Site icon مجلة المنارة

مبدأ حق تقرير المصير بين النظرية و التطبيق

مبدأ حق تقرير المصير بين النظرية و التطبيق.

 

سليمان حسين كشيب حسين

باحث دكتوراه في القانون الدولي العام و العلوم السياسية

كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية سلا

جامعة محمد الخامس –الرباط

 

 

يعتبر مبدأ حق تقرير المصير السياسي للشعوب حجر الزاوية في الحياة الدولية المعاصرة، حيث يمثل هذا الحق الأداة القانونية لتمكين الشعوب الخاضعة للسيطرة والاستعمار الأجنبي من تحقيق استقلالها وحريتها وإقامة كياناتها المستقلة، وتحقيق سيادتها الوطنية [1].

فلمبدأ حق تقرير المصير مظهران: المظهر الدولي يكرس حق الشعب في الاستقلال،  والمظهر الداخلي الذي يعترف لذات الشعب بحق تقرير مركزه السياسي والاقتصادي والاجتماعي بدون تدخل خارجي 2.غير أن القانون الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ساند فكرة التطبيق الضيق والمحدود لمبدأ حق تقرير المصير، وذلك عندما تم ربط المبدأ بالمطالب المضادة بطبيعتها للاستعمار 3، ومن هنا ثار الخلاف الفقهي والجدل السياسي حول معنى وهدف تقرير المصير، نظراً لأن مبدأ حق تقرير المصير يكتسي صبغة خاصة لأنه يهدد استقرار المجتمع الدولي، إذ أن تطبيقه قد يمس بسيادة الدول وسلامة أراضيها، لهذه الأسباب وغيرها، ظل مبدأ حق تقرير المصير محدود التطبيق من طرف الدول الإستعمارية والتي كانت ترى فيه نهاية لسيطرتها على الأٌقاليم والشعوب    التي ترزح تحت جبروتها، وحتى مـن طـرف الـدول حديثـة العهـد بالإستقلال، والتي كانت قد استفادت منه في الواقع فأصبحت ترى في تطبيقه المستمر والمتواصل خطرا على كيانها الموروث عن الإستعمار 1.

ومن خلال ذلك نحاول معالجة الإشكالية الرئيسية التالية ماهي أبرز الإشكاليات النظرية والواقعية لمبدأ حق تقرير المصير و من خلال ذلك سنقوم بتفكيك الدراسة إلى محورين

 أولا : مفهوم مبدأ حق تقرير المصير

ثانيا : التحديات التي تواجه تطبيق مبدأ حق تقرير المصير

 

أولا: مفهوم مبدأ حق تقرير المصير

 

من المعلوم أن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها يتميز بالنسبة لمضمونه بعدم الوضوح، ولذلك كان محلا للعديد من التفسيرات المتعارضة[2]ويرجع ذلك إلى أن الميثاق لم يحدد المقصود بحق الشعوب في تقرير مصيرها واكتفى بمجرد النص على هذا المبدأ في مادته الأولى (الفقرة الثانية) وكذلك المادة (55)، ونتيجة لهذا الغموض ظهرت العديد من التفسيرات – لمبدأ حق الشعوب مصيرها – والتي تحاول إبراز مضمونه ودلالته فمنها ما أعطى للمبدأ مدلولا واسعا. كما هو الحال بالنسبة للتعريفات التالية والتي نوردها في هذا الصدد على سبيل المثال لا الحصر.

 

فقد عرفته الموسوعة البريطانية بأنه “مبدأ يشير إلى حق كل أمة في الإختيار بحرية الحكومة، والنظام السياسي والحضاري الذي تراه يتناسب واحتياجاتها”[3]

وعرفه لينين بقوله ” عن حق الأمم في تقرير مصيرها يعني بوجه الحصر حق الأمم في الإستقلال بالمعنى السياسي وفي حرية الإنفصال السياسي عن الأمة المتسلطة….”[4]

 

كما عرفه قاموس مصطلحات القانون الدولي بأنه ” حق الشعوب في تقرير مصيرها كصبغة أولى، إلى أن طبق على دولة تعني النية في احترام استقلال هذه الدولة”[5].

 

وقد عرفه بعض الفقهاء بأنه ” حق كل شعب في تحديد مستقبلية السياسي ونظام الحكم الذي يوافقه وحق الشعب في السيادة على ثرواته وموارده الطبيعية، وحقه في إختيار الأنظمة الإقتصادية، والإجتماعية الملائمة[6].

 

يفهم من هذه التعريفات أنها تعطي لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها مدلولا واسعا، فهو بناء على ذلك يعني أن لجميع الشعوب حقا ثابتا في إختيار نظامها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وإختيار مركزها الدولي بملء حريتها، وبذلك فهو يعني حق الإستقلال وحق الشعوب والأمم في الإنفصال، وحق إختيار شكل الحكم الذي يلائم الشعوب، وفي بعض الأحيان يكون شرطا لممارسة حقوق الإنسان الأخرى.

غير أنه لضبط مدلول مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها يجب علينا معرفة من صاحب الحق في تقرير المصير، وبشكل أوضح ما المقصود بالشعب الذي يحق له تقرير المصير؟

 

في الواقع لا توجد قاعدة أو أداة لتعريف الشعب في القانون الدولي العام[7]. إلا أنه هناك العديد من التصريحات المتعلقة بالشعوب وبحقوق الشعوب إزاء الدولة، وبواجبات الدولة إزاء الشعوب، وهذه التصريحات توجد مبعثرة ضمن العديد من النصوص، وهي بذلك غير مترابطة، الأمر الذي جعل بعض الفقهاء يشبه الشعب بالحرباء، نظرا لتغير سماته وتعريفاته غير أن ذلك لا ينفي وجود بعض التعريفات التي تحاول إبراز مفهوم الشعب الذي يحق له تقرير المصير ومنها مثلا الرأي القائل: “إن كلمة شعوب تفهم على أنها تعني جميع أولئك الذين في مقدورهم أن يمارسوا حقهم في تقرير المصير، ويحتلون إقليما متجانسا ويرتبط أعضاؤهم بعضا ببعض[8].

وهناك رأي يذهب إلى أن كلمة شعوب يجب أن تنطبق على تجمعات وطنية متجانسة وواسعة وأن حق تقرير المصير يجب ألا يمنح إلا للشعوب التي تقدم طلبا تعلن فيه رغبتها في تقرير المصير مدعوما بالأسانيد[9].

 

ويرى بعض الفقهاء أن صاحب الحق في تقرير المصير هي الشعوب التي تحتل بقعة جغرافية معينة قبل الهيمنة الأجنبية، ستؤلف دولة مستقلة مثل الأقاليم المستعمرة وتلك الموضوعة تحت الوصاية[10]. وبالإضافة إلى المحاولات الهادفة إلى تعريف الشعب صاحب الحق في تقرير المصير، نجد المناقشات التي دارت في الأمم المتحدة حول الموضوع، والتي أبرزت بعض العناصر لتعريف الشعب وهي كالتالي:

 

 

إلا أنه مهما اختلفت الآراء والاجتهادات حول تحديد مدلول الشعب الذي يحق له تقرير المصير، فمن الرأي الراجح بالنسبة لهذا الموضوع هو تلك الشعوب التي تكون خاضعة للإحتل ال والسيطرة والاستغلال الأجنبي[12].

 

وهذا التعريف يتماثل مع ما جاء في نص المادة (الأولى)[13] من التصريح رقم 1514 حول منح الإستقلال للأقاليم والشعوب المستعمرة. ونجد نفس المعنى في ديباجة التصريح رقم 2625 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 أكتوبر 1970 الخاص بإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة. حيث عبرت الجمعية العامة عن اعتقادها “بأن إخضاع الشعوب للاستعمار الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل عقبة رئيسية في سبيل تحقيق السلم والأمن الدوليين”[14].

 

إن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها يخص تلك الشعوب الخاضعة للسيطرة والإستعمار الأجنبي ولنظام الميز العنصري، والتي توافرت لها بعض العوامل الشخصية، ومنها الشعور الوطني وإرادة النضال لدى الجماهير[15]. والإستعمار في هذا المجال هو عبارة عن تنافر بين جهاز دولة، وطرف من سكان هذه الدولة، وأما الميز العنصري فيمكن أن يتواجد في إطار استعماري وكذلك في إطار دولة مستقلة كالنظام الذي كان قائما في جنوب إفريقيا[16]. وحق الشعوب في تقرير مصيرها بهذا المعنى أكدته الجمعية العامة أكثر من مرة في قراراتها، معترفة به كحق للشعوب، ومؤكدة نضال تلك الشعوب من أجل التحرر من السيطرة الإستعمارية والاستغلال الأجنبي[17].

 

وبالرجوع إلى التطور التاريخي والقانوني لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها يلاحظ بأنه ينظم حقوق الشعوب والإلتزامات على عاتق الدول بحيث تعمل هذه الأخيرة على مساعدة الأمم المتحدة بالنهوض بمسؤولياتها التي حددها الميثاق في هذا المجال، بحيث تمكن هذه الدول الشعوب الخاضعة لسيطرتها، من مباشرة حقها في تقرير مصيرها وإستقلالها. وبذلك يجب على كل الدول الامتناع عن إجراء يحرم الشعوب من هذا الحق.

 

 

ثانيا: التحديات التي تواجه تطبيق مبدأ حق تقرير المصير

 

إذا كان مبدأ حق تقرير المصير قد أصبح من المبادئ المعترف بها في القانون الدولي المعاصر، وكرسه ميثاق الأمم المتحدة والممارسة الدولية له، فإنه رغم ذلك مازال يواجه العديد من التحديات التي تعترض في بعض الأحيان سبيل تطبيقه، وهي تحديات بعضها يظهر على مستوى الممارسة، وبعضها الآخر يرتبط بالقانون الدولي ذاته.

 

 

لقد كشفت الممارسة الدولية في مجال تطبيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها عن وجود تحديات تواجه هذا المبدأ، وهي تحديات تجد أساسها في التعارض بين ما يعتبر من قبيل التحرر من السيطرة الإستعمارية وما يعتبر إنفصالا، وهو ما أدى في حالات كثيرة إلى رفض تطبيق المبدأ على أساس أنه يهدد كيان الدول المستقلة، إلا أن ذلك كله لم يحل في نهاية الأمر دون تكريس ظاهرة التفكك الدولي، بعد نهاية الحرب الباردة.

 

 

إن ربط مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بتصفية الظاهرة الإستعمارية يكشف عن افتقار القانون الدولي لمعايير تشمل أوضاعا جديدة لم يتم إدراكها في هذا المجال، ومنها ظاهرة التفكك والإنفصال، الأمر الذي ظل محل اجتهادات فقهية متباينة حول هذه المسألة التي تتغذى في الواقع على الاختلاف في تفسير النصوص الدولية المتعلقة بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وكذلك على السوابق الدولية التي برهنت على ندرة حالات الإنفصال المعترف بها.

 

فلم يتخذ الفقه موقفا موحدا حول ظاهرة التفكك والإنفصال التي تهدد كيانات الدول ووحدتها السياسية، وإنما توزع بين اتجاهين أحدهما يرفض مشروعية الإنفصال، والآخر يساندها، ولكل اتجاه حججه ومبرراته.

 

 

ذهب فريق من الفقهاء إلى أن القانون الدولي، لا يقبل ظاهرة الإنفصال، بالنظر إلى أنها تهدد الوحدة الإقليمية للدول، وتعتبر بالتإلى اعتداء على سلامتها ووحدتها الترابية[18]. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى مقتضيات الفقرة السادسة من القرار رقم (1514) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 14 ديسمبر 1960 والتي تنص على ما يلي: ” كل محاولة تستهدف التفويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لأي بلد تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه”.

 

وعلى هذا الأساس يكون الإنفصال مستبعدا من نطاق تطبيق هذا المبدأ، ويقتصر بالتالى تطبيق مبدأ حق تقرير المصير على الظاهرة الإستعمارية فقط، مع ضرورة احترام السلامة الإقليمية والوحدة الوطنية[19].

 

وبناء على ما سبق حاول أصحاب الرأي المتقدم رفض ظاهرة الإنفصال والتقرير بأن مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير في القانون الدولي العام يهمها لذاتها. وبالتإلى لا يحق لسكان جزء من إقليم دولة المطالبة بهذا الحق نظرا لتعارضه مع مبدأ السلامة الإقليمية والوحدة الوطنية، الأمر الذي يثير التساؤل حول إمكانية التضحية بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها في سبيل صيانة السلامة الإقليمية والوحدة الوطنية.

 

 

على خلاف ما انتهى إليه أصحاب الاتجاه السابق، يرى أنصار هذا الاتجاه أن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها لا يقتصر على تصفية الظاهرة الإستعمارية فحسب، وإنما يتسع ليشمل جميع الحالات الأخرى التي تكون فيها أقاليم أو شعوب منضوية داخل كيانات لا تنسجم معها، حيث يكون من حقها أن تقرر مصيرها بالإنفصال عن تلك الكيانات، وهو أمر يجد أساسه في أحكام ومقتضيات مبدأ حق تقرير المصير[20]. ولهذا يؤكد الأستاذ “M.Bourst” بأن المظهر الإيجابي والفعال لمبدأ حق تقرير المصير يعني الاعتراف لشعب ما بالإنفصال عن دولة، او الاندماج تحت سيادة دولة أخرى، او بناء دولة مستقلة. وفي معرض رده على سؤال يتعلق بحق تقرير المصير،أجاب هذا الكاتب بالتأكيد وأضاف موضحا: ” إن حق الشعوب في تقرير مصيرها هو حق الإنفصال”[21].

 

ولهذا يرى هذا الفريق من فقهاء القانون الدولي بأن السلامة الإقليمية لا تشكل مبدأ مطلقا وحجتهم في ذلك التوصية رقم 2625 الصادرة عن الجمعية العامة بتاريخ 24 أكتوبر 1970 والخاصة بإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون فيما بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة”. إذ في الوقت الذي تتحدث فيه هذه التوصية عن مبدأ سلامة التراب الوطني، فإنها تعلق ممارسته على احترام مبدأ مساواة الشعوب في الحقوق وحقها في تقرير مصيرها بنفسها. ” لا يجوز أن يؤول شيء مما ورد في الفقرات السابقة – وهي فقرات تتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها – على أنه يرخص بأي عمل من شأنه أن يمزق أو يخل جزئيا أو كليا بالسلامة الإقليمية والوحدة السياسية للدول المستقلة ذات السيادة التي تلتزم في تصرفاتها بمبدأ تساوي الشعوب وحقها في تقرير مصيرها بنفسها”.

 

 

لقد فرضت النهاية المفاجئة للحرب الباردة على المجموعة الدولية، أن تتعاطى مع مطالب تقرير المصير بأسلوب جديد، ذلك أن الانفجار الذي حدث في كل من الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا أدى إلى العديد من المطالب، الباحثة عن تقرير المصير وكان على المجموعة الدولية أن تتخذ موقفا إزاء هذا الوضع الجديد، إلا أنها حاولت الانتظار والترقب في بداية الأمر.

 

لذلك يلاحظ أن الولايات المتحدة لم تغير سياستها نحو جمهوريات البلطيق السوفياتية عندما بدأت تخطو خطواتها نحو الإستقلال، وإقامة كيانات خاصة بها، فقد التزمت الولايات المتحدة نظرة قوامها الترقب والانتظار كصيغة لتحقيق هدف سياسي أكثر شمولا وهو بقاء “غوربا تشوف في دولة سوفياتية موحدة أكثر ما يمكن، ولقد تجلى هذا الموقف بشكل أكثر وضوحا في حالة ليتوانيا التي سبق أن كانت للولايات المتحدة الأمريكية علاقات دبلوماسية معها خلال العشرينات، والثلاثينات من القرن العشرين، ولم تعترف بإلحاق “ستالين” لها عام 1940 بالاتحاد السوفياتي[22].

 

فعندما أعلنت هذه المجموعة إستقلالها في 12 مارس 1990 أعلنت الولايات المتحدة عدم اعترافها بحكومة ليتوانيا، وإستمر التردد في الاعتراف بها مدة سنة ونصف تقريبا. وبعد يوم من توقيع “غورباتشوف” وقادة تسع جمهوريات (غير بلطيقية) إتفاقية حول اتحاد أقل مركزية قام المتشردون الشيوعيون بانقلاب غير ناجح، إلا أنه سهل على جمهوريات البلطيق تركيز وتثبيت إستقلالها، غير أن كل ذلك لم يدفع الولايات المتحدة للاعتراف بهذا الإستقلال، بل إستمرت في إعطاء الأولوية للعلاقة مع ما يمكن أن يتبقى من الاتحاد السوفياتي، لأنها كانت تراهن على بقاء “غورباتشوف” وتخشى أن يؤدى إنفصال جمهوريات البلطيق إلى تشجيع جمهوريات أخرى على الإنفصال.

 

إلا أنه بعد استقالة “غورباتشوف” والحل النهائي للاتحاد السوفياتي، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مضطرة إلى التعامل مع هذا الوضع الجديد، ومن تم أعلنت اعترافها بجميع الجمهوريات السوفياتية المستقلة.

 

وإذا كان الموقف الأمريكي حيال استقلال الجمهوريات السوفياتية قد اتسم بالتردد وعدم الحسم المبكر في تقديم الاعتراف بها، فإن الحكومات الأوربية قد اتخذت موقفا قياديا في التجارب مع المطالب الإستقلالية لهذه الجمهوريات.

 

ونفس الموقف اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الأوربية في استقلال الجمهوريات اليوغسلافية، فبعد أن أعلنت الجمهوريات اليوغسلافية إستقلالها أصبحت مسألة الاعتراف باستقلال هذه الجمهوريات مسألة أكثر إثارة للجدل، وبعد تردد توصل وزراء خارجية  الاتحاد الأوربي إلى إتفاق مبدئي حول عملية الاعتراف بالجمهوريات اليوغسلافية وفق مجموعة من الشروط. أهمها احترام مبادئ الأمم المتحدة، وإتفاقية هلستكى النهائية، وميثاق باريس[23].

وبعد أن قدمت الجمهوريات اليوغسلافية الضمانات الكافية لاحترام الشروط السابقة أعلنت المجموعة الأوربية اعترافها بكل من سلوفينيا،  وكرواتيا، كدول مستقلة، وذلك في 15 يناير 1992، ثم اعترفت بعد ذلك باستقلال البوسنة والهرسك في السادس من أبريل من نفس السنة.

 

أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد اعترفت رسميا باستقلال هذه الدول في السابع من أبريل 1992 متأثرة في ذلك بالمجموعة الأوربية[24].

 

وهكذا يتضح مما سبق أن الأحداث التي عرفتها كل من الاتحاد السوفياتي، ويوغسلافيا، فرضت على المجموعة الدولية الاعتراف بالكيانات الجديدة كدول مستقلة، الأمر الذي يدل على أن حق تقرير المصير أصبح يتجاوز الظاهرة الإستعمارية ليشمل أنماطا جديدة لتقرير المصير، تكرس ظاهرة التفكك والإنفصال عمليا.

 

وبعد استعراض موقف الفقه الدولي، والممارسة الدولية من ظاهرة الإنفصال، يتضح أن هذه الظاهرة أصبحت تدخل في صميم مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، الأمر الذي يمكن إعتباره تطورا جديدا لمفهوم حق تقرير المصير، بالنظر إلى الممارسة الفعلية وتعاطي المجتمع الدولي مع عملية التفكك والإنفصال التي عرفها كل من الاتحاد السوفياتي، ويوغسلافيا مع نهاية الحرب الباردة، خاصة وأن هذين الاتحادين ظلا يرفضان أي مطلب يرمي إلى الإنفصال أو تقرير المصير.

 

والواقع أن اعتراف المجتمع الدولي باستقلال الجمهوريات الناتجة عن هذا التفكك، يعتبر دليلا على مشروعيته وبناء على ذلك يجب على المجتمع الدولي أن يضع ضوابطا لمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير الإنفصالي، لكي يتم تطبيق هذا المبدأ في ظروف سلمية وهادئة، تبعد خطر النزاعات التي قد تهدد الأمن والسلم الدوليين، نظرا إلى أن الفكرة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر والتي مفادها أن من حق الدولة الفيدرالية استعمال القوة لقمع أية محاولة إنفصالية، قد أصبحت متجاوزة خاصة وأن أغلب هذه الدول لها دساتير توجد بها نصوص تبيح حق الإنفصال الإرادي،  وحتى الحالات التي يسكت فيها الدستور عن حق الإنفصال كما هو الحال في كندا، وتشيكوسلوفاكيا سابقا، لا يستطيع أحد أن يتكلم عن استعمال القوة لمواجهة حركات تقرير المصير الإنفصالي، لأن من شأن ذلك أن يجلب استنكارا عالميا، وبشكل سريع إلى صنف حقوق الإنسان المعترف بها عالميا، والذي لا يمكن لأية دولة أن تخرقه بدون أن تتعرض لانتقادات، وأحيانا تدخل مباشرة من قبل المجتمع الدولي، الأمر الذي عزز من حجج مؤيدي مشروعية ظاهرة التفكك والإنفصال، تلك الظاهرة التي كانت تؤكدها الدساتير في بعض الدول الفيدرالية[25] من الناحية النظرية فقط، يلاحظ أنها قد أصبحت اليوم حقيقة ماثلة تكرسها الممارسة الدولية، في ظل النظام العالمي الجديد، ويجب على القانون الدولي تنظيمها حتى يستطيع مبدأ حق تقرير المصير التحلل من كافة القيود والتحديات التي حاولت الحد من نطاق تطبيقه في غير حالات الإستعمار طيلة الحرب الباردة.

 

 

إن حركة الإنفصال بين الشعوب والجماعات المتباينة عرقا، أو دينا، أو حضارة أو ثقافة، أو عقيدة سياسية لن تتوقف، كما لن يتوقف الجدل حول شرعيتها، أو قانونيتها أو أسلوب ووسائل تحققها ومعالجة الأزمات التي تثيرها، فقبل قيام الأمم المتحدة كانت القوة هي المحرك والوسيلة الحاسمة وكانت الدول الكبرى الإستعمارية في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين هي التي تقرر مصير الشعوب بالحملات العسكرية والمعاهدات الدولية فيما بينها.

 

غير أنه بعد قيام الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من تصفية للاستعمار بكافة أشكاله، عن طريق إطلاق حرية الشعوب المستعمرة في أن تقرر مصيرها. إلا أن الحرب الباردة بين “واشنطن” و “موسكو” من جهة وسيطرة النظم الشمولية من جهة ثانية على قسم كبير من أوربا وآسيا، وإفريقيا حالا دون ممارسة تلك الشعوب لحرية تقرير مصيرها، خصوصا إذا كانت هذه الشعوب واقعة في مناطق استراتيجية حساسة بالنسبة للقوى العظمى المتصارعة في ذلك الوقت.

 

أما بعد انتهاء الحرب الباردة فإن الشعوب استردت إلى حد ما حرية تقرير مصيرها، ولكنها في الواقع تسير في تطبيق هذا الحق بطريقة فوضوية، غير محاطة بالضمانات الضرورية لتطبيقه، الأمر الذي يفجر العديد من الأزمات والنزاعات المسلحة التي قد تترتب عليها نتائج خطيرة قد تهدد الأمن والسلام العالميين، وهو الأمر الذي طرح العديد من الأسئلة حول الوسيلة أو الأسلوب الأمثل لتحقيق مبدأ حق تقرير المصير :هل هو اللجوء إلى القوة أو العنف ؟ أم إلى القانون الدولي ؟

 

سبق القول إن مبادئ القانون الدولي قاصرة عن استيعاب الحالات في مجال تقرير المصير، الأمر الذي يجعل مسؤولية التعامل بنجاح مع هذه الحالات التي تنامت في ظل النظام العالمي الجديد، تتطلب من المجموعة الدولية نظرة أكثر شمولا من أجل إعادة النظر في مبادئ القانون الدولي في مجال تقرير المصير وكذلك المبادئ الدولية التي لها علاقة بهذا الموضوع مثل الحماية الدولية لحقوق الأقليات، وتطوير المبادئ الديمقراطية وتعميمها، كل ذلك من أجل التعاطي بشكل جيد من طرف المجموعة الدولية مع الانفجارات الخطيرة التي أصبحت تثيرها المطالب المتعددة لحركات تقرير المصير.

 

وحتى لا تتحول هذه الانفجارات إلى أزمات خطيرة تهدد الاستقرار الذي يبحث عنه النظام العالمي الجديد، فإنه على المجتمع الدولي أن يتحرك في اتجاه تطوير المبادئ القانونية الدولية التي تعتبر الحارس الأمين للاستقرار والسلام، ويسد النقص الملاحظ في بعض جوانب ومجالات القانون الدولي.

 

إن حق حركات التحرر الوطني في اللجوء إلى استعمال القوة من أجل تقرير المصير، لا يثير أي إشكال عندما توجه هذه الحركات أعمالها ضد أهداف عسكرية ضمن أراضي الدولة الإستعمارية، بل إن استعمال القوة ضد الأهداف غير العسكرية للدولة الخصم لا يمكن وصفه بالإرهاب، ولكن استعمال القوة من قبل أفراد ينتمون إلى حركات التحرر الوطني ضد أهداف مدنية خارج أراضي الدولة العدوة هو الذي يمكن أن يوصف بعدم الشرعية، حيث يختلط في هذه الحالة الكفاح الوطني المسلح بالإرهاب الدولي اختلاطا يصعب تفكيكه[26] إذ تتضارب وجهات النظر حول تكييف هذا العمل، فلا تردد الولايات المتحدة في وصف أي عمل من هذا القبيل – إذا كان يمس مصالحها أو مصالح حلفائها- بالإرهاب، بينما يظل في نظر البعض حلا مشروعا إذا كان بهدف مقاومة المستعمر[27].

والواقع أن هذا الخلط بين مفهوم الإرهاب والكفاح المشروع ناتج عن عدم وجود تعريف جامع مانع للإرهاب،فرغم الجهود التي بذلتها المنظمة الأممية منذ الخمسينيات من أجل تحديد المفهوم الحقيقي للإرهاب للتفرقة بينه وبين أعمال حركات التحرر الوطني الموجه ضد الإستعمار والميز العنصري، فإنه لم يتم التوصل بعد إلى تعريف هذه الظاهرة، ومنذ بدء عمل اللجنة الخاصة بالإرهاب التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 1972 ظهرت الخلافات واضحة بين الدول حول مفاهيم الإرهاب المختلفة، فمجموعة عدم الانحياز تعتبر أعمال العنف والقمع التي تمارسها الأنظمة الإستعمارية والعنصرية ضد الشعوب التي تكافح من أجل التحرر إرهاباً، بينما تتزعم الولايات المتحدة الأمريكية اتجاهاً مضاداً يستبعد إرهاب الدولة ويقصر الإرهاب الدولي على إرهاب الأفراد، أو مجموعات الأفراد، فتقدمت بمشروع يؤدي عمليا إلى تجريم حركات التحرر الوطني[28]، وهذا هو مكمن الخلاف و أساس الخلط بين المفهومين، الأمر الذي سيبقى قائما إلى أن يتم وضع تعريف صريح  للإرهاب.

على الرغم من أن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها أصبح من المبادئ المستقرة في القانون الدولي، ولم تعد إلزاميته محل خلاف يذكر، فإن تطبيقه مازال يواجه بعض العقبات التي تحاول إفراغه  من مضمونه، ففي البداية وصفق بأنه أكثر المبادئ القانونية صعوبة في التحديد، لذلك اثيرت مشكلة التعارض بينه وبين مبدأ المحافظة على الوحدة الإقليمية لكل دولة، وقد حلت هذه المشكلة بمقتضى الممارسة، وذلك بمنح الوحدة الإقليمية على أساس أن مبدأ حق تقرير المصير يقتصر فقط على إنهاء الإستعمار.

وما إن تخطى مبدأ حق تقرير المصير هذه العقبة حتى واجهته عقبة أخرى متمثلة في ظهور اتجاه جديد هدفه الظاهري إنساني، وهدفه الحقيقي هو القضاء على هذا المبدأ من الناحية العملية، بالنسبة لوسائل ممارسته، حيث وصفت الأعمال المسلحة الرامية إلى تقرير المصير بأنها أعمال إرهابية الأمر الذي يوجب مقاومتها[29].

 

من صفوة القول، فقشهد حق تقرير المصير تحولاًت مختلفة في مفهومه وتطبيقاته في عالم تتسارع فيه الأحداث وتنعكس مجرياتها على كثير من المبادئ والقواعد القانونية الدولية ولعقود خلت، مستقرة من حيث فهمها وتطبيقها على الساحة الدولية.

 

1-  عمر إسماعيل سعد الله ، تقرير المصير السياسي للشعوب في القانون الدولي العام المعاصر ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر 1986 ، صفحة 4 .

2- عبدالواحد الناصر ، مدى مشروعية استخدام القوة لحماية الرعايا الموجودين في الخارج ، أطروحة لنيل دكتوراة الدولة في الحقوق ، كلية الحقوق بالرباط 1985 ، صفحة 340 .

3- Morton H. HalperinDavid SchefferPatricia Louise Small,Self-determination in the new world order, Carnegie Endowment for International Peace, 1992,p: 16

[2] – عبد العزيز محمد سرحان، عبد العزيز محمد سرحان: “مقدمة لدراسة الدولة الفلسطينية”، دار النهضة العربية القاهرة،1989. ص: 96.

[3] – عمر إسماعيل سعد الله، المرجع السابق، ص: 69.

[4] – نفس المرجع السابق، ص: 70.

[5] – راجع : Dictionnaire de la terminologie du droit international, soney, 1960, p: 233.

[6] – للمزيد من التفاصيل راجع، الدكتور تيسير النابلسي: الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، دراسة لواقع الاحتلال الإسرائيلي في ضوء القانون الدولي العام، بيروت 1995، ص: 253.

[7] – سعد الركراكي، المرجع السابق، ص: 181.

[8] – عمر إسماعيل سعد الله، المرجع السابق، ص: 84.

[9] – المرجع السابق، ص: 94-95.

[10] – المرجع السابق، ص: 95.

[11] – المرجع السابق، ص: 95-96.

[12] – عمر اسماعيل سعد الله: “تقرير المصير السياسي للشعوب في القانون الدولي العام المعاصر”، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص: 77.

[13] – تنص المادة الأولى من قرار الجمعية العامة رقم 1514 الصادرة بتاريخ 14 ديسمبر 1966 والخاص بمنح الاستقلال للأقطار والشعوب المستعمرة على ما يلي (إن إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته، واستغلاله يشكل إنكارا لحقوق الإنسان الأساسية ويناقض ميثاق الأمم المتحدة ويعيق قضية السلم والتعاون العالميين” راجع نص الفقرة ، بالإعلان الخاص بمنح الاستقلال للأقطار والشعوب المستعمرة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 14 ديسمبر 1960.

[14] – التصريح رقم 2625 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 أكتوبر 1970، الملحق بهذه الدراسة.

[15] – عبد القادر القادري مفاهيم القانون الدولي المرجع السابق، ص: 78.

[16] – راجع الدكتور، عبد العزيز محمد سرحان، المرجع السابق، ص: 96.

[17] – راجع الدكتور سعد الرقراقي، المرجع السابق، ص: 142.

[18] – عبد القادر: القانون الدولي العام، المرجع السابق، ص: 185.

[20] – إسماعيل الغزال، القانون الدولي العام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت، الطبعة الأولى 1986، ص: 87.

[21] – سعد الركراكي، المرجع السابق، ص: 179.

[22] – Morton h. Halperien & others, Op.Cit, p: 27 , 28.

[23] – Ibid , p: 31.

[24]– Morton h. Halperien & others, Op.Cit, p: 37-38.

[25] – فعلى سبيل المثال : تنص المادة 72 من دستور الاتحاد السوفياتي الصادر بتاريخ 7 أكتوبر 1977 على ما يلي: ” حق الخروج بحرية من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية محفوظة لكل جمهورية متحدة”.

[26] – محمد عزيز شكري، المرجع السابق، الصفحة 180

[27] – فمثلا إذا قام أحد الفلسطينيين باختطاف طائرة مدنية أمريكية على متنها إسرائيليون، و احتجزهم كرهائن مقابل إطلاق سراح بعض زملائه في السجون الإسرائيلية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستصنف هذا العمل بأنه إرهاب، في الوقت الذي لم تصف فيه أعمالا مماثلة لذلك بهذا الوصف، فعندما اختطف هنجاريان طائرة لبلدهما و أرغماها بالقوة على الهبوط في مطار فرانكوفورت في مارس 1989 وطلبا حق اللجوء السياسي، لم تصف أجهزة الإعلام الأمريكية الفاعلين بأنهما إرهابيين، كما لم تطلق الوصف على خاطفي طائرة مدنية أفغانية في 19 يونيو 1979.

[28] – أحمد تابث: “نقد المفهوم  الأمريكي الجديد عن الإرهاب الدولي، في مؤلف جماعي عنوانه ” قضية لوكربي ومستقبل النظام الدولي” “، طبعة أولى 1992، منشورات مركز درسات العالم الإسلامي ص 124.

[29] – مصطفى سلامة حسين : “تطور القانون الدولي العام” دار النهضة العربية، القاهرة 1992 ص: 330.

Exit mobile version