Site icon مجلة المنارة

ما بعد أوباما: هل يغير الرئيس الجديد الحسابات الحاكمة للسياسة الخارجية الأمريكية

ما بعد أوباما: هل يغير الرئيس الجديد الحسابات الحاكمة للسياسة الخارجية الأمريكية

                                        يوسف عنتار أستاذ العلاقات الدولية                                                              بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور

شكل انتخاب”دونالد ترامب” رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 2016؛ زلزالا سياسيا أشبه بالتسونامي[1]؛ هزّ العمل السياسي في الولايات المتحدة بعدما تحدثت النخب المتحكمة بحتمية فوز بنت المؤسسة الحاكمة “هيلاري كلينتون”[2]. الشيء الذي عصف بمختلف التنبؤات السياسية المواكبة لهذا الحدث. إذ جاء خلافا للغالبية الساحقة من استطلاعات الرأي والتوقعات والتحليلات. مما شكّل”خيبة”أمل للكثير من السياسيين والكتاب والمتتبعين للشأن الخارجي الأمريكي بحسب ما كان أعلن عنه أثناء حملته الانتخابية.

وعلى إثر ذلك، توقع البعض أن تتعرض معظم مرتكزات سياسة حكومة “أوباما” لتغير جذري في المرحلة المقبلة إبّان رئاسة “دونالد ترامب”، ممّا قد يخلط حساباتها الخارجية الاقتصادية واللوجستيكية والسياسية.

وبناء على ما سبق، فإن الإشكالية التي تطرحها هذه الدراسة يعبر عنها التساؤل الرئيسي التالي: هل الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة فعلا ما بعد 20 يناير من السنة المقبلة على معايشة وضع بإمكانه رسم معالم سياسة خارجية مغايرة بإمكانها إعادة ترتيب عناصر الخريطة العالمية؟

وقد تفرعت عن هذا التساؤل مجموعة من الأسئلة الفرعية، تتمثل في:

  1. ما هي المحددات الآنية والمستقبلية للسياسة الخارجية الأمريكية؟
  2. ما هو أثر التحديات الجديدة في النظام العالمي الجديد على صناع القرار الأمريكي؟

وكمحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، وتحديداً التساؤل المحوري الرئيسي منها؛ والذي انعكس على مستوى الفرضيات وكذلك على هيكلية تقسيم الدراسة.

أما فيما يتعلق بالفرضيات فقــــــــــد طرحت الدراســــــــة فرضيتين رئيسيتين مفادهما:

  1. كلما كانت محددات السياسة الخارجية الأمريكية واضحة، إلا واندثر معها المعتقدات الإيديولوجية، وحافظت على ثبات استقرارها.
  2. كلما كانت البرامج الانتخابية متطرفة، كلما خدمت السياسة الخارجية الأمريكية.

ولاختبار صدق هذه الفرضيات فقد استندت هذه الدراسة على توظيف منهج صنع القرار Decision Making Approach، الطريق الأسلم والأنسب لبحث الإشكالية المطروحة من خلال التركيز على أهم محددات صانع القرار الخارجي الأمريكي.

وبناءً على ما تقدم، فقد عكس التقسيم الهيكلي لهذه الدراسة الأسئلة والفرضيات التي طرحتها، وقسمت إلى ثلاث محاور أساسية تبين ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية ومحددات تجاوبها مع النظام الدولي.

أولا – على مستوى الحسابات الاقتصادية

يمثل هدف تحكم الولايات المتحدة في منابع النفط وانفتاح الأسواق الخارجية على منتوجاتها وتدفق الاستثمارات الأجنبية عليها من أهم المرتكزات الاستراتيجية التي يضعها دائما صناع القرار الخارجي الأمريكي في أولوياتهمونصب أعينهم[3]. مما يضمن لها شيئا من الاستقرار والاستمرارية.

أ – تأمين تدفق النفط:

أدّى ظهور النفط إلى ازدياد المصالح الدولية في الأقاليم التي يزخر بهذا النوع من الطاقة، ونتج عن ذلك أن أصبحت السيطرة على منابعه وطرق نقله وأسعاره هدفا للولايات المتحدة الأمريكية بما يوفره ذلك لها من حظ وافر من النفوذ والهيمنة.

وتأسيسا على ذلك، لا زال النفط يتمتع بالأولوية في ترتيب مصادر الطاقة المختلفة. وعلى الرغم من اللجوء المتزايد إلى استعمال مصادر جديدة للطاقة من قبل الطاقة الذرية والكهربائية الريحية والشمسية… فإن النفط لا يزال المصدر الرئيسي للطاقة اليومية البشرية، إذ أصبح في مقدمة الإنتاج والاستهلاك. ولعل أسباب صدارته تكمن في خصائصه الفيزيائية التي تتمتع بها من حيث سهولة النقل والتخزين، وارتفاع كمية الطاقة المخزونة في وحدة الوزن منه[4].

وإذا كان هناك من يرى بأنّ طفرة إنتاج الغاز الصّخري في الولايات المتحدة، أضحى مصدرا بديلا للطاقة فيها ومحقّقا لها اكتفاءذاتيا[5]. وما يعنيه ذلكمن تراجع لأهمية تلك السلعة الاستراتيجية، ومعها تراجع أهمية المناطق التي تحتويها. فإن البعض الآخر يرى عكس ذلك في الأجلينالمتوسط والبعيد لسببين أساسيين:

الأول؛ يتعلق بمستقبل إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة.إذتشير التقديرات إلى استمرار ارتفاع إنتاجه في السنوات الخمس القادمة، ليستقر بعدها حجم الإنتاج بسبب انخفاض منسوب إنتاجية الآبار، والقيود الواردة عليها من عمليات الحفر والتكسير الهيدروليكي،علاوة على آثاره البيئية السلبية.مما يعني أن تأثير النفط الصخري سوف يكون محدودا في الأجل القصير فقط. وأنه لن يمثل بديلا لنفط دول الأوبك في الأجلين المتوسط والطويل، خصوصا مع استمرار النمو الاقتصادي في الصين، وبقية الدول الآسيوية[6].

أما فيما يتعلق بالسبب الثاني، فيتمظهر في كون الولايات المتحدة، بحكم دورها العالمي، مسؤولة عن ضمان إمداد اليابان والدول الأوروبية الحليفة لها بالنفط، والتي تعتمد استراتيجيا على نفط الشرق الأوسط.وعليه، فإن تحقيق واشنطن للاكتفاء الذاتي منه لا يقود بالضرورة إلى انخفاض أهمية نفط الشرق الأوسط.وبالتالي، فإن نفط المنطقة سوف يظل مهمّا لدول الاتحاد الأوروبي واليابان كأهم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية[7].

ولعلّ ما يزيد من أهمية الدول المنتجة للنفط في المنطقة، أنها تضم مجموعة الدول العربية وإيران. فمن ناحية، ترتبط واشنطن مع الدول العربية الخليجية بعلاقات عسكرية وأمنية عميقة ومتعددة الأبعاد والمستويات، تقرب إلى درجة التحالف، فتشارك هذه الدول – باستثناء السعودية وسلطنة عمان – في علاقات وثيقة مع حلف الأطلنطي، في إطار مبادرة إسطنبول من يونيو 2004.ومن مظاهر هذه العلاقات العسكرية إقامة قاعدة ” العديد ” الأمريكية في قطر، والقواعد الأمريكية والبريطانية في البحرين، وإجراء المناورات العسكرية المشتركة. ومن ناحية أخرى بسبب سياسة إيران في الخليج والشرق الأوسط عموما وسياستها النووية ومخاوف الدول الخليجية من الهيمنة الإقليمية الإيرانية.

وبناء على ما تقدم، وانطلاقا من إدراك الولايات المتحدة الأمريكية لأهمية الوطن العربي في العلاقات الدولية، تقوم استراتيجياتها لمرحلة ما بعد الحرب الباردة على محاولة السيطرة الأحادية والانفراد بهذه المنطقة الحيوية والتحكم فيها. إذ أن السيطرة الأمريكية على الوطن العربي سوف تمكنها من المحافظة على عملية توازن القوى مع التكتلات الاقتصادية المنافسة لها من جهة، ومحاصرتهم استراتيجيا واقتصاديا من جهة أخرى[8].

ب- استمرار الأسواق الخارجية مفتوحة في وجه منتجاتها

تحتل الولايات المتحدة الأمريكية إحدى المراتب ثلاث الأولى في التجارة العالمية. بحيث تغزو منتجاتها كل مناطق العالم؛ وخاصة أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية. رغم المنافسة الشرسة التي تواجهها من طرف الاتحاد الأوربي واليابان وخاصة الصين التي يميل ميزانها التجاري لفائدة هذه الأخيرة[9]. إذ تحقق فائضا في تجارتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بما يزيد عن 70 مليون دولار سنويا بسبب المعاملة التجارية التفضيلية التي منحتها الولايات المتحدة الأمريكية للصين منذ عام 1980[10].

وتأتي هذه القوة التجارية الأمريكية، نتيجة عدة عوامل تقف في طليعتها هيمنتها المالية بسبب استخدام الدولار كعملة صعبة في جميع أنحاء العالم. حيث يشكل عملة حوالي نصف المبادلات التجارية، وارتفاع نصيبه من مدخرات البنوك المركزية العالمية رغم بداية تركز الأورو في بعض مناطق العالم، ووجود أهم سوق مالية لبيع وشراء أسهم الشركات الكبرى وهي بورصة “وول ستريت” في نيويورك وبورصة “شيكاغو” التي تختص في بيع وشراء أسهم الشركات الفلاحية. إلى جانب تحديد الأسعار للمنتوجات العالمية. ناهيك عن توظيف الولايات المتحدة الأمريكية لتقدّمها التكنولوجي غير المسبوق لإحداث طفرة كبرى في اقتصادها تستطيع من خلالها التنافس مع القدرات الاقتصادية لدول أخرى.

ج- توالي دخول الاستثمارات إلى أسواقها:

يتمتع السوق الأمريكي بقدر كبير من الانفتاح والمرونة، مما يجعل كل الشركات الأوروبية والآسيوية تتطلع لفتح فروع لها في الولايات المتحدة، إلى جانب العوامل التقنية والإدارية والبنية التحتية المؤهلة وتوفر الكفاءات والمهارات، والتي تشكل بدورها حوافز وجاذبية لتلك الشركات للرّفع من وتيرة استثماراتها وتنويع نشاطاتها.

وعليه، فقد استقطبت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من الاستثمارات         المباشرة بفضل ازدهارها الاقتصادي.حيث بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الولايات المتحدة الأمريكية 86 مليار دولار عام2015، وقد وردت عليها من أوروبا وآسيا وأمريكا وفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، إلا أنها تأتي في المرتبة الثالثة بعد الصين وهونغ كونغ.

ثانيا –على مستوى الحسابات اللوجستية:

لتأمين مصالحها وضبط المواقع التي توجد فيها، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على الإبقاء على سيطرتها على أهم المضايق المائية في العالم، وتوفير حماية عسكرية لها عبر إنشاء قواعد قريبة منها.

دعمت الولايات المتحدة نفـوذها على الساحـة الدولية، بعـد أن فرضت نظاما دوليا جديدا، وانفردت بقمّة هرم النسق الدولي، لتقود تفاعلاته وتتحكّم في ثوابته ومتغـيراته.

وهو ما يمكن إيعازه إلى عدّة عوامل رئيسة، ولعلّ من بين أهمها تخطيط الأدميرال “الفريـد ماهان”A.Mahan صاحب نظريـة القوى البحرية التي تقابـل نظريتي القـوى الـبـريـة “لماكـنـدر”[12]، ونظـرية القوى الجوية لدى “سيفـرسكى”DeSeverski[13]؛ وهى النظريات الإستراتيجية التي تبحث في السيطرة على العالم.وتتلخص نظريته بإيجاز شديد في” أن من يسيطر على البحار والمحيطات، لن يلبث طويلا حتى يسيطر على العـالم بأسره”[14]. وبناء عليه، تسعـى الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن على تركيز جهودها الرئيسية للاحتفاظ بمركـز الهـيمنة Focus of Hegemony وعـدم إزاحته شرقا إلى روسيا والصين (أقرب القوى العالمية المنافسة لتحقيق التوازن الاستراتيجي معـها).

وقد كشف الرئيس “جون كينيدي” عـن مخطط “ماهان”(فرض نظام عالمي جديد – السيطرة عـلى البحار والمحيطات)في فقـرتيـن بخطابه الذي ألقاه بمناسبة الاحتفال بتدشين حاملة الطائرات العـملاقة “كيتي هوك”،وهي التي لا تغادر شواطئ الولايات المتحدة إلا عـنـد التصعـيـد للحدود القصوى للصراع. فقد تناولت الفقرة الأولى ما يلي:”ظلت البشرية تحلم منذ قرون مضت بنظام عالمي، يحتضن داخله كل الأجناس والألوان والأديان، له برلمان عالمي، وتحكمه حكومة عالمية، فإذا لم تتمكن البشرية من إقامة مثل هذا النظام، فلماذا إذن لا يكون هناك نظام عالمي بصيغة تفرضها الولايات المتحدة”.في حين تناولت الفقرة الثانية من الخطاب الآتي:”إن السيطرة عـلى البحار والمحيطات تعـني الأمن، والسيطرة عـلى البحار والمحيطات تعـني السلام، والسيطرة عـلى البحار والمحيطات تعـني النصر، والحقيقة فإن هـناك درسا من القـرن العـشرين ينبغي أن ندركه، وهو أنه بالرغم من التقدم المذهل في الفضاء والجو، إلا أنه يتعـين على الولايات المتحدة أن تكون قادرة على التحرك السريع عبر بحار العالم، ومعرفة المحيطات، ويجب ألا يكون ذلك مجرد حب استطلاع، فإن بـقـاءنـا يوما قـد يتوقف على ذلك”[15].

ولتحقيق هذه الغاية صاغـت الولايات المتحدة المحتوى الفكري لمنظورها الجيوبوليتيكى ليشتمل على ثلاثة مسارات. الأول هو ضرورة السيطرة على أهم المسطحات المائية والمضايق والممرات البحرية، والثاني هو عـدم قـيام قـوة عالمية تكون قادرة على استقطاب بعـض دول العالم وبناء تحالفات أو توازنات مضادة تُهدد مصالحها، وهو ما يبرر لنا تسارع الحركة الأمريكية لإحداث التقارب مع كوبا وإجراء التسوية التاريخية مع إيران. أما المسار الثالث فهو حتمية السيطرة ، أو الوجود المكثف في أكثر المناطق الإقليمية أهمية حيوية التي قد تمنح التفوق لمن يسيطر عليها بحكم موقعها الجيوستراتيجى، أو بحكم احتوائها على مسطحات وممرات ومضايق مائية مهمة،قد تؤثر في حركة القوى العالمية الأخرى، كالمنطقة العـربية بحكم موقعها الجيوستراتيجى الفريد[16]، وباعـتبارها المكون الرئيسي للمنظومة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسـط أكثر الأنساق الإقليمية أهمية، ومنطقة شرق آسيا التي تُمثل المجال الحيوي لكل من روسيا والصين.

هذا، وقد سعـت الولايات المتحدة إلى الوجود المكثف بمنطقة بحر الصين الجنوبي؛الذي يُعـدّ من أكبر بحار العالم بجانب البحر المتوسط، وأكثرها كثافة وزخما بحركة السفـن التجارية العـملاقة. وهو ما جعـله بُؤرة من بؤر التوتر الساخنة في العالم، حيث يشهـد حاليا تنافسا محموما بين الولايات المتحدة والصين، خاصة بعـد أن تمكنت هذه الأخيرة من تحقيق توازن مكانتها في كلٍ من نسقها الإقليمي والنسق الدولي، عـندما أدركت أن القـوة الاقـتصاديـة هي القـوة التيينبغي أن تتمحور حولها باقي عـناصر قـوتها الأخرى[17].

ولكبح جماح التوسع الصيني بالخارج، عملت الولايات المتحدة على تكثيف تواجدها بمنطقة بحر الصين الجنوبي، من خلال تحالفها مع مجموعة الدول المطلة عليه. خاصة تلك التي تتحكم في مضيق ملقا الذي يقع بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة بإندونيسيا. كما أجرت معها تدريبات مشتركة تتعلق بالسيطرة على المضيق الذى يُعد المنفذ الوحيد للصين إلى المحيط الهندي،  ومن ثم إلى بحار ومحيطات العالم.وبنفس الكيفية، قامت بتشجيع حلفائها الجدد على احتلال أكبر عدد من الجزر المتناثرة في أرجائه، حتى تلك التي لا تزيد مساحتها عن بضعة كيلومترات. بالرغم من أنها تعـلم عـلم اليقين أن الصين ومعها رابطة دول جنوب شرق آسيا (تكتل الآسيان) قد تبنت صياغة ميثاق شرف وقعـت عليه جميع الدول المطلة على البحر في عام 2002.بيد أن الولايات المتحدة قد أوحت إلى بعـض دوله خاصة الفلبين والفيتنام بأن تتخذ إجراءات منفردة، مثل احتلال مجموعة من الفلبينيين جزيرة “تشونغ يه داو” ورفعـوا على أرضها العـلم الفلبيني بدعـوى سيادة بلدهم على الجزيرة، وهو ما أثار حفيظة الصين، التيأعربت عن احتجاجها الشديد على تحركات الفلبين في الجزيرة، على اعتبار أن هذه الإجراءات تٌعـد انتهاكا لسيادتها وسلامة أراضيها، مؤكدة على أن بحر الصين الجنوبي والمياه المحيطة به هو جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية.

واتساقا مع المحتوى الفكري للمنظور الجيوبوليتيكي الأمريكي (عـدم قـيام قـوة عالمية تكون قادرة على استقطاب بعـض دول العالم وبناء تحالفات أو توازنات مضادة تُهدد مصالحها، وحتمية السيطرة أو التواجد الكثيف في المناطق الإقليمية ذات الموقع الجيوستراتيجى؛ خاصة تلك التي تحتوى على مسطحات ومضايق بحرية وممرات مائية هامة تؤثر على حركة القوى العالمية)، قامت الولايات المتحدة بتفكيك الاتحاد السوفييتي وجعـلته أنقاض دول وبقايا شعـوب، ثم قامت بضم دول حلف وارسو إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو، وأخيرا افتعـلت أزمة أوكرانيا بعـد أن قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم.

أما وقد قامت روسيا بالسيطرة على البحر الأسود بضمها شبه جزيرة القرم، فقد أدركت الولايات المتحدة بأنه لا يبقى أمامها إلاَ التحكم في بحر مرمرة بالسيطرة على مضيقي البسفور والدردنيل الذي ينحصر بينهما، لتصبح روسيا دولة حبيسة عـند إغلاق أحدهما أو كليهما.

تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية في 11 شتنبر 2001 لهجمات قاسية ومؤلمة كانت الأولى من نوعها بعد الهجوم الياباني على “بيرل هاربر” في الحرب العالمية الثانية، مكبدة إياها خسائر بشرية ومادية هائلة. وعلى إثرها، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشن ما أسمته بالحرب على الإرهاب. وبمقتضاها، استخدمت في هذه الحرب قواعد عسكرية ثابتة ومتحركة، من قبيل قاعدة “العديد” الجوية الموجودة بقطر لمساندة العمليات في أفغانستان، وقاعدة “دييغو غارسيا” البحرية التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في حرب الخليج أفغانستان[18].

وتأهبا لأي خطر فجائي، تحتفظ القوات الأمريكية بنحو 750 قاعدة عسكرية في أكثر من 130 دولة من دول العالم، تتوزع مهامها المعلنة بالقيام بالواجبات العسكرية المباشرة أو أعمال الدعم والإسناد اللوجستيكي أو القيام بعمليات حفظ السلام تحت مظلة الأمم المتحدة، وخلال العقدين الأخيرين كسبت القوات الأمريكية قواعد عسكرية أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، حيث تملك 95% من القواعد العسكرية في العالم والتي تصل تكلفتها السنوية إلى حوالي 156 مليار دولار.

ومن أجل الهيمنة على محيطات العالم وبحاره، أنشأت الولايات المتحدة نحو ثلاث عشرة قوة بحرية على متن حاملات طائرات،والتي تحمل أسماء تلخص إرثها الحربي وتدير العديد من القواعد السرية خارج أراضيها لمراقبة ما تقوم به شعوب العالم . وإذا كانت الحرب على الإرهاب تقف وراء مجمل تخطيطاتها العسكري، فالسبب الحقيقي كما يقول أبرز المؤرخين العسكريين الأمريكيين”تشالمرز جونسون” أنه لبناء هذه الحلقة من القواعد العسكرية على مدار خط الاستواء؛ يعود إلى رغبتها في توسيع إمبراطورتيها، وتعزيز هيمنتها العسكرية على العالم إقليميا ودوليا، ومنع منافسيها من الوصول إلى مناطق معينة وفتح الطريق للشركات الأمريكية للاستثمار فيها والتحكم في مواردها وقدراتها[19].

ذلك، أن الاستراتيجية الأمريكية قد عقدت العزم منذ سنة 2002 على صياغة عقيدة جديدة مفادها الضربات الاستباقية preemptiveStrikes، التي رأت الإدارة الأمريكية فيها الرد الملائم على الأخطار والتهديدات الجديدة وطبيعتها، والتي لم تعد النظريات القديمة من قبيل: الردع Detterence والاحتواء Containment تكفي للتعامل معها[20].

وبغية تحقيق هذه الأهداف العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية؛ تتوفر الولايات المتحدة على سلاح جوي وبحري، ومنشآت عسكرية في سلطنة عمان والإمارات وقطر والسعودية إلى الجنوب من إيران وتركيا وإسرائيل إلى الغرب، وتركمنستان وقزعيزستان في الشمال، وأفغانستان وباكستان في الشرق.وبالإضافة إلى ذلك، فإن للولايات المتحدة الأمريكية شراكات وثيقة في المجال العسكري مع جورجيا وأذربيجان في منطقة القوقاز، بحيث تشارك قواتها في مهمات تدريبية تستخدم فيها المرافق الحامية في نقل الإمدادات عبر بحر قزوين نحو أفغانستان،إذ بدأت الولايات المتحدة بشكل مباشر تتنافس مع روسيا والصين على نفوذيهما الإقليمي.

ثالثا:على مستوى الحسابات السياسية:

اتساقا مع ضمان تحقيق حساباتها الاقتصادية واللوجستيكية، تهدف الولايات المتحدة الأمريكية إلى وضع حساباتها السياسية في مرتبة لا تقلّ عن الأخرى وذلك بتوفير حماية مناسبة لحلفائها وأصدقائها عبر العالم، خاصة إذا تعلق الأمر بالحليف الاستراتيجي إسرائيل وبدول تقاسمها مصالحها.

تنبني الإستراتيجية الأمريكية بمقتضى حساباتها السياسية، على مجموعة من المرتكزات التي تضمن لحلفائها نوعا من الحماية الأمنية، التي تستثمرها في أجنداتها الخارجية سواء العسكرية منها أو الدبلوماسية، بل وحتى التجارية منها.

منذ صدور وعد بلفور في 1917، نما اهتمام الدول الغربية بالمنطقة، وذلك لدعم الجهود الرامية إلى إنشاء دولة إسرائيل، ثم إلى الالتزام بحماية أمن هذه الدولة، وضمان تفوقها العسكري على الدول العربية كافة ضد أية تهديدات لكيانها وبقائها. وقد صار هذا الالتزام أساسا مستقرا ومستداما لدى مختلف الإدارات الأمريكية بصرف النظر عما إذا كانت جمهورية [21]أو ديمقراطية، منذ ترومان إلى حدود ولاية أوباما.

وفي هذا السياق، تحتل إسرائيل مكانة خاصة في عملية صنع السياسة في الولايات المتحدة، والتأثير في مواقفها في المنطقة[22]. مما يؤدي إلى ظهور توترات في العلاقة بين الطرفين، دون أن تؤدي إلى صراع مفتوح أو مباشر بينهما. فعلى سبيل المثال استطاعت إسرائيل إفشال مبادرة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، لإحياء المباحثات بينها وبين السلطة الوطنية الفلسطينية في عامي 1013 و2014، ونجحت في الاستمرار في سياساتها الاستيطانية، رغم الاعتراضات الأمريكية. وفي المقابل، لم ينجح التدخل الإسرائيلي السافر، الذي تمثل في خطاب نتنياهو أمام الكونجرس، محرضا إياه على رفض الاتفاق النووي مع إيران.

وعليه، فإن الالتزام الأمريكي-والغربي-بضمان الوضع الإسرائيلي المتميز، سوف يبقى عنصرا باعثا لاستمرار أهمية الشرق الأوسط في السياسات الخارجية لهذه الدولة. ويزيد من هذه الأهمية السيناريوهات المختلفة لتطور العلاقات الإسرائيلية – الإيرانية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني وما يمثله، في نظر إسرائيل، من تهديد لأمنها القومي ولوجودها في المنطقة ومسا بتفوقها العسكري النوعي على حساب دول الجوار.

لا شك أن هذا المبتغى في السياسة الخارجية الأمريكية ينسحب على دول الخليج العربي ودول المحيط الهادي؛ التي تتقاسم معها الولايات المتحدة الأمريكية مصالح حيوية، في ظل وجود قوى وازنة لها من الإمكانيات ما تؤثر بها إقليميا.

أشارت إحدى وثائق وزارة الدفاع الأمريكية عام 2011 إلى تعبير الانتقال والاستدارة شرقا إلى آسيا والمحيط الهادي، مما جعل الكثير من التحليلات الإعلامية والسياسية يفهم بأن الولايات المتحدة الأمريكية تتبع سياسة فك الارتباط مع دول الخليج وأنها تميزت بسياستها الأمنية معها.

وعلى الرغم من هذه السياسة الأمريكية شبه العقابية منذ 2011 اتجاه دول الخليج،فقد أكد أغلبية المتابعين أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعتزم الانسحاب من هذه المنطقة، وأن علاقاتها بمنطقة الخليج لا تقتصر على النقط التي ما زالت هناك شكوك بشأن أسباب التخلص من الاحتياج إليها. وإنما يأتي الاهتمام الأمريكي بالمنطقة لكونها  مركز الإسلام والعالم الإسلامي، خاصة بعدما تحركت دول الخليج في إعادة تأسيس شراكاتها الاستراتيجية باستقلالية  ورشاقة تكتيكية واستراتيجية ملحوظة داخل العالم العربي مع مصر والمغرب والأردن ومع كل من روسيا والصين وفرنسا واليابان وتركيا، وهو ما أدّى إلى إعادة التفكير الأمريكي بشأن مظلتها الأمنية، وإعادة الحسابات بمنطق براجماتي،خاصة في ظل ما يصادفها من بروز بوادر شراكات جديدة في المنطقة تنبئ بميلاد نظام إقليمي لا ترغب أن تكون بعيدة عنه بعد كل ما استنزفت فيه[23].

وعلى نفس المنوال، يأتي البيان الختامي لقمة الرياض عام 2016ليؤكد على خطوات تنفيذية مهمة في الشراكة الأمريكية – الخليجية، والتي استجد فيها كون الولايات المتحدة تتعهد بزيادة تبادل المعلومات حول إيران مع دول ،كما عرضت عليها شراكة في مجال الأمن البحري،ثم جرى الاتفاق حول الخطوات اللازمة لتنظيم نظام دفاعي تكاملي للإنذار المبكر للصواريخ الباليستية. هذا وقد اتفق الجانبان على البدء في التخطيط لإجراء تمرين عسكري مشترك في 2017. ومنه، أيّدت دول الخليج توسعة نطاق التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الأمن السيبراني(الإقصاء الإلكتروني )، وكان البند الجوهري في البيان هو الذي أكد أن سياسة أمريكا المتمثلة في استخدام كافة عناصر القوة لتضمن مصالحها الحيوية في منطقة الخليج لمواجهة أي عدوان خارجي ضد حلفائها وشركائها كما فعلت في حرب الخليج هو أمر لا يقبل الشك.

تعد منطقة أسيا والمحيط الهادي من المناطق الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، حتى أن العديد من المحللين يرونها لا تقل أهمية عن منطقة الأمريكيتين الوسطى والجنوبية التي تعدهما فنائها الخلفي، والتي لا تقبل بتدخل أي لاعب معاد لها فيه.

فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحسم التنافس الياباني الأمريكي آنذاك لفائدة هذه الأخيرة لم تتطلب منطقة المحيط الهادي اهتماما من نوع خاص طالما لا يوجد تهديد عسكري جديد من قوى إقليمية أو دولية أخرى تهدد النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة؛ كمنطقة نفوذ تقليدية،فقد أصبح المحيط الهادي “بحيرة أمريكية “حيث أقامت مئات القواعد العسكرية الجديدة في كل من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وجزر المارشال وجزر أخرى في الباسفيك من أجل تعزيز القواعد الموجودة في الفلبين،وجوامي وهاواي والتي تم توسيعها بصورة كبيرة فيما بعد؛ في ظل الحرب الباردة، فقد عمدت أمريكا إلى تطوير تحالفاتها مع دول كثيرة كأستراليا واليابان والفلبين وغيرها من الدول، وذلك حفظا للتواجد الأمريكي في المنطقة، وبعد أن انتهت الحرب الباردة أبقت واشنطن روابطها مع عدد محدود من دول المنطقة.

بيد أن التطور الاقتصادي المتسارع الذي شهدته دول جنوب شرق آسيا؛ في الربع الأخير من القرن العشرين،أدى إلى تحوّل مركز الثقل الاقتصادي العالمي من أوربا إلى أقصى الشرق الأسيوي[24]؛بسبب بزوغ قوى جديدة في الاقتصاد المعولم،والانتقال التاريخي للثروة النسبية. ومن ثم بدأت واشنطن ترى في الصين منافسا استراتيجيا يمكن أن يهيمن على منطقة الهادي الأسيوية، خاصة على ضوء تنامي القوى العسكرية والسياسية للصين،وما تلاها من تنبؤات بأن تصبح إحدى القوى العظمى في المستقبل القريب[25].

وبمقتضى ذلك، اتبعت واشنطن أسلوب الاحتواء مع الصين فأعطتها الضوء الأخضر للانضمام لمنظمة التجارة العالمية وإدماجها في النظام الاقتصادي العربي، وفي غضون ذلك قامت بتعزيز التحالف العسكري مع اليابان واستراليا؛ وهو التحالف الذي يشكل المعادلة الوظيفية لحلف الناتو في منطقة شرق آسيا.

وفي سبيل تحقيق إعادة التوازن بآسيا بطريقة مرنة، حرص كبار المسؤولين الأمريكيين على التأكيد على هذا التوجه ليس موجها ضد بكين.غير أن الولايات المتحدة عملت في مقابل ذلك على توسيع قاعدة حلفائها في المجال الأمني لتضم حلفاء جدد إلى جانب قائمة حلفائها التقليدين، والتي تضم أستراليا واليابان والهند وإندونيسيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وذلك بتوقيع عدة اتفاقيات أمنية خاصة فيما يتعلق ببقاء القوات الأمريكية في بعض الدول وإنشاء قواعد عسكرية على أراضيها.

ب- سياسة احتواء إيران.

لا شك أن إيران كانت في الآونة الأخيرة من أولويات الإدارة الأمريكية على الساحة الدولية،بسبب ملفها النووي.غير أن المشكلة الأساسية تتمثل في سعي إيران للهيمنة الإقليمية والهيمنة الميثولوجية(الدينية). وهو ما أوقع الولايات المتحدة في صراع منذ انتصار الثورة الخمينية سنة [26]1979.

وردا على سعي إيران لامتلاك الأسلحة النووية، قامت الولايات المتحدة بتكوين تحالفات سياسية وقانونية مثيرة للإعجاب من دول الخليج وإسرائيل وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن الدولي؛ لنشر دفاعات مضادة للصواريخ ومتابعة المفاوضات النووية مع إيران، وإدانة البرنامج من خلال آليات الأمم المتحدة،ومتابعة إيران من خلال عقوبات اقتصادية ومالية ونفطية وعسكرية. وهو ما أبان عن فعاليته منذ عام 2012.

وإذا كان من الأمريكيين من يذهب في اتجاه الخيار العسكري لوقف إيران عن امتلاك الأسلحة النووية، فإن صناع القرار الأمريكي في واشنطن جعل من استراتيجية الاحتواء البديل المفضل عن المواجهة العسكرية.حيث تكمن الخطورة في حقيقة مفادها أنه مع الإجراء العسكري ستظل واشنطن غير قادرة على إيقاف برنامج إيران النووي، وسوف تجد بدلا من ذلك دولة غاضبة لا قيد عليها، وتملك سلاحا نوويا. ذلك أن مبتغى واشنطن هو احتواء الملف بدل مجابهة دولة مارقة كإيران.وذلك عن طريق ممارسة ضغوط فعالة على النظام من خلال أعمال خفية، وحرب إلكترونية، وغيرها من الوسائل للتعجيل بنهاية الملف النووي لإيران.وكذلك من خلال حماية حلفائها. وبالتالي، يكمن الحل في المشاركة النشطة للغاية للولايات المتحدة في تأمين الخليج.وهو ما لا يعني وجود أعداد كبيرة من القوات الأمريكية على الأرض، بل إن الوجود الأمريكي القائم حاليا أكثر ملاءمة للتعامل مع إيران حتى وإن كانت نووية.وعلى عكس ذلك، يتطلب منها الأمر أن تصبح أكثر مشاركة، إذ أن عملية الاحتواء؛ تبقى مشروطة بانتهاج واشنطن لسياسة جديدة، فلا  يمكنها القيادة من الخلف، كما لا يمكنها إتباع سياسة عدم التدخل في الوقت الذي تبدأ فيها إيران بتهديد أي دولة في منطقة الجوار.

ورغم الاتفاق الذي توصّلت إليه مجموعة 5+1[27] مع إيران في العاصمة النمساوية فيينا في يوم 14 يوليوز 2015، والذي تضمن رفع العقوبات المفروضة على طهران مقابل منعها من تطوير صواريخ نووية، وقبولها زيارة مواقعها النووية.والذي كانت إسرائيل ودول الخليج أهم المعارضين لبنوده، لأنها لا ترى ما يضمن عدم تطوير إيران لقدراتها النووية العسكرية.غير أن الولايات المتحدة لم تعلن لحد الآن عن إمكانية تغيير استراتيجية الاحتواء اتجاه إيران،على اعتبار أن الكثير من الساسة الأمريكيين يرون أن هناك من الأسباب والعوامل التي تجعل من إيران دولة لها وزنها في إقليمها، مدعومة من طرف حلفائها خاصة روسيا والصين، ومدى تأثيرها فيما يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وما يؤكد استمرار السياسة الأمريكية اتجاه إيران بقاء القواعد العسكرية الأمريكية كطوق استراتيجي عليها، على الرغم من انسحاب قواتها من العراق في نهاية العام 2011، وهو ما غير نوعا ما في التوازن الإقليمي لفائدة إيران[28].

ج- تحجيم دور روسيا:

بالتزامن مع تراجع الدور الأمريكي على الساحة الدولية، ولا سيما بعد الأزمات العديدة التي تسببت فيها السياسات اليمينية المتشددة التي تبنتها إدارة “جورج بوش”.فقد بدأ الحديث من جديد عن عودة روسيا كفاعل رئيسي على الساحة الدولية، إذ لم تعد تقبل بالقواعد التي تفرضها معطيات تلك الساحة. وبالتالي، سعت في مقابل ذلك إلى تأسيس قواعد جديدة تتعاطى مع المكانة الدولية التي باتت تحتلها، كما أن فترة “أوباما” شهدت وفقا لمحللين أمريكيين عودة التيار الانعزالي الذي يدعوا إلى تقليل الانخراط الأمريكي في الشؤون الدولية، وهو ما أدى إلى وجود فرصة سانحة لمنافسي الولايات المتحدة الأمريكية لملء الفراغ الأمريكي[29].

وفي سياق تعظيم قوتها الاقتصادية، عملت روسيا جاهدة للحصول على عضوية المنظمة العالمية للتجارة إلى أن حصلت عليها في ديسمبر 2011، كما انضمت إلى مجموعة الدول السبع الصناعية المتقدمة، إلى جانب تمتعها بعضوية مجموعة العشرين وتواجدها داخل منظمة “شانغهاي”[30]، و تجمع دول “بريكس”[31]؛والتي أكسبتها وزنا متزايدا في القضايا الاقتصادية الدولية وسط محاولات بأن يكون لها الدور نفسه في القضايا السياسية الدولية.

وعلى المستوى السياسي، يلاحظ أنه بعد تولي الرئيس بوتين للسلطة تخلت روسيا عن الحذر الذي اتسمت به في السنوات الأولى، حيث أوضحت أزمات أوسيتيا الجنوبية وسوريا وأوكرانيا على التوالي رغبة روسيا في تأكيد دورها كفاعل رئيس على الساحة الدولية، والحفاظ على قدرتها المتكافئة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة فيما يتعلق بالأسلحة النووية. إضافة إلى تحديث كل من منظومات التسلح التقليدية وغير التقليدية، وهو ما يوضح عدم الرضى الروسي عن استمرار التفوق العسكري الأمريكي.

وأمام هذا التحرك الروسي سعيا إلى إبراز دوره واستعادة مكانته العالمية، تعمل الولايات المتحدة على معارضة ذلك بشدة، ولا تكتفي بمحاولة جعل روسيا ضعيفة، بل تسعى بجد إلى عزلها وتطويقها. وذلك بتوسعها في مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق التي تعتبرها روسيا عمقا استراتيجيا لها،من خلال ربط علاقات اقتصادية وعسكرية معها، وتوسيع الناتو شرقا وتبني أمريكا برنامج الدرع الصاروخي ودعمها لأنظمة مناوئة لروسيا في بعض دول أوربا الشرقية، وبخاصة أوكرانيا وجورجيا، والذي تعتبره روسيا تدخلا في شؤونها وتحديا لأمنها وتهديدا لهويتها الأورو- آسيوية، وتقليلا لدورها الإقليمي ثم العالمي.

وعليه، تعتبر عملية صنع القرار الخارجي في الولايات المتحدة الأمريكية جد معقدة؛ نتيجة الدور المحوري لهذه الدولة على الساحة العالمية، ومن ثمّ فإن العديد من الدوائر الرسمية وغير الرسمية، تتفاعل فيما بينها لصناعة قرار موحد لتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية بعقلانية أكثر خدمة لمصالح الدولة العظمى الأولى في العالم.

ذلك، أنّ هذه الحسابات الاقتصادية والسياسة واللوجستية السابق الإشارة إليها في معرض هذه الدراسة، وبما توفره من مصالح استراتيجية في السياسة الخارجية الأمريكية، وما تعنيه من نفوذ وهيمنة وقوّة تأثير في تطوّر النظام الدولي وتحديد أنماط التفاعلات فيه، فضلا عن التأثير في طبيعة العلاقات الدولية، يجعلنا نعتقد مع الكثيرين بأن الوافد الجديد ومعاونيه على البيت الأبيض في واشنطن؛سوف يعيدون النظر كثيرا في تلك الحسابات قبل أن يقدموا على إحداث أي تغيير في مفاصلها وترتيباتها، وأن القول بعكس ذلك يعني ميل الولايات المتحدة إلى الانعزالية؛ مما يفيد إحيائها مبدأ الرئيس الأسبق “جيمس مونرو[32]”  منذ عام 1821. الشيء الذي سوف يسمح بترك الساحة فارغة لظهور قوى جديدة تنافسها الهيمنة والنفوذ، وتزاحمها في قمة هرم النظام الدولي[33].وهو ما يخالف الشعار الذي رفعه الرئيس الجديد “ترامب” ودافع عنه باستماتة أثناء حملته الانتخابية أمام منافسته،والمتمثل في مقولة: “من أجل أمريكا عظيمة”.

وتأسيسا على ما سبق، فإن أجندة الوافد الجديد على البيت الأبيض، ستقوم بتفصيل مقتضياته الاقتصادية فيما يقوم بالرقي بالشأن الداخلي، في حين ستبقى السياسة الخارجية للولايات المتحدة منضبطة لمرتكزات الواقعية السياسية؛ في أفق تحقيق شعار “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” كما سبق أن صرح بذلك في انتقاد صريح للضعف المكتنف السياسة الحالية في مستوياتها الدولية[34].

[1] – فواز جرجس، “رئاسة دونالد طرمب، الخلفيات والدلالات ومستقبل السياسة الأمريكية”، مجلة المستقبل العربي، مكز دراسات الوحدة العربية، لبنان، العدد 454، ديسمبر 2016، ص.7.

[2] -زياد حافظ، الانتخابات الأمريكية: قراءة أولية في النتائج والتداعيات، مجلة المستقبل العربي، مكز دراسات الوحدة العربية، لبنان، العدد 454، ديسمبر 2016، ص.36.

[3] – تشير عملية صنع القرار إلى التفاعل بين كافة المشاركين بصفة رسمية وغير رسمية في تقرير السياسات العامة، إذ أن الإعداد القرارات هو بمثابة جزء رئيسي من سلوك المؤسسات السياسية، هذه الأخيرة التي تختار أحد التصورات البديلة لحل المشكلات المثارة؛ على أساس تقييم كل منها بما يتضمنه ذلك من مناقشة ومفاضلة.

-راجع في هذا الصدد: تامر كامل محمد الخزرشي، النظم السياسية الحديثة والسياسات العامة، دار مجدلاوي، عمان، كبعة 2004، ص.67.

[4] – سعود يوسف عياش، تكنولوديا الطاقة البديلة، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1981، ص.17.

[5] – محمد كمال، ” السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: حدود الاستمرار والتغير”، السياسة الدولية عدد 203 يناير 2016، مركز الأهرام، القاهرة.

أنظر أيضا:

Regis Gente “le gaz de schiste chamboule la géographique, Le monde diplomatique، aout 2013

[6] – راجع في هذا الصدد: محمد غربي، القوى الاقتصادية الآسوية، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الثالثة، 2009.

[7] – عبد المنعم مشاط، ” تحولات السياسة الخارجية الأمريكية وتأثيرها في العلاقات الدولية”، السياسة الدولية العدد 200 أبريل 2015، مركز الأهرام، القاهرة.

[8] – خميسة عقابي، النفط في العلاقات الأمريكية- العربية-دراسة حالة الجزائر(1990-2014)، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، جامعة محمد خضير –بسكرة، الجزائر، كليه الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية : 2014/2015، ص.91.

[9] – حجم التجارة لصين 2،2 تريليون دولار واستثماراتها في سندات الخزينة الأمريكية يبلغ ما يزيد عل 16 تريليون دولار كما أنها تملك نحو 8% من الدين الإجمالي الأمريكي البالغ 16 تريليون دولار.

[10] – باهر مردان، ” العلاقات الصينية الأمريكية”، www.accademia.edu/6003157/accademia2014

[11] – يعرف المضيق من الناحية القانونية على أنه: ممر مائي طبيعي، لا يتجاوز عرضا معينا، يربط بين جزأين من المجالات البحرية سواء كانت هذه الأخيرة تعود لبحر واحد أو أكثر، وبغض النظر عن موقع المضيق الذي قد يكون بين إقليمين أرضيين أو بين جزيرة وإقليم أرض أو بين جزيرتين أو مجموعة من الجزر.

– راجع في هذا الصدد: عبد المنعم محمد داود، مشكلات الملاحة البحرية في المضايق العربية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1989، ص.ص.258-259.

[12] – Mackinder, ” the geographical ivot of history”, Geog, journal , XXIII , 1904 .

[13]– DeSeverski, A.P.DE ” Air power :KEY TO SURVIVAL , simon and shuster, new york, 1950 .

[14]– Mahan , A.T , ” the influence of sea on history” boston, 1890.

[15] – مصطفى كامل محمد،” المضايق البحرية: مسرح الصراع القادم بين القوى العالمية، السياسة الدولية، العدد 203 يناير 2016 مركز الأهرام القاهرة، ص.ص 76.77.

[16] – راجع في هذا الصدد: حمد سعيد الموعد، أمن الممرات المائية العربية، من منشورات اتحاد الكتاب العرب،مكتبة الأسد، 1999.

[17] – مصطفى كامل محمد، مرجع سابق، ص. 78.

[18] – علي قلعة جي، القواعد العسكرية الأجنبية والحقوق الإنسانية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001-مع إشارة خاصة إلى قاعدة غوانتنامو، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 28، العدد الأول، 2012. ص.11.

[19]– هيثم مزاحم، ” القواعد العسكرية الأمريكية في العالم «، مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط، بيروت 31/05/2016، منشور في الموقع الإلكتروني http://www.beirutme.com/?p=559

[20] – السيد أمين شلبي، أمريكا والعالم، متابعات في السياسة الخارجية الأمريكية 2000-2005،مطبعة عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى 2005، ص.23.

[21] –  يظهر استطلاع الرأي أجراه مركز الأبحاث جالوب خلال الفترة من 2002 إلى مارس 2006 أن نسبة تأييد الجمهوريين لإسرائيل تصل إلى 72 % فيما قدرت نسبة تعاطفهم مع فلسطين بنحو 7%.

[22] – تعددت الآراء حول أسباب التقارب الأمريكي مع إسرائيل، حيث رأى البعض أن هذا التقارب يعود إلى قوة اللوبي اليهودي الموالي لإسرائيل داخل أمريكا فيما حاول البعض تفسير هذه العلاقة استنادا إلى مفهوم المصلحة القومية نظرا إلى كون إسرائيل تمارس دورا داعما لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط وعلى النقيض من هذا يرى اتجاه ثالث أن ذلك مرده إلى الثقافة السياسية ذاتها، أنظر في هذا الخصوص:

Jonathan Rynhold, the arabisrael conflict in American political cultural, new York: Cambridge university press , 2015.

ورد ملخصه باللغة العربية في: السياسة الدولية العدد 204 أبريل 2016، مركز الأهرام القاهرة.

[23]– معتز سلامة، هاجس الثقة: إشكالية تدعيم ركائز العلاقات الخليجية الأمريكية، مركز الدراسات، مؤسسة الأهرام WWW.AHRAM.ORG.EG

[24] – راجع التقرير الصادر عن مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي تحت عنوان ” اتجاهات كونية 2025 “، www.dni.gov./nic/pdf_2025/2025.

[25] – أنظر بهذا الشأن:

Robert hadddick, fire on the water: china , American and future of pacific, USA : naval institute press ,2014.

[26]جيمس جيفري ، ” التحرك نحو اتخاذ قرار : سياسة الولايات المتحدة اتجاه إيران ، معهد واشنطن ، فبراير 2013 تم نشره في الموقع الإلكتروني : http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/moving-to-decision-u.s.-policy-toward-iran

 

[27]– والتي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا والمانيا.

[28]– وارد في تقرير الصحفي بن بيغن، منشور في موقع الجزيرة بالإنجليزية في فاتح مايو 2012

[29] –  BERT STEPHEN , AMERICA IN RETREAT: the new isolationism and the coming global disorder , new York : penguin groupe press , 2014 .

وارد في: علاء عبد الحفيظ محمد، ” تأثيرات الصعود الروسي والصيني في هيكل النظام الدولي في إطار نظرية تحول القوة”، المجلة العربية للعلوم السياسية العددان 47/48، صيف – خريف 2015، ص.17.18.

[30] – التي تضم إلى جانبها كلا من الصين، أوزباكستان، كازاخستان، قيرخيزستان، طاجيكستان، الهند وباكستان وقد أدت المنظمة منذ نشأتها دورا مهما في المنطقة الأوراسية عن طريق حل المشاكل الحدودية بين دول المنظمة ومحاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، مع خلق مناخ إيجابي بين أعضائها للتعاون في شتى المجالات.

[31] – وهي مؤسسة تجمع كل من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وتهدف إلى تبني استراتيجية للتعاون الاقتصادي بتشجيع الاستثمار بين دول المجموعة ومحاولة إنشاء صندوق احتياطات نقدية وبنك للتنمية.

[32] – الذي سبق أن رفع شعار: “أمريكا للأمريكيين” في 02 ديسمبر 1828، والذي كان أساس السياسة الخارجية الأمريكية إلى غاية الحرب العالمية الأولي. راجع في هذا الصدد:

– Maxime Lefebvre, La politique Etrangère Américaine, 1er édition, Presses Universitaire de France, France, 2004, p.p.08-09.

[33]– في هذا الصدد نشير إلى كتاب بريت ستيفنز، ” تراجع أمريكا..الانعزالية الجديدة واضطراب النظام العالمي القادم، ملخصه وارد في مجلة السياسة الدولية العدد 201 يوليو 2015، مركز الأهرام، القاهرة، ص.196.

[34] – زياد حافظ، الانتخابات الأمريكية: قراءة أولية في النتائج والتداعيات، مجلة المستقبل العربي، مكز دراسات الوحدة العربية، لبنان، العدد 454، ديسمبر 2016، ص.39.

Exit mobile version