Site icon مجلة المنارة

قراءة في المادة الأولى من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية المغربية

قراءة في المادة الأولى من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية المغربية

ذ/ محمد الزهري

طالب باحث في  صف الدكتوراه

جامعة عبد الملك السعدي ـ كلية الحقوق ـ بطنجة ـ

مقدمة: تعد الجريمة ظاهرة كونية لا يسلم من شرها أي مجتمع مهما بلغ من الرقي، الامر الذي يقتضي التصدي لها بكل حزم وصرامة حتى نقلل من تداعياتها. هذا التصدي يتم عن طريق توقيع العقاب الأمثل لكل من سولت له نفسه زعزعة استقرار المجتمع وطمأنينته، إلا أنه وإن كان لا بد من العقاب، فإن ذلك لا يعطي الحق للمجتمع ـ والذي تحل محله الدولة في توقيع العقوبة في إطار ما يعرف بحق الدولة في توقيع العقاب ـ في التمادي فيه، فالعقوبة يجب أن تكون لا أقل مما هو عادل، ولا أكثر مما هو مفيد وإلا خرجنا عن أهداف العقوبة.

وهنا تكمن وظيفة المسطرة الجنائية، فهي تسعى إلى التوفيق بين مصلحتين متنافرتين، مصلحة المجتمع في ضمان استقراره، ومصلحة المتهم في ان يحاكم محاكمة عادلة. فقواعد القانون الجنائي الموضوعي يمكن أن تتسم بالقسوة والظلم، بخلاف قواعد القانون الجنائي الإجرائي ـ ونقصد بها قانون المسطرة الجنائية ـ  الذي وكما عبر عليه الفقيه أرطولان:

“تستطيع الإجراءات الجنائية أن تقوم اعوجاج القوانين العقابية إذا كانت فاسدة، ولكن العكس لم يشاهد في بلد من البلدان”[1].

لقد أصبحت المحاكمة العادلة بحق من أهم مجالات حقوق الإنسان، فهي تشكل ضمانة حقيقية ضد كل الانتهاكات التي يمكن أن تتخذ صورا متعددة[2]، فقواعد المحاكمات كما عبر عنها الفقيه مونتيسكيو لتهم العرف البشر أكثر من أي شيء آخر.[3]

ويمكن إرجاع مبادئ المحاكمة العادلة إلى موضوعين أساسيين، حيث يتعلق الموضوع الأول بأجهزة الدولة وعلى رأسها القضاء، فيما يتعلق الموضوع الثاني بالمركز القانوني للمتهم والضحية، ويخص حقوق الدفاع.[4]

وحتى نصل إلى المحاكمة العادلة، لا بد من توفير مجموعة من الضمانات الموضوعية والإجرائية، من قبيل المساواة أمام القانون، المحاكمة على وجه السرعة، احترام حقوق الدفاع، حياد القضاء، احترام مبدأ الأصل في الإنسان البراءة، وبناء الأحكام الجنائية على اليقين القضائي التام الذي لا يترك أي مجال للشك.

فهذه المبادئ وغيرها تعد بحق من أهم الضمانات الممنوحة للأفراد في مواجهة الإجراءات الخطيرة الممنوحة للدولة. كما أنها تعد امتداد لمبدأ الشرعية الإجرائية، فمبدأ سيادة القانون  ينحصر دوره في تحقيق ما يصبو إليه، لذلك كان لزاما أن يكون هناك ما يكفل فاعلية هذا المبدأ. وليست الشرعية سوى الطريق الأمثل لتحقيقه[5].

وموضوع هذه المقالة سيخصص لقراءة في المادة الأولى من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، محاولين إبراز مدى ملائمة المسودة مع ضمانات المحاكمة العادلة، حيث سنقسم هذه الدراسة إلى خمس نقط اساسية، نخصصها لكل من المساواة أمام القانون (أولا) المحاكمة داخل أجل معقول (ثانيا) احترام حقوق الدفاع (ثالثا) حياد القضاء (رابعا) ترشيد الإجراءات الماسة بالحرية (خامسا) قرينة البراءة وتفسير الشك لصالح المتهم (سادسا).

أولا: المساواة أمام القانون

تنص الفقرة الاولى من المادة الاولى من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية على أن “كل الاشخاص متساوون أمام القانون..” على أساس ما سبق ضمنت الفقرة أعلاه تقرير ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة وهي المساواة أمام القانون.

تنطوي ضمانات المساواة في سياق مراحل المحاكمة الجنائية على عدة جوانب، فهي تحظر استخدام القوانين التميزية في تنفيذ القانون، وتشمل الحق في المساواة أمام القانون والحق في تلقي الحماية من القانون على قدم المساواة مع الآخرين، وحق كل فرد في اللجوء إلى المحاكم وغيرها[6] وقد نصت م 26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن: ” الناس جميعا سواء أمام القانون ويتمتعون دون أي تمييز بحق متساو في التمتع بحمايته…”كما نصت م 7 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: “الكل سواء أمام القانون ولكل شخص حق التمتع بالحماية من قبل القانون على قدم المساواة مع الآخرين…”.

وهكذا نسجل تقدما إيجابيا من طرف المشرع المغربي ـ من خلال هذه المسودة ـ إذ بتنصيصه  على المساواة امام القانون يكون قد قطع دابر كل محاولة للخروج عنه، فنص المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية الحالي[7]. نجدها لا تنص سوى على مبدأين هما الأصل في الإنسان البراءة وتفسير الشكل لفائدة المتهم.

ثانيا: المحاكمة داخل أجل معقول.

يحق للمعتقلين أن تسير الإجراءات المتخذة ضدهم بسرعة خاصة، كما يجب الإفراج على المعتقلين إذا لم يقدموا إلى المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة[8]

والحق في المحاكمة داخل اجل معقول ينقسم إلى شقين فالشق الأول يتجسد في مرحلة ما قبل المحاكمة، أما الشق الثاني فيتعلق بمرحلة المحاكمة، وكلا الشقين يرتبطان بالمبدأ الراسخ في الإجراءات الجنائية وهو أن الأصل في الإنسان البراءة.

وقد نصت المادة 9 الفقرة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: “لكل شخص يحتجز بسبب تهمة جنائية الحق في أن يحاكم في غضون فترة زمنية معقولة أو يفرج عنه إلى حين انعقاد المحاكمة”.

وبالرجوع إلى نص المادة الاولى من المسودة نجدها تنص في فقرتها الأولى: “…ويحاكمون في اجل معقول…”.

وينبغي التمييز ما بين المحاكمة على وجه السرعة، وما بين المحاكمة المتسرعة، فالمحاكمة على وجه السرعة ـ والتي عبر عنها المشرع في المسودة بالأجل المعقول ـ تقضي ألا تؤخر محاكمة المتهم دون عذر مقبول، في حين أن التسرع في المحاكمة معناه الوقوع في أخطاء قضائية فادحة، وضربا القرينة البراءة وخروجا سافرا على ضمانات المحاكمة العادلة[9].

لكن عبارة “الأجل المعقول” تبقى لوحدها غير كافية، حيث يمكن استعمالها ضدا على حرية المتهم، والإبقاء عليه معتقلا بدعوى عدم جاهزية القضية، وبالتالي يفقد هذا المبدأ محتواه إذا لم يحط بالضمانات اللازمة.

وأمام سكوت المشرع عن تحديد المقصود بالأجل المعقول، تولى البعض تحديده[10] حيث يقيم هذا الأجل بناء على ملابسات كل قضية على حدة. وتشمل الأركان التالية: تعقد القضية، خطورة التهم، العقوبات المنصوص عليها، وكون المتهم معتقلا أم لا.

وبناء عليه، فالأجل المعقول ليس موحدا حيث كلما تعقدت القضية كلما ارتفع هذا الزمن والعكس صحيح، وبالتالي كل الآمال تبقى معقودة على قضائنا في اخذ هذا الأجل محمل الجد بالنسبة لكل قضية.

ثالثا: احترام حقوق الدفاع.

لكل شخص يحتجز أو يحتمل ان تنسب له تهمة الحق في المؤازرة بمحام يختاره للدفاع عن حقوقه، فإن كان غير قادر على الاستعانة بمحام، وجب تمكينه من ذلك في إطار المساعدة القضائية.

وينبغي تمكين المعتقلين من حق الاستعانة بمحام منذ الساعة الأولى من احتجازهم، وأن يتم استجوابهم بمعية هذا الأخير ـ أي المحامي ـ وأن تعطى لهم المساحة الزمنية الكافية لإعداد دفاعهم.[11]

والحق في الاستعانة بمحام يعتبر من دعائم المحاكمة العادلة، حيث حرصت التشريعات المقارنة على التنصيص عليها صراحة، وذلك لتمكين المتهم من الاستفادة من الخبرات القانونية التي يتوفر عليها المحامي، التي قد يفتقد إليها المتهم. فيصعب عليه الدفاع عن نفسه أو إثبات براءته، وأيضا لإعلام المتهم بكافة حقوقه الدستورية والتي غاليا ما يجهلها المتهم. فيصبح في هذه الحالة الاستعانة بمحامي مسالة حتمية ومصيرية لضمان محاكمة عادلة[12].

وبالنسبة للمشرع المغربي، فقد كان يربط موقفه في قانون المسطرة الجنائية الملغى ـ ظهير 1959 ـ المنكر لحقوقه في الدفاع أمام الشرطة القضائية بكيفية تحديده لنطاق المحاكمة الجنائية، حيث كان يتعامل مع مرحلة البحث التمهيدي على أنها مجرد مرحلة تقع خارج نطاق المحاكمة، أي أنها مجرد مرحلة لتجميع المعلومات الاولية والتي لا ينتج عنها أيي دليل. [13][14]

لكن من الناحية العلمية تعد مرحلة البحث التمهيدي أخطر مرحلة من مراحل المحاكمة، لما تتميز به من قسرية وسرية وغياب الضمانات الممنوحة للمشتبه فيه او المتهم، ولما تنتجه محاضر الضابطة القضائية من قوة ثبوتيه، فجل الأحكام القضائية تستند على محاضر الضابطة القضائية كدليل إدانة. لأجل ذلك عمل المشرع على التلطيف من هذا الشدود ونص على حق المشتبه فيه أو المتهم في الاستعانة بمحام خلال فترة الوضع تحت الحراسة النظرية في القانون الحالي لكن ليس من بداية الحراسة، بل من الساعة الأولى من انقضاء نصف مدة الحراسة النظرية القانونية[15] لمدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة وهو ما يعتبر بمثابة ذر الرماد على أعين المهتمين بالشأن الحقوقي الوطني.

وبالرجوع إلى مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية الحالية، نجد الفقرة الأولى من المادة الأولى تنص على كونها: “… وتحترم في كافة مراحلها حقوق الدفاع”. وهنا ننوه بهذا المستجد، حيث نص المشرع على احترام وكفالة حقوق الدفاع في كافة مراحل المحاكمة بدء من مرحلة البحث التمهيدي وصولا إلى مرحلة المحاكمة الجنائية والتحقيق النهائي.

وبالنسبة للفترة التي يحق فيها للمشتبه فيه الاستعانة بمحام فإن المادة 2-66 من المسودة عملت على جعله من الساعة الأولى من التوقيف بدل الساعة الأولى من انقضاء نصف المدة القانونية[16] وهو ما يحسب لواضعي المسودة.

وإننا إذ ننوه بهذه المستجدات فإن ذلك لا يمنعنا من تسجيل بعض الملاحظات السلبية، فإذا كان حق الاستعانة بمحام مكفول منذ الساعة الأولى للتوقيف، فإن هذه الضمانة يمكن تأخير الاستفادة منها إلى الساعة الأولى من انقضاء نصف المدة الأصلية للحراسة، إذا تعلق الأمر بجريمة تعد جناية أو جريمة إرهابية وذلك من طرف ممثل النيابة العامة إذا اقتضت ضرورة البحث ذلك بحيث يمكن  لممثل النيابة العامة تأخير حق الاستعانة بمحام كلما قدر ذلك لضرورة البحث الأمر الذي يفرغ هذه الضمانة من محتواها[17].

كما أن مدة حق الاستعانة بمحامي ظلت كما هي ولم يطلها أي تعديل، أي بقيت بدون تعديل لمدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة وكلنا نعلم أن هذه المدة تظل قصيرة جدا، الأمر الذي يحيد بهذه الضمانة عن طريقها السليم.

رابعا: حياد القضاء.

الحياد سمة من سمات استغلال القضاء، ويعني صلاحية القاضي للفصل في النزاع المطروح عليه، وبتعبير آخر هو تجرد حيال النزاع المعروض عليه من أي مصلحة ذاتية كي يتسنى له البث في النزاع بموضوعية.[18]

وحياد القضاء عنصر ضروري ولازم بجانب استغلال القضاء لضمان عدالة المحاكمة، فالحياد مكمل للاستقلال بحيث إذا فقد القاضي استقلاله فلن يكون محايدا، على أن الحياد يختلف عن الاستقلال، فإذا كان هذا الأخير يعني عدم التأثر بالعناصر الخارجية، فإن الحياد يثير عنصرا داخليا وهو البعد عن الهوى والميل، لذا يتعين عدم الخلط بين المفهومين.[19]

وإذا كان القضاء هو ميزان العدل، فإن سلامة هذا الميزان تقتضي أن يكون القاضي بمنأى عن أي تأثير للمصالح، أو الأهواء الشخصية وأن يكون حكمه غير خاضع لعوامل التحكم لأن القيمة الموضوعية للقانون تتوقف على تطبيقه المحايد وهذا المبدأ يعد من المبادئ الدستورية التي يمكن استخلاصها من مبدأ استقلال القضاء على اعتبار أن الاستقلال يعد ضمانا لقيام القضاء بدوره في حماية الحريات. وأن ينظم شروطه عن طريق تحديد الأسباب المؤدية إلى عدم توافره من خلال الحظر الذي يفرضه على القضاة في تولي أعمال معينة[20]، وهذا الحظر يشمل الموانع القانونية مثل قيام القاضي بأي عمل في الدعوى المطروحة أمامه يتعارض مع اشتراكه فيها مرة أخرى، في الدعوى ويحول دون حياده، مثل وجود صلة القرابة او المصاهرة لأي من اطراف الدعوى أو قيام خصومه، أو وكالة بين القاضي وأحد الخصوم، وهو ما يعرف بحالات عدم الصلاحية

ـ أو الرد كما يعبر عنها أستاذنا عبد السلام بنحدو ـ .

أما الموانع التقديرية التي تحول دون حياد القاضي فهي الأسباب التي تخضع  لتقديرات الجهات القضائية المختصة.[21]

وقد نصت على  هذه الضمانة الفقرة الثانية من المادة الاولى من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية على أنه: ” يسهر القضاء على ضمان حقوق الضحايا والمتهمين على حد سواء…” فعبارة “يسهر القضاء” و “على حد سواء” واضحة المعالم لا ليس فيها في توضيح الدور القضائي، فالقضاء لا يهمه أي طرف على حساب الآخر بقدر ما يهمه إحقاق الحق وإزهاق الباطل. فإذا تبين له أن المتهم مدان حكم ضده والعكس صحيح.

وتكمن فكرة حياد القضاء في النظام الاتهامي في فكرة معركة صورية بين مقاتلين ـ وهم المتهم وسلطة الاتهام ـ امام محايد غير مقاتل ـ وهو القاضي ـ الذي يقرر أو ينهي المعركة معلنا فوز أحدهما هو المقاتل القوي الذي تتوفر لصالحه أدلة إثبات دامغة.[22]

خامسا: ترشيد الإجراءات الماسة بالحرية.

عرف المغرب منذ حصوله على الاستقلال مجموعة من القوانين المتعلقة بالمسطرة الجنائية[23] ، هذه القوانين غلب عليها طابع التضييق في الحريات تارة والتخفيف منها تارة أخرى، وبصدور مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية[24]  عبر واضعوها في الديباجة أن من بين أهدافها تعزيز وتقوية ضمانات المحاكمة العادلة، ومن بين هذه الضمانات ترشيد الإجراءات الماسة بالحرية.

وبالرجوع إلى الفقرة الرابعة من المادة 1 من المسودة، نجدها تنص على أنه: “لا يمكن اتخاذ أي إجراء مقيد لحرية الأشخاص إلا بمقتضى القانون وتحت مراقبة السلطة القضائية المختصة” وتعد هذه الفقرة خير دليل على الرغبة في الارتقاء بالإجراءات الماسة بالحرية المتعلقة بالحراسة النظرية من مجرد عمل من اعمال البحث التمهيدي إلى مرحلة قضائية بإمتياز.[25]

ولا يقتضي الترشيد على الحراسة النظرية فحسب، بل يمتد كذلك ليشمل الاعتقال الاحتياطي، فهذا الأخير أثار وما زال يثير الكثير من الجدل حول طابعه الاستثنائي. لأجل ذلك أوجد المشرع بدائل لهذا الاخير.

ـ بالنسبة للحراسة النظرية: بالرجوع إلى القانون الحالي المنظم للمسطرة الجنائية نجد هذا الأخير يتيح لضابط الشرطة القضائية اللجوء إلى الحراسة النظرية لمجرد ضرورة البحث، فله أن يوقعه مباشرة في حق كل مشتبه فيه او متهم لمجرد تقديره لذلك، لكن المادة 66 من المسودة اشترطت لإمكانيته إخضاع المشتبه فيه للحراسة النظرية تواجد أسباب الاشتباه في ارتكاب أو محاولة ارتكاب جناية أو جنحة سالبة للحرية.

وبالتالي فإن المادة 66 من المسودة تشترط ضرورة وجود ثنائية الضرورة والنسبة[26] كشرطين للوضع تحت الحراسة النظرية، كما عملت المادة 1 -66 من المسودة على تعداد الحالات المؤدية لضرورة البحث لإخضاع المشتبه فيه للحراسة النظرية، حتى لا يقع ضابط الشرطة القضائية في أهواءه لإخضاع من شاء لهذا التدبير الخطير.

وإن كانت هذه المستجدات تنصب في الجانب الإيجابي، فإنه يؤاخذ على المشرع كونه حافظ على نفس المدة للوضع تحت الحراسة النظرية ـ أي 48 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة لمدة 24 ساعة في الحالات العادية وترتفع هذه المدة كلما تعلق الامر بجريمة ماسة بسلامة الدولة أو جريمة إرهابية ـ رغم أن التشريعات المقارنة (التشريع الفرنسي والمصري مثلا) حددت مدة الوضع تحت الحراسة في 24 ساعة. وبالتالي فحبذا لو تم تقليص هذه المدة لمسايرة التشريعات الحديثة.

ـ بالنسبة للإعتقال الاحتياطي: لم يعرف المشرع المغربي الاعتقال الاحتياطي لا في النص الحالي ولا في نص المسودة، مكتفيا باعتباره تدبيرا استثنائيا، غير أن بعض الفقه[27]  عرفه بكونه: ” عبارة عن وضع الشخص رهن تصرف القضاء، قضاء التحقيق أو الحكم إلى أن يبث في أمره، وهو إجراء خطير لأنه يؤدي إلى فقد الشخص حريته مع أن إدانته تكون لا زالت لم تثبت بعد بصفة قانونية“.

وإذا كان المشرع المغربي ينص على طابعه الاستثنائي في كل مرة (م159 من القانون الحالي والمسودة) فإن الممارسة العملية تثبت العكس، بحيث جعلت منه إجراء أصيلا. وما حال السجون ببلادنا إلا خير دليل على هذا التناقض. فكل الدراسات تؤكد على أن الممارسة القضائية أفرغت الاعتقال الاحتياطي من طابعه الاستثنائي، وعملت على ملء السجون بالمعتقلين الاحتياطيين، الأمر الذي يشكل مساسا بقرينة البراءة.

ولتفادي إطالة مدة الاعتقال الاحتياطي، عمل المشرع في المسودة على تخفيضه من شهرين قابلة للتمديد 5 مرات، في القانون الحالي ـ إلى شهرين قابلة للتمديد ثلاث مرات فقط بالنسبة للجنايات[28] (م177) وبقيت الجنح دون تغيير أي لمدة شهر قابلة للتمديد مرتان (م176).

كما عمل المشرع على تعزيز بدائل الاعتقال الاحتياطي، المتمثلة في المراقبة القضائية ـ والمنصوص عليها في النص الحالي ـ إضافة إلى المراقبة الإلكترونية[29] وكل ذلك على سبيل التخفيف من شروط الاعتقال الاحتياطي الذي يوصف بكونه عقوبة من دون محاكمة.

فهذه البدائل جعلها المشرع الأولى بالتطبيق، بحيث لا يلجأ إلى الاعتقال الاحتياطي إلا عند عدم إمكانية اللجوء إلى بدائله.

سادسا: قرينة البراءة.

تعتبر قرنية البراءة من المبادئ الاساسية للحق في محاكمة عادلة، فكل متهم بريء إلى أن تثبت إدانته طبقا للقانون بعد محاكمة عادلة.

وقد أكدت المواثيق الدولية هذه الضمانة، حيث نصت كل من المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن لكل فرد الحق في أن يعتبر بريئا وأن يعامل أثناء المحاكمة باعتباره بريئا، ما لم يصدر حكم بإدانته وفقا للقانون في سياق محاكمة تتفق على الأقل مع الحد الأدنى للشروط الأساسية المقررة للعدالة.[30]

وقد ذهبت المحكمة الدستورية المصرية إلى القول بان البراءة هي الأصل وليست مجرد قرينة، وذلك بأن قضت بأن افتراض البراءة لا يتمخص عن قرينة قانونية ولا هو من صورها.[31]

ويعد أصل البراءة من النتائج العملية المترتبة على مبدأ المساواة في كفالة الحق في التقاضي، فإذا بدأت المحاكمة أمام القضاء، فإن على هذا الأخير أن يضع أعينه أن المتهم بريء ولا يحتاج إلى إظهار دليل براءته، وكل من يدعي خلاف ذلك أن يثبت إدانته ويقع عليه عبىء الإثبات.[32]

وقد أخذت التشريعات المقارنة بهذا الأصل، حيث أخذ المشرع الأمريكي بمبدأ الإثبات بما يجوز الشك المعقول. تطبيقا لأصل البراءة[33]

كما أخذ القانون الإنجليزي بذات المبدأ، حيث  يقع عبىء الإثبات على سلطة الاهتمام التي يتعين عليها تقديم ما يبرر عكسها.[34]

ونفس المنحى سلكه المشرع الفرنسي، حيث يتم مراعاة قرينة البراءة في القضاء الفرنسي حتى ولو تم الاعتراف بالجريمة أثناء التحقيق، ولا يجوز للقاضي او المحلفين التعبير عن رأي مسبق حول الموضوع وإلا كانت الإجراءات باطلة.[35]

وقد نص المشرع المغربي على هذه الضمانة في الفقرة الخامسة من المادة الأولى من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية “كل مشتبه فيه او متهم بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى ان تثبت إدانته قانونا…”.

ومن نتائج هذا المبدأ أن يضل المشتبه فيه أو المتهم بريئا وأن يعامل على أساسها طوال إجراءات المحاكمة ما دامت لم تثبت إدانته قانونا وأمام هيئة قضائية مستقلة ومحايدة ومشكلة طبقا للقانون.

كما أن الأصل في الإنسان البراءة يقتضي أن ينبني حكم الإدانة على أدلة قطعية الثبوت، تفيد يقينا نسبة الجريمة إلى المتابع أمام القضاء.

وتبعا لذلك يتعين استبعاد الادلة المشكوك في نسبتها إلى المتهم فمجرد الشك يفسر لصالح المتهم، وهذا ما نصت عليه الفقرة الاخيرة من المادة الأولى من المسودة “يفسر الشك لفائدة المتهم”.

خــــاتمة:

إن ضمانات المحاكمة العادلة ليست مجرد شكلية من شكليات التقاضي، بل هي السد المنيع للأفراد لمواجهة تسلط السلطة،[36]وبالتالي وجب على المشرع ومعه القضاء احترامها وتقديسها حتى نصل إلى الهدف المنشود من وضع القوانين.

 

 

 

[1]. عبد الستار سالم الكبسي: ضمانات المتهم قبل وأثناء المحاكمة، منشورات الحلبي الحقوقية الطبعة الاولى 2013 . ص: 7.

[2]. محمد الإدريسي العلمي المشيشي: حماية الشهود والمحاكمة العادلة، قراءات في المادة الجنائية الجزء الثالث منشورات مجلة الحقوق. الطبعة الاولى 2014 ص 24.

[3]. عبد الستار سالم الكبيسي م.س ص:07.

[4]. محمد الإدريسي العلمي المشيشي م.س ص 28.

[5]. عبد الستار سالم الكبيسي: م،س ص: 151.

[6]. دليل المحاكمة العادلة. منظمة العفو الدولية، الطبعة الثانية ص 103.

[7]. قانون 22.01 كما جرى تغييره وتتميمه بمجموعة من القوانين.

[8]. دليل المحاكمة العادلة: م.س ص 70.

[9]. حيث نكون قد فضلنا الفاعلية على حساب ضمانات الأفراد والمجتمع على حد سواء.

[10]. دليل المحاكمة العادلة: م.س ص: 144.

[11]. دليل المحاكمة العادلة: م.س ص 43 .

ـ هذا وتذهب الانظمة الانجلوسكسونية بعيدا في هذا المجال ففي القانون الإنجليزي حينما تتوفر للشرطة دلائل معقولة تفيد تورط المتابع بالجريمة، وتتجه إلى اتهامه بها، تلزمهم القاعدة II من قواعد الكومن لو تحدير المتهم بالصيغة التالية: إنك ليس ملزما لكي تقول شيئا إلا إذا رغبت في ذلك ولكن ما تقوله سيدون وربما يقدم دليلا (عبد الستار سالم الكبسي: م.س ص 290) نفس المنحى سلكه المشرع الأمريكي حيث قرر ما يلي: لابد  للشرطة من إشعار المتهم بحقوقه التالية قبل استجواب: 1. لك الحق في الصمت 2. تخليك عن صمتك يمكن ان يستعمل ضدك كدليل. 3. لك الحق في التشاور مع محاميك و إن لم يكن لديك محام فإنه يستعين لك محامي بالمجان (عبد الستار سالم الكبسي: م.س ص 351) .

[12]. ناهد يسرى حسين العيسوي: ضمانات المحاكمة الجنائية المنصفة. رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق. جامعة عين شمس كلية الحقوق القاهرة 2012 ص: 202.

[13]. شادية شومي: حقوق الدفاع خلال مرحلة ما قبل المحاكمة. عناصر من أجل محاكمة عادلة أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص جامعة الحسن الثاني كلية الحقوق الدار البيضاء الجزء الثاني 2002 ص 325 .

[14]. وبالنسبة لمشرع الفرنسي تعد قاعدة الاستعانة بمحام إلزامية بالنسبة للجنايات طبقا للمادة 2842/. وكذا إلزامية في الجنح بالنسبة للمتهمين المصابين بعاهة تحول دون تمكينه من حسن دفاعهم على نفسهم . المادة 4172/.

[15]. أي بعد انقضاء 24 ساعة الأولى .

[16]. محمد عياط: ملاحظات مبدئية حول مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية التي اعدتها وزارة العدل والحريات ص :13.

[17]. الفقرة السابعة من المادة 2-66 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية المغربية صيغة 17 نونبر 2014.

[18]. عبد الصمد عدنان: مدى حياد القاضي الجنائي في ظل خصوصيات النظام القضائي المغربي أطروحة لنيل دكتوراه. جامعة عبد المالك السعدي،كلية الحقوق بطنجة 2014 /2013 ص: 35.

[19]. ناهد يسرى حسين العيسوي: م.س ص: 41.

[20]. ناهد يسرى حسين العيسوي: م.س ص: 41.

[21]. أحمد فتحي سرور: الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية دار النهضة العربية، الطبعة السابعة 1996 ص: 911.

[22]. عبد الستار سالم الكبيسي: م.س ص: 222.

[23]. بدءا بظهير المسطرة الجنائية ـ ظهير 10 فبراير 1959 مرورا بظهير الإجراءات الانتقالية 1974 وصولا إلى قانون المسطرة الجنائية الحالية ـ قانون 01/22 الصادر سنة 2002.

[24]. والتي طرحتها وزارة العدل والحريات للنقاش بتاريخ 17 نونبر 2014 م .

[25]. محمد الأمين: تأملات حول المقتضيات الجديدة المتعلقة بالحراسة النظرية الواردة في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، المجلة المغربية للقانون الجنائي والعلوم الجنائية عدد:2 2015 م ص: .19

[26]. محمد الأمين م.س ص: 20.

[27]. أستاذنا عبد السلام بنحدو: الوجيز في شرح المسطرة الجنائية، مطبعة اسبارطيل الطبعة الخامسة 2005 ص 132 .

[28]. وتبقى نفس المدة إذا تعلق الامر بجريمة جنائية من الجرائم المنصوص عليها في م 108 من هذا القانون. أي شهرين قابلة للتمديد خمس مرات ولنفس المدة.

[29]. تتم المراقبة الإلكترونية بواسطة قيد إلكتروني يودع في معصم المعني بالأمر أو ساقه أو على جزء آخر من جسمه بشكل يسمح برصد تحركاته داخل الحدود الترابية التي يحددها له قاضي التحقيق. المادة 1-174 من المسودة.

[30]. دليل المحاكمة العادلة: م.س ص: 125.

[31]. ناهد يسرى حسين العيساوي : م.س ص: 102.

[32]. ناهد يسرى حسين العيساوي: م.س ص 103.

[33]. رياض رمزي عوض: سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة ـ دراسة مقارنة ـ دار النهضة العربية 2004 ص 51-.52

[34]. ناهد يسرى حسين العيساوي: م.س ص 231.

[35]. م 311/2 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي.

[36]. سواء تعلق الامر بسلطة البحث والتحري: وهم ضباط الشرطة القضائية أو سلطة الاتهام وهي النيابة العامة أو سلطة التحقيق: قضاء التحقيق أو حتى قضاء الحكم.

Exit mobile version