أشكال الرقابة الدستورية بالمغرب: ــ دراسة مقارنة ــ
المهدي بوكيو
باحث في سلك الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بسلا
المقدمــــة:
يحيل مفهوم الرقابة الدستورية على التأكد من مدى مطابقة القوانين لروح الدستور وأحكامه، ومسايرة كافة الأعمال القانونية لفلسفة الدستور وأسسه العامة، وتهدف الرقابة على دستورية القوانين إلى تعزيز أسس وأركان الدولة القانونية القائمة على سيادة القانون، والحيلولة دون الخروج على الدستور باعتباره المنظم للقواعد الأساسية الواجبة الاحترام في الدولة، وللدفاع عن الإرادة الشعبية التي أصدرت الدستور وحماية الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وهي عملية غير مرتبطة بوجود قضاء دستوري متخصص بالضرورة فقد توجد الرقابة الدستورية حتى في غير وجود قضاء دستوري .
إن الرقابة على دستورية القوانين تعتبر خصوصية فرنسية، حيث دعت الظروف السياسية والتاريخية والفلسفية إلى إبعاد السلطة القضائية من رقابة الدستورية خشية توغلها على السلطات الأخرى، وأصبحت الرقابة الدستورية ذات مكانة مرموقة في دستور الجمهورية الخامسة 1958 الذي أناط مهمة الرقابة إلى هيئة أسماها المجلس الدستوري وأنيط إليه تمثيل القضاء الدستوري بفرنسا .
تعتبر التجربة المغربية القصيرة مقارنة مع فرنسا، حيث تبنى المغرب الرقابة على دستورية القوانين في دستور 1962 الذي نص على إنشاء الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى للقضاء إلى غاية دستور 1992 الذي ألغى الغرفة الدستورية وأسند مهمة الرقابة الدستورية إلى المجلس الدستوري، ومع دستور 2011 أنشئت المحكمة الدستورية بدل المجلس الدستوري. ويأتي هذا البحث لمحاولة معرفة أشكال الرقابة الدستورية بالمغرب مقارنة مع فرنسا من خلال التعرف أولا على هيئة الرقابة الدستورية في البلدين ثم المرور إلى المهام الرقابية التي تقوم بها تلك الأجهزة الرقابية.
المحور الأول: الرقابة الدستورية بالمغرب
أولا: تطور الرقابة الدستورية
إن أساس وجود فكرة الرقابة على دستورية القوانين هو من أجل ضمان حماية القواعد الدستورية من أي خرق يمكن أن يطالها من طرف السلطات التشريعية أو التنفيذية، وذلك تطبيقا لسمو الدستور الذي يعني تمتع القواعد الدستورية بأعلى درجات الإلزام القانوني في مواجهة السلطات العامة في الدولة وإزاء كل ما يصدر عنها من قواعد قانونية عادية أو تنظيمية بحيث لا ينطوي أي من هذه القواعد على ما يخالف القواعد الدستورية ، وينضاف إلى هذا المبدأ مبدأ آخر ألا وهو مبدأ تدرج القوانين الذي يربط كافة القواعد القانونية بمصدرها الأساس الذي هو الدستور ويلزم عن هذا الترابط أن تأتي القاعدة الأدنى مطابقة للقاعدة الأعلى وأن لا تخرج عن مقتضاها وإلا عدت مخالفة لمبدأ تدرج القوانين وسمو الدستور، ومن أجل تحقيق هذا المقتضى ابتدع الفقه الدستوري فكرة ومبدأ الرقابة على دستورية القوانين وإسنادها إلى سلطة أو هيئة دستورية مستقلة محاطة بالضمانات الدستورية والقانونية والتنظيمية الفنية اللازمة للسهر على احترام التشريعات الدنيا للدستور .
واعتمدت الرقابة على دستورية القوانين من أجل بلورة دولة القانون التي تقتضي خضوع جميع السلطات الدستورية إلى أحكام القواعد الدستورية وذلك تحت طائلة الإبطال من قبل القاضي الدستوري الذي يسهر على حماية الإرادة العامة المتجسدة في الدستور .
وقد أنشأ دستور السنة الثامنة للثورة الفرنسية رقابة دستورية القوانين وأسند ممارستها إلى مجلس الشيوخ الذي كان يتألف من ثمانين عضوا معينين مدى الحياة، وضمانا لاستقلالهم تقرر مبدأ عدم عزلهم، لقد كانت استقلالية مجلس الشيوخ متطلبة لإقرار رقابة فعالة وهو شيء لم يتحقق في الواقع، إذ تمكن (نابليون) من اخضاعه اخضاعا وانتهى بإلغائه عام1807 . ونهج دستور الإمبراطورية الثانية الصادر عام 1852 نفس مسلك دستور السنة الثامنة، إذ أنشأ رقابة دستورية القوانين وأسندها إلى مجلس الشيوخ، وإذا كان دستور السنة الثامنة قد حصر جهات الإحالة في السلطات العامة، فإن دستور 1852 مكن المواطنين من إحالة بعض القوانين على مجلس الشيوخ للنظر في دستوريتها، ويعتبر المجلس الدستوري الفرنسي الجهاز الذي أنيط إليه تمثيل القضاء الدستوري والذي تم إنشاؤه في ظل دستور الجمهورية الخامسة سنة 1958 وبموجب هذا الدستور أصبح المجلس يتمتع بصلاحيات جد واسعة .
كما منحت المادة 62 من الدستور الفرنسي حجية تامة لقرارات المجلس الدستوري من خلال التنصيص على أن قرارات هذا الأخير لا تقبل أي وجه من أوجه الطعن فهي ملزمة للسلطات العامة ولجميع السلطات الإدارية والقضائية . وبالرغم من الخلاف الفقهي الذي كان يدور حول الطبيعة القانونية لهذا المجلس بحكم أنه جهاز قضائي وسياسي في نفس الوقت وبالنظر إلى أسلوب تعيين أعضائه وتركيبته ذات الطابع السياسي، وإلى الوظائف والاختصاصات التي يمارسها ذات الطابع القضائي مع تمتع أعضائه بالاستقلال المخول للقضاة، فإن أغلب الفقه قد استقر على أن المجلس الدستوري الفرنسي هو جهة قضائية ، وقد عرف المغرب الرقابة الدستورية لأول مرة في دستور 1962، حيث تم تأسيس غرفة دستورية بالمجلس الأعلى للقضاء مكلفة بمهمة مراقبة مدى دستورية القوانين.
ونص الدستور (1962) في الفصل 63 في الفقرة الثالثة على أنه ” لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية إلا بعد عرضها على الغرفة الدستورية من المجلس الأعلى بقصد الموافقة”. واعتمد المغرب مبدأ التأسيس التدريجي لمؤسسة الرقابة على دستورية القوانين فبعد الغرفة الدستورية التي استمرت طيلة ثلاثين سنة عمل المشرع الدستوري المغربي على استبدال الغرفة الدستورية التي أبانت على محدوديتها ، بالمجلس الدستوري وذلك بمقتضى دستور 1992 الذي عزز مكانة وأهمية الجهاز المكلف برقابة دستورية القوانين وذلك بجعل هذا المجلس ضامنا للتوازن بين المؤسسات الدستورية، إذ اصبح يحتل مكانة مهمة ضمن سلم المؤسسات الدستورية باعتباره هيئة مستقلة عن القضاء العادي مع الأخذ بالصفة القطعية والنهائية بحيث نص الفصل 81 من دستور 1996 على أن قرارات المجلس لا تقبل أي طريق من طرق الطعن وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية.
ورغم أهمية الخطوة التي خطاها المشرع الدستوري المغربي بمقتضى دستور 1992 ودستور 1996 فيما يتعلق بالارتقاء بجهاز الرقابة على دستورية القوانين من وضعية غرفة دستورية بالمجلس الأعلى إلى مستوى مجلس دستوري فإن الخطوة الأهم هي التي تحققت في دستور 2011، حيث تم الارتقاء بالمجلس الدستوري إلى مستوى محكمة دستورية مستقلة مشمولة باختصاصات واسعة وأدوار مهمة لحماية الحقوق والحريات الأساسية وتجسيد متطلبات بناء دولة القانون .
ثانيا: تشكيلية المحكمة الدستورية
تتكون المحكمة الدستورية بالمغرب من أثنى عشرة عضو يعينون لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد. حسب ما نص عليه الفصل 130 من دستور 2011 حيث يحق للملك تعيين ستة أعضاء من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى وستة أعضاء ينتخب نصفهم من قبل مجلس النواب وينتخب النصف الآخر من قبل مجلس المستشارين من بين المترشحين الذين يقدمهم مكتب كل مجلس وذلك بعد التصويت بالاقتراع السري وبأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس ويعين الملك رئيس المحكمة الدستورية من بين الأعضاء (12) الذين تتألف منهم .
ويتم كل ثلاث سنوات تجديد ثلث كل فئة من أعضاء المحكمة الدستورية عند أول تعيين لأعضاء المحكمة الدستورية يعين ثلاثة أعضاء كل فئة لمدة ثلاث سنوات والثلث الثاني لمدة ست سنوات والثلث الأخير لمدة تسع سنوات. ونشير إلى أنه لا يجوز الجمع بين عضوية المحكمة الدستورية وعضوية الحكومة أو مجلس النواب أو مجلس المستشارين أو المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أو كل هيئة ومؤسسة من المؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الباب الثاني عشر من دستور 2011 .
أما المجلس الدستوري الفرنسي فيتكون من تسعة أعضاء بالإضافة إلى رؤساء الجمهورية السابقين، وهؤلاء يعينون بقوة القانون للاستفادة من خبراتهم التي اكتسبوها من خلال سنين خدمتهم ، ويعين رئيس الجمهورية رئيس المجلس من بين هؤلاء الأعضاء ، فيما يخص الأعضاء التسعة فإنهم يوزعون نسبيا بالتساوي بين رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ بمعنى أن كل واحد من هؤلاء يقوم بتعيين ثلاثة، وتستمر عضوية الأعضاء التسعة لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد على أن يتجدد ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات . كما أن أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي غير قابلين للعزل إلا بواسطة المجلس نفسه ولظروف استثنائية ، ومن هنا فإن استقلالهم يبدو واضحا ويتولى رئيس الجمهورية تعيين رئيس المجلس الدستوري، وتظهر أهمية هذا الأمر في تنصيص الدستور على أن لرئيس المجلس الدستوري صوتا مرجحا عند تعادل الأصوات . وبناء على نص المادة 57 من الدستور الفرنسي والمادة 4 من القانون الأساسي للمجلس الدستوري الفرنسي فإنه لا يجوز الجمع بين عضوية المجلس وبين منصب وزاري أو عضوية في البرلمان أو عضوية المجلس الاقتصادي والاجتماعي. ويلاحظ أن المشرع المغربي تأثر إلى حد كبير بالنصوص الدستورية الفرنسية بحيث هناك تشابه كبير في تشكيلة المحكمة الدستورية المغربية والمجلس الدستوري الفرنسي، إلا أن المشرع الفرنسي أضاف أعضاء آخرين بقوة القانون وهم رؤساء الجمهورية الفرنسية السابقين فهم لا يستبدلون ولا يقالون ولا يعزلون .
المحور الثاني: صلاحيات المحكمة الدستورية
أولا: المحكمة الدستورية كجهاز رقابي
لقد حدد الدستور المغربي لسنة 2011 عدة اختصاصات مسندة إلى المحكمة الدستورية بفصول الدستور وبأحكام القوانين التنظيمية. وأكد الفصل 132 من الدستور (2011) أن المحكمة الدستورية تبت في صحة انتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء، وتحال إليها القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها، والأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين قبل الشروع في تطبيقات لتبت في مطابقتها للدستور كما يمكن أن تحال إليها أيضا القوانين والاتفاقيات الدولية، وأوضحت المادة (61) من الدستور الفرنسي أن اختصاصات المجلس الدستوري تتركز في فحص دستورية القوانين والاتفاقيات والمنازعات المتعلقة بالانتخابات البرلمانية وانتخابات رئيس الجمهورية والاستفتاءات الشعبية، ويجب أن تعرض القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية للبرلمان قبل تطبيقها على المجلس الدستوري ليقرر مدى مطابقتها مع الدستور، ويجوز أن يعرض رئيس الجمهورية أو الوزير الأول أو رئيس أي من المجلسين النيابيين القوانين والاتفاقيات الدولية على المجلس لفحص دستوريتها قبل إصدارها.
1. الرقابة على القوانين التنظيمية
تعتبر القوانين التنظيمية قواعد مكملة لقواعد الدستور فإن الفصل 132 والفصل 85 من الدستور (2011) قد أقر بالرقابة الإجبارية على دستورية القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها وضرورة خضوعها للرقابة ، وبالتالي لا يمكن صدورها إلا بعد مراقبتها من طرف المحكمة الدستورية وإصدار قرار بمطابقتها للدستور، ويحيل رئيس الحكومة على الفور القوانين التنظيمية التي أقرها البرلمان بصفة نهائية إلى المحكمة الدستورية قبل إصدار الأمر بتنفيذها قصد البت في مطابقتها للدستور .
ويختلف النصاب المطلوب للمصادقة على هذا النوع من القوانين عن النصاب المطلوب للمصادقة على القوانين العادية، فإن كانت تكفي الأغلبية البسيطة للمصادقة على القوانين العادية أو الاتفاقيات الدولية فإنه يشترط الأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين من مجلس النواب وذلك بعد مضي عشرة أيام على وضع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية لدى مكتب مجلس النواب بحسب الفصل 85 من الدستور. وإذا قضت المحكمة الدستورية بأن قانونا تنظيميا يتضمن مادة غير مطابقة للدستور يمكن فصلها من مجموعه ويجوز إصدار الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي باستثناء المادة المصرح بعدم مطابقتها للدستور . ومن خلال ما تقدم فإن القانون التنظيمي لا يمكن إصداره إلا بعد أن تبدي المحكمة الدستورية رأيها بمطابقته للدستور ، ومنه فإنه يخضع لرقابة المطابقة وهي رقابة إجبارية. أما في فرنسا فإن الرقابة على دستورية القوانين الأساسية (أي التنظيمية) تعد رقابة وجوبية، حيث ألزمت المادة 46 من الدستور الفرنسي ضرورة أن تعرض هذه النوعية من القوانين على المجلس الدستوري حتى يتم التأكد من كونها متوافقة مع أحكام الدستور وذلك قبل إصدارها. وتتم إحالة هذه القوانين على المجلس بواسطة الوزير الأول، والسبب في وجوبية إحالة القوانين الأساسية إلى المجلس الدستوري لينظر في دستوريتها هو أنها تعتبر امتدادا ماديا للدستور، ومن أمثلة هذه القوانين كالقوانين التي تنظم عمل المؤسسات الدستورية العليا .
2. الرقابة على الأنظمة الداخلية لتنظيم غرفتي البرلمان
إن الأنظمة الداخلية مقصود بها تلك القواعد الخاصة بنظام يسير البرلمان ويتخذ كل مجلس فيه بعض القرارات التي تتعلق بتنظيم العمل فيه وكيفية إدارة الجلسات والمناقشات وتقديم الطلبات، وكيفية اختيار رئيس المجلس والحلول أثناء غيابه، وكيفية إجراء الاتصالات بالجهات الخارجية وتحديد الحقوق والتزامات الأعضاء وتحديدا اختصاصات الإدارة .
وبالتالي فإن هذه الأنظمة الداخلية للسلطة التشريعية يمكن أن تكون على قدر كبير من الأهمية، ولذلك نص الدستور على أن الأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين وقبل الشروع في تطبيقها يجب أن تحال أمام المحكمة الدستورية التي تعلن مطابقتها للدستور أم لا، وبالتالي فإن هذه الرقابة تعتبر رقابة إلزامية حيث يحيل رئيسا مجلس النواب ومجلس المستشارين على الفور النظام الداخلي لمجلس النواب والنظام الداخلي لمجلس المستشارين، وكذا التعديلات المدخلة عليهما بعد إقرارها من قبل كل من المجلسين المذكورين قبل الشروع في تطبيقهما إلى المحكمة الدستورية قصد البت في مطابقتها للدستور .
ويقوم رئيس المجلس التشريعي في فرنسا بإحالة هذه الأنظمة إلى المجلس الدستوري والذي يصدر قراره بعد أن يقوم أحد أعضاءه بتقديم تقرير بذلك، فإذا قرر المجلس أن بعض النصوص لا تتطابق مع الدستور، فلا يمكن تطبيق هذه النصوص بعد ذلك ويمكن للمجلس التشريعي أن يصحح هذه النصوص ولكن يجب عليه إحالة الأمر مرة أخرى للمجلس الدستوري للنظر في مدى مراقبتها للدستور .
3. الرقابة على المعاهدات
تعتبر المعاهدة جزء من النظام القانوني بعد المصادقة عليها من طرف الملك وبذلك يملك كل الصلاحية، لهذا فإنها تحال على المحكمة الدستورية لتبدي رأيها في شرعيتها، وهذه الرقابة هي رقابة اختيارية طبقا للفصل 55 من الدستور، كما أن هذه المعاهدات ليست كلها قابلة للرقابة بحيث أن هناك معاهدات تصبح سارية المفعول بمجرد التوقيع عليها والمصادقة عليها من طرف الملك، والمعاهدات التي تخضع للرقابة هي معاهدات السلم أو الاتحاد أو التي تهم رسم الحدود ومعاهدات التجارة أو تلك التي تترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية أوتهم حقوق وحريات المواطنات والمواطنين العامة أو الخاصة، وتعتبر المعاهدات أسمى من التشريعات الوطنية بعد المصادقة عليها .
أما في فرنسا لكي يكون المجلس الدستوري مختصا بنظر دستورية المعاهدات الدولية يجب أن يكون هناك تعهدا من قبل الدولة وأن يكون هذا التعهد أو الانضمام إليه خاضعا لضرورة الحصول على إذن من السلطة التشريعية . وينعقد المجلس الدستوري للنظر في شرعية أو دستورية المعاهدات الدولية، فإن ذلك يجب أن يكون أثناء إجراءات وضع التعهد أو الاتفاق على موضع التنفيذ أي بين لحظة الانتهاء من إعداد اتفاقية وبين لحظة تطبيقها، أي بعد توقيعها من جانب السلطة التنفيذية، ولكن المجلس الدستوري لا يمكن أن ينعقد إلا قبل التصديق على المعاهدة أو إجازتها من البرلمان، ولم يحدد الدستور الفرنسي فترة معينة لانعقاد المجلس الدستوري بين يوم توقيع التعهد وبين التصويت النهائي على إجازته من البرلمان، ويجب أن ينظر المجلس الدستوري دستورية هذه التعهدات التي يطلب منه نظرها خلال شهر أو ثمانية أيام إذا ما أعلنت الحكومة استعجالها .
4. الرقابة على القوانين العادية
يعتبر الاختصاص بالنظر في دستورية القوانين العادية من أهم الاختصاصات التي يوكلها الدستور إلى المحكمة الدستورية، وذلك لأن هذه القوانين هي عمل السلطة التشريعية وهو عمل دائم ومستمر . وتأتي القوانين العادية بعد القوانين التنظيمية في المرتبة الثانية، وتختلف عنها من حيث الإجراءات التي تخضع لها، غير أنه إذا كان للبرلمان السيادة في إعداد القوانين والتصويت عليها، فإن ذلك لا يعني ترك هذه الصلاحية في التشريع دون رقيب، وعلى هذا الأساس تخضع القوانين العادية لرقابة المحكمة الدستورية . وتكون هذه الرقابة اختيارية على دستورية القوانين العادية وذلك قبل إصدار الأمر بتنفيذها من قبل الملك (خلال 30 يوما التالية لإحالة القانون إلى الحكومة بعد تمام الموافقة عليه)، وذلك بإحالة من الملك أو رئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو خمس أعضاء مجلس النواب أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين ، والملاحظ أن الدستور خفض نسبة أعضاء مجلس النواب الذين يحق لهم الطعن في دستورية القوانين العادية، وهو ما يتيح للمعارضة باللجوء إلى هذا الحق، وتبت المحكمة الدستورية في دستورية القوانين خلال شهر من تاريخ الإحالة، وخلال ثمانية أيام في حالة استعجال بطلب من الحكومة، ويؤدي الطعن في دستورية القوانين إلى وقف إصدار الأمر بتنفيذها إلى غاية صدور قرار المحكمة الدستورية، وإذا أقرت المحكمة بعدم دستورية مقتضى القانون لا يتم إصدار الأمر بتنفيذه.
إضافة إلى الرقابة القبلية التي تمارسها المحكمة الدستورية على القوانين أضاف الدستور اختصاصا مهما يتعلق بالرقابة البعدية، حيث يسمح لأطراف قضية معروضة أمام القضاء الطعن في دستورية القانون بدعوى مسه بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، وتتولى المحكمة الدستورية النظر في هذا الدفع، وإذا أقرت بعدم دستورية القانون المطعون فيه فإن الحكم يؤدي إلى نسخ القانون ابتداء من التاريخ الذي حددته المحكمة الدستورية على قانون تنظيمي بشأن شروط وإجراءات تطبيق هذه الدعوى، وتلزم قرارات المحكمة الدستورية كل السلطات العامة وجميع الهيئات الإدارية والقضائية .
أما في فرنسا وطبقا للدستور فإن القوانين العادية يمكن إحالتها قبل التصديق عليها إلى المجلس الدستوري لكي يحدد مدى مطابقتها للدستور ، وهذه الرقابة ليست تلقائية وليست إلزامية كما هو بالنسبة للقوانين الأساسية (التنظيمية).
5. الرقابة على صحة الانتخابات
خص الدستور المغربي المحكمة الدستورية بالبت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان داخل أجل سنة ابتداء من تاريخ انقضاء أجل تقديم الطعون إليها ، غير أن للمحكمة تجاوز هذا الأجل بموجب قرار معلل إذا استوجب ذلك عدد الطعون المرفوعة إليها أو استلزم ذلك الطعن المقدم إليها، ويحال النزاع إلى المحكمة الدستورية بعريضة مكتوبة تودع لدى أمانتها العامة أو لدى والي الجهة أو عامل العمالة أو الإقليم الذي جرت فيه العمليات الانتخابية أو لدى رئيس كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية التي يجرى الانتخاب بدائرتها، وللمحكمة الدستورية إذا قضت لفائدة الطاعن إما أن تلغي الانتخاب المطعون فيه وإما أن تصحح النتائج الحسابية التي أعلنتها لجنة الإحصاء، وتعلن عند الاقتضاء المرشح الفائز بصورة قانونية .
وتتولى المحكمة الدستورية أيضا مراقبة صحة عمليات الاستفتاء وذلك بمراقبة الإحصاء العام للأصوات المدلى بها في الاستفتاء، وتعلن المحكمة الدستورية عن قرارها بنتائج الاستفتاء، ويشار إلى هذا الإعلان في الظهير القاضي بإصدار الأمر بتنفيذ نص الدستور المراجع الذي وافق عليه الشعب .
كما تتولى المحكمة الدستورية كذلك مراقبة صحة إجراءات المراجعة الدستورية التي تعرض بظهير على البرلمان طبقا لأحكام الفقرة الثالثة من الفصل 174 من الدستور وتعلن نتيجتها.
أما في فرنسا فقد نصت المادة 58 من الدستور على أن المجلس الدستوري يراقب سلامة الانتخابات رئيس الجمهورية ويفحص الطعون الخاصة بهذه الانتخابات ويعلن نتيجة الاقتراع، ولعله يتضح من المادة أن المجلس الدستوري يتمتع باختصاص أوسع في مادة انتخاب رئيس الجمهورية بالمقارنة مع تلك المقررة له في مادة الانتخابات البرلمانية، ذلك أن اختصاص المجلس الدستوري بالنسبة للانتخابات الرئاسية يبدأ من وقت الترشيح مرورا بالانتخابات وانتهاء بإعلان النتيجة .
ويختص المجلس الدستوري الفرنسي بالبت في المنازعات المتصلة بانتخاب البرلمان، بحيث يمكن الطعن أمام المجلس في انتخاب نائب وذلك داخل أجل عشرة أيام من تاريخ إعلان نتائج الاقتراع، ويتمتع بحق الطعن جميع الأشخاص المسجلين في اللوائح الانتخابية للدوائر التي جرت فيها العمليات الانتخابية إضافة إلى الأشخاص الذين رشحوا أنفسهم .
كما يختص المجلس الدستوري الفرنسي بالحسم في كافة المنازعات بشأن الاستفتاءات وذلك بشكل نهائي، ولكن المجلس الدستوري فسر هذا الاختصاص بطريقة ضيقة، حيث ذهب إلى أن المنازعات في شأن الاستفتاءات لا يجوز أن تقدم إليه إلا بعد انتهاء عملية الاستفتاء، وتأسيسا على ذلك فإن المجلس في مواد منازعة الاستفتاء يختص فقط بالرقابة على عملية الاقتراع ذاتها .
ثانيا: تقدير رقابة المحكمة الدستورية
تميزت عملية الرقابة الدستورية خلال المرحلة (من 1962 إلى 2011) قبل إحداث المحكمة الدستورية بالظهور البطيء والحذر والتحفظ من حيث قوة وحجم طبيعة القرارات المتخذة من طرف الغرفة الدستورية والمجلس الدستوري، ومن ناحية أخرى بضعف المكانة والوظيفة على مستوى الهندسة القانونية وعدم القدرة على مناقشة باقي المؤسسات الدستورية بمحدودية مجال وسائل عملها ، وهذا ما جعل الغرفة الدستورية والمجلس الدستوري يتعرضان لكثير من النقد والاعتراض ومن ثم فإن هذه المحدودية على الرقابة الدستورية والانتقادات الموجهة إلى القضاء الدستوري المغربي، دفعت المشرع الدستوري إلى مجموعة من التعديلات في دستور 2011، بهدف سد هذه الثغرات وتدعيم دولة الحق و القانون، وذلك من خلال النص على إحداث محكمة دستورية وتغيير تكوينها وتوسيع اختصاصاتها (الباب الثامن من الدستور)، وبالرغم من التعديلات التي جاء بها الدستور، فإن الرقابة الدستورية مازالت تعرف بعض جوانب المحدودية يمكن تحديدها فيما يلي :
– عدم اختيار رئيس المحكمة الدستورية من طرف أعضاءها، واحتكار الأمر من طرف الملك، وإشراك مؤسسة ذات طابع ديني في اقتراح عضو من بين الأعضاء الذين يعينهم الملك والمتمثلة في المجلس العلمي الأعلى، ويمكن اعتبارها إضافة مجانية، من شأنها أن تثير نقاشا حول شروط الحياد التي يجب أن تتوفر في أعضاء المحكمة الدستورية، لاسيما الملك الذي يعين ستة أعضاء هو أمير المؤمنين .
– إمكانية ممارسة المحكمة الدستورية لاختصاصاتها دون العضوين المنتخبين من طرف البرلمان عند تجديد ثلث أعضاء المحكمة في حالة تعذر انتخابهما داخل الأجل القانوني للتجديد، وهو ما قد يؤثر على عمل المحكمة الدستورية ومصداقية قراراتها المتخذة قبل انتخابهما حسب الفصل 130 من الدستور .
وختاماً: يستخلص من كل هذا أن الدستور المغربي أخذ بالرقابة السياسية والرقابة القضائية (رقابة الإلغاء السابقة والرقابة عن طريق الدفع)، لكن احتكار مجال الاختصاص للمحكمة الدستورية لمعنى عدم جواز البت في دستورية القوانين من طرف محاكم الموضوع (الإدارية، المدنية، الجنائية …) أي أنه أخذ بنظام مركزية الرقابة القضائية، وبالرغم من تبني المؤسس الدستوري الفرنسي للرقابة السياسية المتمثلة في المجلس الدستوري وتجاوز المغرب لهذا الشكل من الرقابة فإن هذه المسألة تتوقف على ظروف كل بلد.