر الإسلامي – نقد و اجتهاد، ترجمة: هاشم صالح، دار السافي، بيروت، 1992، ص: 77.للإشارة فأركون يعتمد في دراسته للتراث الإسلامي على اللسانيات و سيميائيات و علم التاريخ و علم الاجتماع و الانتربولوجيا.
[28] ARKOUN : La pensée Arabe, op.cit, p : 27.
يقر أركون أن النصوص التاريخية الناذرة التي تعود إلى القرن الأول الهجري تبين أن خطاب المرحلة أخلاقي – ديني و ليس منطقي، يبحث عن التوفيق في سعيه للامتثال إلى النموذج المثالي، يبين جمالية التعبير و غنى المضمون عبر توظيفه لتقنية الحكي و المرجعية الأخروية (الجنة، النار، الخطيئة، …)، فيقترب بذلك أكثر من الخطاب القرآني.
[29] ARKOUN : La pensée … op.cit, p : 34.
[30] جاء الكتاب في إطار النقاش الذي أعقب بيان العلماء الأتراك الصادر سنة 1924 الذي ينص على أن الخلافة لم تكن أبدا مؤسسة إسلامية لا في الكتاب و لا في السنة. و تكمن خلفية البيان في تبرير حكم أتاتورك، في المقابل كانت خلفية علي عبد الرازق من إصداره كتاب “الإسلام و أصول الحكم”(*) التصدي لمحاولة ملك مصر فؤاد إعلان نفسه خليفة على المسلمين بعد إلغاء الخلافة العثمانية. محمد عمارة: “الإسلام و أصول الحكم لعلي عبد الرازق” دراسة و وثائق. المؤسسة العربية للدراسات و النشر. بيروت. 1972، ص: 7-14
(*) تمت إدانة الكتاب من طرف علماء الأزهر و طرد مؤلفه من هيئتها سنة 1925 لاتهامه بفصل السلطة الزمنية عن الدينية في الإسلام باعتباره الجهاد من خدمة الملك لا الدين، حكومة الرسول غير يقينية و مهمته دينية محضة لا تنفيذية. كما أوخذ عليه عدم صحة إجماع الصحابة حول ضرورة الإمامة كما اعتبر القضاء وظيفة غير شرعية و حكومة الخلفاء الراشدين غير دينية. محمد عمارة: ن.م.س، ص: 14.
الملاحظة أن الكاتب رغم استعماله لمفهوم الخلافة فإن انتقاداته موجهة إلى السلطنة الجائرة، أنظر العروي: مفهوم الدولة … ص: 120.
[31] برتراند بادي: الدولتان – الدولة و المجتمع في الغرب و دار الإسلام، ترجمة نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996، ص: 36.
اعتمد بادي في كتابه على المنهج الاجتماعي التاريخي (السوسيولوجيا التاريخية) الذي من مميزاته عدم تجاهل الخصوصيات الثقافية-التاريخية للجماعات، فعبره تم اكتشاف التعددية الثقافية كمكسب من مكاسب السوسيولوجيا الحديثة. من هذا المنطلق اعتبر، في رفضه للثقافوية المطلقة، أن مسيرة الحداثة لا تمنع من مواجهة تمددها خارج العالم الغربي.
بادي: ن.م.س. ص:6.
فحاول القبض على إشكاليات الحداثة في بلاد الإسلام و الغرب عن طريق المقارنات المتتالية لظروف نشأة الدولة-السياسية، قديما و حديثا. فتعقب بذلك موقف الثقافتين من الدولة و الطرق المختلفة لبناء الدولة.
[32] بادي: الدولتان . ن.م.س، ص: 17.
يرجع بادي بروز المجال السياسي في الغرب إلى الدور الكبير الذي لعبته التراتبية الكنيسية الكاثوليكية، كما اعتبر الحداثة الأوربية نهضت عبر التصور من النظام الإمبراطوري و ظهور التوتر بين الطائفة و الفرد. في المقابل المجال السياسي الإسلامي تحدد عن طريق إنشاء الصرح الإمبراطوري على حساب التفكك القبلي، و تجاوز الطوائفي-المذهبي.
[33] يرى العروي: أنه يكاد يتولد بصفة تكاد أن تكون حتمية في مجتمع ما عن استعارة عنصر بنيوي من مجتمع آخر بمجرد ما تتم استعارة عنصر واحد ترتسم في أفق المجتمع المستعير مجموع البنية التي ينتمي إليها ذلك العنصر […] عملية يتشكل بمقتضاها مجتمع على صورة مجتمع آخر. و يقول أن العملية بطيئة و احتمالية لأنها لا تتحقق دائما تحقيقا كاملا. الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ن.م.س، ص: 29.
[34] عبد الله العروي: مفهوم الدولة، ن.م.س، 1984، ص: 121.
[35] العروي: مفهوم الدولة، ن.م.س، ص: 122.