Site icon مجلة المنارة

هجرة الكفاءات وتدهور البحث العلمي في العالم العربي: المغرب نموذجا

هجرة الكفاءات وتدهور البحث العلمي في العالم العربي: المغرب نموذجا

د.محمد الحاجي الدريسي

أستاذ باحث بجامعة القاضي عياض

باحث ومتخصص في شؤون الهجرة

المقدمة

تعتبر هجرة الكفاءات ظاهرة عالمية، تتسع باستمرار وتؤثر في تشكيل مختلف الكيانات المجتمعية سواء الكبرى منها أو الصغرى. وتؤثر على البنى العالمية والإقليمية والوطنية ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقيميا؛ كما أنها تحدد طبيعة العلاقات بين هذه الكيانات. وبما أن هذه الظاهرة ترتبط بضوابط ومحددات متعددة، فإن المتغيرات المؤثرة فيها تتخذ أشكالا متنوعة، وتخضع لطبيعة النظم التي تمر بها الدول في مختلف المراحل التاريخية. إن هذه الظاهرة تمتاز بكونها أكثر دينامية وتعقيدا حيث تتشابك خيوطها مع مختلف الظواهر الأخرى بطرق شتى، مما يجعلها مفتوحة على أي شكل من أشكال المناولة والتحليل.

ونظرا لكون الدول المستقبلة تركز في كل فترة زمنية على نوعية المهاجرين الذين يحتاجهم سوق العمل، فإن التطورات المتسارعة التي شهدها العالم في الربع الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن أدت بشكل أو بآخر إلى تغيير جذري في الآليات الانتقائية للمهاجرين حيث لم تعد الرغبة ملحة في استقطاب اليد العاملة غير المؤهلة، بل أصبح سوق العمل في أمس الحاجة إلى الأفراد ذوي مهارة عالية للتناغم مع اقتصاد المعرفة الذي أصبح السمة الأساس للنظام العالمي الجديد المؤسَّس على القوة التكنولوجية – المعرفية.

كل ذلك تطلب نهج سياسة جلب الباحثين الذين يزودون البلدان المتقدمة بمختلف المعارف الثمينة التي تساعد على حل الإشكالات المعقدة في عالمنا المعاصر.

مصطلحات البحث:

بالتركيز على هجرة الكفاءات فإننا سندخل ضمن نطاق مجموعة من المفاهيم الأخرى التي تتداخل معها بشكل كبير أو ترادفها بشكل أو بآخر، ومن أهمها “هجرة النخب” و”هجرة الأشخاص ذوي المهارات العالية” و”هجرة الأدمغة” و”هجرة العمال المؤهلين” و”هجرة العمال الماهرين” و”هجرة العقول” الخ. كما تحمل عبارات أخرى نفس الدلالة رغم غياب كلمة هجرة من داخلها، والتي من أهمها “النقل العكسي للتكنولوجيا” الذي تم اقتراحه من طرف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية سنة 1972.[1] وبالتالي، فمن الطبيعي أن تجد مصطلحات متباينة المبنى في مواضع تحتمل نفس المعنى.

وباستجلاء تقرير الجامعة العربية حول الهجرة لسنة 2008، نجد أن مفهوم الكفاءات المهاجرة ينسحب على كل فرد مهاجر يتوفر على مستوى دراسي جامعي، وهذا ما يُستنتج من العرض الإحصائي للكفاءات.

أهداف البحث

تتجلى أهم أهداف هذه الدراسة في إبراز:

أهمية البحث

مما لا شك فيه أن أحد أسباب طرد الكفاءات يتجلى في فصلها عن واقعها. وهذا الفصل لا يمكن أن يتم إلا بأمر واحد ووحيد يتمثل في إلغاء أي دور فعال يمكنها من تغيير هذا الواقع في الاتجاه المطلوب تنمويا واقتصاديا، مع العلم أن أهم الأدوار المنوطة بالكفاءات هي التجديد والابتكار والإبداع. ولن يكون ذلك إلا بالبحث العلمي الهادف والرصين، الذي يستلزم توفر المراكز المؤهلة لذلك والمرتبطة بالمؤسسات الإنتاجية والإدارية الواعية بمقاصد وجودها، ووسائل تحقيق أهدافها.

لكن مع غياب كل ذلك وإسناد حل المشاكل الطارئة إلى المؤسسات الأجنبية التي لن تعي أبعادها محليا، والاستغناء بل وإهمال الحلول المقدمة من قبل العقول الوطنية، فإن هذه العقول ستلجأ حتما إلى خارج الوطن بحثا عمن يثق بها قصد تحقيق الذات.

ومن ثم تبقى مراكز البحث والجامعات مجرد أطلال، خالية من أي فعالية، تسهم بشكل أو بآخر في تهجير الباحثين إلى حيث يتمكنون من تحقيق مبتغاهم.

هذا الواقع دفعني إلى كتابة هذا البحث المتواضع لتسليط الضوء على هذه الظاهرة التي تسهم في تدهور المنظومة العلمية العربية.

 

 

مشكلة البحث    

إن الإشكال المركزي لهذا البحث يتمحور حول الإجابة عن السؤال التالي: ما علاقة هجرة الكفاءات المغربية بالبحث العلمي؟ والإجابة عن هذا السؤال تدفع الباحث إلى محاولة ضبط نظام هجرة الكفاءات المغربية في علاقته بالبحث العلمي. والنظام يتضمن مجموعة من المدخلات والمخرجات التي تكتنف تطور وحركية ظاهرة معينة.

كل ذلك يساعد على إعطاء صورة تقريبية وشمولية لنسق هجرة الكفاءات المغربية في علاقته بالبحث العلمي، ويتطلب منهجية تتماشى مع هذا المعطى.

فروض البحث

تتمثل فروض البحث في ما يلي:

منهج البحث

يتطلب تناول مثل هذا الموضوع الارتكاز بشكل أساس على نظرية النظم لكونها نظرية تحليلية بامتياز. إن النظرة التفاعلية لظاهرة هجرة الكفاءات تستوجب الأخذ بعين الاعتبار النسق الذي يتحرك من داخله المهاجرون، والعناصر التي يتفاعلون معها -وأعني الدول وغيرها-، وطبيعة التفاعل، هل هو استنزافي أم طردي أم استقطابي الخ. مع الأخذ بعين الاعتبار لمخرجات هذا التفاعل على مختلف المستويات البحثية والعلمية. كل ذلك يتم في بيئات يتصل بعضها ببعض، والمقصود هنا البيئات المهنية والوطنية؛ أو يضم بعضها البعض الآخر كالبيئة الدولية التي تضم نظيرتها الإقليمية والوطنية، والتي كان نظامها ثنائيا قطبيا وأصبح فيما بعد أحاديا.

إذن، بما أننا بصدد التحليل عبر نظرية النظم فإن المنطقة الزمكانية يجب أن تشمل البيئة المغربية إقليميا ودوليا كلما اقتضى التحليل ذلك، لاسيما عندما تتماثل المعطيات أو الآثار والأسباب. كما تتجسد الفئة المستهدفة في الكفاءات المغربية المهاجرة.

 

أولا: هجرة الكفاءات المغربية: حجمها وتطورها

اتسمت هجرة النخب المغربية بخضوعها للواقع الإقليمي الذي صدرت منه فإذا كانت البيئة العربية تتميز بكونها منبعا للعديد من الكفاءات المهاجرة من أجل إيجاد واقع أفضل، فإن الواقع نفسه تعيشه الكفاءات الوطنية.

عرفت هجرة الكفاءات المغربية والإقليمية انخفاضا ملحوظا قبل سياسات التقويم الهيكلي مقارنة مع المراحل الزمنية التالية، فالحاجة كانت ماسة ”لعضلات” دول الضفة المتوسطية الجنوبية أكثر من ”مادتها الرمادية”، ولذلك فأغلب الذين كانوا يغادرون المغرب من الكفاءات ويستقرون بالبلاد الأجنبية تلقوا أهم تكويناتهم وأعلاها في بلاد الاستقبال، والحجة في ذلك هو عدد الباحثين المغاربة بالخارج خلال سنة 1984.[2] فالمغرب احتل الرتبة الأولى عربيا على مستوى عدد الباحثين في السلك الثالث والمتواجدين بالخارج إلى حدود سنة 1984، وذلك بـ31464 باحث،[3] مع العلم أن العالم العربي كان يعرف تواجد 171355 فقط من هذه الفئة بالخارج خلال السنة نفسها.[4] وهذا ما يمثل حوالي خمس الباحثين العرب بدول الاستقبال.

لذلك، تعتبر هذه الفترة بحق مؤسِّسة لواقع هجراتي جديد، ليس فقط على مستوى هجرة العمالة غير المؤهلة، ولكن على مستوى هجرة الكفاءات أيضا. فالحركية التي بدأ يعرفها العالم سياسيا وتكنولوجيا واقتصاديا وجيواستراتيجا منذ صعود الرئيس ريغان إلى سدة الرئاسة الأمريكية وما استتبعها من مشاريع تكنو-عسكرية عملاقة كالدرع الصاروخي، أدت إلى تدفق الهجرات وبمختلف أنواعها في هذا الاتجاه أو ذاك. في نفس الوقت اتسمت هذه المرحلة بهشاشة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ببلدان الانطلاق التي اندرج العديد منها في حروب الوكالة كالمغرب والجزائر مثلا.

إذن، عرفت هذه المرحلة بناء النواة الأولى والجنينية لجالية كفاءات مغربية، حيث رُسمت ملامحها الأولى في ظل الواقع المأزوم الذي عاشته اليد العاملة غير المؤهلة والتي سخرت جزءا مهما من طاقتها في بناء جيل الأبناء-الكفاءات حيث سيكون الأداة الرئيسة قصد تحرير المهاجرين من منطق الاستعباد الذي فرض عليهم في عقدي الستينات والسبعينات، لكن هذا الجيل سيخضع لمنطق التمييز بدل الاستعباد الذي عرفه الآباء بالأمس.

شرع واقع الهجرة في التغيير، وأصبح مجال الهجرة غير المؤهلة يضيق لصالح هجرة الكفاءات. ففي دراسة لصندوق النقد الدولي، لتحديد المهاجرين حسب المستوى الدراسي لسنة 1990، تم استنتاج المؤشرات التالية:

– كان التدفق الكلي لهجرة الأدمغة من البلدان النامية نحو دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يناهز 12.9 مليون فرد، من بينها 7 ملايين تتحرك اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية و5.9 نحو باقي دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، بما فيها أوروبا،[5] بينما وصل عدد الكفاءات المغربية إلى أكثر من ثمانين ألف كفاءة.[6] توجه منها 74 % إلى الديار الأوروبية.[7]

– يشكل الأشخاص الذين يملكون مستوى تكوين جامعيا عاليا الفئة الأكثر حركية وتنقلا على المستوى الدولي، فمعدل الهجرة من داخل فئة الأشخاص ذوي التكوين الجامعي هو الأعلى نسبة في الدول النامية بحيث يشكل حوالي 30%[8]، بينما بلغ معدل الهجرة المغربية من داخل الفئات المتوفرة على مستويات دراسية عالية حوالي 22%[9]. وهذا ما يمثل طاقة بحثية مهمة يمكن أن تنتج حلولا استراتيجية للمشاكل المعقدة التي يعيشها الوطن.

– قُدر التدفق المتراكم لهجرة الأدمغة، خلال سنة 1990، بحسب المناطق ب: 15% في أمريكا الوسطى، و6% في إفريقيا، و3% في أمريكا الجنوبية، و5% في آسيا[10]. كما قدرت المصالح الإحصائية الأمريكية عدد المقيمين الأجانب والمؤهلين تأهيلا عاليا سنة 1990 بأكثر من مليونين ونصف المليون فرد[11]. الجدير بالذكر أن القارة الأمريكية كانت تضم في السنة نفسها حوالي خمس الكفاءات المغربية المهاجرة والتي تقارب العشرين ألف كفاءة[12].

في هذا الإطار، عرف المغرب استمرار توافد أعداد هائلة من نخبه إلى الخارج، فالتجاذب بين القطبين أتاح الفرصة للكفاءات المغربية لكي تجد متنفسا في البلاد الأجنبية، ولم تقتصر هذه الهجرة على أوروبا بل ناهزت الكفاءات المغادرة سنة 1990 إلى أمريكا 19833 كفاءة، وهو ما يمثل حوالي أربعة أضعاف الأدمغة الجزائرية بالقارة نفسها خلال السنة نفسها.[13]

بلغ عدد الكفاءات المتوجهة إلى الدول الرأسمالية الغربية من مجمل الكفاءات المغربية المهاجرة حوالي 78365 كفاءة من بين 80431[14]، وهو ما يمثل حوالي 97.5% من الأدمغة المغربية المهاجرة. إذا كانت الساكنة المغربية لا تمثل سوى 0.46 % من الساكنة العالمية سنة 1990[15]، فإن الهجرة الدولية للكفاءات المغربية ساهمت بحوالي 0.65 % من حجم الكفاءات المغادرة لأوطانها في السنة نفسها ، مع العلم أن هذا الرقم يناهز أكثر من خمس الكفاءات المغربية.[16]

اتسمت فترة 1983-1990 باختناق الوضع السوسيواقتصادي دوليا ومغربيا. فدفع هذا الوضع العديد من الباحثين إلى مغادرة أرض الوطن. وهذا الطرد لن يتبين إلا في السنوات الأخيرة للحرب الباردة بفعل ثقل إملاءات المؤسسات المالية الدولية، والتي قامت الكثير من الدول بتطبيقها حرفيا مما أدى إلى أزمات سوسيواقتصادية مست بالأساس الوضع السوسيومهني للكفاءات.

في الوقت نفسه ، وبخصوص الهجرة المتوسطية إلى فرنسا، نجد أن المغرب يتبوأ مراتب متقدمة فيما يتعلق بحملة الشواهد وخصوصا العليا منها.

 

 

 

 

 

 

الجدول (1): الهجرة المتوسطية إلى فرنسا -15 سنة فما فوق – حسب الجنسية والشهادة المحصل عليها إلى حدود سنة 1990 (%)

 

شهادة عليا باكالوريا+ سنتين: مهن اجتماعية أو مهن الصحة باكالوريا أو شهادة مهنية  
3.5 1.9 4 المغاربة
3.3 2.2 4.7 التونسيون
2.1 1.4 3.1 الجزائريون
2 1.6 4.4 الإسبان
1.9 1.6 3.8 الإيطاليون
0.3 0.6 2.1 البرتغاليون
0.9 0.7 2 الأتراك

Source: Contours et caractères: Les étrangers en France, Paris, INSEE, 1994, p. 55 بتصرف

*يقرأ الجدول كما يلي (مثلا): 3.5 % من المغاربة بفرنسا حاصلين على شهادة عليا.

فبالإحالة إلى معدل حملة الشواهد العليا داخل كل جالية متوسطية بفرنسا والذين لهم الحق في تبوأ صفة الباحث، يحتل المغاربة الرتبة الأولى. كما يتقدم المغاربيون، بشكل عام، على الجنوب-أوروبيين، والسبب في ذلك كون قسم مهم من المعارف الجامعية في دول المغرب العربي تتم باللغة الفرنسية. ويحتل المهاجرون المغاربة الرتبة الثانية فيما يتعلق بالشواهد المهنية الاجتماعية والصحية الممنوحة بعد الباكالوريا، بينما يتموقعون في الرتبة الثالثة بخصوص شواهد الباكالوريا والشواهد المهنية، فكلما تقهقر موقع الشهادة نوعاً تراجعت معها رتبة المغرب، وكلما علت القيمة العلمية للشواهد تقدم ترتيب المغرب، مما يدل على أن النخبة المغربية مستهدفة على مستوى الهجرة أكثر من غيرها. بالإضافة إلى ذلك فهذا الواقع يدل على أن الجالية المغربية أكثر كفاءة ونوعا من باقي الجاليات المتوسطية في فرنسا رغم ضعف كم المغاربة إلى حدود سنة 1990 مقارنة بنظرائهم الجزائريين والبرتغاليين حيث كانوا يناهزون 368 ألف و490 ألف و543 ألف على التوالي[17].

في الاتجاه نفسه ، يبرز المبيان (الشكل1 ) هجرة الكوادر البحثية المغربية إلى كندا منذ البدايات الأولى لسياسة التقويم الهيكلي إلى نهاية الحرب الباردة. خيث شهدت هجرة أصحاب المهن البحثية المهمة والمؤثرة في التقدم العلمي والتنموي للمغرب ارتفاعا مهولا، مما يوحي بأن الدول المتقدمة تستهدف صفوة كفاءات دول الجنوب. لكن الملاحظ هو الاهتمام بالباحثين في العلوم الاجتماعية، مما يدل على عدم استغناء الدول الغربية عن كوادر هذا الاختصاص كما هو الشأن بالنسبة للعلوم الحقة والدقيقة التي هي في حاجة ماسة إليها.

في اتجاه آخر، أبرزت المعطيات المتوفرة فكرة مفادها أن الدول الرأسمالية كانت تقوم خلال هذه الفترة بمجهودات جبارة لاستقطاب الكفاءات العربية، بينما كانت الدول الاشتراكية تمثل دور الغائب الأكبر في هذا المضمار. وهذا الواقع لا ينطبق على الكفاءات المغربية فحسب، بل يشمل الكفاءات العربية الأخرى كذلك. والسبب في ذلك يعود إلى حداثة العلاقة بين الدول العربية ونظيراتها الاشتراكية، بل وفتورها على مستوى عدة بلدان عربية، والتي ترتبط بشكل وثيق بالغرب.

الشكل (1): تطور حجم هجرة الباحثين إلى كندا من سنة 1973 إلى سنة 1996               المرجع: محمد الحاجي الدريسي: هجرة الكفاءات المغربية إلى الخارج،أطروحة لنيل الدكتوراه، كلية الحقوق بفاس، 2011، ص.167

انطلاقا من تحديد المهاجرين النشيطين والمولودين ببلد أجنبي والمقيمين في إحدى بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وانطلاقا من حصر المهاجرين عالي المهارة في أولئك الحاصلين على شهادة جامعية أو ما يعادلها، قصد مقارنة هجرتي الكفاءات الدولية والمغربية يمكن استخلاص ما يلي:

– تسارع وتيرة الهجرات: فقد ارتفع حجم المهاجرين عالي الكفاءة بدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (التي تضم حوالي 90% من الأدمغة المهاجرة في العالم) وذلك بحوالي ثمانمائة ألف فرد سنويا ما بين 1990 و2000[18]. أما المغرب فتطورت وتيرة هجرة كفاءاته بـ 28134 كفاءة سنويا خلال الفترة نفسها[19]. وهو رقم جعل المغرب يسهم بـ3.51% سنويا على مستوى الهجرة الدولية للكفاءات.

– تطورت حصة الأفراد عالي المهارة من بين المهاجرين من 29.8% سنة 1990، إلى 34.6% سنة 2000، بينما لا نجد سوى 11.3% من القوة العاملة العالمية التي تتوفر على تكوين عال.[20] خلافا لذلك ناهزت نسبة المتوفرين على تكوين عال ضمن الفئة المغربية النشيطة بالخارج سنة 2000 حوالي 64.6%[21]، وهذا ما يمثل ضعف معدل الكفاءات التي تدخل ضمن الفئة النشيطة المهاجرة على المستوى العالمي.

– بخصوص التوزيع الجغرافي للكفاءات: يعيش أكثر من 85% من بين 20.4 مليون مهاجر عالي المهارة بدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في ستة بلدان مستقبلة، بينما يعيش النصف في الولايات المتحدة الأمريكية.[22] خلافا لذلك يتنوع توزيع الأدمغة المغربية في العالم. فحتى فرنسا -المستعمر التقليدي للمغرب-تتجسد حصتها من الأدمغة المغربية المهاجرة في أقل من الثلث،[23] وتنفرد دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بأكثر من 361 ألف كفاءة مغربية إلى حدود سنة 2001.[24]

إذن، عرفت هذه المرحلة ارتفاع حجم الكفاءات المغربية بالخارج. ففي كيبك، مر المغرب من المرتبة الثانية عشرة، من حيث دول الانطلاق سنة 1994 إلى المرتبة الثامنة سنة 1999[25] بحيث نجد أن أكثر من 70 % من المهاجرين المغاربة بكيبك من الأطر.[26] ولم يقتصر احتلال هذه الرتبة المتقدمة من قبل المغرب على كيبك، بل تجاوزها إلى كندا حيث يعتبر المغرب ثامن دولة عالميا تزود كندا بالعمالة المؤهلة.[27]

وحسب التقارير المشتركة للتنمية الإنسانية العربية بين الجامعة العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة، فمن بين 31 في المائة من النسبة العامة لهجرة العقول -التي أصابت المجتمعات النامية -تشكل حصة الدول العربية من هذه النسبة “الثلث تقريباً”، وهي بمثابة حصة الأسد من هذه النسبة العامة وحسب المصادر نفسها فإن مليون و450 ألف خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو التقنيين هم من المهاجرين ويعملون في الدول المتقدمة.[28]

وعند نهاية القرن العشرين قُدر أن ما يناهز المليون مهني عربي يعملون في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهذا عَكَس الزيادات الحاصلة في هجرة الكفاءات العربية في الربع الأخير من القرن العشرين مقارنة بالأعداد التي ذكرت في مراجع عديدة لفترة ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. وبالرغم من الدراسات التحذيرية المقدمة في مجال هجرة الكفاءات العربية إلا أنه من المتوقع ازدياد معدلات الهجرة عن مستوياتها التي ظهرت عليها مع اشتداد العولمة في حماية مصالح الدول المتقدمة صناعيا والمهيمنة على النظام العالمي الجديد.[29]

 

 

الشكل (2)

المرجع: محمد الحاجي الدريسي: هجرة الكفاءات المغربية إلى الخارج،أطروحة لنيل الدكتوراه، كلية الحقوق بفاس، 2011، ص 67-73

ففي سنة 2000، وبمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي تضم أغلبية الدول المستقبلة للمهاجرين، يحوم معدل المهاجرين ذوي المهارات العالية حول الثلث من مجمل المهاجرين الوافدين إليها.[30] لكن أسوأ من هذا الواقع عاشته كذلك الهجرة المغربية، حيث نجد أن أكثر من ثلثي الفئة النشيطة المغربية بهذه المنظمة تتوفر على الأقل على مستوى دراسي جامعي.[31] تبرز هنا سمة أخرى وتتمثل في كون معدل الكفاءات من داخل الهجرة المغربية يضاعف نظيره من داخل الهجرة الدولية، وذلك في ظل هجرة مغربية تستهدف أكثر من 10 بالمائة من الساكنة المغربية، بينما لا تستهدف الهجرة الدولية سوى 3 بالمائة من الساكنة العالمية.[32]

شهدت معدلات هجرة الكفاءات العربية إلى دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ارتفاعا بنحو 8.9 % سنويا خلال الفترة 1990-2000.[33] لكن المغرب شذ عن ذلك بدلالة الفارق الكبير ما بين حجم الكفاءات المغربية المهاجرة سنة 1990 ونظيرتها المتواجدة بديار المهجر سنة 2000. فقد تطورت هجرة الكفاءات المغربية إلى الخارج بمعدل 16.22% سنويا[34] خلال الفترة نفسها ، وذلك خلافا لتطور هجرة الكفاءات العربية. وتبلغ نسبة الكفاءات المغربية من بين الكفاءات المهاجرة عالميا حوالي 2 % (1.83 %).[35] وتعتبر هذه النسبة مرتفعة جدا بالنظر إلى حجم ونسبة سكان المغرب من بين الساكنة العالمية حيث لا تبلغ معدل 0.5 %.[36]

 

الجدول(2):الفئة المغربية النشيطة بأوروبا حسب المستوى الدراسي الجامعي-سنة 2005-

من لهم مستوى جامعي نسبتها داخل الجالية الفئة العمرية
39.9 10.4 20-24
36.3 10.2 25-29
27.2 9 30-34
23.9 8.1 35-39
19.9 6.8 40-44
11.6 6 45-49
4.8 5 50-54
3.6 3.4 55-59
2.1 1.8 60-64

Source: Réalisé à partir de:

Mohamed Mghari: Profil démographique et mobilité géographique des Marocains résidant à l’étranger, in: Les Marocains résidants à l’étranger, Enquête de 2005 sur l’insertion socio-économique dans les pays d’accueil: Analyse des résultats, Rabat, Haut-Commissariat au Plan, Centre d’études et de recherches démographiques, 2007, pp. 26-43

* يُقرأ الجدول كما يلي: تُشكل الفئة العمرية ما بين 20-24 سنة ما يناهز 10.4 بالمائة من الجالية المغربية بأوروبا، 39.9 بالمائة من هذه الفئة العمرية يتوفرون على مستوى جامعي.

وقد أشار تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لسنة 2001 إلى أن أكثر من 21 ألف طبيب نيجيري يعملون بالولايات المتحدة الأمريكية،[37] واختار 20 % من الأطباء الأفارقة الاستقرار بالبلاد الغنية، ووصل هذا الرقم إلى 28% بالنسبة لأطباء إفريقيا جنوب الصحراء،[38] فإن حوالي ثلث الأطباء المغاربة كانوا يستقرون إلى حدود سنة 2000 ببلاد الاستقبال.[39]

بالإضافة إلى ذلك، ينتمي إلى البلاد الإفريقية ما بين 10 % و12 % من المهاجرين القادمين إلى كندا خلال الفترة 2005-2007، خلافا لنهاية الثمانينات حيث كانت النسبة تتراوح ما بين 4 % و5 %. والجدير بالذكر أنه في السنوات القليلة الماضية، شكل المغرب والجزائر البلدان الإفريقيان الرئيسان للمهاجرين الأكثر قبولا في كندا.[40]لكن المغرب يفوق الجزائر بالنصف على مستوى حجم الأدمغة المغادرة إلى هذا البلد،[41] رغم تقدم الجزائر على المغرب فيما يخص حجم المهاجرين الوافدين إلى كندا سنة 2001.[42]

الشكل (3)

Source: Les calculs réalisés à partir de:

ثانيا: آثار هجرة الكفاءات العربية: تدهور المنظومة البحثية

تعتبر هجرة الأدمغة ظاهرة كونية[43]، لذلك تتسم آثارها بالشمولية، وتتداخل مع جميع الظواهر الأخرى من حيث التأثير والتأثر، مما يجعل التقسيم المنهجي لعرض النتائج المترتبة عن هذه الهجرة صعبا للغاية، لاندماج بعضها مع بعض، بل ولتوحدها في العديد من المستويات.

إن للهجرة آثارا كلية على كل من بلاد الانطلاق والاستقبال وكذا على المهاجرين أنفسهم. والفراغ الذي يخلفه هؤلاء في بلدانهم جدير بأن يؤثر سلبا أو إيجابا على الأوطان الأصلية –بلدان الإرسال-. وتختلف درجة هذا التأثير حسب نوعية المهاجرين من جهة، وطبيعة الظروف والعوامل الطاردة من جهة ثانية.

لذلك فإن تداعيات هجرة الكفاءات لن تُماثل، وبأي شكل من الأشكال، تأثيرات هجرة اليد العاملة غير المؤهلة. فإذا كانت هجرة اليد العاملة تسهم في استيعاب الضغط الديمغرافي الذي تعاني منه البلاد النامية، وتُدر على أوطانها تحويلات مالية هامة، تقدر بمليارات الدولارات، فإن الواقع يُصبح مختلفا بالنسبة لنزوح الكفاءات. إذ تمتد تداعيات مغادرة الكفاءات لبلدانها إلى خارج البلد الأصلي حيث تؤدي إلى تغيرات بنيوية وطنية وإقليمية ودولية.

ففي الوقت الذي تمثل فيه هجرة الكفاءات مكسبا لدول الاستقبال، فإنها تشكل خسارة، على الأغلب، بالنسبة للبلدان الأصل سواء على صعيد الاستثمار البشري والبحثي من جهة، أو على صعيد العائد المتعلق بسوق الشغل من جهة ثانية؛ وإن كانت هذه الهجرة تُمثل فوائد مؤقتة بالنسبة للنظام السياسي الذي عرف كيف يتخلص من معارضة الكفاءات المهاجرة، لاسيما العديد من الباحثين لتوجهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن وقع غياب الكفاءات عن الساحة الوطنية لن يتجلى بنظرة بسيطة، ولن يتضح بالنظر من زاوية واحدة فقط، بل إن الأمر يتطلب النظر أو على الأقل محاولة النظر من زوايا متعددة حتى تتجلى حيثيات هذا الوقع.

في هذا الإطار، تُستنبط الآثار المدمرة لهجرة الأدمغة المغربية إلى الخارج من خلال الإرادة السياسية للنظام المغربي الحاكم. وذلك من خلال فصل الدولة عن الشعب، مع إفراغ هذا الأخير من رسالته في أرض المغرب بما يحويه من كفاءات بحثية وتقنية، وارتباط ذلك بسياسة المستعمر في استنزاف هذه الكفاءات، حيث يندرج ذلك ضمن سيرورته الاستعمارية التي بدأت بامتصاص الموارد المادية مرورا باستجلاب العضلات وانتهاء باستنزاف الأدمغة.

إن أي بناء سياسي أو اقتصادي يحتاج بشكل أو بآخر للكادر البشري الكفيل بهذا البناء، وفي الوقت نفسه يحتاج هذا الكادر للقيادة السياسية القادرة على الحفاظ على المكتسبات العلمية وعلى رأسها العلماء الباحثون الذين يسهرون على إيجاد هذا الكادر. لكن هشاشة الوضع السياسي نتيجة غياب الكفاءات القيادية الضابطة لمنظومة الأولويات لدى الطبقة الحاكمة يؤثر بشكل أو بآخر على الوضع العلمي والتكنولوجي للبلاد، فتصبح المؤسسات العلمية مجرد كيانات مؤسسية مفرغة من أي دور حقيقي.

أدى هذا الواقع، نتيجة للتأثيرات المتبادلة بين مختلف القطاعات، إلى تصدعات في جل الميادين بسبب غياب حلقات الوصل التي تمكن من الاستفادة المتكاملة. فالضعف العلمي والتكنولوجي الذي خلفته هجرة الكفاءات أثر على الوضع الاقتصادي والسياسي للبلاد، كما أن الواقع السياسي المترهل أدى لفراغ علمي وتكنولوجي مهول، لدرجة أن النسق السوسيوسياسي أنتج قيادات لم تفلح يوما في فترة ما بعد الاستعمار المباشر في أن تنقذ العالم العربي من أوكار الجهل، بل كرست هذا الواقع عبر التهجير الممنهج والمرتب للكفاءات المغربية التي سرعان ما حاول بعضها الاندماج في ممارسات عبر وطنية كالمساعدات والاستثمارات والتبادل الثقافي والتدافع السياسي، مع مجموعة من السلوكيات الأخرى المنتجة على المستوى التنموي الدولي،[44] دون نسيان التحويلات المباشرة وغير المباشرة التي تلعب دورا مهما في تحريك عجلة الاقتصاد المغربي، والتي تسهم فيها الكفاءات بنسبة لا يستهان بها، ولو رمزيا.

إن نزيف العلماء والمهندسين والباحثين العرب يعني أن الوطن العربي لن يتمكن من الاستمرار في توثيق تلك الروابط اللازمة بين العلم وبين علماء الغد. وفي ظل هذه الظروف الحرجة، تواجه السياسة العلمية العربية خطر الإخفاق، في تحقيق هدفها الثلاثي الخاص، بدعم التدريس، وتنمية البحوث، وإنشاء الروابط الوثيقة بينها وبين الإنتاج.[45] والدليل على ذلك معدل الإنتاج العلمي العربي من داخل المنظومة العلمية العالمية (أنظر الشكل أسفله).

الشكل (4)

Source: réalisé à partir de: http://data.worldbank.org/indicator/IP.JRN.ARTC.SC, consulté le 25 mai 2014 à 15:05

إن هجرة العلماء والباحثين العلميين في الوطن العربي يضع السياسات العلمية والتكنولوجية في الأقطار العربية وحكوماتها موضع التساؤل. لأن هجرة الكفاءات العلمية قد تحدث آثارا مدمرة ومخربة في المجتمعات والبيئات العلمية العربية. والجدير بالذكر أن المؤسسات العلمية هي التي تتحمل وطأة نزيف العقول العلمية. ولا حاجة بنا إلى التذكير بما للعلم والتكنولوجيا والبحث العلمي من أهمية، ومن ثم ما للسياسة العلمية السليمة من فوائد وثمار وعائدات اقتصادية في التنمية الوطنية والقومية العامة والشاملة. ومن المؤسف للغاية حقا، أن نجد هذا الاستنزاف للطاقات العلمية العربية، في الوقت الذي تحاول الأقطار العربية السعي إلى تنظيم البحث العلمي وإلى تنمية العلوم والتكنولوجيا في السنوات الماضية؛ إذ أنشأت مراكز للبحوث العلمية ومجالس وطنية وقومية للعلوم، ووكالات وطنية للبحث العلمي. كما عقدت هذه الأقطار مؤتمرات وندوات علمية حول دور العلم والتقنية في التطوير والإنماء، ومن ثم في حل قضايا المجتمع .[46]

في الواقع، إن استنزاف الأدمغة من شأنه أن يزيد الثغرة القائمة بين البلدان النامية- ومنها طبعا الأقطار العربية- وبين البلدان المتقدمة. وذلك لأنها تساعد البلدان المتقدمة على توسيع الاحتكار.[47] لكن، خلافا لذلك، يمكن للمغترب أن يسجل حضورا فاعلا عبر الاشتراك في المؤتمرات العلمية التي تخدم وطنه، وعبر الانخراط في الهيئات العلمية، والقيام بزيارات علمية للنظر في وضع تحصيل الطلاب والباحثين المغتربين، والإشراف ولو بشكل جزئي على إسهاماتهم،[48] ومن ثم تحويل الآثار السلبية إلى معطى إيجابي.

لم تعد الهجرة في زماننا هذا انتقالا نهائيا في اتجاه واحد. كما أن الآثار الإيجابية للحركية المتمثلة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي جعلت الفرد يفهم بأن تنقل الكفاءات واليد العاملة يمكن أن يكون محركا للتنمية.[49] كذلك، فإن الإيجابيات الكبيرة التي تهبها الهجرة الدولية للفرد، في بلد الانطلاق كما في بلد الاستقبال، تتمثل في مفاهيم غنى الكفاءات والتجارب أو تحويل المعارف والتقنيات عبر الشبكات والاتصالات.[50]

ويمكن للكفاءات المغربية بالخارج أن يكون لها دور مهم في ربط الشمال بالجنوب، ونقل المعارف والتكنولوجيا المتطورة إلى المغرب. فقد بدأت الأطر المندمجة بشكل جيد اقتصاديا، والمستقرة اجتماعيا، في تحقيق خطوات خاصة اتجاه تشكيل دياسبورا متحركة عبر ارتباطات تختلف عن أخرى ذات طابع تقليدي أو أبوي. الحجة في ذلك هو أن الأطر المهاجرة تعاود بكثرة الدخول إلى المغرب. حيث أقرت 50 % من هذه الفئة أنها تلج المغرب مرة في السنة.[51] هذا لا يعني أن هذه الحركية تعطي نتائج فعلية حاليا على أرض الواقع المغربي، فنسبة 12 % من الكفاءات المغربية المهاجرة فقط هي التي أقرت بأنها تستثمر أو تنمي مشروعا في بلد الأصل،[52] -أي المغرب-.

إن هجرة العلماء والباحثين لا تعد مجرد انتقال أشخاص عاديين من بلد إلى آخر، وإنما انتقال مواهب مثقفة، تتمثل في حشد الأفكار والآراء والمهارات والخبرات والنظريات والقوانين والمبادئ والمواقف والاتجاهات والمثل والقيم والتقاليد والعادات والأحلام والآمال والتطلعات-كلها-تنتقل مع المهاجر الجامعي. وبذلك تصبح قضية الهجرة والمهاجرين قضية تربوية، لأن المهاجر لا يهاجر بجسده فحسب، بل بكل تلك القيم والمثل والمفاهيم الثقافية والعلمية والاجتماعية. فمن وجهة النظر التربوية، هناك هجرة للمعارف والمهارات والخبرات والقيم الاجتماعية والأفكار. وهنا تكمن الخسائر التي لا يمكن تعويضها بالدولار، كما لا يمكن تعويضها بسهولة،[53] إن المغتربين المغاربة الموجودين بمراكز الأبحاث الغربية كالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا لا ينتقلون فقط بذاتهم المادية، وإنما يحملون معهم خبرات قرون، وربما آلاف السنين التي استجمعت على الأرض المغربية. فالتاريخ يعيد نفسه، فكما عرفت الحضارة الإسلامية أوج ازدهارها بفعل مجهودات الوافدين من الخارج الذين حملوا زبدة إرثهم الحضاري، فإن الشيء نفسه يمكن أن يُقال بالنسبة للحضارة الغربية اليوم.

في الواقع، تُبذل جهود عربية تهدف إلى تنمية الجامعات العلمية، بغية غرس أو إعادة غرس جذور العلوم في الثقافة العربية المعاصرة، وتطبيق نتائج الدراسات والبحوث من أجل خدمة حاجات الأقطار العربية الصارخة إلى التطوير الاجتماعي والإنماء الاقتصادي. ولكن العلماء الذين يوكل إليهم القيام بعمليات التطوير والإنماء في مجتمعنا، هم الذين يهاجرون إلى البلدان المتقدمة حيث يسهمون هناك، ما وراء البحار، في تنميتها وتقدمها. في حين تؤخر هجرة هؤلاء، لعشرات السنين، تنمية الجامعات العربية، كمراكز للامتياز العلمي، ويؤجل أيضا لسنوات عميلة النهوض بتلك البحوث وملاءمتها للحاجات عن طريق هذه الجامعات وغيرها من معاهد العلوم.[54]

فمسألة “هروب الأدمغة” تشكل ضجة حقيقية في الجامعات في كل مكان من العالم، والتي يجب أن تتأقلم مع سوق شغل متحركة ومؤسسة على المنافسة. وذلك لكون الجامعات -في الدول الصناعية-مُجبرة على استقطاب الأشخاص المؤهلين والعلماء المختصين،[55] إذ إن إعطاء القيمة للكفاءات يخول لها الدخول في المنافسة مع مراكز البحث والتنمية الخاصة والصناعية، وذلك عكس الدول العربية.

إن هجرة الكفاءات شوهت الأدوار الرئيسة لمراكز البحث العلمي في المغرب خاصة والعالم العربي عامة، وحولتها من وسيلة للبناء المجتمعي، إلى قناة لتهريب الرأسمال البشري. فإذا كانت للتربية دور بارز في عملية زيادة دخل الفرد، ومن ثم الدخل القومي في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة، فإن التعليم في أقطارنا العربية، على العكس من ذلك، صار له دور مضادا للتنمية ولتطوير المجتمع العربي. فبدلا من أن يقود خريجو نظم التعليم العالي والجامعي عملية دفع عجلة التنمية إلى الأمام، بعلومهم ومهاراتهم، فإنهم يستغلون مؤهلاتهم الجامعية كوسيلة للهجرة إلى الخارج. وهذا دليل ساطع على أن نظم التعليم الجامعي الراهنة ليست سبيلا إلى التطوير والإنماء، وإنما هي الطريق المفضي إلى الهجرة. وبكلام آخر فإن التعليم الجامعي، كما هو مجسم في هؤلاء الأفراد، وكما يمثلونه، ليس مدخلا من مدخلات التنمية، وإنما هو الطريق العريض إلى الرفاهية الشخصية والإشباع الفردي. وهذا تشويه واضح لوظيفة التعليم الجامعي في العالم المعاصر، عالم الإنماء.[56] لم تقف هجرة الأدمغة عند جعل التعليم الجامعي يقوم بأدوار طلائعية في الاتجاه السلبي بتنمية بلدان الاستقبال على حساب مجهودات بلدان الانطلاق، وإنما شوهت تصور الكفاءات لبلدانهم وأوطانهم، حيث جعلتهم في حالة احتقار دائم للذات مهما بلغت قوتها وتقدمها.

يعيش المغرب وضعية مشابهة لهذه الوضعية، فالعديد من الأساتذة الجامعيين المغاربة، والذين لهم قيمة علمية رفيعة يوجدون بالخارج. فإلى حدود سنة 1992، كان يوجد بفرنسا وحدها 369[57] أستاذا جامعيا مغربيا. أما اليوم، وبعد حوالي عقدين من الزمن فإنه ومع تجاوز عدد الكفاءات لأكثر من 460 ألف كفاءة[58] فإن عدد الأساتذة الجامعيين المغاربة مرشح للارتفاع من داخل هذه الفئة.

إن الأخطار التي يتعرض لها الوطن العربي، بسبب هجرة الجامعيين، تضع نظم التعليم العالي والجامعي موضع الشك والتساؤل. وهذا يطرح علامات استفهام كبرى حول جدوى فوائد التعليم الجامعي وعائده الإنمائي. إن هجرة الباحثين الجامعيين تحرم المجتمع العربي من الطاقة البشرية العالية المستوى، المتعلمة والمدربة والمؤهلة، التي هي العمود الفقري لكل نمو اقتصادي وتطور اجتماعي، ومن ثم لكل عملية رقي وتقدم وازدهار. وبات من الأمور المسلم بها في الوقت الحاضر، بعد سنوات من الدراسة والبحث والفحص والتحليل، من قبل رجال التربية والاقتصاد والاجتماع والإدارة، أن التعليم عامة عنصر جوهري من عناصر التنمية ومفتاحها الرئيس، والسر الكامن وراء ازدهار المجتمعات في العصر الحديث، إذ هو شرطها المسبق ومحركها الأول والأهم. ثم إن التعليم الجامعي عملية استثمار اقتصادي وإنمائي من الدرجة الأولى. لأنه كلما ارتفع المستوى التعليمي للفرد، ازداد مستوى الدخل بدوره على صعيد الفرد والمجتمع، ومن ثم ازداد الإنتاج والدخل القومي.[59]

ثالثا: عوامل هجرة الكفاءات: تهميش البحث العلمي وتبعية التعليم العالي

إن التركيز على الجانب المادي على مستوى الطبقة السياسية المتحكمة في دواليب الأمور سيطر تبعا لذلك على العلاقات السيكوسوسيولجية للجماعات الرسمية وشبه الرسمية عامة، وعلى المجالات المرتبطة بها والتي تضم في ثناياها عشرات آلاف الكفاءات. فلا تسلك انطلاقا من كل ذلك سوى مناطق العطاء الآني والاستفادة المادية، مما يجعلها تتوق للانتقال إلى المكان الذي تُحقق فيه جزاء أوفى. فتأسس واقع متسم بتهميش البحث العلمي ومن ثم التبعية التكنولوجية

أ) تهميش البحث العلمي

أنجزت عدة دراسات في موضوع هجرة الأدمغة منذ سنة 1967؛ ويكفي هنا التأكيد على أن خلاصة هذه الدراسات، تتطابق على الأقل مع نقطتين مرتبطتين بظاهرة هجرة الكفاءات. أولهما، غياب الإمكانيات والهياكل لتطبيق ما تعلمه الباحثون وأصحاب الكفاءات مع ضعف ميزانية البحث؛ مما يشكل خطر ضياع المعرفة. والسبب الثاني يتعلق بغياب حرية التعبير والقيود التي لا تشجع على الخلق والإبداع.[60] يتسبب هذا الواقع في صنع خيوط وعلاقات تقمع كل قضية شريفة في مختلف المؤسسات بدءا بالأسرة النواة وانتهاء بالمؤسسات الكبرى للدولة، التي تعمل على تفعيل مختلف الآليات القمعية تجاه كل ما هو متعلق بالحريات، ومنها بالطبع الحرية الأكاديمية، قصد الحفاظ على استمرارية الحالة الراهنة والتي من تداعيات غيابها:

1) ضآلة وانكماش البحث العلمي،

2) انعدام الابتكار والإبداع- أما الإنتاج النظري والعملي فلا يعدو أن يكون نادرا أو مضطهدا أو مستبعدا،

3) وعدم وجود ارتباط بين خطط التنمية والبحث العلمي الجاد.[61]

في الواقع، ليس هناك في العالم العربي أجهزة علمية للدراسات والتخطيط والإحصاء في مكاتب الملوك والرؤساء العرب، تفي بحاجات البلاد العلمية والتقنية والصناعية، وليس هناك من أجهزة تهتم بجمع ودراسة المعلومات الإحصائية حول الحياة العلمية ومدى ارتباطها بالحياة الاقتصادية العربية[62]؛ كما أن الخبير أو العالم قد لا يجد المختبرات، أو الوسائل والمصادر أو الآلات والأدوات التكنولوجية الحديثة لابتكاراته،[63] وهذا دليل على أن الطبقة السياسية عامة والنخبة الحاكمة خاصة لا تهتم بالأولويات التكنولوجية والعلمية للمحكومين الذين لا يتوفرون على أدنى الحقوق التي تخول للجماعة إمكانية التفاعل المدروس والواقعي والمنتج مع بيئتها.

في الوقت نفسه ، يسود مراكز البحث العلمي العربي أجواء متشابهة من التخبط والتردد، وتحكم البيروقراطية، والافتقار للتراكم والتقدم، والشعور بعدم الجدوى وعدم توفر المناخ الملائم للعمل البحثي، ناهيك عن ضعف المجتمع العلمي الثقاف،ي وأحيانا عزلته عن النشاط الوطني، وقلة الحوافز، والتبعية العلمية للخارج، وضعف البنيات الأساسية؛ وينجم عن ذلك نقص كبير في الإنتاج العلمي من حيث الكمية والنوعية معا.[64] وهنا يجب التأكيد على أن أسباب الهجرة متعددة، وهي ليست بسبب البحث عن ظروف معيشية راقية فقط، بل هي نتيجة لغياب ظروف البحث العلمي وحرية التعبير، خصوصا أن الكثير من الكفاءات العلمية يتم التحكم فيها من قبل عقليات بيروقراطية، والمهدي المنجرة نموذج لهذا الإقصاء الأعمى حيث تم منعه لأكثر من 11 مرة من التواصل مع الجمهور، وهناك مئات من النماذج الأخرى، وكان في السابق ينصح الكفاءات المغربية بالعودة إلى أرض الوطن أما اليوم فيقول لهم أن يقيموا في أي مكان يستطيعون من خلاله تحقيق تراكم معرفي.[65] والدليل على هذا الواقع المتردي هو التدهور الملحوظ لمعدل البحث العلمي والتقني المغربي مقارنة بالبحث العلمي العربي(أنظر الشكل أسفله)

الشكل(5)

Source: réalisé à partir de: http://data.worldbank.org/indicator/IP.JRN.ARTC.SC, consulté le 25 mai 2014 à 15:05

بالإضافة إلى ذلك، يتميز المغرب ومعه الدول العربية بضعف الطلب على نتائج البحوث، ويرجع ذلك إلى طبيعة النظام الاقتصادي في الأقطار العربية، وطرق تخطيطه وإدارته وتحديد أولويات التنمية واختياراتها. ففي الدول الرأسمالية المتقدمة للمنافسة دور كبير في دفع المنتجين لتطوير أساليب الإنتاج والمنتجات في محاولة للحد من التكلفة وتوفير مستلزمات الإنتاج والطاقة وتحسين نوعيات ومواصفات السلع في إطار هدف تحقيق الربح الأقصى، وإلا تعرضوا للطرد من الأسواق. وهنا يلجأ المشروع سواء أكان صناعيا أم زراعيا إلى البحث العلمي الذي يتم إما داخل نطاق المنشأة كما يحدث في الشركات الكبرى بالنسبة للأبحاث التطبيقية وأبحاث التطوير، أو تستعين المنشأة عن طريق العقود بمؤسسات البحث المتخصصة في حل مشكلات البحث واستغلالها.[66] خلافا لذلك، نجد أن معظم سكان الدول النامية لا يقدرون مجهودات الباحثين والعلماء، ويعتبرون البحث العلمي من الكماليات وأنه يفرض على الدولة اعتمادات ومصاريف وأجور إضافية مرهقة ومرتفعة جدا .[67]

ويعود تسرب الكفاءات الجامعية إلى الخارج، إلى ذلك التقصير الفادح في ارتباط التعليم العالي والجامعي بالاقتصاد العربي وبالتنمية الوطنية والقومية. فلازال مفهوم الجامعة عندنا تقليديا ورجعيا، أي أنها تزود الطالب بالعلم من أجل العلم ذاته، والثقافة من أجل الثقافة ذاتها. بيد أن العلم والتربية والبحث يجب أن توجه لخدمة المجتمع وإنهاضه وتطويره وإنمائه. ومن المعلوم أن الفشل في ربط نظام التعليم الجامعي باقتصاد البلد ومشاريع إنمائه، يؤدي إلى كثير من مظاهر بطالة الجامعيين، كما يؤدي إلى إحباط آمال الشباب الجامعي وتطلعاته المستقبلية في كل قطر عربي.[68]

يجعل هذا الواقع الاقتصاديات العربية اقتصاديات مادية جامدة، معتمدة على الكم فقط في وقت تم فيه الانتقال من التنافسية المبنية على المردودية والأثمنة وإنتاج الكم إلى التنافسية المؤسسة على الكيف والتجديد وتشخيص المنتوج، فهذه العناصر أصبحت تمثل أساس النجاح.[69] لذلك، تعطى الأهمية لمن يساهم في تهيئتها وتجسيدها على أرض الواقع. من هنا صارت المجتمعات التي تريد لنفسها التقدم إلى الأمام تركز على إعادة تأهيل العالِم المختص كوكيل للإنتاج في الاتجاه الذي يتحدد فيه نجاح أو فشل أي مشروع عبر القدرة على تجديد وابتكار منتوجات جديدة باستمرار.[70]في ظل هذه الشروط، أصبح العالم المختص هو العنصر المركزي في إستراتيجيات الدول والمقاولات التي تتواجه في السوق العالمية. وتتمثل أحد نتائج هذا التحول في الحركية الدولية الكبيرة لهذا الصنف من الأشخاص.[71] تخضع هذه الحركية لأمرين مهمين هما مدى القوة الاستقطابية لبلد الاستقبال ومدى القوة الطردية لبلد الانطلاق. فهؤلاء يغادرون نحو البلدان التي تسلك هذا الخط التنموي والاقتصادي عبر هذا المنحى الإنتاجي- البحثي- العلمي.

في واقع الأمر، إن البيئة تصبح طاردة بامتياز حينما ينتبه المختص -رغم مجهوده العلمي الشخصي- إلى أن ما يدرسه لا يمكنه من التأقلم مع واقعه لكون الميكانيزمات السوسيوسياسية والإدارية لا تتوفر على الوسائل الممكِّنة من تفعيل المستجدات العلمية التي يأتي بها العلماء والباحثون في مختلف التخصصات، وأن ما يأتون به سيكون عديم الجدوى إن لم تكن لهم علاقات وروابط مع النخبة الحاكمة تمكنهم من المواقع التي يطورون فيها ذواتهم.

ب) ارتباط التعليم العالي بالغرب

بالنظر للتبعية التي عانت منها الكثير من الدول النامية، فقد استمرت هذه الدول بالاعتماد على مؤسساتها التعليمية التي نشأت في عهد الاحتلال لتلبي حاجة الدول المتقدمة. ومن هنا فإن أكثر المناهج التدريسية في الثانويات والكليات هي امتداد للنظام التعليمي الذي أوجد في أيام الاحتلال ولا علاقة له بالاحتياجات الاجتماعية والتنموية للدولة.[72]

رغم ذلك، فالتعليم الجامعي لا يتحمل كامل المسؤولية في إحداث هجرة الخريجين. وإنما العامل التربوي بأبعاده يتحمل مسؤولية كبرى. أي أن النظم الجامعية الراهنة، بطبيعتها وأهدافها ومناهجها وبرامجها، لا تعد الطلاب لكي يكونوا قادة التطوير والإنماء في مجتمعاتهم العربية، الوطنية والقومية. وبكلام آخر فإن التعليم العالي ونظمه، لا يتحملون المسؤولية المباشرة للهجرة العلمية، لأن التعليم بحد ذاته، ليس سببا للهجرة، وإنما التخلف العام في المجتمع العربي- السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري- هو المسؤول الأول عن تخلف الكليات والجامعات ومعاهد البحوث وغيرها.[73]

كذلك، فالتعليم الجامعي بحد ذاته لا يعد الخريجين للهجرة، ولكن غياب المؤسسات الرفيعة المستوى، التي تستطيع أن تستوعب العقول الجامعية، هو الذي يدفع بهؤلاء للهجرة. ويعود السبب في غياب مؤسسات متقدمة إلى المجتمع المتخلف. وعندما يهاجر الجامعيون إلى الدول الغربية ، فإنهم يسافرون إما سعيا وراء مزيد من العلم أو التحصيل العلمي، أو مزيد من التخصص العالي والدقيق المركز، أو طلبا للعمل وللرزق. ولما كان المجتمع الغربي مجتمعا متقدما، فإنه يستطيع أن يستوعب الجامعيين العرب وغيرهم، نظرا لوجود مؤسسات تربوية وعلمية وتقنية واقتصادية واجتماعية رفيعة المستوى أو متقدمة، تستطيع بدورها أن تستوعب العقليات والمواهب الثمينة.[74]

ولعل أول ما يلاحظ في النظم الجامعية العربية هو أن البنى الجامعية القائمة حاليا، إما مستوردة، أو مقتبسة من البلدان الغربية الأوروبية أو الأمريكية. ويعود السبب في ذلك إلى أنه بعد أن استفاقت البلاد العربية من سباتها العميق، كغيرها من البلدان النامية، وجدت أمامها بنى جامعية قائمة في البلدان الأوروبية والأمريكية. فما كان من الأقطار العربية إلا أن اقتبست هذه البنى أو قلدتها أو حتى فرضت عليها. ولم يكن نشوء التعليم العالي والجامعي في الأقطار العربية، قائما على أساس دراسات علمية وميدانية لتلبية حاجات هذه الأقطار تلبية مباشرة، وإنما اقتبس اقتباسا أو قلد تقليدا، دون إجراء تغيير يذكر لكي يتواءم وحاجات المجتمع العربي.[75] كل ذلك جعل العديد من الجامعات سواء كانت رسمية أو خاصة بالمغرب وباقي العالم العربي مجرد وسيلة استنزافية للطاقات البشرية لبلاد الانطلاق، بمعنى أنها لا تشكل في أكثر الأحيان سوى قناة رابطة بين العروض البشرية للبلاد النامية ومتطلبات سوق العمل في الدول المتقدمة.

وهناك نوع آخر من المؤسسات في بعض الأقطار العربية، وهي مدارس وكليات وجامعات أجنبية أو ذات ارتباطات أجنبية قوية تعمل على الأرض العربية عامة والمغربية خاصة. وهذه المعاهد معروفة، أبرزها الجامعة الأمريكية في القاهرة،[76] وجامعة الأخوين في إفران.

في الواقع، إن برامج هذه المدارس والكليات، الظاهرة والمستترة، وما تتضمنه من معلومات ومعارف واتجاهات ومواقف، تعد الفرد وتدربه، بحيث يصبح عن قصد أو عن غير قصد، أكثر فهما ودراية وتكيفا مع المجتمعات الصناعية الأوروبية والأمريكية منه، من مجتمعه العربي. ومن هنا يصبح متطلعا أبدا إلى انتهاز فرصة الهجرة، بمجرد أن تسنح له، حيث يجد مجالات خصبة للعمل وتطبيق ما تعلمه وتدرب عليه.[77]

كذلك، فإن الأجواء والمناخات الفكرية والعلمية والأكاديمية والاجتماعية وغيرها- كلها- تساعد الطالب في هذه المعاهد، على الاغتراب الفكري والثقافي والحضاري، ومن ثم الابتعاد عن مجتمعه العربي. ففي الكليات والجامعات الناطقة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، فإنها تستعملها بشكل كلي في تدريس العديد من الشعب وخصوصا العلمية، كما أن اللغتين الإنجليزية والفرنسية هما لغتا غالبية الحلقات الدراسية والمؤتمرات والندوات العلمية والثقافية التي تقع ضمن إطار هذه المعاهد الرسمية والمقررة. كما تتضمن المكتبات ومراكز التوثيق كتبا ومصادر ومراجع ودوريات ومنشورات ومطبوعات غالبيتها باللغة الفرنسية أو باللغة الإنجليزية أو بهما معا. هذا ويخضع الطالب الذي يسعى إلى الدخول والالتحاق بالكلية أو بالجامعة إلى امتحان باللغة الإنجليزية، كي تتأكد إدارة المعهد من توفر الطلاب على مستوى لغوي معين. وما ينطبق على المعاهد الناطقة باللغة الإنجليزية، ينطبق أيضا على المعاهد الناطقة باللغة الفرنسية.[78]

فالطالب المغربي الذي يدرس في هذا النوع من المعاهد حيث الحرية التعليمية على أشدها، أو كاملة، يشعر، بالنتيجة، أنه في محيط أو بيئة ’’غريبة‘‘ أو ’’غربية‘‘- أمريكية أو فرنسية مثلا- في قلب مجتمع أو محيط عربي كبير. فالمعهد يعمل على الأرض العربية، إلا أن أفكاره وبرامجه وتطلعاته، سواء عن قصد أو غير قصد، ترنو إلى الخارج. فهو جسديا أو ماديا هنا، ولكن فكريا ومعنويا وحضاريا، وراء البحار أو عبر الحدود.[79]

يلاحظ بصفة عامة أن نظام التعليم السائد في الوطن العربي لا يتماشى كلية مع احتياجات التنمية لهذا الوطن من القوى البشرية المدربة.(…) فالجامعات تفتقر إلى المكتبات الغنية والمختبرات المجهزة تجهيزا كاملا، ولديها نسبة عالية من خريجي العلوم الإنسانية. وقد أدت الزيادة الكمية السريعة دون النوعية في التعليم، مقرونة بعدم كفايته لتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للوطن العربي، إلى العمالة الناقصة وإلى قدر من البطالة بين خريجي الجامعات، مما يؤدي بدوره إلى الهجرة للخارج. ورغم أن عدد الجامعات قد ازداد بشكل ملحوظ في العقدين الأخيرين، فإن طاقتها الاستيعابية لاتزال محدودة نظرا لارتفاع نسبة نمو السكان وارتفاع الطلب على التعليم،[80] مما يدفع العديد من الطلبة إلى الهجرة.

خاتمة:

في الختام تم التوصل للاستنتاجات التالية:

لائحة المراجع

أولا: المراجع باللغة العربية

 

ثانيا: المراجع باللغة الفرنسية

 

ثالثا: المراجع باللغة الأنجليزية

 

 

[1] Jacques Gaillard et Jean-Baptiste Meyer: Le brain drain revisité: De l’exode au réseau, in: Les sciences hors d’Occident au xx° siècle, Vlume 7, Paris, ORSTOM Éditions, 1996, p.331/341

[2] Voir: Dr. Abdalla bubatana: L’exode des cerveaux arabes, Traduit par: May Barakbi, UNEDBAS, Amman, Jordan, February 1988, p. 24

[3] Dr. Abdalla bubatana, op.cit, p.24

[4] Ibid., p. 23

[5] Piyasiri Wickramasekara: Les options politiques en réponse à la migration des compétences: Rétention, retour et circulation, in: La mobilité internationale des compétences, Sous la direction de Mihaela Nedelcu, Paris, Harmattan, 2004, p.171

[6] Voir: Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk: International Migration by Educational Attainment (1990-2000) -March 2005, in: http://perso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_ozdenschiff.pdf, consulté le : 10/5/2015, 00:30.

[7] Calcul realise à partir de: Ibid.

[8] Piyasiri Wickramasekara , op. cit., p.171

[9] Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk: International Migration by Educational Attainment (1990-2000) -March 2005, in: http://perso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_ozdenschiff.pdf, op. cit.

[10] Piyasiri Wickramasekara , op. cit., p.171

[11] Frédéric Docquier & Hillel Rapoport: Migration du travail qualifié et formation du capital humain dans les pays en développement : Un modèle stylisé et une revue de la littérature récente, Économie internationale 104,2005, p.6

[12] Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk: International Migration by Educational Attainment (1990-2000) -March 2005, in: http://perso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_ozdenschiff.pdf, op. cit. p.39

[13] Voir: Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk: International Migration by Educational Attainment (1990-2000) -Release 1.1, March 2005, in: http://perso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_ozdenschiff.pdf, op. cit., pp.31-39

[14] Voir: Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk: International migration by educational attainment- March 2005, in: perso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_Data.xls, consulté le 10 mai 2015 à 00: 05

[15] Calculs réalisés à partir de: PNUD: Rapport mondial sur le développement humain 2009: Lever les barrières: Mobilité et développement humains, Danemark, Pheonix Design Aid, 2009, pp. 211-212

[16] Calculs réalisés à partir de: Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk: International migration by educational attainment- March 2005, in: perso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_Data.xls, op. cit.

[17] Voir: INSEE: Contours et caractères: Les étrangers en France, INSEE, France, 1994, p.55

[18] A. Vinokur : De la mobilité des cerveaux, Formation-Emploi. n° 103, juillet-septembre 2006, p.1/2

IN: http://netx.u-paris10.fr/foreduc/publications/mobilite_cerveaux.pdf, consulté le: 13/6/2010, 13 :30

[19] Calculs réalisés à partir de:

1) Rupa Chanda: The Skilled South Asian Diaspora and its Role in Source Economies, Working Paper, No. 34 –22 January 2008, the Institute of South Asian Studies, National University of Singapore, p. 7

2) Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk: International migration by educational attainment- March 2005, inperso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_Data.xls, op.cit.

[20] A. Vinokur, op. cit., p.2

[21] Calculs réalisés à partir de: Richard H. Adams, Jr, op.cit., p.28

[22] A. Vinokur, op.cit., p.2

[23] Calculs réalisés à partir de:

[24] Voir: Rupa Chanda, op. cit., p. 7

[25] Mohamed Khachani: Les Marocains d’ailleurs: la question migratoire à l’épreuve du partenariat euro-marocain, Rabat, Association marocaine d’études et de recherches sur les migrations, 2004, p. 68.

[26] محمد الحاجي الدريسي، هجرة الكفاءات المغربية إلى الخارج،أطروحة لنيل الدكتوراه، كلية الحقوق بفاس، 2011 ص. 70

[27] نفس المرجع، ص 169

[28] عبد الناصر احمد عبد السلام البدراني: هجرة الكفاءات العربية: الأسباب والنتائج (العراق أنموذجا)، رسالة لنيل درجة الماجستير في العلوم الاقتصادية، الأكاديمية العربية المفتوحة في الدانمارك، كلية الإدارة والاقتصاد ـ قسم الاقتصاد، الدراسات العليا، الدانمارك ـ كوبنهاكن، آذار – 2009م، ص. 166

[29] عبـدالنـاصر احمـد عبـدالسـلام البـدرانـي، المرجع السابق ، ص. 82

[30] Voir: Philippe Moguéro: La mobilité internationale des docteurs, in: Matinée ANDÉS: Expatriation des docteurs : un choix de carrière, Institut de l’ENS, Paris, 10 Novembre 2007, p. 6. بتصرف

[31] Calculs réalisés à partir de Richard H. Adams, Jr.: International Migration, Remittances, and the Brain Drain: A Study of 24 Labor-Exporting Countries, Policy Research Working Paper 3 069, The World Bank, June 2003, P. 28.

[32] Voir: Philippe Moguéro, op. cit., p. 4

 

[33] أنظر: د.خالد السيد حسن: تقديرات نزيف العقول العربية وعوامل الطرد الإجتماعية-الاقتصادية المرتبطة به، في: التقرير الإقليمي لهجرة العمل العربية: هجرة الكفاءات العربية نزيف أم فرص؟ جامعة الدول العربية، إدارة السياسات السكانية والهجرة، القطاع الاجتماعي، القاهرة، 2008، ص. 35

[34] تم حساب واستنتاج معدل تطور هجرة الكفاءات انطلاقا من الأرقام المتوفر عليها في:

– Richard H. Adams, Jr., op.cit., p. 28

– Frédéric Docquier and Abdeslam Marfouk : International Migration by Educational Attainment (1990-2000) – Release 1.1, March 2005, in: http://perso.uclouvain.be/frederic.docquier/filePDF/DM_ozdenschiff.pdf, op. cit., p. 32

[35] تم حساب واستنتاج معدل تطور هجرة الكفاءات انطلاقا من الأرقام المتوفر عليها في:

1- جامعة الدول العربية: التقرير الإقليمي لهجرة العمل العربية: هجرة الكفاءات العربية نزيف أم فرص؟ إدارة السياسات السكانية والهجرة، القطاع الاجتماعي، القاهرة، 2008، ص. ت

2- Richard H. Adams, Jr., op.cit., p. 28

[36] Calculs réalisés à partir de: PNUD, op. cit., pp. 211-212

[37] هجرة الأدمغة المغاربية: استنزاف للقدرات وهدر للثروة، في: أسبوعية المتوسط ، العدد 17، السنة الأولى، 4-7-2009، ص. 2، في:

http ://www.mutawassit.com/pdf/17/P02.pdf, consulté le: 30/9/2010, 01:39.

[38] Samuel Kingue: Migration des personnels de santé: Données actuelles, proposition de solutions, in: http://www.fmsb.uninet.cm/media/download/MIGRATION%20DES%20PERSONNELS%20DE%20LA%20SANTE.pdf, consulté le: 10/05/2010, 12 :35.

[39] Voir: Michael A. Clemens and Gunilla Pettersson: Medical Leave: A New Database of Health Professional Emigration from Africa, Working Paper Number 95, The Center for Global Development, August 2006, p. 12.

[40] Statistics Canada: Current demographic situation in Canada, 2005 and 2006, in: http://www.statcan.gc.ca/pub/91-209-x/2004000/part1/international-eng.htm, consulté le: 16/12/2009, 12 :50.

[41] إذا كانت نسبة الجزائريين من الأدمغة المهاجرة إلى كندا إلى حدود سنة 2005 قد بلغت 2% فإن نسبة المغاربة ناهزت 3%، أنظر:

Tatiana-Roxana Nae: Migration, restrictions and the impact on labour market, in: Romanian Journal of Economic Forecasting – 3/2009, p. 179

[42] Citizenship and Immigration Canada: Facts and Figures 2006: Immigration Overview-Permanent and Temporary Residents , p. 33, in: http://www.cic.gc.ca/english/pdf/pub/facts2006.pdf, consulté le: 16/12/2009,12 :50.

[43] Anne Marie Gaillard et Jacques Gaillard: Les enjeux des migrations scientifiques internationales, Paris, Harmattan, 1999, p. 156

[44] IOM : World Migration 2003: Managing Migration – Challenges and Responses for People on the Move, p. 232, in:http://www.iom.int/jahia/webdav/site/myjahiasite/shared/shared/mainsite/published_docs/books/wmr2003/chap12p215_238.pdf, consulté le: 21/2/2007, 12 : 30

[45] د.إلياس زين: الجامعات في الوطن العربي وهجرة الأدمغة، في: حرية الثقافة العربية: هجرة الكفاءات العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1993، ص. 229

[46] د.إلياس زين، المرجع السابق ، ص. 229

[47] نفس المرجع، ص. 230

 [48] درده أحمد العلي: هجرة العقول العربية: أسبابها وسبل معالجتها بيروت، المنارة، ،2003 ص. 134

[49] UNESCO: Fuite des cerveaux: perdre pour gagner? L’éducation -Ajourd’hui, N°18, octobre 2006 – janvier 2007, p. 5

[50] Ibid., p. 6

[51] Driss Ksikes et Taoufiq Benkararche: Les migrants: Une force économique, Attachement et intérêt, Economia, n°6, Juin – Septembre 2009, p.  87

[52] Ibid., p. 88

[53] د.إلياس زين، المرجع السابق، ص. 231

[54] د.إلياس زين، المرجع السابق، ص.229

[55] UNESCO (2006), op. cit., p. 6

[56] د.إلياس زين، المرجع السابق، ص.227

[57]Voir: Charles Halary: Les exilés du savoir, Paris, Harmattan, 1994, p. 230

[58]

[59] د.إلياس زين، المرجع السابق، ص. 227

 [60] المهدي المنجرة: قيمة القيم، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء.،2007، ص. 133

 [61] درده أحمد العلي، المرجع السابق، ص. 42

[62] نفس المرجع، ص. 34

[63] نفس المرجع، ص. 32-33

[64] نفس المرجع، ص. 247

[65] أنظر: المهدي المنجرة: عندما تتوفر الديمقراطية ممثلو الشعب سيجيبون عن سؤال الأزمة، جريدة العدالة والتنمية، الاثنين/الثلاثاء 21/22يناير2008، العدد: 72، ص. 9،

[66] د.حسام مندور: الطاقة العلمية العربية بين الكفاءة والتبديد، في: حرية الثقافة العربية: هجرة الكفاءات العربية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993، ص. 246

[67] درده أحمد العلي، المرجع السابق، ص. 61

[68] د.إلياس زين، المرجع السابق، ص. 236

[69] Hocine Khelfaoui: Emigration des scientifiques en Algérie: Origine et évolution, in: La migration Sud-Nord: La problématique de l’exode des compétences, Fondation Hassan II pour les marocains résidants à l’étranger, actes du colloque organisé à la faculté de droit-Agdal, Rabat, les 27-28 avril 2001, Salé, ImprimElite, 2002, p. 70

[70] Ibid., p. 71

[71] Ibidem., p.71

[72] د.سلمان رشيد سلمان: نظرة أولية على هجرة الأدمغة العربية، في: حرية الثقافة العربية: هجرة الكفاءات العربية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993، ص. 210

[73] د. إلياس زين، المرجع السابق، ص. 231

[74] نفس المرجع، ص.232، بتصرف

[75] نفس المرجع، ص.234

[76] نفس المرجع والصفحة

[77] نفس المرجع والصفحة، بتصرف

[78] نفس المرجع، ص.235، بتصرف

[79] نفس المرجع والصفحة

[80] د. تيسير عبد الجبار: مشكلة هجرة الكفايات من بلدان المشرق العربي، في: حرية الثقافة العربية: هجرة الكفاءات العربية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1993، ص. 192

Exit mobile version