أي دور للعقوبة السالبة للحرية في تشريعات حماية المستهلك؟
ابن الشيخ عبد الإله، باحث في صف الدكتوراة
بكلية العلوم القانونية والاقتصادية الاجتماعية
السويسي، الرباط
مقدمة
تسعى السياسة العقابية في الميدان الاقتصادي إلى تحقيق هدفين أساسيين هما: ردع الأفراد وحماية النظام العام الاقتصادي، فالردع يراد به منع الجاني من العود إلى الجريمة والحيلولة دون اقتداء غيره به، أما حماية النظام العام الاقتصادي فيراد بها تصحيح المعاملات المالية، وإعادة التوازن إلى الوضع المالي المنخرم بفعل الجريمة، وكان بذلك لزاما على المشرع أن يتوخى سياسة ردعية تعتمد التنوع في العقوبات للوصول إلى تحقيق غايات السياسة العقابية.
وقد اتضح أن السياسة العقابية الحديثة أصبحت تفترض تنويعا في وسائل التصدي للظاهرة الإجرامية التي لم تعد تنطلق من نفس الدوافع ولا تسعى إلى تحقيق نفس الغايات ولذلك فأغلب الدراسات العلمية ما انفكت تؤكد أن التعامل مع الإجرام في الميدان الاقتصادي يجب أن يكون بصيغ مختلفة.
ولذلك، فإن السياسة الردعية المعتمدة تكشف عن خصوصية مقارنة بالقانون الجنائي الكلاسيكي، فإذا كان المشرع يكرس الطابع الجزائي والزجري في العقوبات إيمانا منه بأن تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية وردع المخالفين لمقتضياتها، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال فرض عقوبات تتلاءم مع الخطورة الإجرامية للمخالفين، فإن ضمان نجاعة السياسة الاقتصادية فرض أيضا على المشرع الجنائي اعتماد مفاضلة بين العقوبات التي تخدم المصلحة الاقتصادية وفئة المستهلكين، الأمر الذي تغيرت معه طبيعة ووظيفة العقوبة( ).
هكذا، يبدو جليا أن التشريعات الجنائية توظف عموما في حماية المستهلك نوعا أو أنواعا من العقوبات، كون المشرع يفترض تلاؤمها مع مواجهة الظاهرة الإجرامية التي تمس المستهلك وحقوقه، ما
يستدعي استقراء موقف المشرع المغربي من هذه المسألة.
وتأسيسا على ذلك، يطرح هذا الموضوع إشكالية محورية حول مدى نجاح المشرع المغربي، وبعض التشريعات المقارنة، في التعامل مع العقوبة السالبة للحرية خلال توظيفها لمعالجة الظاهرة الإجرامية في العالم الاستهلاكي؟
كما تتفرع عن هذه الإشكالية العديد من التساؤلات يهم أبرزها خصوصيات العقوبة السالبة للحرية في هذا النمط من الإجرام؟ وما هو التصور الفقهي لاستعمالها في صد الجرائم الاستهلاكية؟ هل من المناسب اعتماد العقوبات السالبة للحرية في تشريعات حماية المستهلك؟ وما هو القدر الملائم لها؟ طويلة أو متوسطة أو قصيرة الأمد؟ ثم ما هي الاعتبارات التي تبرر ذلك؟ وهل يسهم توظيف هذه العقوبة لردع المخالفين لتشريعات حماية المستهلك في مسايرة المشرع المغربي للتوجهات الحديثة للسياسة العقابية؟
لدا، ومن أجل التطرق إلى تلك النقاط، ارتأيت تقسيم هذا الموضوع على الشكل التالي:
المطلب الأول: التصور الفقهي.
المطلب الثاني: موقف المشرع المغربي.
خاتمة
المطلب الأول: التصور الفقهي
يغلب الإعتقاد لدى الفقه الجنائي بأن العقوبات السالبة للحرية التي نص عليها المشرع كعقوبة جنائية عن مخالفة القواعد المتصلة بتنظيم العلاقات الناشئة عن بعض العقود الاستهلاكية لا تتلاءم وطبيعة هذه العلاقات، لأن هذه العلاقات بطبيعتها علاقات مدنية، وتتنافى مبدئيا مع التجريم، كما أن تلك العقوبات محل نظر لجملة من الأسباب، منها عدم الفعالية، والمساعدة على انتشار الإجرام، وعدم التجانس بين الفعل المجرم والعقوبة، فضلا عن كبح هذه العقوبات للتنمية وكلفتها المالية، وهي الأسباب التي نتطرق إليها تباعا بشيء من التفصيل.
الفقرة الأولى: عدم الفعالية
يبدو لفريق من الفقه الدارس للعقوبات السالبة للحرية التي نص عليها المشرع لمخالفة القواعد والأحكام المقررة بشأن بعض العقود الإستهلاكية أن هذه العقوبات عديمة الفاعلية، ولم تحقق الهدف الذي كان يسعى إليه المشرع من النص عليها، ذلك أن هذه العقوبات لم تمنع مخالفة الأحكام التي وضعت من أجلها( )، فمثلا العقوبات السالبة للحرية التي نص عليها مشرع قانون قمع الغش فيما يتبايع الناس فيه لم تمنع ارتكاب هذا الغش، كذلك لم تمنع تلك العقوبات المقررة في قانون حرية الأسعار و المنافسة من ارتكاب الجرائم التي نص عليها المشرع فيه، بل يلاحظ أن تلك الجرائم في ازدياد مضطرد ومستمر، وأسفرت المعاملة العقابية في السجون عن تشويه شخصية السجين الذي يخرج من السجن حاملا ثقافة السجن بكل أبعادها السيئة لكي يعيش في المجتمع، وفي إطار هذه النتيجة العلمية ظهر اتجاه في السياسة الجنائية يسير إلى الحد من العقوبات المقيدة للحرية تحت إسم الحد من العقاب.
الفقرة الثانية: المساعدة على انتشار عدوى الإجرام
تؤدي العقوبات السالبة للحرية التي نص عليها المشرع في مجال العلاقات التعاقدية الإستهلاكية إلى انتشار الإجرام، لأن الحكم بهذه العقوبات كجزاء لمخالفة علاقات تعاقدية مدنية يؤدي إلى إيداع عدد كبير من أطراف هذه العلاقات داخل السجون، ولا تتوفر في حق هؤلاء صفة الإجرام الطبيعي أو التلقائي ويتيح لهم الإختلاط بغيرهم من فئات المجتمع.
ومما لا شك فيه كما يرى جانب من الفقه المصري أن اختلاط المحكوم عليهم داخل السجون يعتبر من أهم الأسباب الرئيسية لانتشار عدوى الإجرام، وعلى ذلك الأساس يرى جانب آخر أن هذا
النوع من العقوبات محل نظر وغير جديرة بالتأييد( ).
الفقرة الثالثة: عدم التجانس بين العقوبة والفعل الجرمي
يمكن القول أيضا في نقد العقوبات السالبة للحرية التي ينص عليها القانون في مجال العلاقات الإستهلاكية بأنه لا يوجد تجانس بينها وبين طبيعة ونوع المخالفة التي توقع بشأنها، ذلك أن تلك المخالفات إنما ترتكب بهدف جمع المال والحصول عليه، وذلك يسري على المخالفات التي تقع خرقا لأحكام التموين والتسعير الجبري للسلع والغش فيها، وهذا ما يشكل الأساس الذي يستند عليه الفريق الذي يرى أن الجزاء المناسب لتلك الجرائم الإستهلاكية هو العقوبات المالية وليس العقوبات السالبة للحرية حتى يمكن تفويت الفرصة والهدف الذي يسعى إليه الجاني وهو جمع وتحصيل المال، الشيء الذي يفرض في كل عقاب جنائي يفكر المشرع في استعماله ان يفكر في البعد المالي الناتج عن هذا الجزاء بعد تطبيقه.
الفقرة الرابعة: العبء المالي للعقوبات السالبة للحرية
ينتقد الفقه الجنائي أيضا العقوبات السالبة للحرية التي يقررها القانون في مجال العلاقات الإستهلاكية بالنظر إلى ما تحمله للدولة من عبء مالي باهض وليس من السهل الإستهانة به خصوصا عند تنفيذها، فالدولة تتحمل هذه الأعباء المالية نتيجة إنفاقها على المحكوم عليهم بهذه العقوبات بسبب إعداد وتجهيز أماكن تنفيذها أو بسبب قيامها بتوفير الغذاء والكسوة والعلاج لهم، كما أن هذه التكاليف تتزايد بتزايد المحكوم عليهم بها.
الفقرة الخامسة: كبح التنمية
تؤدي العقوبات السالبة للحرية في مجال العلاقات الإستهلاكية إلى إعاقة التنمية بسبب تزايد وارتفاع النفقات التي تضطر الدولة لإنفاقها لتنفيذ تلك العقوبات، وهو ما يفوت على الدولة الإستفادة من تلك الموجودات المالية لتوجيهها نحو التنمية الإقتصادية والإجتماعية التي تسعى الدولة لتحقيقها، كما أنها تفقد الدولة فرصة الإستفادة من عمل وجهد المحكوم عليهم
ويفسر الفقه الجنائي أيضا هذا التوجه بأن عقوبة الحبس هي بالتأكيد من أكثر العقوبات غير الملائمة في مجال حماية رضا المستهلك والمتعاقد بشكل عام، بسبب عدم الــــــــــــتوازن بين حــدتها الــــــــعقابية
وتلك الضرورية لهذا النوع من التصرفات، فضلا على أن قساوة العقوبة تردع القضاة عن لفظها وتدفعهم، شعورا منهم بالعدالة، إلى اعتبار الفعل غير مقنع بشكل كاف لتبرير هذا النوع من العقوبات( ).
المطلب الثاني: موقف المشرع المغربي
يقتضي التطرق إلى بعض التساؤلات التي سبق بسطها في تقديم هذا الموضوع أن نعرض بداية إلى موقف المشرع المغربي من توظيف العقوبة السالبة للحرية في تشريعات حماية المستهلك بحسب أهم النصوص التي تبنى فيها المشرع المغربي هذه العقوبة الجنائية، سواء على مستوى ظهير الزجر عن الغش في البضائع(الفقرة الأولى)، وقانون 31.08 المتعلق بتدابير حماية المستهلك (الفقرة الثانية)، فضلا عن بعض النصوص القانونية التي تجري أحكامها على أهم القطاعات التي تتوجه إلى المستهلك بخدماتها (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى: حماية المستهلك من الغش
فيما يتعلق بظهير الزجر عن الغش في البضائع، عمد المشرع المغربي إلى تبني العقوبات السالبة للحرية على غرار العديد من التشريعات المقارنة، إذ رتب عقوبة الحبس الذي يتراوح بين 6 أشهر وخمس سنوات عن أغلب أفعال الغش المرتكبة عن طريق الخداع أو التزييف، وهو ما ينسجم مع موقف المشرع المصري الذي أقر عقوبة الحبس على أفعال غش والشروع فيه، والطرح أو العرض للبيع أو البيع بالفعل لمنتجات مغشوشة، وكذلك إنتاجها وتصديرها واستيرادها وعرضها وطرحها للبيع وحيازتها بقصد البيع، وكذلك مخالفة القيود التي تفرضها المراسيم المنظمة لتعبئة المنتجات والوزن والحفظ والتوزيع والنقل والبيع( ).
لا شك أن العقوبات السالبة للحرية التي تقررها فصول قانون الزجر عن الغش في البضائع تسمح بالتحقق من جدوى العقوبة السالبة للحرية، وهو الأمر الذي صار يكتسي أهمية كبيرة في الآونة الأخيرة، طالما أنه يمكن التشريع الجنائي من اختيار أفضل للجزاء ويقدم أجوبة ملائمة حول الحالات التي تستلزم الكثير من الحزم بإعمال تلك العقوبة وفق ما يتلاءم مع معالجة التشريع الجنائي للظاهرة الإجرامية وتعامله مع المعتدين على فئة المستهلكين، مما يمكن من تقييم أفضل لدور العقوبة السالبة
للحرية في تشريعات حماية المستهلك.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى الفائدة التي تجنيها الأنظمة القانونية من توظيف العقوبة السالبة للحرية في هذا النمط الإجرامي، إذ أن الاكتفاء بالعقوبات الأخرى دون هذه العقوبات لا يعد
رادعا قويا في مواجهة التجار الفاسدين الذين يتلاعبون بمصالح المواطنين، مما يقتضي النظر في حل توفيقي يقوم على الاهتمام بصياغة مقتضيات العقاب الجنائي في هذا القانون اعتمادا على تدرج في العقوبة بما يضمن عدم الإضرار بالاستثمار أو المستهلك مع المزج بين تلك العقوبات والاعتراف للقضاء الجنائي بهامش من الحرية في اختيار العقاب الجنائي المناسب، وأن توظيف الردع يكون بخصوص بعض الجرائم ذات الخطورة الكبيرة كجرائم الإضرار بصحة المستهلك والأدوية واحتكار السلع الأساسية وحرية التجارة( ).
وفي نفس المعنى، نجد المشرع المغربي لا يغفل عن جدوى العقوبات الجنائية في ردع الجرائم الخطيرة الماسة بجمهور المستهلكين، وذلك وعيا من المشرع الجنائي بأن التضييق من العقوبات السالبة للحرية لا يحقق الأمن القانوني بشأن الجرائم التي تكتسي خطورة إجرامية كبيرة، فمثلا تحيل الفقرة الثانية من الفصل الثاني من قانون زجر الغش في البضائع أساسا على ظهير 29 أكتوبر 1959 المتعلق بزجر الجنايات على صحة الأمة ( )، كما أقر هذا القانون عقوبات جنائية تتمثل بحسب الأحوال في السجن الذي يتراوح بين عشر وعشرين سنة، أو السجن من خمس إلى عشر سنوات( ).
ذلك أن مثل هذه العقوبات الجنائية في تشريعات حماية المستهلك تجد تفسيرها في الخطورة المتأتية من شموليتها وعموميتها، وانتشار خطرها الحال أو المحتمل وذلك لردع كل من يفكر في إتيانها.
وإذا كان توظيف العقوبة السالبة للحرية والرفع من مقدارها يرتبط بخطورة الجريمة الاستهلاكية، فإن الخطر في هذا السياق يقصد به كل ما يستهدف الصحة العمومية بالفعل نتيجة استعمال البضائع، كما يصعب تقدير هذا الخطر تقديرا دقيقا، مادام يتعين أن يستجيب لــــبعض المميزات الـــــــــــــتي تحـدده،
وهي: فورية الخطر، شموليته، وجسامته.
1) فورية الخطر:
يجدر التنبيه إلى أن الخطر الذي يتهدد المستهلك لا يكون دوما فوريا، وقد لا تظهر آثاره أحيانا إلا
لاحقا وبعد مرور زمن طويل على استعمال المستهلك للمنتوج.
2) الشمولية:
إذ يجب أن يتعلق الخطر بعدد كبير من الناس وأن يكون أثره الجماعي متسعا وغير محدد في شخص
معين، أو فئة خاصة ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان الإنتاج الإستهلاكي أساسيا وواسع الانتشار.
3) جسامة الخطر:
علما أن هذا الخطر تختلف أهميته تجاه الصحة العمومية بسبب أهمية الآثار التي يمكن أن تنتج عن استعمال المواطنين للمنتوج، كالسرطان، التسمم، والشلل…
وبذلك فإن الخطر المسموح به الذي يرسم حدود الخداع في مجال الصحة هو الذي تتوفر فيه هذه المميزات، فإذا انحصرت شمولية الخطر وجسامته في نطاق ضيق، فإن الفعل يمكن أن يعتبر مجرد جنحة أو جناية يعاقب عليها بعقوبة جنائية أقل وطأة ( ).
وفي نفس الاتجاه أيضا، يسير توجه السياسة الجنائية في بعض الدول إلى الإبقاء على العقوبة السالبة للحرية بالنسبة للأشخاص الطبيعيين باعتبارها جزاء ملائما وأنه يكفل خاصية الردع لتشريعات حماية المستهلك في مواجهة هذه الفئة من مرتكبي جرائم العدوان المضرة بمصالح المستهلكين( ).
الفقرة الثانية: موقف المشرع المغربي من خلال قانون 31.08
باستقراء قانون 31.08 المتعلق بحماية المستهلك يتبين أن المشرع المغربي يعاقب بعقوبة حبسية من ارتكب جريمة البيع أو تقديم الخدمة بشكل هرمي( ) وكذا استغلال ضعف أو جهل المستهلك( )، وذلك بعد أن أسفرت المناقشات التي مر بها مشروع هذا القانون عن تقليص نطاق العقوبة السالبة للحرية في مواد أخرى، إذ تم التراجع عن هذه العقوبة بخصوص جريمة عدم تعريف المورد بهويته في البيع عن بعد بوسائل الاتصال، المنصوص عليها وعلى عقوبتها في المادة 174 التي تحيل على المادة 31 من هذا القانون، ونفس الشيء يسري على بعض الجرائم المتصلة بالبيع خارج المحلات التجارية، بعد أن تم حذف هذه العقوبة من مقتضى المادة 180 التي تحيل على المواد 47 إلى 51 من نفس القانون، وهو ما يفسر أن المشرع المغربي استهدف بنهجه التخفيف من الجانب الزجري لـــهذا القانون( ).
هكذا، فقد نص مشرع قانون 31.08 على العقوبات السالبة للحرية في حالتين فقط، لكن الغريب في الأمر هو أن المشرع المغربي جعل مدة هذه العقوبة السالبة للحرية تصل في حالة واحدة إلى خمس سنوات في حدها الأقصى، واستعمل في الحالة الأخرى عبارة “أو” للتخيير ، وهو تخيير سلبي وليس إيجابي بحيث اعتمد عبارة “أو” لفرض عقوبة دون أخرى.
ففي بعض النصوص التشريعية القليلة، كما هو الأمر بالنسبة للقانون رقم 24.09 المتعلق بسلامة المنتوجات والخدمات، يبدو أن المشرع المغربي عاد إلى الأصل المتعارف عليه في إطار القواعد العامة، وهو العقوبات السالبة للحرية، ويتجلى ذلك في تغليب العقوبة الحبسية في مواجهة الجرائم الماسة بسلامة المستهلك التي ينص عليها الفرع الأول من الباب السابع المتعلق بالعقوبات الجنائية( ).
ومهما يكن، يبقى الملاحظ أن المشرع المغربي عموما هجر الحلول التي يعرف بها القانون الجنائي الكلاسيكي بميله ونزعته إلى العقوبات السالبة للحرية في تعامله مع الظاهرة الإجرامية التي تتصل بقضايا الإستهلاك والمستهلكين، وقد خرج بذلك أيضا عن النهج الذي طبع بعض النصوص التي تدخل ضمن تشريعات حماية المستهلك لاسيما ظهير زجر الغش في البضائع الذي شدد فيه المشرع المغربي على عقاب جرائم الغش والخداع، فتأمل المقتضيات الجنائية في بعض النصوص التشريعية التي تحسب على تشريعات حماية المستهلك يؤكد هذا الأمر، ويعتبر القانون رقم 49.99 المتعلق بالوقاية الصحية لتربية الطيور وبمراقبة إنتاج وتسويق منتوجاتها أهم هذه النصوص، وهو القانون الذي جرم عدة أفعال تمس مصالح مستهلكي هذا النوع من اللحوم دون اعتماد عقوبة سالبة للحرية( ).
فخارج الحالات الــــــتتي تبدو فيها ضرورة الاستعانة بالعقوبات الـــسالبة للحرية، يتزايد في العـــــــــــصر
الراهن النفور من العقوبات السالبة للحرية في تشريعات حماية المستهلك بناء على العديد من الأسباب، أبرزها النظر إلى أن العقوبات السالبة للحرية ليس لها مكان في قانون حماية المستهلك باعتباره من القوانين الاقتصادية والتجارية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بمناخ الاستثمار، وأنه يتعين ترحيل العقوبة السالبة للحرية إلى القانون الجنائي باعتباره المكان الطبيعي لها( ).
وانسجاما أيضا مع هذه التوجهات الحديثة للسياسة العقابية في القانون الجنائي للأعمال، نجد المشرع المغربي في القانون رقم 31.08 المتعلق بتدابير حماية المستهلك، على غير المعتاد في القواعد العامة، قد جعل اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية مجرد استثناء في تعامله مع الظاهرة الإجرامية المتصلة بالعدوان على جمهور المستهلكين، وهو توجه له خلفياته وفلسفته، طالما أن العقوبة السالبة للحرية لوحدها لا تضمن ضرب الجناة في أموالهم التي تكون عادة وراء ارتيادهم للسلوكات الإجرامية التي يقررها قانون حماية المستهلك، وهي لا تتصف في جميع الحالات بخاصية الردع، وبالتالي يمكن القول بأن العقوبات السالبة للحرية لا تحقق فعلا الأمن القانوني خصوصا أمام هذا الصنف من الجناة، أي مجرمي الياقات البيضاء، لاسيما وأن الإعتقاد بأن العقوبات السالبة للحرية تظل فعالة في بعض الأحيان، كما لو ارتكبت جريمة استهلاكية/اقتصادية ممن يتعدى رأسماله ملايير الدولارات، فتكون العقوبة المالية غير فعالة، هو اعتقاد مردود عليه، مادام أن هذه الفرضية تظل استثناء والإستثناء لا يقاس عليه، كما أن تحديد العقوبة المناسبة يتعين ربطه بمرتكب الفعل وظروفه الخاصة وحجم ثروته.
الفقرة الثالثة: الحماية الخاصة بمستهلكي بعض الخدمات
إذا نظرنا إلى أن العقوبة السالبة للحرية كفيلة بتحقيق قدر مهم من الردع، وأن النصوص القانونية التي تشكل جانبا من الحماية الجنائية غير المباشرة للمستهلك، كونها تستهدف بالدرجة الأولى تنظيم مختلف العلاقات والروابط بين المتنافسين في القطاعات الأساسية للاقتصاد، لاسيما تلك القطاعات التي يقبل المستهلك على منتجاتها وخدماتها، ينكشف إلى حد ما أن المستهلك يكون في مرتبة ثانية من اهتمام المشرع الجنائي بعد إرضاء التنظيمات واللوبيات الاقتصادية.
ذلك أن التمعن في المقتضيات الجنائية التي تقرر عقوبات سالبة للحرية داخل تلك القوانين، يؤكد اعتمادها عقوبات سالبة للحرية أشد وطأة عن تلك التي تقررها المقتضيات الجنائية الهادفة مباشرة إلى صون حقوق ومصالح المستهلك، الــــشيء الـذي يسمح بوصف المــــقتضيات الــــجنائية لهذه الـنصوص بأنها تخفي في ثناياها انتقاصا من مستوى تلك الحماية التي يفترض أن تكفلها لجمهور المستهلكين.
فالواضح من العقوبات الجنائية السالبة للحرية التي تقررها القوانين المتعلقة بتنظيم قطاع التأمين مثلا، وتنظيم عمل مؤسسات الإئتمان والأبناك، وغيرها من القوانين المتعلقة ببعض الخدمات التي توفرها لجمهور المستهلكين أنها ترتب عقوبات حبسية ثقيلة مقارنة مع مقدار هذه العقوبة التي تبناها قانون 31.08 المتعلق بتدابير حماية المستهلك، وأن المشرع لجأ على مستوى هذه النصوص إلى توظيف هذه العقوبة أكثر مقارنة مع موقفه منها في إطار قانون حماية المستهلك.
هكذا، فإن تصفح المقتضيات العقابية التي سطرها القانون المتعلق بمدونة التأمينات يؤيد هذا الأمر، إذ نجد المشرع المغربي عاقب بالحبس لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات كل وسيط تأمين يقوم بسوء نية بتغطية خطر دون إعداد اقتراح التأمين وتبليغه إلى مقاولة معتمدة لممارسة عمليات التامين( ).
وعاقب المشرع المغربي بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات من يحترف من غير أن يكون معتمدا كمؤسسة ائتمان تلقي الأموال من الجمهور، أو عمليات ائتمان، أو تمكين العملاء المستهلكين من وسائل الأداء أو تدبيرها، أو ينجز عمليات في هذا الإطار دون الحصول على اعتماد لأجلها، أو القيام بخدمات الأداء خرقا للقانون( ).
لكن التساؤل يبقى مشروعا عما إذا كانت تلك العقوبات موجهة لحماية المستهلكين لهذه الخدمات حقا، أم أنها تستهدف صون مصالح المؤسسات الإقتصادية العاملة في النشاط البنكي، طالما تختلط في معاقبة الأفعال المجرمة بهذا القانون حماية مصالح المؤسسات البنكية وجمهور المستهلكين على السواء، وأن حماية فئة المستهلكين تتحصل بطريق غير مباشر من خلال الحماية المباشرة لمصالح المؤسسات البنكية، ليكون محصل القول أن اهتمام المشرع انصب بالأساس من وراء توظيف العقوبة السالبة للحرية على الاستعمال الصارم للوسائل الجبرية للقانون الجنائي بغاية توفير قدر أكبر من الضمانات القانونية للمؤسسات البنكية التي ستتمكن من مزاولة نشاطها بعيدا عن أية عراقيل أو مخاطر ائتمانية ولو كان على حساب المستهلك الذي تبقى العناية بحمايته في مرتبة لاحقة عن كل تلك الأهداف.
ولعل ما يؤكد هذا التصور هو ما عابه بعض الجهات عن المقتضيات التي شكلت الصياغة الأصلية لهذا القانون، بحيث تظل إضافة هذا الأخير جد محدودة فيما يتعلق بحماية المستهلك، ذلك أنه لا يكاد يذكر شيئا بخصوص المبادئ الأساسية المتعلقة بحماية المستهلك والتزامات مؤسسات الإئتمان في هذا الشأن، انسجاما مع الممارسات الجيدة والمعايير الدولية( )، كما أن بعض هذه المبادئ ترد بكيفية جزئية في إطار التدابير والنصوص التنظيمية المعمول بها حاليا من خلال الدوريات الصادرة عن بنك المغرب، إلا أنها لا تجد مرجعية واضحة صريحة في نص هذا القانون، وغير مصاحبة بالضرورة بإجراءات جنائية أو عقوبات تضمن حسن تطبيقها( ).
ومن جانب آخر، أبانت التجربة على المستوى العملي أن مقدار العقوبة السالبة للحرية قد لا يبدو رادعا بخصوص التحديد الذي جاءت به بعض النصوص التشريعية المنظمة لخدمات لا غنى لجمهور المستهلكين عنها، فقد بدا جليا في كثير من الحالات التي عرضت على القضاء أن الأضرار التي تلحق بالأفراد نتيجة خرق التزامات تفرضها النصوص المنظمة لمهن التطبيب وعمليات التجميل والصيدلة.. لها أثر وخيم على السلامة الجسدية الخاصة بالأفراد/ المستهلكين المقبلين على تلك الخدمات.
فمما لا يحتاج إلى بيان في بعض الحالات أن العقوبة التي يقررها النص الجنائي أقل وطأة ولا تتناسب مع الخطورة التي تكتسيها الأفعال الجرمية على صحة المستهلك، فمثلا إذا ما اعتبرنا الأضرار الصحية والبدنية التي يتكبدها الفرد/ المستهلك كلما نتجت عن استعمال المستهلك لأدوية ذات أعراض صحية وخيمة تحصل عليها من طرف من ينتحل صفة صيدلي دون وجه حق( )، فهذا الفعل الجرمي يسمح للمستهلك بطلب متابعة مرتكبه ومعاقبته بالحبس الذي يقرره الفصل 381 من القانون الجنائي، إلا أن الجدير بالتنبيه هو أن النتائج التي قد تترتب عن ارتكاب جنحة انتحال لقب صيدلي ليست أقل خطورة من تلك التي يتعرض لها من تلقى “علاجات” من قبل من يمارس أعمال الطب والعلاج دون التوفر على كفاءات وشروط ذلك، معتمدا في ذلك على أساليب الاحتيال وانتحال صفة دون وجه حق ولاسند قانوني، مما يجعل الـــــفرق الــــــكبير في مـدة العقوبة الحبسية غير مــــــفهوم من الناحية
المنطقية، ولا مستساغا من قبل الضحايا مستهلكي الأدوية في مثل هذه الظروف( ).
ويتأكد أن المشرع المغربي قلما يلجأ إلى توظيف هذه العقوبة في مواجهة الجرائم التي تقررها مدونة الصيدلة والأدوية ، إذ لو نظرنا إلى مجموع المواد التي تعاقب الجرائم المنصوص عليها في القانون المذكور، فالمشرع المغربي تبنى العقوبة الحبسية في أربع مواد من أصل 23 مادة تجرم أفعال العدوان على مستهلك الأدوية والخدمات الصيدلية، سواء من أجل مزاولة الصيدلة دون الحصول على الشهادات والإذن المقرر قانونا( )، أو من اجل استعمال لقب صيدلي دون وجه حق، أو من أجل التجول بالمنتجات الصيدلية قصد بيعها بأي شكل من الأشكال ( )، أو من أجل استعمال شهادة مزورة أو مزيفة أو تخص شخصا آخر بهدف الحصول على الإذن بمزاولة مهنة الصيدلة ( )، وقرن هذه العقوبة بحالة العود بالنسبة لكل شخص من المؤسسة الصيدلية يأمر بتسويق أدوية من شأنها أن تشكل خطرا على الصحة العامة، أو من يقوم ببيع الأدوية غير الصالحة للإستهلاك أو توزيعها، الصيدلي الذي يقوم بصرف الأدوية غير الصالحة للإستهلاك ( )،كما أن بعض تلك الأفعال تشكل في الأصل جرائم تجد أساسها القانوني في مجموعة القانون الجنائي التي تحيل مواد هذا القانون على أحكامه ( ).
ويبقى تبني المشرع المغربي لعقوبات سالبة للحرية ضمن المقتضيات المنظمة لبعض الخدمات التي يقدمها أصحابها للأفراد/ المستهلكين مبررا ومنطقيا، بالنظر لجسامة المخاطر الذي تتهدد المصالح المادية للمستهلكين الذين يحتاجون إلى تلك الخدمات، ويجد هذا النهج صدى له في الزجر عن جرائم الإضرار بالمستهلك كلما اتصلت بانتحال الألقاب أو صفة ممارسة بعض المهن التي تقدم خدماتها للمستهلك، بحيث عادة ما يلجأ المشرع المغربي إلى العقاب عن هذا الفعل بالإحالة إلى الفصل 381 من القانون الجنائي، كما هو جلي من انتحال لقب موثق( )، أو عدل، أو صفة محام( ).
كما أن القضاء لا يتردد في تكييف تلك الإخلالات الجسيمة التي ترتكبها تلك الفئات كجرائم
لا تثير فقط مسؤولياتهم المهنية، وإنما أيضا تستدعي تطبيق العقوبات الحبسية التي تقررها النصوص القانونية عن تلك الأفعال( ).
خاتمة
بناء على ما سبق نخلص إلى أن اعتماد تشريعات حماية المستهلك العقوبة السالبة للحرية وتغليظها يرتبط أساسا بجنوح الأشخاص الطبيعيين وخطورة الجريمة الاستهلاكية، وتسير السياسة العقابية الحديثة إلى اعتماد بدائل عنها كلما انتفت تلك الحالات، وأن قانوننا الوطني لا يتناقض مع هذه الحلول التي صار إلى تكريسها في أغلب النصوص الجنائية التي تشكل الإطار الزجري لحماية المستهلكين.
هكذا فبعد التأكيد على إمكانية الحفاظ على طريق العقاب الجنائي كلما كان بررت ذلك خطورة الأفعال المرتكبة، يظل المشرع المغربي مطالبا بتحسين توظيف العقوبة السالبة للحرية في تحقيق الحماية التي يأملها جمهور المستهلكين.
ويمكن في هذا الصدد الاستعانة بالوسائل التي تسعف في تفعيل الوظيفة الردعية للعقوبة في تشريعات المستهلك، سواء عن طريق العناية بصياغة واضحة للنصوص الجنائية المتصلة بحماية المستهلك التي تسعف في تدقيق المسؤوليات في هذا النوع من الجرائم، وسهولة استيعاب المقتضيات الجنائية لتشريعات حماية المستهلك ، أو من خلال الوسائل المرتبطة بتحديد عقوبة الجريمة الاستهلاكية، التي تفرض العناية بتناسب العقوبة مع الهدف المتوخى من الردع، كون هذه العقوبات تختص بالطابع الوقائي، والاهتمام بتفريد العقاب والعقوبات الإدارية في قضايا الاستهلاك بالنظر لفائدتها العملية( ).
فالثابت أن العقوبات الإدارية قابلة للتنفيذ الفوري دون حاجة للجوء المسبق إلى القضاء الجنائي، واعتمادا على مسطرة وإجراءات سهلة أكثر ومرنة في تفعيلها مقارنة مع إجراءات المسطرة الجنائية، وتعد هذه العقوبات حلا ملائما للتعامل مع العدد الكبير لجرائم من هذا النوع لاسيما عند استحضار تراكم الملفات وكثرتها أمام القضاء الجنائي، كما أن هذه العقوبة تبدو مقارنة مع العقاب الجنائي أقل إيلاما للخاضع لها، وغالبا ما تطبق دون علانية بحيث لا تخدش سمعة التاجر والمهني، مما يجعل هذه الفئات أكثر تجاوبا مع هذا النوع من الجزاء، وهي بطبيعتها ملائمة كلما تعلق الأمر بسلوكات نتجت عن عدم مراعاة قواعد تقنية وفنية تتقن الإدارة التعامل معها.