Site icon مجلة المنارة

سحب القرار الإداري في الاجتهاد القضائي المغربي

” سحب القرار الإداري في الاجتهاد القضائي المغربي”

من إعداد أمنية عياد

باحثة في صف الدكتوراه

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا

جامعة محمد الخامس السويسي

يلعب القضاء الإداري دورا هاما في دولة القانون، إذ يضطلع بالعمل على فرض احترام القانون من طرف الإدارة، فالسلطات التي تتمتع بها الإدارة ليست امتيازا خاصا بها أوحقا شخصيا يمكن أن تستعمله كما تشاء ومتى أرادت بل هي مجرد اختصاصات خولت لها في إطار المهام المنوطة بها لضمان الفعالية لنشاطها والحفاظ على النظام العام و تحقيق المصلحة العامة وهذا يقتضي أن تمارس هذه الاختصاصات وفق أحكام القانون و في حدوده[1].

ويعتبر القرار الإداري أهم الوسائل القانونية التي تستخدمها الإدارة في تنفيذ القوانين وتحقيق الصالح العام والرقابة على النشاط الفردي وتنظيم وتسيير المرافق العمومية[2] لما يحققه من سرعة  وفاعلية للعمل الإداري، فالقرار الإداري يتيح للإدارة إمكانية البت من جانب واحد في أي أمر من الأمور دون حاجة للحصول على رضى الأفراد أو حتى بالرغم من معارضتهم[3].

والقرار الإداري مهما طالت مدة سريانه فلابد أن يؤول إلى الزوال وتزول بالتالي آثاره القانونية[4] وهذا ما يصطلح عليه بنهاية القرار الإداري والتي تعني زواله من عالم القانون ووضع حد لآثارها، فقد ينتهي القرار نهاية طبيعية وتزول قوته بانتهاء الأجل المحدد لسريانه، وقد ينتهي القرار بلجوء صاحب الشأن إلى القضاء عن طريق دعوى الإلغاء فيصدر حكم قضائي بإلغاء القرار، وقد يجرد القرار من قوته القانونية وإزالة ما ينتجه من آثار قانونية بالنسبة للماضي والمستقبل ويسمى بحالة سحب القرار[5].

ونظرية سحب القرارات الإدارية فكرة قديمة تستمد أصولها وتمتد جذورها إلى  الثورة الفرنسية، وكانت ترتدي في ذلك الوقت ثوب نظرية الوزير القاضي ولم تظهر في ثوبها الجديد الذي عليه الآن إلا في مطلع القرن العشرين حيث تلقفها فقهاء القانون العام في فرنسا بالتحليل والتأصيل مدة تناهز نصف قرن بوضع شروطها وأحكامها وتفسير الغامض منها[6].

والسحب كما عرفه قاموس ” روبير” اللغوي هو الرجوع أو التراجع عما قلناه أو فعلناه بالإعلان صراحة عن عدم الاعتراف مطلقا بصحة الشيء أو مشروعيته[7]، إلا أن الفقه والقضاء كثيرا ما خلط بين السحب والإلغاء، واستعمل البعض مصطلحات كالاسترداد، الإبطال، الفسخ للدلالة على السحب، وقد عرفه الدكتور رمزي الشاعر بأنه  “رجوع السلطة الإدارية فيما أصدرته من قرارات بحيث يزول القرار منذ صدوره ويعتبر  كأن لم يكن إطلاقا”[8].

أما الدكتور عبد القادر خليل فعرفه بأنه:” عملية قانونية تمكن السلطة الإدارية من إعادة النظر في القرار الذي أصدرته بالنسبة للماضي، المستقبل بأثر رجعي”[9].

ثم نجد الأستاذ عبد القادر باينة يرى أن السحب “يؤدي إلى إعدام أثر القرار الإداري سواء بالنسبة للمستقبل أو بالنسبة للماضي على أساس الحفاظ على الحقوق المكتسبة بالنسبة للماضي”[10]، ويختصر الأستاذ الباز السحب في ” كونه زوال القرار الإداري وآثاره بأثر رجعي”[11]، في حين يقصد بسحب القرار الإداري عند الأستاذة مليكة الصروخ بأنه” تجريده من قوته القانونية بالنسبة للماضي والمستقبل فتزول كل  آثاره و يعتبر كأن لم يكن”[12] ، في حين يرى الأستاذ أحمد بوخاري بأن السحب هو:” إبطال القرار الإداري المعيب من قبل جهة الاختصاص كلا أو جزءا من وقت سابق لتاريخ صدور قرار التراجع”[13].

ويعتبر سحب القرارات الإدارية من أعقد مشاكل القانون الإداري ومن الموضوعات التي مازال البحث ساريا فيها في كثير من الدول، حيث أخذت اهتماما كبيرا لا على مستوى الفقه فقط بل كذلك على مستوى القضاء.

وصاغ القضاء العديد من الحلول تهدف في مجموعها إلى وضع قيود على سلطة الإدارة في سحب قراراتها المعيبة، منها أن يكون القرار مشوبا  بعيب أو أكثر من عيوب المشروعية، وإلا حكم على تصرفاتها بإساءة استعمال السلطة، وأن يتم إجراء السحب خلال فترة زمنية معينة قياسا على مدة الطعن القضائي، ويتنازع سحب القرار الإداري مبدأين متناقضين هما مبدأ المشروعية ومبدأ استقرار المعاملات[14].

وفي إطار هذه الدراسة سنحاول إبراز ماهية سحب القرار الإداري، وكيف أصل القضاء المغربي لشروط وأحكام سحب القرار الإداري.

 أولا: ماهية سحب القرار الإداري

سنعمل في هذه النقطة على تمييز السحب عن المصطلحات المشابهة ثم تبيان أهم المبادئ التي تحكم سحب القرار الإداري.

I: تمييز سحب القرار الإداري عن بعض التصرفات القانونية الأخرى

1-تمييز السحب عن الفسخ في القانون الخاص:

يعني الفسخ إرجاع الشيء إلى أصله بمعنى أن العقد ينحل لا من وقت الفسخ فحسب بل من وقت نشوء العقد أي أن للفسخ أثر رجعي كالسحب فيكون العقد كأن لم يكن ويسقط أثر في الماضي ما بين المتعاقدين و الغير.[15]

ويختلف الفسخ عن السحب من حيث[16]:

– الفسخ يرد على عقد ملزم لفريقين بينما يرد السحب على قرار إداري.

– يتم الفسخ إما باتفاق الطرفين أو بحكم المحكمة بينما يتم السحب بإرادة الإدارة المنفردة.

– الفسخ يكون بمثابة جزاء لعدم وفاء أحد المتعاقدين بالتزامه بينما السحب إجراء لتصحيح خطأ ارتكبته الإدارة.

– العقد القابل للفسخ يولد صحيحا بينما يرد  السحب أساسا على قرار معيب منذ نشأته.

يعد الحكم الصادر عن قاضي الإلغاء بإلغاء قرار إداري بمثابة إنهاء قانوني للقرار الإداري بأثر رجعي واعتباره كأن لم يصدر قط وبمقتضاه يعود الطاعن إلى مركزه القانوني السابق لصدور حكم الإلغاء، فوجه الشبه بين السحب والإلغاء القضائي يتمثل في الأثر الرجعي وفي الأجل المحدد لكل منهما.

ويختلف السحب عن الإلغاء القضائي في النقاط التالية:

– السحب هو قرار إداري بينما يتمثل الإلغاء القضائي في حكم قضائي بناء على خصومة.

– قرار السحب يتم بمبادرة من الإدارة أو بناء على تظلم بينما حكم الإلغاء لا يتم إلا بناء على دعوة ويكون بمثابة جزاء لعدم مشروعية القرار.

– ميعاد الطعن القضائي قرره المشرع بينما ميعاد السحب الإداري قرره الاجتهاد القضائي.

– أسباب سحب القرار الإداري أوسع من أسباب الإلغاء القضائي فقد تتعلق بالمشروعية والملائمة بينما تقتصر رقابة القضاء على المشروعية.

يعني الإلغاء الإداري إنهاء القرار الإداري من الإدارة المختصة بأثر فوري يسري على المستقبل دون الماضي، ويختلف بالتالي عن  السحب وإن كان كل منهما صادر عن الإدارة، إلا أن مجالات الإلغاء أوسع من السحب فقد يتم لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة و تغيير الظروف كما أن مبدأ حماية الحقوق المكتسبة هو الذي يحكمه بينما يحكم السحب مبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية.

القرار المضاد هو القرار الإداري الذي تنهي الإدارة بواسطته تصرفها السليم الذي أنشأ حقوق للآخرين، مثال ذلك:” إذا فقد الموظف أحد شروط التعيين في الوظيفة وأرادت الإدارة إنهاء قرار التعيين فتصدر قرارا بعزله أو بأن تنهي رابطته بالاستقالة أو  بالإحالة على التقاعد أو بفقد الوظيفة… الخ.

ويختلف السحب عن القرار المضاد فيما يلي:

– القرار المضاد لا يمكن أن يصدر إلا طبقا للإجراءات والأحكام المحددة في القوانين والأنظمة بينما قرار السحب محكوم بالمبادئ التي أفصح عنها القضاء الإداري.

– القرار المضاد يصدر لإلغاء أو تعديل قرار إداري صدر سليما ودخل حيز التنفيذ بينما قرار السحب مجاله القرارات غير المشروعة والمنعدمة والمبنية على غش أو تدليس واستثناء بعض القرارات الإدارية السليمة.

– تكون الإدارة محكومة بالنص القانوني فيما يخص القرار المضاد بينما يرتبط قرار السحب بالقرار الأصلي.

– القرار المضاد ينصرف أثره على المستقبل فقط بينما قرار السحب يكون بأثر رجعي.

II: المبادئ التي تحكم سحب القرار

هناك مجموعة من المبادئ التي تحكم سحب القرار الإداري وهي:

يعني مبدأ المشروعية ” التطابق مع القانون بمعناه الواسع ” أي يجب على السلطة الإدارية أن تتصرف طبقا للقانون بقواعده المكتوبة وغير المكتوبة، وعلاقة هذا المبدأ بسحب القرار أن الإدارة إذا أصدرت قرار غير مشروع فإنه يلقي على عاتقها التزاما بتصحيح عدم المشروعية وسحب القرار جزاء لعدم مشروعيته.

يعد مبدأ عدم رجعية القوانين وعدم رجعية القرارات الإدارية من المبادئ التي تقتضيها الضرورات الاجتماعية للواقع الحضاري والسياسي، ويجد أساسه في وجوب تأمين العلاقات القانونية بين الإدارة والمواطنين وتأمين النظام العام، وأوجب مجلس  الدولة على  الإدارة منذ عام 1947 احترام هذا المبدأ في قراراتها الفردية والتنظيمية ومنع إنهاء الرجعية في القرار الإداري بالاتفاق اللاحق على صدوره، لأن المبادئ العامة للقانون لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، غير أنه لم يعتبر مخالفته من النظام العام[18].

وتبرز علاقة مبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية بسحب القرار كونه يشكل قيدا على حرية الإدارة في سحبها قراراتها ويحمي العلاقات القانونية من الفوضى، فسحب القرار يجب أن يمارس وفق ضوابط معينة إذا تجاوزتها الإدارة فإنها تخرق مبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية.

ويعني هذا المبدأ احترام الآثار الناتجة عن العمل القانوني المتعلق بفرد أو أفراد محددين بذواتهم، وهذا المبدأ يلعب دوره في المستقبل إذ يؤمن استقرار المعاملات القانونية ويحمي المصالح الخاصة من الاضطراب، فهذا المبدأ يشكل عائقا أمام حرية الإدارة في سحب قراراتها الفردية المشروعة وغير المشروعة ويمنعها من إجراء أي  تعديل على القرارات الإدارية الصادرة عنها بالنسبة للماضي والمستقبل.

 

 

 

 ثانيا: تأصيل القضاء لشروط وأحكام سحب القرار الإداري

يرجع إلى الاجتهاد القضائي ما للإدارة من حق في التراجع عن قراراتها وذلك لتصحيح أعمالها ذاتيا ومن دون تدخل جهة أخرى، وتساعد هذه الآلية الإدارة في ضبط أعمالها في إطار من المشروعية وحماية الحقوق والحريات العامة، لكن حق الإدارة هذا في التراجع عن قراراتها قد أطره القضاء بشروط  ووضع له أحكام.

 I: شروط سحب القرار الإداري

أخذ القضاء المغربي بنظرية سحب القرار الإداري عن اجتهاد مجلس الدولة الفرنسي في حكمه الشهير في قضية ” دام كاشي” والذي قضى فيه بتاريخ 13 نونبر 1922 بأنه:( إن كان للوزير بصفة عامة حق إلغاء أي قرار ينشئ حقوقا ذاتية للأفراد من تلقاء نفسه بسبب عيب يعتريه يستوجب إلغائه عن طريق القضاء، إلا أنه لا يملك هذا الحق إلا  إذا كان الأجل المحدد للطعن القضائي لم ينته بعد، أما إذا سقط الأجل وكانت الدعوى قد رفعت فعلا أمام القضاء للفصل فيها فلا يجوز للوزير أن يسحب القرار المعني).[19]

والمجلس الأعلى بالمغرب قد سار في نفس الاتجاه في حكمه الصادر بتاريخ 9 يوليو 1960، في قضية محمد بن العالم، والذي أقر فيه ما يلي(.. وأنه لا يمكن الخروج عن مبدأ عدم المساس بالحقوق المكتسبة إلا إذا كان القرار مشوبا بعدم المشروعية التي تستوجب إلغائه من طرف القضاء، وكان رفع الطعن إليه ممكنا، أو تم رفعه إليه ولم يصدر بشأنه حكم نهائي).[20]

وإذا نظرنا إلى حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية ” دام كاشي” وحكم المجلس الأعلى بالمغرب الذي استند إليه في نظرية سحب القرار الإداري في قضية” محمد بن العالم” يمكن أن نستخلص منهما شرطين أساسيين من دونهما لا يمكن تطبيق نظرية سحب القرار الإداري، وعليه فإنه لا يمكن للإدارة التراجع عن قراراتها دون هذين الشرطين وهما:

1- عدم مشروعية القرار الإداري

إن شرط عدم المشروعية هو أول شروط سحب القرار الإداري، ويقتضي أن يكون القرار الإداري موضوع السحب معيبا بأحد عيوب المشروعية الخمسة وهي كالتالي:

أ- عيب الشكل: ويقضي ذلك بأن يكون القرار خارجا عن القاعدة السائدة في عدم اشتراط صدور القرارات الإدارية في شكل معين، أي أن يكون القرار الإداري يشترط شكلا معينا يصدر عليه ويجب أن يتقيد مصدر القرار بهذا الشكل.

ب- عيب الاختصاص: كأن يصدر القرار من جهة غير مختصة سواء من جهة يخرج عن نطاق اختصاصها أو من جهة أدنى أو عن طريق سلطة وصاية.

ويكون القرار غير مشروع لتجاوز قواعد الاختصاص المادي، أي ممارسة سلطة إدارية صلاحيات سبق تفويضها لسلطة أخرى، أو بسبب عدم اختصاص سلبي عند امتناع رجل الإدارة عن اتخاذ قرار يدخل في اختصاصه.[21]

ج- عيب السبب: أي أن تكون الوقائع التي اعتمد عليها القرار غير سليمة، فأسباب القرارات الإدارية يجب أن تكون محققة الوجود ومطابقة للقانون، ويتخذ هذا العيب عدة أشكال:

– الخطأ في القانون: أي الأسباب القانونية المؤدية لإصدار القرار فيكون التطبيق خاطئ إما لاعتماد قاعدة قانونية غير موجودة أو غير قابلة للتطبيق أو يرجع الخطأ  إلى تأويل غير صحيح للقانون.

– الخطأ في الوقائع: أن تكون الوقائع صحيحة وموجودة إلا أنه لا يمكن الربط بينها وبين القرار( تأديب شخص في موضوع لم يقم به غلطا).

– الخطأ في التكييف القانوني للوقائع: (عندما يصدر رجل الإدارة قرار يرتب نتائج بناء على وقائع معينة) فتغيب موظف بصفة غير قانونية يعرضه للتأديب، فإن عزل من قبل الرئيس دون أن يمر بمجلس التأديب فإن هذا ينم عن التكييف غير السليم وحري بمصدره التراجع عنه.[22]

د- الانحراف في السلطة: ويتمثل هذا العيب بأنه قصدي لأن مصدر القرار يخرج عن الأهداف التي منحه القانون من أجلها سلطة التقرير وهو مساس بالأخلاق الإدارية لأن متخذ القرار تجرد من المواطنة التي تغلب المصلحة العامة على المصالح الضيقة الخاصة، وعلى هذا يكون تراجع الإدارة عن قرارها المشوب بالانحراف في السلطة رجوعا منها إلى جادة الصواب.[23]

ه- عيب مخالفة القانون: وهنا لا يقصد به القانون بمفهومه الضيق( التشريع- التنظيم) وإنما كافة القواعد القانونية التي تؤطر عمل الإدارة أيا كان مصدرها (الدستور- التشريع- التنظيم- القضاء- العرف أحيانا…).[24]

وبسبب هذه العيوب الأنفة الذكر التي تشوب القرارات الإدارية وتجعلها معدومة المشروعية ولا يمكن أن تنشئ حقوقا، أجاز القضاء في اجتهاداته للإدارة التراجع عن قراراتها، وقد تواتر العمل بهذا في القضاء المغربي في عدة قرارات صادرة عن المجلس الأعلى وكذلك عن المحاكم الإدارية بعد إنشائها مثل قضية محمد بن العالم الأنفة الذكر، وكذلك قرار المجلس الأعلى في قضية بن امبارك الطرقي ووزير العدل بتاريخ 26 يناير 1968 التي جاء فيها ( حيث أن مبدأ استقرار الحقوق المكتسبة لا يسمح  للإدارة المختصة أن تسحب بأثر رجعي المقررات الإدارية الفردية المنشئة لوضعية قانونية لصالح المستفيدين منها، إلا إذا كانت المقررات المسحوبة مشوبة بعدم المشروعية تستوجب البطلان)[25]، وكذلك حكم المحكمة الإدارية بمراكش عدد 239 بتاريخ 25  شتنبر 1996 بين آيت لحسن رشيدة والنائب الإقليمي لوزارة التربية الوطنية الذي جاء فيه ” لا يمكن للإدارة أن تسحب قراراتها  إلا إذا كانت غير مشروعة”.

ويتضح إذن من استعراض هذه القرارات والأحكام أن القضاء الإداري المغربي يستند إلى عدم المشروعية كسبب لازم لسحب القرار الإداري، إلا أنه يعمل أيضا بشرط آخر يلزم به الإدارة إضافة إلى عدم المشروعية ، وهو تقييد للإدارة في حق التراجع عن قراراتها لعدم المشروعية بأجل موازي لأجل الطعن بالإلغاء القضائي، هذا ما ورد في كل القرارات الأنفة الذكر( وتبقى الإشارة  إلى أن هذا الشرط الثاني لإجراء سحب القرار الإداري والخاص بالقيام به من أجل يقاس بأجل الطعن لا يعتد به عندما يكون عيب عدم المشروعية مخالفة القوانين الأساسية للدولة، فإذا كانت تلك المخالفة صريحة، فإنه في هذه الحالة لا يعتد بأجل الطعن).

يفيد هذا الشرط بأن السلطة الإدارية لها الحق في التراجع عن قراراتها غير المشروعة مادام الطعن بالإلغاء ضد هذه القرارات ممكنا ولم يصدر بحقها حكم قضائي.[26]

والغاية من اشتراط الأجل الذي يتعين على الإدارة أن تتصرف فيه ويعبر فيه المدارون عن عدم قبولهم لتصرفها هو ضمان لاستقرار المراكز القانونية الناتجة عن العمليات الإدارية[27] .

وقد كان العمل القضائي بفرنسا لا يقيد الإدارة بأجل معين بخصوص سحب قرارها غير المشروع لكنه تحول عن هذه القاعدة بصدور حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية مادام كاشي بتاريخ 13 نونبر 1922 الآنف الذكر، وقد سار على نهجه في هذا الاتجاه القضاء المغربي في إعطاء الحق للإدارة في التراجع عن قراراتها غير المشروعة داخل أجل الطعن بالإلغاء، وإذ انقضى الأجل تحصنت القرارات الإدارية من إمكانية السحب ولم يعد للإدارة  الحق في ذلك، وهذا ما أكده المجلس الأعلى في القرارين الأنفي الذكر بخصوص محمد بن العالم وامبارك الطرقي، وهذا الاجتهاد الذي تواتر في قرارات أخرى للمجلس الأعلى دفع وزير الشؤون الإدارية إلى إصدار منشور بتاريخ 14 أكتوبر1980 موجه إلى جميع الوزارات يحث على احترام الشروط التي وضعها القضاء الإداري المغربي ومنها على الخصوص أن يكون سحب القرارات الإدارية خلال أجل الطعن بدعوى الإلغاء أو خلال مدة التقاضي.

وهذا الاتجاه سارت عليه المحاكم الإدارية بالمغرب بعد إحداثها كما هو الحال في الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بوجدة عدد 214/98 بتاريخ 16 دجنبر1908 الذي قضت فيه بأن ( قرار سحب الرخصة من طرف المجلس البلدي لا يكون إلا داخل أجل الطعن بالإلغاء).

 II: أحكام سحب القرار الإداري

تناولنا  لموضوع سحب القرار الإداري في هذه النقطة ينصب على السلطة المختصة وإجراءات سحب القرار الإداري والآثار الناتجة عن ذلك، حيث يتم سحب القرار الإداري بقرار آخر مماثل أي في ذات الرتبة من سلم التدرج القانوني، فالقرار الفردي يسحب بقرار فردي، والقرار التنظيمي كذلك يسحب بقرار تنظيمي عملا بقاعدة التوازي أو تقابل الشكليات[28]،وكغيره من القرارات الإدارية يكون قرار السحب صريحا أو ضمنيا، فقد تقوم الإدارة بإصدار قرار بالتراجع عن قرارها غير المشروع ويكون هذا القرار هو التعبير الصريح عن سحب القرار الإداري غير المشروع، وقد تصدر قرارا إداريا يحل محل قرار إداري آخر وهذا ما يمكن أن يصطلح عليه بالتعبير الضمني عن سحب القرار،وفي جميع الحالات يبدأ مفعول القرار الساحب من تاريخ صدور القرار المسحوب.

وقد طبق القضاء المغربي العمل بقاعدة توازن الاختصاص في عدة قضايا مثل قضية رمضان الهواري الذي اشترى في إطار تفويت أملاك عمومية بالمزاد العلني من أملاك جماعية ثلاث قطع أرضية مملوكة لجماعة هوارة بكرسيف، وقد كان الدفتر يشترط استمرار الاستفادة من العقار المذكور إضافة إلى أداء ثمنه، البناء على الأرض المذكورة بعد استصدار إذن بذلك، غير أن الهوارى استصدر رخصة بناء لكنه لم ينشئ بناء على الأرض مما دفع بالقائد في كرسيف إلى أن يبعث له برسالة يطلب فيها منه القيام بأي بناء على الأرض، بعد تنبيه سابق له بإنجاز السكن الذي حصل على الأرض من أجله، فلم يلتزم بذلك، هذا وبعد طعن المعني بالأمر، قضى المجلس الأعلى بإلغاء  القرار المطعون فيه لأنه لم يحترم الاختصاص باعتبار أن قرار القائد ينطوي على فسخ العقد، وأن الاختصاص بذلك معقود لرئيس الجماعة التي قامت بإرساء المزاد العلني على الطاعن، وأن الرئيس وحده المؤهل لإصدار قرار بفسخ العقد طبقا لقاعدة توازي الاختصاص[29]، ونفس الشيء حصل في قضية الشركة العقارية زينما، وتتلخص الوقائع في هذه القضية بأن ظهيرا صدر في 2 أبريل 1955 صرح بأن المنفعة العامة في إحداث طريق سريعة تؤدي إلى ميناء الدار البيضاء تسمى مدخل طريقي إلى ميناء الدار البيضاء، وعدد التصاميم وقوانين إعداد مختلف الأحياء التي يجتازها الطريق المذكور وبتاريخ 10 نوفمبر 1975 أصدر والي الدار البيضاء قرارا مدد بموجبه تصفيفات تصميم المدخل الطرقي المشار إليه لفترة عشرين سنة، وقد طعنت الشركة العقارية “زينما” باعتبارها أحد الملاك المتضررين من قرار التمديد طالبة إلغاءه بدعوى عدم احترامه لقواعد الاختصاص، فأصدرت الغرفة الإدارة قرار في الموضوع بتاريخ 5 يوليو 1984 جاء فيه:

” حيث أن المبادئ العامة أن النصوص التشريعية أو التنظيمية لا يمكن تعديلها أو إلغائها أو تمديد فترة مفعولها إلا بقرار من نفس النوع ومن لدن السلطة المختصة قانونا باتخاذ النصوص المذكورة…” ويتضح من ما تقدم بصفة صريحة أن المقرر المطعون فيه تناول الأعداد موضوع ظهير2 أبريل 1955 وعدل تصفيفاته ومدد مفعوله لفترة عشرين سنة، وبذلك خرق مبدأ موازاة الاختصاص[30]. ويتضح من هذه القاعدة والأحكام التي تطبقها أن السلطة الإدارية التي أصدرت القرار غير المشروع والذي يمكن أن يكون موضوعا لإصدار قرار بسحبه هي الجهة المخولة قانونا بإصدار قرار السحب عملا بهذه القاعدة، وهذا يعني أن يتدخل واضع القرار وتلقائيا لسحب قراره غير المشروع في المدة المشار إليها سابقا ما لم ينص القانون على خلاف ذلك[31]. وهنا يجب التطرق إلى سحب القرار من قبل جهة قد تكون سلطة أعلى من السلطة مصدرة القرار المراد سحبه والمقصود هنا السلطة الرئاسية التي هي في حقيقة الأمر أداة لضمان التزام المرؤوس لحدود القانون، لقد أعطى القانون باتفاق الفقه والقضاء الرئيس سلطة سحب كافة القرارات الصادرة عن مرؤوسيه إلا ما استثني منها بنص، كأن يكون المرؤوس صاحب التقرير بصفة نهائية في الموضوع بدون  معقب عليه[32]،وهذه الفئة من القرارات لا يمكن للسلطة الرئاسية سحبها[33]. وتمتع السلطة الرئاسية بحق سحب قرارات المرؤوسين يستوي فيها أن يكون القرار فرديا أو تنظيميا، فيتعين على الرئيس أن يتخذ موقفا من شأنه إزالة القرار غير المشروع ولا يتأتى ذلك إلا بسحبه وذلك باتخاذ قرار بذلك وسحب القرار الإداري من طرف السلطة الرئاسية.

يخضع للأحكام العام للسحب[34] وعلى خلاف السلطة الرئاسية التي تربطها بالجهة الإدارية التابعة لها رابطة التسلسل الإداري الموجودة بينهما فإن هذه الرابطة لا وجود لها بين سلطة الوصاية وبين الجهة المشمولة بالوصاية إذ تتمتع هذه الأخيرة باستقلال في مواجهة الأولى، فمثلا لا يحق لوزير الداخلية سحب قرار صادر عن رئيس المجلس الجماعي أو عن المجلس الجماعي نفسه، لأنه لا يمثل بالنسبة للمجلس البلدي الرئيس، وحتى إن كانت بعض القرارات الصادرة عن الهيئات اللامركزية لا تكون قابلة للتنفيذ إلا بعد المصادقة عليها من طرف سلطة الوصاية، فإن عدم المصادقة هنا لا يعد سحبا للقرار الإداري وإنما هو قول بعدم مشروعية التنفيذ.[35]

ويتضح مما سبق أن سحب القرار الإداري هو إجراء مقصور على السلطة الإدارية لتمكينها من التراجع عن قراراتها غير المشروعة من دون تدخل أي جهة أخرى سواء كان التراجع بإرادة ذاتية وتداركا لخطأ إداري أو كان ذلك بسبب تظلم مقدم من أحد المرتفقين موظفا كان في الإدارة أم غير موظف، ويعتبر السحب جزاء تنزله الإدارة بقرارها غير المشروع تفاديا لوقوعه تحت طائلة الطعن بالإلغاء أمام القضاء، ومن هنا فإن الأثر الرئيسي للسحب هو إنهاء القرار منذ لحظة صدوره وهو ما يتحقق من خلاله محو كل الآثار المترتبة عليه بما في ذلك سقوط القرارات التي تستند في وجودها إلى القرار المسحوب وذلك للارتباط الوثيق بينها والقرار الذي تم سحبه والذي أفقدها السند القانوني.

فإجراء سحب القرار الإداري هو إحدى التقنيات الضرورية لحسن سير الإدارة ورقابة مدى الالتزام بالمشروعية في أعمالها، وهو يعبر عن نضج العمل الإداري، وسلامة نية الأطر الإدارية وهو أيضا وسيلة لتعزيز ثقة المواطنين في التصرفات والنشاطات الإدارية.

إلا أن الإكثار من هذه التقنية يعتبر دليلا على وجود اختلالات في عملية اتخاذ القرارات الإدارية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] – محمد المحجوبي ” الوجيز في القضاء الإداري المغربي بعد إحداث المحاكم الإدارية الطبعة الأولى، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع دجنبر 2002، الرباط ص: 7 و8.

[2] – عدنان عمرو:” مبادئ القانون الإداري نشاط الإدارة ووسائلها” الطبعة الثانية، منشأة المعارف 2004- الإسكندرية ص: 50.

[3] – رافع عبد الوهاب:” مقاضاة الإدارة والمؤسسة العمومية في التشريع المغربي”  المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، 1987 ص: 113.

[4] – عدنان عمرو: مرجع سابق ص: 121.

[5] – أعاد حمود: الوجيز في القضاء الإداري “دراسة مقارنة في دولة الإمارات العربية المتحدة” ،أكاديمية شرطة دبي 2003 -2004 ، ص: 359.

[6] – حسني درويش عبد الحميد: ” نهاية القرارات الإدارية عن طريق القضاء” أطروحة دكتوراه، جامعة عين الشمس مصر(1980)، طبع الفكر العربي القاهرة 1981 ص: 282.

[7] – للمزيد من  التوسع حول التعريف اللغوي للسحب انظر رضوان بوجمعة:” المقتضب في القانون الإداري المغربي الطبعة الأولى” مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 1999، ص: 201.

[8] – انظر مؤلفه نظرية البطلان في القرارات الإدارية” جامعة القاهرة 1968، ص: 348.

[9] – عبد القادر  خليل:” نظرية سحب  القرارات الإدارية” دار النهضة العربية القاهرة 1964، ص:32.

[10] – أحمد بوخاري:” سحب القرارات الإداري مساهمة في بناء نظرية التراجع الإداري” أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الحقوق، كلية الحقوق السويسي بالرباط 2002-2005، ص: 44.45.

[11] – أحمد بوخاري: مرجع السابق ص: 45.

[12] – أحمد بوخاري: مرجع سابق ص: 45.

[13] – أحمد بوخاري: مرجع سابق ص: 49.

[14] –  عدنان عمرو: مرجع سابق ص: 126.

[15] – عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء  الأول، النظرية العامة للالتزامات، نظرية العقد، القاهرة 1967 ، ص: 679.

[16] – عدنان عمرو: مرجع سابق ص: 128.

[17] -عدنان عمرو: مرجع سابق ص:131.

[18] – نواف كنعان:”  مبادئ القانون الإداري وتطبيقاته في دولة الإمارات العربية المتحدة”، كلية القانون، جامعة الشارقة، 2004، ص: 131 و132.

[19] – أحمد بوخاري: مرجع سابق، ص: 170.

[20] – قرار عدم 95 منشور بمجموعة قرارات المجلس- الغرفة الإدارية ( 1957-1960) الصفحة 141.

[21] – أحمد بوخاري، مصدر سابق ص: 134.

[22] – أحمد بوخاري: مرجع سابق، ص: 143.

[23] – أحمد بوخاري: مرجع سابق، ص: 144.

[24] – قرار منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، العدد السابع، ص: 106.

[25] – المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزوج 20-21 ، نونبر- دجنبر1997 ، ص: 132.

[26] – سليمان محمد الطماوي: النظرية العامة للقرارات الإدارية، دار الفكر العربي، الطبعة السابعة 1976، ص:688.

[27] – أحمد بوخاري: مرجع سابق ص: 166.

[28] – سليمان محمد الطماوي: مصدر سابق، ص: 70.

[29] – أحمد بوخاري: مصدر سابق، ص: 196.

[30] – أحمد بوخاري: مرجع سابق، ص: 71.

[31] – قرار عدد 118 بتاريخ 5 يوليوز 1984 في الملف الإداري عدد 98470 بين الشركة ” زينما” ووالي الدار البيضاء في منشورالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 6 سنة 1994، ص: 72.

[32] – عبد الرحمن البكريوي: الوجيز في القانون الإداري المغربي، الكتاب الثاني، نشاط  الإدارة وامتيازاتها، الطبعة الأولى، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع الرباط 1990، ص: 140.

[33] – عبد الرحمن البكريوي: مرجع سابق ص: 140.

[34] – أحمد بوخاري: مصدر سابق، ص: 72.

[35] – سليمان محمد الطماوي: مصدر سابق، ص: 743.

Exit mobile version