Site icon مجلة المنارة

معوقات التنزيل السليم للجهوية المتقدمة مقاربة قانونيةّ/ نقدية

 

إذا كانت الجهوية تمثل سياسة تنموية تهدف لتحقيق النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي للمواطن في مختلف مجالات الحياة، فإن الجهوية المتقدمة تشكل ذلك الامتداد الطبيعي والمستمر لهذا الأسلوب من التدبير الترابي والتنموي، وإن كانت تشكل مستوى أرقى من الجهوية التقليدية سواء على مستوى التأطير القانوني أو توزيع الصلاحيات والموارد. ولعل الإقرار الدستوري لسنة 2011[1] للجهوية المتقدمة يمثل محاولة لإرساء دعائم تجربة رائدة في المجال التنموي، مستفيدا من التراكم الحاصل منذ تجربة الجهات الاقتصادية لسنة 1971 مرورا بتجربة التنظيم الجهوي في ظل القانون (96/47)[2]  و التي تشكل بحق حلقات منتظمة يمكن الاستفادة منها في اعتماد هذه التجربة، إن أخضعت للتشريح الموضوعي للاستفادة من مختلف الاختلالات والعوائق التي شابتها في كل فترة من فترات  تنزيلها، وإن توفرت الإرادة السياسية من أجل إصلاح حقيقي للبنية الجهوية.

إن العمل على تنزيل منظومة الجهوية المتقدمة تحده عدة معيقات، إحداها مرتبط بمأسسة مشروع الجهوية المتقدمة (المطلب الأول) أما الأخر فهو ذا ارتباط  بأدوات وعناصر تنزيلها (المطلب الثاني)، وهي في المجمل اكراهات لها ارتباط بنيوي وعضوي يلامس في جوهره منظومة الجهوية المتقدمة، كما يشكل مقياس أساسي للحكم على مستقبل هذه التجربة ومدى تناسبها للبنية الجهوية المعتمدة من جهة، وقدرتها على استيعاب والتلاؤم مع منطق “الخصوصية المغربية” الذي أطر مختلف مراحل إعداد وصياغة وبلورة تصورها من جهة ثانية.

المطلب الأول: معوقات ذات الارتباط بمشروع الجهوية المتقدمة

يشكل الإطار القانوني المنطلق الأساسي لتنزيل الجهوية المتقدمة، ومن شأن عدم ملائمته لهذا التوجه – لتدبير التراب- أن يمس الإعمال السليم له (الفقرة الأولى)، كما من شأن عدم رصد الموارد المالية الكافية للانخراط في انجاز المشاريع التنموية أن يعمق من اكراهات هذه التجربة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الحدود القانونية

يمكن توزيع الحدود القانونية إلى مستويين أساسيتين:

1)- تأخير إصدار القانون التنظيمي للجماعات الترابية: مضت سنتين على إصدار دستور 2011 دون أن يرفقه  تنزيل القانون التنظيمي الخاص بالجماعات الترابية، الذي سيتولى شرح المقتضيات الدستورية التي تضمنها الدستور خصوصا في الباب الأول (الفصل 1)”…التنظيم الترابي في المملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”، و الباب التاسع الخاص بالجماعات التربية، على اعتبار أن الدستور يتضمن مقتضيات عامة تتولى القوانين التنظيمية والقوانين العادية شرحها.

لقد قاربت فترة الانتداب الحكومي على بلوغ نصف مدة ولايتها دون التوفيق في إصدار القانون التنظيمي للجماعات الترابية، مع العلم أن التوجهات الكبرى للجهوية المتقدمة قد حددتها عدة خطب ملكية (إحالة للخطب) إضافة إلى تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية الصادر سنة 2011[3]، والعديد من التوصيات المتمخضة عن الندوات واللقاءات العلمية ذات الارتباط بالموضوع. ومن شأن مزيد من التريث في إصدار القانون التنظيمي للجماعات الترابية أن يؤثر في مسألة تنزيل المقتضيات الدستورية في الآجال المحددة[4] من جهة، وأن يؤخر التجسيد الفعلي لورش الجهوية المتقدمة من جهة ثانية، خصوصا ما يعقد عليها من رهانات في تعزيز مسلسل الإصلاح أو في تكريس الديمقراطية المحلية.

2-) تحوير المنظومة القانونية: لقد جاء دستور 2011 في بابه التاسع بمقتضيات عامة قد تنسجم مع متطلبات المرحلة المزمع الانخراط فيها، غير أن السؤال المطروح هل سيضمن القانون التنظيمي للجماعات الترابية المراد اعتماده أسس التنزيل السليم للمقتضيات الدستورية بشكل يسمح بتوفير مقومات الأجرأة؟.

يبقى السؤال مفتوحا إلى حين توفر عناصر الإجابة عليه، غير أن ذلك لا يمنع من طرح ملاحظات ترتبط بذات الإشكالية:

فبالنظر للاختلالات التي عرفتها التجارب الجهوية الماضية، يأتي الإصلاح الدستوري الحالي للحد من بعض المعوقات القانونية والإدارية و المالية والتنظيمية التي استنزفت التجارب السابقة، غير أن غياب الإطار القانوني المنظم للجهوية المتقدمة يطرح مزيدا من الغموض حول منهجية العمل الحكومي من جهة، وكيفية قولبت المقتضيات الدستورية ضمن إطار قانوني يحدد مختلف الشروط والإجراءات المصاحبة لها ثم الأحكام المفسرة والموضحة لذلك.

وإذا ما خضنا في الحديث عن مآل التنزيل الدستوري للجهوية المتقدمة ضمن المنظومة القانونية التي تقتضي بطبيعة الحال منحها الشرح الكافي و الشامل مع تحديد مختلف إجراءات وشروط ومبادئ تنزيلها، فإن الأمر يستدعي الحرص والدقة الشديدين سواء على مستوى صياغة مفردات النصوص القانونية أو على مستوى مضامينها، بعيدا عن الصياغة الفضفاضة و العامة التي طبعت فصول القانون الجهوي (96/47) وباقي النصوص المؤطرة للجماعات الترابية، بالإضافة إلى القطع مع تداخل الاختصاصات بين الدولة والجهة من خلال تكريس “مبدأ التفريع” الذي نص عليه الفصل (140) من الدستور، والذي يشكل مبدأ أساسي لتنظيم توزيع الاختصاصات والصلاحيات بين الدولة والجماعات الترابية، ومرتكزا لتجاوز الغموض الذي يطبع تدخلات الجماعات الترابية في علاقتها مع السلطة المركزية وممثليها المحليين.

من جانب آخر تطرح مسألة أجرأة المقتضيات الدستورية ضمن المنظومة القانونية عدة صعوبات ترتبط غالبا بكفأة المعنيين بالتشريع وقدرتهم على خلق التوازن المفقود بين الآمال المعلقة على المنظومة القانونية المؤطرة للجهوية المتقدمة و التحديات المرتبطة بهشاشة البنية التي ستعمل عليها هذه الأخيرة. وهو ما يعني أن الدستور الجديد أقر مجموعة من التدابير والمقتضيات الحديثة على التدبير الجهوي المغربي، وكذلك منح اختصاصات أوسع للمجالس المنتخبة مقارنة مع سابقاتها من قوانين قصد الاضطلاع بأدوارها على أكمل وجه، وقد جاء ذلك من غير اعتماد إجراءات سابقة لتهيئ أسس الأرضية التي تسمح بتنزيل سليم للجهوية المتقدمة، خصوصا وأن هشاشة البنية الجهوية الحالية لا تقبل الانخراط في هذا المستوى المراد اعتماده من التجارب الجهوية، نظرا للاختلالات البنيوية التي تعاني منها الإدارة والبنية الجهويين، مما قد يدفع المشرع إلى تقييد الاختصاصات الممنوحة للمجالس المنتخبة بتوفر شروط –منها ما يصعب توفره- في من يمنحهم القانون صلاحية إعماله، وهو ما يحيل استنادا إلى نفس النصوص القانونية صلاحية تنفيذ القانون إلى ممثلي السلطة المركزية بالعمالة أو الإقليم كما ينص على ذلك الفصل (145) من الدستور.

ومن بين تلك المقتضيات التي تمثل رافعة في التوجه الجهوي الحالي وأحد المرتكزات التي ستميز هذه التجربة الجهوية عن مثيلاتها – إن لم تزغ عن السياق الذي أريدت له- نذكر على سبيل المثال لا الحصر: ” منح الصلاحية التنفيذية لمقرارات المجالس المنتخبة لرؤساء المجالس– مبدأ التدبير الحر – المراقبة الإدارية….”، غير أن المشرع قد يجهز على المكتسبات الدستورية عبر تضمين النصوص القانونية والتنظيمية ذات العلاقة بالجماعات الترابية بشروط تطبيق وممارسة هذه الصلاحيات وهو ما أحال عليه الفصل (146) من الدستور، وتشمل هذه الشروط بالأساس “كيفية ممارسة الصلاحية التنفيذية لمقرارات المجالس المنتخبة – مرتكزات مبادئ التدبير الحر – حالات اللجوء إلى المراقبة الإدارية البعدية عوض الرقابة القبلية….”. ومن شأن هذا التقييد القانوني أن يمس في العمق روح التجربة الجهوية الحالية، و يفتح المجال أمام جعل البنية الجهوية في ظاهرها تعرف وضع متقدم وفي باطنها لم تتجاوز أزمة التدبير التقليدي.

الفقرة الثانية: غياب التمويل الكافي

يرتبط في الغالب إنجاح أي مشروع تنموي بتوفير الموارد المالية اللازمة له، وإذا كانت الجهوية المتقدمة تندرج في صلب الاهتمام التنموي الرامي إلى خلق إقلاع ونمو اقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي…، فإن الدولة ملزمة برصد الاعتمادات اللازمة للجهات من أجل الاضطلاع بدورها في انجاز مختلف المشاريع التنموية التي ترى فيها فائدة على الساكنة المحلية و رافعة للتنمية المندمجة.

إن التنصيص الدستوري على مبدأ ربط نقل الصلاحيات بالمواد اللازمة لها (الفصل 141) يمثل بحق نقلة يشهدها الوضع الجهوي المتقدم، باعتباره يمثل أحد أوجه التمويل التي تضمن انخراط الجهات وباقي الجماعات الترابية باضطلاعها السليم في تنفيذ البرامج التنموية، ويكرس أيضا التزام الدولة بتوفير ما يتطلبه القيام بالاختصاصات المنقولة منها في اتجاه الجماعات الترابية. ويمثل هذا الإقرار إلى جانب إحداث صندوق للتأهيل الاجتماعي(الفصل 142) المخصص لتغطية نفقات البنيات التحتية والتجهيزات ولسد مظاهر العجز في التنمية البشرية، يمثل آليات أساسية من أجل التغلب على العديد من النفقات التي يتطلبها الارتقاء بالتنمية الجهوية.

كما يشكل إحداث صندوق التضامن بين الجهات إحدى الوسائل الأساسية من أجل توفير الدعم المالي لتغطية نفقات المشاريع التنموية الأساسية من جهة، وتقديم المساعدة المادية للجهات المحدودة الإمكانيات من جهة ثانية. إلا أن الموارد المرصود له قد لا توفر القدر الكافي من الموارد المادية المطلوبة، نظرا لتعدد المشاريع التنموية التي انخرطت الجماعات الترابية في تبنبها، ينضاف إلى ذلك  محدودية الموارد المالية لهذه الأخيرة، ما يجعلها تعرف حالة عجز دائم تتطلب تدخل الجهات المركزية لإنقاذها من الأزمات التي تتخبط فيها نظير ضعف التسيير أحيانا و التبذير أحيانا أخرى، من خلال إنفاق الميزانية في غير متطلبات الجهة والساكنة المحلية وهو ما يتنافى ومطلب الحكامة المالية.

يعتبر أحد الباحثين[5] أن إضفاء “الخصوصية المغربية” على الجهوية المتقدمة يتضمن معنيين أحدهما إيجابي يتمثل في احترام الخصوصيات الثقافية والاجتماعية و الجغرافية للجهات، والأخر سلبي يتجسد في الحفاظ على نفس مستوى التمويل المرصود للجهات خلال التجربة الجهوية الماضية. ويحيل هذا التحليل إلى الاضطراب أو التناقض الذي يكتنف تنزيل الجهوية المتقدمة خصوصا في شقها التمويلي، ويبرز هذا التناقض الرغبة في إضفاء ديناميكية و نقلة نوعية لهذا الوضع مقارنة بما سبق من تجارب للتدبير الجهوي مع المحافظة على نفس المنسوب التمويلي، وهو ما يهدد استقرار دعائم هذه التجربة ما لم يبحث عن مصادر تمويل دائمة وذات قدرة على توفير الاكتفاء للجهات خصوصا المحدودة الموارد. ويعزى قصور الموارد المالية وقلتها في الغالب إلى نوعية الضرائب والجبايات التي يأذن القانون للمجالس الجهوية الاستفادة من منها من جهة و إلى اختلاف المجالات الترابية  خصوصا على مستوى تركيز الأنشطة التجارية والصناعية من جهة ثانية.

إن واقع التمويل الذي طبع التجربة الجهوية الماضية من الممكن أن يراوح المراحل الأولية لتنزيل مشروع الجهوية الحالية، نظرا لغياب عناصر أو إشارات تفيد بتغيير طريقة التمويل أو حجمه ماعدا المقتضى الدستوري القاضي بإحداث صندوق التضامن بين الجهات الذي سيحدد شروط وإجراءات إعماله القانون التنظيمي للجماعات الترابية، أو تلك المرتبطة بتقرير اللجنة الاستشارية للجهوية الذي يفتقر للصبغة التقريرية ما لم تضمن مقتضياته في القانون التنظيمي للجماعات الترابية.

وإن كان مبدأ التضامن يشكل أحد مرتكزات الجهوية المتقدمة كما جاء في الخطاب الملكي لتنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية، وأقره الباب التاسع من الدستور في فصله (140)، فإن مدركات المرحلة تتطلب تحولا عميقا في تحديد منابيع لتوفير التمويل بدل الاكتفاء بتحيين النصوص القانونية التي تكون في بعض الأحيان متجاوزة للواقع، وكأن القانون يتلاءم مع بنيات تتوفر في مجال جغرافي غير الذي صيغت من أجله.

وإذا كانت اللجنة الاستشارية للجهوية قد قدمت العديد من المقترحات ذات الارتباط بالشق التمويلي تعكس المجهودات المبذولة من أجل خلق تصورات لتجاوز أزمة التمويل الحالي و تقديم بدائل حقيقة تستشرف مستقبل التدبير التنموي في مختلف البنيات الجهوية قصد النهوض بالتنمية الشاملة، فان الرؤية المضمنة بتقريرها قدمت مقترحات للنهوض بالتنمية البشرية و الانخراط بكيفية فعلية و مسؤولة في التنمية المندمجة بكافة مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية والبيئية:[6]

وتنم هذه التوصيات في عموميتها عن المجهودات المبذولة من قبل أعضاء اللجنة في تشريح الوضع الراهن و تقديم تصورات عملية لتجاوز العجز الذي يطال تمويل المشاريع التنموية، من خلال اقتراح الرفع من نسبة الموارد الذاتية للجماعات الترابية أو تلك المنقولة لها من قبل الدولة أو تلك المقترنة بممارسة اختصاص معين، غير أن الإشكال المطروح هل الميزانية العامة للدولة قادرة على تحمل مختلف التوصيات المضمنة بتقرير اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة في شقها التمويلي؟.

وإذا ما قارنا ملامح التوجه الحالي مع ما سبقه من تجارب جهوية في بعض الدول خصوصا ايطاليا وألمانيا، فيمكن القول أن تمويل “النموذج الجهوي الايطالي” لا يتمتع بسلطة جبائية حقيقية نظرا لضعف مواردها الذاتية التي لا تتجاوز %1[7] من مواردها المالية، مما يجعل الدولة تتدخل لتغطية حاجياتها المالية من خلال تحويلها لحصص كبيرة من الضرائب العامة تصل إلى %85  توزع على الشكل التالي:[8]

أما بالنسبة للنموذج الجهوي الألماني فانه يقوم على منح استقلالية مالية للاتحاد والأندر، من خلال تحديد مجالات الضرائب الخاصة بكل طرف حسب منطوق الفصل (106) من الدستور الألماني، الذي يعمل على التحديد الحصري للضرائب التي تؤول للاتحاد في الفقرة (1) منه، وهي:

أما الإيرادات التي تعود حصرا للأندر حسب منطوق الفقرة (2) من الفصل (106) فهي:

وبخصوص توزيع الإيرادات المشتركة بين المستوى مركزي و المستويات اللامركزية وجب الإشارة إلى أن إيرادات الضريبة على الدخل و الشركات توزع بحكم الدستور مناصفة بنسبة%  42.5 وتحصل المراكز و الدوائر و الجماعات على%  15 المتبقية، في حين يتولى قانون فيدرالي تقسيم الضريبة على القيمة المضافة بين الاتحاد والولايات بناءا على عدد سكان الولايات.

وبذلك يمكن القول أن القول أن واقع التمويل بالنسبة للنماذج الجهوية في البلدان الأوروبية السالفة الذكر، والتي تأخذ بنظام متقدم للجهوية رغم تباين خصوصيات كل منهما، إلا أن الاجتهاد في كيفية توزيع الموارد المالية ينم عن الاستغلال الجيد والايجابي للتراكم الذي حققه هذا الأسلوب من التدبير رغم التحديات التي تعتري هذا النظام في بعض مستوياته.

 

 

 

المطلب الثاني:معوقات ذات الارتباط بأدوات وعناصر التنزيل

يشكل العنصر البشري رافعة حقيقة للنهوض بالتنمية الشاملة وأحد المرتكزات التي تأسس عليها هياكل الدولة الحديثة، ومن شأن تولي منتخبين لا تتوفر فيهم شروط تكاملية مع المشروع المقترح أن يعمق حدوده (الفقرة الأولى)، كما من شأن الانخراط الجزئي في مقاربة أسلوب اللاتمركز الإداري أن يعطل من انطلاقة حقيقة للجهوية المتقدمة و يحد من غايات إحداثها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: ضعف الهيئة المنتخبة

يمثل العنصر البشري الرأسمال الحقيقي لإنجاح أي تجربة تنموية نظرا للدور المحوري الذي يتولاه، خصوصا وأن التنمية بمدلولها العام توحي بتنمية الإنسان بالإنسان وللإنسان، وهو ما يعني أن الوضع الذي يحتله العنصر البشري ضمن المشاريع الإصلاحية يشكل دافعا ورافعة لإنجاحه. ولأن الوضع الجهوي المتقدم يهدف إلى إضفاء ديناميكية جديدة في مجال تدبير التنمية الجهوية، فإن ذلك يتطلب إيلاء عناية في اختيار المسؤولين عن تسيير المجالس الجهوية بصفة خاصة وباقي مجالس الجماعات الترابية الأخرى بصفة عامة، نظرا للدور الذي يلعبه التسيير في إنجاح هذه التجارب من دونه، خصوصا وأننا أمام وضع جهوي متقدم سواء على مستوى الاختصاصات أو على مستوى آليات أجرأتها، ويساهم اختيار المنتخب الكفء في إرساء مرتكزاته وفي تدعيم أسسه.

لقد أبان الواقع أن فئة من المنتخبين هي المستأثرة بتدبير الشأن الجهوي والمحلي والمتحكم الأساسي فيه طيلة عقود، ويمثل الاحتفاظ بهذه الفئة في تولي تدبير الشأن الجهوي الحكم بإفشال هذه التجربة قبل الشروع في تفعيلها، وتستمد هذه الفئة شرعيتها من الأحزاب السياسية التي تشكل المصدر الأول و الأساسي في منح التزكية لأي مرشح ترى فيه الأصلح للظفر بمباركة الحزب و الشروع في خوض فصول الانتخابات المحلية و الجهوية تحت غطائه السياسي. وعليه، فان الأحزاب السياسية تتحمل مسؤولية كبيرة في اختيار من سيخوض الأشواط الانتخابية بانتمائها السياسي و الذين يجب أن تتوفر فيهم شروط تولي مسؤولية تدبير الشأن الجهوي والمحلي، وأهمها مستوى التكوين والاستحقاق، على اعتبار أن التغيير الذي طال أسس التدبير الجهوي يجب أن يشمل المنظومة بأكملها، لآن إهمال أي عنصر من العناصر المتحكمة في عملية التدبير من شأنه التأثير على النتائج المنتظرة من هذه التجربة الجهوية.

وبالنظر لما عرفته التجربة الجهوية الماضية من اختلالات نجم عنها إهدار كبير للطاقات الوطنية و المادية للدولة عمقت من تداعيات أزمة التدبير، وذلك نظير تظافر عدة عوامل، يمثل ضعف الهيئة المنتخبة أحدها بحكم افتقار معظمهم للشروط الأساسية لتولي مسؤوليات التسيير الإداري و التدبير الاستراتيجي والأنشطة و المشاريع المزمع انجازها ارتباطا بحاجيات الساكنة المحلية. ومن شأن تخويل تدبير تجربة الجهوية الحالية لهيئة منتخبة غير مناسبة، لعدم تمتعها بمؤهلات تتناسب وطبيعة المرحلة، من شأنه تعميق الاختلالات التي تعاني منها البنية الجهوية على مختلف الأصعدة، الأمر الذي يتطلب من المشرع وضع شروط تتناسب ومقتضيات المرحلة المتقدمة وبما يضمن الاضطلاع الحقيقي بالاختصاصات والأدوار التي منحها الدستور للمجالس المنتخبة والمسؤولين عن تسييرها، مع ضرورة تحمل الأحزاب السياسية لمسؤوليتها في هذا الشأن. علما أن الوضع الجهوي المتقدم انتقل من منطق التسيير الإداري والمالي إلى منطق التدبير الحديث المرتكز على نضج الرؤية التنموية وفعالية ونجاعة التدخل في تدبير الشؤون الجهوية مع الحفاظ على المؤهلات الجهوية من خلال حسن تدبير مواردها وطاقاتها.

ولعل من بين الشروط الواجب على المشرع تضمينها في شروط تولي المسؤولية، سواء رئاسة المجلس أو بالنسبة لأعضاء المكتب المسير الحصول على شهادة عليا سواء جامعية أو من كليات الهندسة أو من أحد المعاهد العلمية أو التقنية تتناسب وحجم المسؤولية الملقاة على المسؤول المحلي أو الجهوي، إضافة إلى شرط السن الذي يلعب بدوره أهمية كبيرة في إضفاء حركية و ديناميكية على مستوى فعالية تدبير الشؤون المحلية والجهوية[9]. ولقد شدد الخطاب الملكي لتنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة على الحرص في تخويل تدبير الشؤون المحلية والجهوية للكفاءات المؤهلة بقوله: “…انبثاق مجالس ديمقراطية، لها من الصلاحيات والموارد ما يمكنها من النهوض بالتنمية الجهوية المندمجة. فجهات مغرب الحكامة الترابية الجيدة، لا نريدها جهازا صوريا أو بيروقراطيا، وإنما مجالس تمثيلية للنخب المؤهلة لحسن تدبير شؤون مناطقها.

إن نتائج التدبير تحدد من منطق التسيير، فإن احتفظ بنفس الفكر التقليدي للتدبير الجهوي، فمستوى المردودية لن يرقى إلى ما سيُحَصل عليه بتولي كفاءات قادرة على العطاء و الإبداع و خلق طفرة على مستوى الأداء والمردودية.  ولعل الجهوية المتقدمة قد تكون تجربة مهمة ونموذج يحتذى به على مستوى التصور غير أن تولي إدارتها من قبل الفاعلين غير المعنيين أو غير المناسبين  يحكم عليها بالفشل”.

 

الفقرة الثانية: الإعمال المختل للاتمركز الواسع

يشكل اللاتمركز الواسع أحد مرتكزات الجهوية المتقدمة، و أحد المبادئ الأساسية التي من شأنها إعطاء دفعة نوعية لمسلسل الجهوية المتقدمة بالمغرب. من خلال تمتيع المستويات الترابية بهامش واسع من المبادرة و بسلطات تقريرية فعلية بحيث تتناسق و تتضافر مجهوداتها في صالح التنمية المندمجة بأقرب ما يكون من السكان و منتخبيهم. ذلك أنه رهين بالترسيخ المعياري والعملي لمبادئ تتصل بتصور السياسات العمومية وتفعيلها وبرصد الموارد البشرية والمالية وتدبيرها الأمثل و التنسيق الناجع للعمل العمومي على كل مستوى ترابي تتدخل فيه الدولة[10].

فالخطاب الملكي لتنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية بتاريخ 3 يناير 2010 قد شدد على: “…انتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية دون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجعة قائمة على التناسق والتفاعل…”، وينبع هذا التصريح من القصور الذي يسود النموذج الحالي للاتمركز في العديد من أوجهه، نتيجة تضافر عدة أسباب سواء القانونية منها أو الإدارية أو التنظيمية أو السياسية، والتي أثرت في تعطيل العديد من الأوراش الإصلاحية التي انخرطت فيها الدولة، وإن كان بعضها ذا بعد و قيمة حقيقيين إن استدرك معالجة الاختلالات التي طالت أسلوب اللاتمركز الإداري و تحينه مع التطور الذي تعرفه اللامركزية الإدارية.

إن عدم التركيز الإداري ينبغي أن يكون موضوع ميثاق[11]، وهو ما أكده الخطاب الملكي 6 نونير 2008 “…يتعين على الحكومة أن تقوم بإعداد ميثاق وطني للاتمركز يشكل قطيعة حقيقية مع المركزية المتحجرة…”، كما اعتبر خطاب تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة أن إعداد هذه الوثيقة من الشروط الضرورية لتطبيق الجهوية المتقدمة كمنطلق “لمسار طويل وشاق”، حيث طلب من الحكومة أن تنكب بالموازاة مع أعمال اللجنة على إعداد ميثاق لعدم التركيز، وهو ما استجابت له الحكومة إراديا من خلال تضمينها له في برنامجها الحكومي وجعله صلب اهتماماتها و أولوياتها: “… وذلك من خلال التعجيل بإصدار ميثاق للاتمركز باعتباره ورشا مهيكلا يروم تحقيق تحول نوعي في أنماط الحكامة وتوجها مهما لتطوير وتحديث هياكل الدولة وإعادة تنظيم الإدارة الترابية بما يكفل تناسق عملها والاستجابة عن قرب للحاجيات المعبر عنها محليا وذلك بتخويلها السلط والصلاحيات والإمكانيات التي من شأنها وضع نظام فعال  للإدارة اللاممركزة التي سيتم تجميعها في بنيات لتحقيق التكامل والاندماج بين مختلف القطاعات العمومية…”[12]

يمثل ميثاق اللاتمكز الإداري الوسيلة لممارسة اللاتمركز الواسع، والبنية التي ستشمل انطلاق هذا الورش الهام لكونه لا يؤسس فقط للانخراط في تفعيل الجهوية المتقدمة وإنما في تحديث هياكل الدولة أيضا. غير أن ما قد يؤزم الوضع هو الاقتصار على انتهاج “اللاتمركز الموسع” بدل “اللاتمركز الواسع” حيث تختلف مدلولات ووظائف كل توجه منهما. فان كان التوجه الأول “اللاتمركز الموسع” يقضي بإجراء بعض التغييرات البسيطة على المنظومة المعمول بها حاليا سواء على مستوى الوسائل أو البنيات أو على مستوى السلط و الصلاحيات، فإن التوجه الثاني “اللاتمركز الواسع” يرتكز على إجراء تغيير شامل للبنية الحالية مع إخضاعها للتكييف لتتلاءم مع مختلف الأوراش المفتوحة قصد إضفاء فعالية ليس فقط على التدخلات العمومية للفاعلين المحليين والجهويين و إنما أيضا لتمكين ممثلي الإدارات اللاممركزة من الاضطلاع بأدوارهم بشكل سليم و جيد وبما يتناسب سواء مع المهام و المسؤوليات الملقاة عليهم أو مع خصوصيات النطاق الجغرافي لنفوذهم. وبذلك فإن المستوى الأول “اللاتمركز الموسع” يتميز بجزئية الإصلاح الذي سيطاله ومحدودية آثاره، أما المستوى الثاني “اللاتمركز الواسع” فيصبغ صفة الشمولية على بنيته و السرعة في إعماله والفعالية على مستوى أجرأته.

ومن شأن عدم الانخراط في بلورة حقيقية لتوجه اللاتمركز الواسع بما يختزنه هذا المستوى من التدبير من آليات للأجرأة ووسائل للعمل، من شأنه أن يؤثر في التنزيل السليم للجهوية المتقدمة و يعطل المشروع التنموي المعتمد من جهة، وأن يؤخر الاندماج السلس بين التوجهات الإصلاحية و المنطلقات المؤسسة لهياكل الدولة من جهة ثانية. كما من شأن عدم توفير الوسائل القانونية والتنظيمية و الموارد البشرية و التقنية من شأنه إفراغ هذا المستوى من محتواه خصوصا وأنه يشكل رافعة حقيقية للتجسيد الفعلي للجهوية المتقدمة.

وما تجدر الإشارة إليه أن اللاتمركز الواسع يعد وسيلة أساسية للدفع بالجهوية المتقدمة لتتبوأ مقاصدها، و أن تسهم في ضمان إنعاش اقتصادي ورفاه اجتماعي بما يوفر من نمو وإقلاع تنمويين إن استدرك معالجة أوجه قصوره، أما إذا ساد حكم الانتظارية على مطلب الإصلاح المرتقب، أو أنه لم يرقى إلى ما تتطلبه أسس ومرتكزات هذا التوجه، فانه سيؤدي إلى  تعطل تجربة الجهوية المتقدمة.  تبعا لمبدأ “أن اختلال وسائل الإصلاح تشل الغاية منه”.

انطلاقا مما سبق يمكن القول أن النموذج الجهوي المقترح تحذوه العديد من المعيقات والاكراهات التي قد تحد من فعاليته و قد تنحو في اتجاه إفشال تجربة الجهوية المتقدمة إن لم تتخذ التدابير اللازمة لإضفاء أسس و مقومات سليمة وديناميكية حقيقية للارتقاء بها و الكفيلة بمنحها المكانة التي أنشأت من اجعلها. وان كانت الأسس القانونية والمقومات المالية تشكل أسس صلبة لتنزيل الجهوية المتقدمة وجب إعادة النظر و بكيفية جذرية في المنظومة المعتمدة خلال التجربة السالفة و تكييفها مع المستجدات الحالية، فإن العناصر المرتبطة بالهيئة الناخبة و باللاتمركز الواسع لا تقل أهمية عنها باعتبارها من الوسائل التي  تذكي عليها خاصية الفعالية والنجاعة إن أحسن تنزيل الإصلاحات  ذات الارتباط بها.

[1] – ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في (27 شعبان 1432) الموافق 29 يوليوز 2011 المتعلق بتنفيذ الدستور، جريدة رسمية عدد 5964 مكرر الصادرة بتاريخ (30 يوليوز 2011).

[2] – ظهير شريف رقم 84-97-1 صادر في 23 ذي القعدة 1417 الموافق ل( 2 أبريل 1997) بتنفيذ القانون رقم 96/47 المتعلق بتنظيم الجهات، جريدة الرسمية عدد 4470 الصادرة بتاريخ 24 ذي القعدة 1417 الموافق ل 3 أبريل 1997 ص: 556-570.

[3] – تقرير حول الجهوية المتقدمة، اللجنة الاستشارية للجهوية، المملكة المغربية، سنة 2011.

[4] – ربطها الفصل 86 من الدستور الحالي بانتهاء الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ الدستور.

[5] – محمد اليعكوبي، الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية، مجلة مسالك في الفكر والسياسة والاقتصاد، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، عدد مزدوج 17-18، 2011، ص:11.

[6] – تقرير حول الجهوية المتقدمة، اللجنة الاستشارية للجهوية، المملكة المغربية، سنة 2011، الكتاب الأول التصور العام، ص: 30-31.

[7] – رشيد عدنان، تجربة الجهوية الموسعة بايطاليا، سلسلة اللامركزية والإدارة الترابية، عدد 19، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الثالثة، 2012، ص: 195.

[8] – نفس المرجع، ص: 196.

[9] – وهي شروط لم يأخذ بها المشرع –رغم أهميتها- مكتفيا بالتنصيص في المادة 4 من القانون التنظيمي رقم 11/59 على :”يشترط في من يترشح للانتخابات أن يكون ناخبا ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية” ظهير شريف رقم 1.11.173 بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 11/59 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية، صادر بتاريخ (24 ذو الحجة 1433) الموافق ل 21نونبر 2011، جريدة رسمية عدد 5597 مكرر الصادرة بتاريخ 25 ذو الحجة 1433 الموافق ل 22 نونبر 2011، ص : 5537-5561.

[10] – كريم لحرش، دور الجهوية المتقدمة في تحقيق الحكامة الترابية –نحو تصور جديد لحكامة ديمقراطية للشأن الجهوي بالمغرب-، سلسلة اللامركزية والإدارة الترابية، عدد 19، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الثالثة، 2012، ص: 19.

[11] – المناظرة الوطنية الأولى حول الإصلاح الإداري، الإدارة المغربية وتحديات 2010، التقرير المنجز حول اللاتركيز، ص: 6.

[12] – التصريح الحكومي، المملكة المغربية، رئاسة الحكومة، يناير 2012، ص: 21.

Exit mobile version