Site icon مجلة المنارة

قضايا حقوق الإنسان في العلاقات الدولية والخلاف المستديم حول مسألة العالمية والخصوصية

قضايا حقوق الإنسان في العلاقات الدولية والخلاف المستديم حول مسألة العالمية والخصوصية

 

ذ. محمد الهزاط

أستاذ باحث

كلية الحقوق – مكناس –

 المغرب

ملخص الدراسة

لقد كان للتحولات العميقة التي عرفها عالمنا المعاصر في نهاية الألفية الثانية بفعل تغير بنية النظام الدولي السابقة على إثر انهيار المعسكر الإشتراكي واختفاء مرجعيته القيمية، تداعيات كبرى على منظومته العلاقات الدولية، لا سيما على مستوى تراتبية أولوياتها وقضاياها التي خضعت لمراجعة شاملة أسفرت عن تراجع ملحوظ لبعض هذه القضايا مقابل تصاعد الإهتمام بأخرى، ومن ضمن هذه الأخيرة قضية حقوق الإنسان.

فقضية حقوق الإنسان، وإن ظلت حاضرة من صلب الاهتمامات الدولية طيلة فترة الحرب والباردة، إلا أنه عادة ما كانت تترابع إلى الخلف أمام قوة التأثير الذي مارسته القضايا الأمنية – الاستراتيجية، التي ظلت تشكل أحد الثوابت الجاتمة على أجندة السياسة الدولية طيلة هذه الفترة. وكان ينبغي انتظار نهاية الحرب الباردة حتى تتمكن  قضية حقوق الإنسان  من تصدر قائمة الاهتمامات والإنشغالات الدولية، لكن في ظل مناخ وسياق سياسي دولي جديد ومختلف عن ذاك الذي كان سائدا خلال الحقبة السابقة، ومطبوع بهيمنة غير مسبوقة للمعسكر الغربي على دينامية العلاقات الدولية وتفاعلاتها، ونفوذ قوي لمنظومته القيمية – الإيديولوجية الليبرالية الرأسمالية – التي أضحت تشكل الأساس الفكري الجديد والوحيد للنظام الدولي في عالم ما بعد الحرب الباردة، وما استتبع ذلك من ترويج وتشير بانتصار مطلق وتفوق حتمي لهذه المرجعية الأيديولوجية على ما عداها من الأيديولوجيات الأخرى، وصل إلى حد التدخل بالقوة لفرض مبادئها وقيمها – باعتبارها مبادئ وقيم عالمية – على الشعوب والأمم الأخرى ذات المرجعيات القيمية المخالفة، ودون مراعاة لخصوصياتها  الحضارية.

هذا ولقد شكل التدخل الغربي بوسائل وآليات متعددة لفرض التطابق العالمي مع مرجعيته القيمية، والذي بلغ إلى حد التدخل، العسكري بمبررات إنسانية، وما رافق تطبيقاته من تعسفات وانتقائية، التجسيد العملي لإشكالية قضية حقوق الإنسان في العلاقات الدولية،  ولا سيما في علاقتها بمبادئ وقضايا القانون الدولي الأخرى، وعلى قمتها قضية السيادة، وما تثيره هذه الإشكالية من خلافات مستحكمة وجدل مستديم بين الدول الغربية المناصرة لأطروحة “عالمية حقوق الإنسان”، وما تقتضيه منضرورات التطابق معها باعتبارها قيم سامية وكونية، صالحة للبشرية جمعاء في كل زمان ومكان، وبين باقي دول العالم الأخرى التي ترى في مبدأ العالمية انعكاسا لتغيرات موازين القوى في الساحة الدولية، وتجسيدا لإرادة الهيمنة لدى الدول الغربية، وتطالب في المقابل بضرورة احترام الخصوصيات الثقافية والدينية للشعوب والأمم الأخرى غير الغربية في التعاطي مع قضية حقوق الإنسان على مستوى العلاقات الدولية.

فما هو مضمون الخلاف المستحكم والمستديم الحاصل بين دعاة “العالمية” المتحمسين لأطروحة كونية حقوق الإنسان المطلقة وبين المدافعين عن أطروحة الخصوصية المتمسكين بمبدأ “النسبية الثقافية”؟ . تلك هي الإشكالية الرئيسية التي تحاول هذه الدراسة المتواضعة توضيحها ومقاربتها.

 

 

مقدمــــــة

الواقع أن الجدل أو الخلاف حول مسألة العالمية والخصوصية بخصوص قضايا حقوق الإنسان، ليس بجدل جديد، بل هو قديم قدم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ذاته، هذا وإن ظل هذا الجدل متواريا إلى الخلف طيلة فترة الحرب الباردة تاركا المجال لجدل آخر هو جدل “الأسبقية” – أسبقية الحقوق المدنية والسياسية أم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أم حقوق الشعوب؟ – وجدل “النطاق” – ارتباط حقوق الإنسان بالنطاق الوطني أم بالنطاق الدولي؟-، أما سبب إحيائه مجددا فيرجع في جانب كبير منه إلى طبيعة التغيير الذي طرأ على السياق السياسي الدولي الذي أضحت تعالج فيه قضايا حقوق الإنسان بالمقارنة بمرحلة الحرب الباردة. بعبارة أخرى، إن جدل العالمية والخصوصية أو الكونية والمحلية يرتبط بطبيعة التحولات ا لتي عرفها النظام الدولي في عقد التسعينيات من القرن الماضي، والمتمثلة أساسا في تحولين رئيسيين:

تحولات بنيوية: مست بنية النظام الدولي ونمط توزيع القوة داخله، وذلك على إثر انهيار نظام الثنائية القطبية بفعل تفكك المعسكر الاشتراكي، ليحل محله نظام دولي آخر مطبوع بطابع الأحادية القطبية في شخص الولايات المتحدة الأمريكية.

تحولات قيمية: مست قيم النظام الدولي، حيث اختفت الإديولوجية الإشتراكية من على حلبة  الصراع الإيديولوجي وانفراد الإديولوجية الليبرالية بتشكيل الأساس الفكري الوحيد للنظام الدولي، وماتلى ذلك من تبشير بانتصار مطلق وتفوق حتمي لهذه العقيدة الليبرالية، وتنظير لمستقبل علاقات دولية قائمة على الإنقسام الحضاري والديني والثقافي. هذا بالإضافة إلى الحماسة غير المألوفة التي أبداها الغرب منذ نهاية الحرب الباردة لمسألة التدخل الإنساني بالوسائل العسكرية دون إيلاء أي اعتبار لمبادئ القانون الدولي الأخرى المرتبطة بمسألة السيادة، وما صاحب هذا النمط من التدخلات من تعسفات وانتقائية سببت ارتيابا كبيرا تجاه  خطاب حقوق الإنسان، كلها عوامل تقف وراء بعث وإحياء هذا الجدل – الخلاف بين دعاة “العالمية” المتحمسين لأطروحة كونية حقوق الإنسان وبين المدافعين عن “الخصوصية” المتمسكين بأطروحة “النسبية الثقافية”.

فما هومضمون الخلاف المستحكم والمستديم بين  أطروحة “العالمية” وأطروحة “الخصوصية”؟.

المطلب الأول: وجهة النظر المؤيدة لأطروحة عالمية حقوق الإنسان

يرى المؤيدون لفكرة “العالمية” أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان طرح نفسه بصفته إعلانا عالميا. فهو لا يختص بحقوق الأوربيين فقط، بل جاء لمصلحة جميع البشرية في كل زمان ومكان. وعلى الصعيد الدولي يعبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن عالمية حقوق الإنسان، فهو يستخدم كلمات مثل “الناس” و “الإنسان” أو “الفرد”، ويبتعد عن استخدام ألفاظ ذات دلالة سياسية أو قانونية مثل “المواطنين” أو “الرعايا”، فالإعلان حسب وجهة النظر هذه يستحق هذه الصفة بجدارة من حيث مفهومه ومصدر إلهامه ومضمونه والمخاطبون به، فهو ينادي بحقوق الكائن البشري من دون تمييز، وفي أي مكان كان، وأيا كان النظام السائد في البلد  الذي يعيش فيه، أو المجموعة التي ينتمي إليها[1].

فالمادة 30 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 5 من العهدين الدوليين تنصان صراحة على مبدأ العالمية، فهما يتضمنان قاعدة أساسية تمنع كل دولة أو جماعة من ممارسة أية نشاطات تهدف إلى تضييق الحقوق والحريات المعترف بها عالميا. وسيترسخ هذا التوجه العالمي والبعد الكوني وسيتعمق بالتدريج في المواثيق الدولية اللاحقة حيث نجد أن الجيل الثالث من حقوق الإنسان، لا يكتفي بالحديث عن عموم الناس، بل عن الإنسانية برمتها، فهي تعكس وعيا نوعيا متقدما ومتطورا لحقوق الناس كأفراد وجماعات، وتفترض وحدة الجنس البشري، وتضع بين قوسين الفروق والاختلافات المتنوعة، بل إنها تكاد تفترض “إنسانية متجانسة وغير متمايزة”[2].

هذا، وقد حظيت حقوق الإنسان الواردة في الإعلان العالمي بتأييد جميع الدول الديمقراطية والديمقراطيات الشعبية والأمم المستقلة حديثا في كل أنحاء المعمورة. وتبدي الدول كلها أيا كانت أوضاع حقوق الإنسان فيها، حماسة لهذا الإعلان، ويشهد على ذلك التنصيص على الإلتزام بالإعلان ودمج أحكامه في دساتيرها .

ولقد تعززت عالمية حقوق الإنسان مع التقدم المطرد في “القانون الدولي لحقوق الإنسان” بمختلف مصادره، وهو قانون يزداد ثراء مع الزمن، ونقطة البدء فيه هي فكرة العالمية. هذه العالمية التي كان ميثاق منظمة الأمم المتحدة سباقا في إقرارها، وذلك عندما أعلنت شعوب الأمم المتحدة في ديباجة الميثاق عن عزمها على أن تنقد الأجيال المقبلة من ويلات الحرب…، وأن تؤكد من جديد إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان…، وأن تدفع بالرقي الإجتماعي قدما، وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح”. كما تعلن المادة الأولى من الميثاق أن أحد مقاصد الأمم المتحدة أن تحقق التعاون الدولي في تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا، والتشجيع على ذلك بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين. ومن هذا المنطلق، فعالمية حقوق  الإنسان تتجلى في كون الميثاق جعل احترام حقوق الإنسان أحد المقاصد الرئيسية للأمم المتحدة وأحد السبل الأساسية لتحقيق السلم والأمن الدوليين[3].

من هذا المنطلق، فإن العالمية في نظر مناصريها تهدف إلى تحقيق اتفاق بين المنتمين إلى الحضارات المختلفة حول عدد من الحقوق والحريات، اتفاق يكفل مزيدا من الاعتراف بتلك الحقوق والحريات، ويوفر لها مزيدا من الضمانات وآليات الحماية ويحقق تعايشا وانسجاما بين الثقافات المختلفة، وذلك من خلال إيجاد أساس أخلاقي وقانوني مشترك يمكن أن يتسع معه وبسببه التعاون والاعتماد المتبادل بين أبناء تلك الحضارات. كما أن العالمية تعني أن حقوق الإنسان تسير جنبا إلى جنب، ولا  تقبل التراتب أو التمييز أو المفاضلة، وهي تعني أيضا أن يستفيد العالم كله من منجزات العلم والتطورات التكنولوجية في نشر الأفكار الرامية إلى إحداث نوع من التقارب بين البشر دون تمييز بينهم من حيث آمالهم وآلامهم. كما أن العالمية في فلسفتها العامة لا تسعى للتقليل من سلطة وسيادة الدولة، بل العالمية تضع التزامات معينة على الدولة، وهي تحتاج إلى سلطة الدولة لتنفيذ هذه الالتزامات[4].

كما أن فكرة العالمية في مجال حقوق الإنسان على أساسها أيضا انتقلت حقوق الإنسان من مجرد شأن من الشؤون الداخلية لتصبح شأنا دوليا وجزءا من القانون الدولي. وتاريخ حقوق الإنسان، وتجربة الأمم  المتحدة وممارساتها، تؤكدان فكرة العالمية هاته، كما أن جميع الدول أعضاء  الأمم المتحدة بمجرد انضمامها إلى المنظمة الدولية ألزمت نفسها بمبدأ عالمية الحقوق الواردة في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن هنا اتخذت العالمية في مجال حقوق الإنسان أهمية خاصة[5].

إذن، فالعالمية، بهذا المدلول، هي مسألة مقبولة ومحمودة في أهدافها وأبعادها، ما دام القصد منها هو امتلاك كل البشر منظومة من الحقوق غير القابلة للتصرف، والتي لا يمكن إنكارها لاعتبارها حقا مكتسبا منذ ولادتهم، وهذا في حد ذاته إنجاز إنساني كبير يستحق أن نتمسك به وأن نناضل من أجل جعله حقيقة وواقع معاش.

وهكذا، فالعالمية التي تعني الانفتاح على الآخر والرغبة في الأخذ والعطاء، وفي التواصل والتلاقح المتبادل، تبدو كثمرة للتفاعل الخلاق – البناء بين الحضارات والثقافات عبر التاريخ، ونتيجة لتلاقح طبيعي لتنوع التراث الفكري والفلسفي الإنساني الذي قام على الخصوصيات الدينية والثقافية للكائنات البشرية. لذلك فعالمية حقوق الإنسان هي تعبير عن القيم الإنسانية والتراث الحضاري المشترك، فلا تعارض بينها وبين فكرة التنوع والخصوصية التي تنصهر في تكوين شخصية الكائن البشري، انطلاقا من الديانات السماوية والثقافية الوطنية المحلية[6].

لكن مع ذلك ينبغي التمييز في هذا الإطار بين ” عالمية حقوق الإنسان” وبين “عولمة حقوق الإنسان”. هذه الأخيرة التي تثير كثيرا من التخوف والإرتياب، والذي يبرره سعي بعض الأوساط الغربية، تحت شعار عالمية حقوق الإنسان إلى عولمة المفهوم الغربي لهذه الحقوق، ومطالبة بقية الشعوب والأمم الأخرى بتبنيه والإقتداء به باعتباره المفهوم الأصلح والأقدر على البقاء، مخفيا وراء ذلك حقيقة أنه يعكس نتائج تغير موازين القوى وإرادة الهيمنة لدى البعض، بعبارة أخرى “حكم الغالب على المغلوب”.

ويستمد رفض هذا التوجه نحو عولمة حقوق الإنسان بالمنظور الغربي، الذي ينطبق على واقع التعاطي مع قضية حقوق الإنسان منذ نهاية الحرب الباردة، مبرره من الإعتبارات التالية[7]:

ج- كما أن هناك منحى آخر اتخذته قضية حقوق الإنسان بعد انتهاء الحرب الباردة، وهي النظر إليها كمصلحة قومية للقوى العظمى، وليس كمصلحة دولية، وتتمثل في المقام  الأول بنشر المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان في الفكر الرأسمالي، على اعتبار أن التحرر الفكري يواكبه تحرر اقتصادي، وهو ما يعني اقتصادا مفتوحا (أمام الشركات الغربية)، وزيادة الاعتماد الدولي المتبادل (لكن في ظل اختلال موازين القوى الإقتصادية) على النحو الذي لا يمكن معه لأي دولة في المستقبل الإنعزال، وبالتالي حرمان باقي الدول الأخرى من مواردها وثرواتها الطبيعية.

من هنا نفهم سر توجه دول الجنوب إلى الربط بين العالمية والسيطرة. فالعالمية المتمسك بها من طرف الدول الغربية، ما هي في نظر الكثيرين إلا قناع هيمنة وأداة سيطرة ووسيلة استلحاق سياسي واجتماعي وثقافي لدول الجنوب بدول الشمال، بل هي في بعض الأحيان أداة للتدخل في شؤون هذه البلدان لتوجيهها في المسار المطلوب والمحدد من طرف الغرب. وربما يكون “حق التدخل” أو “واجب التدخل” الذي جرى حوله نقاش عالمي حاد في العقد الماضي، ما هو في الحقيقة إلا حصان طروادة الذي يمكن الدول القوية في الشمال، بصورة استعمارية جديدة ملطفة، من التدخل في شؤون الدول الأخرى بدعوى تحقيق أهداف إنسانية أو باسم حماية حقوق الإنسان فيها[8].

باختصار إن التخوف والارتياب الذي تقابل به “مسألة العالمية”، هو في جزء كبير منه ليس موقفا من حقوق الإنسان في حد ذاتها، بقدر ما هو موقف من العالمية المقرونة بنزعة الهيمنة، أي موقف تجاه الغرب بسلوكه الحالي الرامي إلى توظيف “مسألة العالمية” لعولمة ثقافته ومفهومه الخاص لحقوق الإنسان، ومطالبة أصحاب الثقافات الأخرى بالتطابق معه باعتباره المفهوم الأفضل والأسمى، وهو ما يعترض عليه أنصار” أطروحة الخصوصية” أو المحلية، وينظرون إليه على أنه تعبير في “أصولية ثقافية متغطرسة” تريد تدمير وإقصاء الثقافات والهويات الأخرى، وإعاقة حقها في التعبير عن خصوصياتها، وفي التفاعل الإيجابي والندي مع الثقافة الغربية.

المطلب الثاني: وجهة النظر المؤيدة لأطروحة الخصوصية

يرى أنصار أطروحة الخصوصية أنه مع التسليم بحقيقة أن حقوق الإنسان قد أضحت ألآن – بفضل التزايد المطرد في درجة الإهتمام الدولي بها – ذات طابع عالمي، إلا أن القبول بذلك- وبحسب هذا الطرح- لا يعني بالضرورة نفي الخصوصيات الحضارية والثقافية الشعوب والأمم الأخرى.

وبعبارة أخرى، فإذا كان صحيحا أن ثمة قاسما مشتركا على مستوى بعض المفاهيم، فيما بين الثقافات والنظم القانونية والسياسية المختلفة، فيما يتصل بقضايا حقوق الإنسان، كالموقف مثلا من مسألة التعذيب والمحاكمات غير العادلة والاحتجاز التعسفي، والتمييز العنصري….، إلا أنه صحيح أيضا أنه توجد ثمة خصوصيات لا ينبغي – وليس من المصلحة- إغفالها أو التغاضي عنها. وهذه الخصوصيات قد يكون مصدرها القيم الدينية السائدة أو النظام العام أو الآداب، أو حتى طبيعة المرحلة من التطور والنمو التي يمر بها هذا المجتمع أو ذلك[9].

واتساقا مع هذا الإدراك، فإن هناك من يرى – وبحق- أنه يعتبر من صميم حقوق الإنسان وجوهرها أيضا حق الأفراد المنتمين إلى جماعة معينة أو إلى شعب معين في أن يشعروا بتميزهم عن غيرهم من الجماعات والشعوب الأخرى، ومن دون أن يعني ذلك سموا لعنصر على حساب آخر.

فأنصار الخصوصية يرون أن لكل ثقافة شخصيتها المتفردة التي تتميز بها عن سواها من الثقافات، ويرجع ذلك التميز إلى البيئة الاجتماعية الخاصة التي تنشأ الثقافة في كنفها وتعبر عنها، ويقع ضمن تلك البيئة واقع التراكم الحضاري والديني والقيمي المتباين من مجتمع إلى آخر[10]. وهذه هي نسبية وتعددية الثقافة القائمة على تاريخيتها، فهي محددة بمكان وزمان محددين. فليست هناك ثقافة عالمية واحدة، و “إنما وجدت وتوجد وستوجد ثقافات متعددة ومتنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها على الحفاظ على كيانها ومقولاتها الخاصة، ومن هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا آخر”[11].

وفضلا عن الشق الخاص في كل ثقافة، ثمة شق آخر عالمي وكوني تتقاسمه الثقافات العالمية جميعها، وهو ناتج عن التداخل والتلاقح فيما بين الثقافات العالمية، والذي يوحد – إلى حد كبير- قواعدها وقيمهاويوسع من دائرة المشترك فيما بينها إلى الحد الذي تبدو فيه وكأنها ثقافة واحدة، أو تنويعات مختلفة لثقافة واحدة[12].

ويذهب أنصار الخصوصية الثقافية، كذلك إلى أن مسألة الخصوصية إنما تعمل في الواقع على تعزيز مسألة حقوق الإنسان والحريات الأساسية فكرا وممارسة، إلى درجة أبعد مما يمكن أن يتفق عليه أعضاء الجماعة الدولية عموما، والذين قد لا يستطيعون الاتفاق إلا على حد أدنى محدود، بحكم عددهم الكبير، وتعدد ثقافتهم، ويستدلون على ذلك بتجربة الموقف القوي الذي تبنته الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1950 فيما يتعلق بتعزيز هذه الحقوق والحريات وحمايتها، والتي تجاوزت بكثير ما تضمنته الاتفاقيات والمواثيق الدولية الأخرى ذات الطابع العالمي، سواء تلك التي سبقتها كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو تلك التي جاءت لاحقة عليها كالعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[13].

كما أن هذا الاستنتاج يصدق أيضا، وبدرجة أكبر، بالنسبة لحالة الشريعة الإسلامية التي وضعت نظاما متكاملا لحماية حقوق الإنسان، لا يضاهيه – بالنسبة للباحثين المنصفين- أي نظام قانوني وضعي مهما علا في إنسانية. فالمواثيق الإسلامية وإن كانت تتفق مع مضامين العديد من المواثيق والإعلانات الأممية إلا أنهاتمتاز عنها في مبادئها وفي مصادرها المرجعية. فبينما تنطلق النصوص الأممية من مبدأ النظام الطبيعي، وتنظر إلى الإنسان في واقعه الإنساني وفي حاجياته المادية، يستحق بموجبها حقوق وحريات طبيعة، بما هو إنسان، نرى المواثيق الإسلامية تعتبر الإنسان في شمولية ذاته، وتنظر إليه من جانب احتياجاته المادية والروحانية، فتعتبر الحقوق هبة إلهية والحريات تخويلا إلهيا، وهي جميعها مؤسسة على العقيدة الإسلامية، وممارستها والتمتع بها منوط بمقاصد الشريعة الإسلامية[14].

وإلى جانب هذه الخصوصية الإسلامية، تبدي بعض الحكومات الأسيوية (بقيادة الصين) تحفظا على مبدأ عالمية أو عمومية حقوق الإنسان، وذلك على أساس أن الثقافة والتقاليد المحلية يجب أن توضع في المقام الأول. وتحججت هذه الحكومات بأن المعايير الدولية لحقوق الإنسان بنيت أساسا على مفاهيم غربية، وهي لا تتناسب مع المجتمعات الأسيوية، لأنها تركز على الحقوق الفردية. كما أوضحت هذه الحكومات أن الأسيويين على سبيل المثال يعطون قيمة أكبر للإنسجام الإجتماعي، كما أنهم أكثر ميلا للتضحية بالمصلحة الشخصية في سبيل الجماعة.

وساقت بعض الحكومات الأفريقية والأمريكية اللاتينية حججا مماثلة، معتبرة أن حقوق الإنسان في هذه المجتمعات موجودة لضمان خير المجتمع ككل، وأنه من خلال حماية الجماعة يصبح بالإمكان ضمان وحماية حقوق الأفراد[15].

والواقع أنه وبغض النظر عما قد يرتبط بهذه  المواقف من خلفيات سياسية، فإن رفض مسألة الخصوصية، والتنكر للمحلية يصطدم وظروف الواقع ومقتضياته، فضلا عن كونه يتعارض بشكل صريح مع القواعد الديمقراطية التي تستلزم ضرورة الاعتراف بالآخر، ناهيك عن أن التنكر لمثل هذه الخصوصيات سيقود في نهاية الأمر إلى إتاحة الفرصة لهيمنة ثقافة أو منظومة قيم معينة – قد لا تكون هي الأكثر ملاءمة- على باقي الثقافات والمنظومات القيمية الأخرى، مما يخلق لدى هذه الأخيرة شعورا بضرورة مواجهة هذه الثقافة المهيمنة، وذلك عبر التمركز حول “الأصول” و “الخصوصيات الثقافية”، وتجسيد ذلك من خلال تعبئة الديانات وحشد الهويات واستنفار الثقافات. وهذا ما أصبح يعبر عنه حاليا بشعارات مثل “أسينة آسيا” و “أسلمة العالم الإسلامي”. لذا، ليس من قبيل الصدف أن يتزامن تزايد الإرتباط بالمنطق المحلي والفضاء المحلي بازدياد المنطق السائد باتجاه العالمية والشمولية والكونية. كما أنه ليس من قبيل الصدف أن يتزامن المد الليبيرالي الجديد وديمقراطية السوق مع عنف انبعاث الهويات الثقافية واللغوية، وتزايد مطالب الأقليات الطائفية والقومية والدينية وغيرها، وما بروز النزاعات القومية والأصولية إلا تعبير عن المخاوف والصدمات التي تنتاب الشعوب والأفراد من مخاطر فقدان معالم كيانهم الثقافي، تحت وقع دينامية عولمة متسارعة تجتاح كل شيء بلا رقيب ولا كوابح، هدفها خلق إنسان عالمي لا ثقافي[16].

غاية القول، إذن، أن الاعتراف بالخصوصيات الثقافية والحضارية فيما يتصل بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، يشكل دون شك أحد الشروط الضرورية لإمكان تحقيق قدر مناسب من الديمقراطية في إطار العلاقات الدولية، ولا ينبغي النظر إليه – إي إلى هذا الإعتراف- بأي حال من الأحوال باعتباره مناقضا- من حيث الجوهر أو المضمون- لمبدأ العالمية، ما دام هذا الأخير ينصرف فحواه إلى ذلك القدر المشترك المتمثل في وجود مصلحة إنسانية للجميع في الإرتقاء بالحقوق والحريات العامة[17].

هذا الموقف هو ذاته الذي انتهت إليه نتائج مؤتمر فيينا حول حقوق الإنسان لسنة 1993، إذ بموازاة مع تأكيده على عالمية حقوق الإنسان الأساسية، وأن هناك حدا أدنى من الحقوق يتعين على كل النظم السياسية والقيمية والحضارية أن توفرها للإنسان، واعترافه كذلك بالعلاقة المترابطة بين أبعاد حقوق الإنسان كالعلاقة مثلا بين الديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الإنسان، بموازاة مع كل هذا أكد المؤتمر كذلك على أن عالمية حقوق الإنسان لا تتعارض مع فكرة التنوع الثقافي. والخصوصية الثقافية التي هي أيضا حق من حقوق الإنسان ليست مناقضة للعالمية، ولكنها في الأصل قيمة مضافة، ولا ينبغي أن تستخدم كذريعة للإفلات من الالتزامات الدولية في هذا المجال، ولتعطيل ممارسة المواطنين لحقوقهم وحرياتهم الأساسية، وهو ما يصطلح على تسميته “بالخصوصية المتطرفة” أو “المحلية الانعزالية”، التي تبقى مرفوضة شكلا ومضمونا.

– فمن الناحية الشكلية: نجد أن كل ما ترمي إليه هذه “الخصوصية الراديكالية” هو التخندق من وراء الحساسيات الثقافية من أجل تبرير ثقافي للسلطوية السياسية والثقافية، وإضفاء المشروعية على الانتهاكات الفضيعة للحقوق والحريات الأساسية.

– ومن الناحية الموضوعية، فإن هذه “الأصولية الثقافية” لا تعكس في واقع الأمر مصالح غالبية الأمم، وإنما مصالح أقليات طبقية وسياسية تستخدم سلطة الدولة الغاشمة ضد المعارضة السياسية والثقافية وضد الشعب بأسره، لكي تفرض هذه المصالح، وتصادر التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي لمصلحة غالبية الشعب[18].

 

خاتمـــــة:

وكخلاصة يمكن القول، أنه بالرغم من الاختلافات في الرؤى بين دول وأمم العالم حول قضايا حقوق الإنسان والذي يعكسه الجدل حول “مسألة العالمية أم الخصوصية” أو “الكونية أم المحلية؟”، إلا أن المستفيد الأول والأخير من كل هذا يبقى هو الإنسان ذاته. فكثرة الحديث عن حقوقه وحرياته الأساسية كاد يصبح شعيرة من الشعائر. وأصبحت كل الفعاليات من أحزاب ومؤسسات ودول تعمل على إبراز هذه الحقوق وتأكيدها في برامجها ومواثيقها ودساتيرها. كما صار مبدأ احترام حقوق الإنسان أحد المعايير المهمة في تحديد العلاقات والمعاملات الدولية، وكذلك في قياس مستوى التطور السياسي والثقافي لأي مجتمع، وقد يتخذ مثل “مقياس النمو” الذي يستخدم – عند علماء الاقتصاد- في تحديد مستوى تطور الدول اقتصاديا. فمسألة حقوق الإنسان تكتسب عالمية جديدة ذات فعالية أكبر يوما عن يوم بعد أن كانت مجرد شعار. باختصار، لقد أصبحت مسألة حقوق الإنسان – كما قال الأمين العام للأمم المتحدة السابق الأستاذ بطرس بطرس غالي- اللغة المشتركة للإنسانية جمعاء[19].

 

[1]محمد يوسف علوان: القانون الدولي لحقوق الإنسان: آفاق وتحديات، عالم الفكر، العدد 4، المجلد 31، أبريل يونيو 2003، ص 201.

[2]دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان، الجنة المشتركة المكلفة بتنفيذ البرنامج الوطني للتربية على حقوق الإنسان، المملكة المغربية، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، بدون تاريخ، ص 160.

[3]يوسف البحيري: حقوق الإنسان في النظام القانوني الدولي، مراكش، 2003، ص 46-47.

[4]محمد فائق: حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية: في حقوق الإنسان، الرؤى العالمية والإسلامية والعربية، سلسلة كتب المستقبل العربي، عدد 41 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، أبريل 2005، ص 69-70.

[5] يوسف البحيري، مرجع سبق ذكره، ص 44.

[6]الباقر العنيف وعصام الدين محمد حسن، الرهان على المعرفة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2002، ص 37. وأنظر أيضا محمد فائق، مرجع سبق ذكره.

[7]محمد فهيم يوسف: حقوق الإنسان في ضوء التجليات السياسية للعولمة في: حقوق الإنسان، الرؤى العالمية والإسلامية والعربية، مرجع سبق ذكره، ص 62.

عبير بسيوني: الولايات المتحدة والمتدخل لحماية حقوق الإنسان والديمقراطية، السياسة الدولية، السنة 33، العدد 127 ، يناير 1997، ص 117.

[8]دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان، اللجنة المشتركة المكلفة الجديدة بتنفيذ البرنامج الوكني للتربية على حقوق الإنسان، مرجع سابق، ص 160.

[9]أحمد الرشيدي: حقوق الإنسان في أربعة عقود: إنجازات كبيرة وإشكاليات مستمرة، السياسة الدولية عدد 161، يونيو 2005، ص 127.

[10]محمد عابو الجابري: العرب والعولمة، في العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998، ص 298.

[11]محمد عابو الجابري: العرب والعولمة، في العرب، والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص 298.

[12]عبد الإله بلقزيز، مرجع سبق ذكره، ص 109.

[13] أحمد الرشيدي، مرجع سبق ذكره، ص 127-128.

[14]مصطفى الفيلالي: نظرة تحليلية في حقوق الإنسان من خلال المواثيق وإعلانات المنظمات، في: حقوق الإنسان، الرؤى العالمية والإسلامية والعربية، مرجع سبق ذكره، ص 22.

[15]محمد فائق، مرجع سبق ذكره، ص 74-75.

[16]محمد سعدي: مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، سلسلة أطروحات الدكتوراه (58) مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، يونيو 2006، ص 271.

[17]أحمد الرشيدي، مرجع سبق ذكره، ص 127.

[18]محمد السيد سعيد: حقوق الإنسان بين الديمقراطية والأخلاق العالمية، السياسية الدولية، عدد 96، أبريل 1989.

[19]رضوان زيادة: الإسلاميون وحقوق الإنسان: إشكالية الخصوصية والعالمية، في: حقوق الإنسان، الرؤى العالمية والإسلامية والعربية، مرجع سبق ذكره، ص 145-146.

Exit mobile version