Site icon مجلة المنارة

حالة الإضراب في بعض التشريعات المقارنة: فرنسا ومصر نموذجا

 

محمد ملحاوي

باحث في سلك الدكتوراه

بجامعة محمد الأول بوجدة.

 

عنوان المقال: حالة الإضراب في بعض التشريعات المقارنة: فرنسا ومصر نموذجا

 

مقدمة:

إن الإضراب هو بمثابة ظاهرة متعددة الوجوه، يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، حيث يمكن أن ينظر إليها القانوني نظرة مغايرة لنظرة الاجتماعي، ويمكن أيضا أن ينظر إليها هذا الأخير نظرة مخالفة لوجهة نظر الاقتصادي، واختلاف وجهة النظر هاته لا تنقص من قيمة وأهمية الإضراب بل تدفع بشكل جدي إلى الاهتمام به باعتباره ظاهرة قانونية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية[1].

فإضراب الموظف العمومي، كما تعارف على ذلك جمهور الباحثين في هذا المجال، هو “اتفاق مجموعة من المستخدمين في المرفق العمومي على التخلي عن العمل لفترة مؤقتة من الزمن دون نية تركه بصفة نهائية، بغية الاحتجاج على أمر معين أو الحصول على مطالب، لاسيما تلك المتعلقة برفع الأجور أو تحسين ظروف العمل أو المعيشة”[2]،كما يعرف أيضا: “التوقف العمدي عن العمل وذلك من أجل تحسين وضعية العمل أو إثارة الانتباه إلى قضية هي من صميمه في نطاق القوانين المنظمة”[3]. وبتعبير آخر مختصر هو “الاتفاق الجماعي المتفق عليه بين مجموعة من العاملين للتوقف عن العمل لفترة مؤقتة لممارسة الضغط للاستجابة لمطالبهم”[4].

وعليه، فإنه إذا كان من السهل التعرف على الإضراب عند اندلاعه، فمن الصعب تعريفه وهذا ما قاله “Caire Guy” وهو بصدد إبراز ظاهرة التعقيد التي تميز الإضراب[5].

ويذهب بعض القضاء الإداري إلى تعريف الإضراب بكونه: “تعبيرا عن حركة المجتمع وصراعاته من زاوية الدفاع عن المطالب والحقوق المهنية، ويخلق ميكانيزمات  للتفاعل بين صانعي القرار والفئة المهنية المخاطبة به”[6]. وعرف كذلك من خلال قرارها الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي في 25 يوليوز1979 على أنه: “توقف منظم مسبق عن العمل من أجل الدفاع عن المصالح المهنية”[7].

هكذا يمكن اعتبار الإضراب سلاح ذو حدين؛ فهو وسيلة لتصحيح بعض الأوضاع الخاطئة وإظهار الاستياء من وضع معين أمام السلطة العامة، غير أنه إذا أسيء استخدامه تتوقف المرافق العمومية عن العمل التي تعتبر أحد مظاهر الحياة الأساسية في الدولة بما يترتب عن ذلك من تعطل لمصالح الأفراد وتعرضها للعديد من المخاطر.

وللإضراب طابع سياسي واضح لتأثيره القوي في الرأي العام من جهة، والحياة الاقتصادية وأمن الدولة من جهة أخرى، ولذا فإنه محل اهتمام السلطات العامة أيا كانت الإيديولوجية التي تنهجها.

وبالرغم من أهمية حق الإضراب وتأثيره على علاقات الشغل، فإنه لم يكن محل اتفاقية أو توصية دولية، إلا أنه يمكن القول أن هناك بعض الاتفاقيات في البداية على المستوى الدولي-في إطار المؤسسات الدولية لحقوق الإنسان- قامت في إطار منظمة العمل الدولية[8]، من ذلك الاتفاقية رقم 105 من أجل إلغاء العمل الإجباري تطبيقا لفكرة حرية العمل المعترف بها دوليا وفي القانون المقارن، وهناك أيضا التوصية رقم 92 الصادرة سنة 1951 عن منظمة العمل الدولية[9]، والتي تدعو إلى التوقف عن الإضراب في حالة اللجوء إلى الصلح أو التحكيم دون أن يكون ذلك مطية للحد من الإضراب، كما أصبح حقا من حقوق الإنسان معترف به في العهد الدولي حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 8 الفقرة د) المصادق عليه من طرف الأمم المتحدة في دجنبر 1966، ويحتل الإضراب في القانون الدولي مكانة هامة وتدعو إليه المنظمات النقابية والحقوقية غير الحكومية والاجتماعية والثقافية، فمثلا المجموعة الأوربية تقر بحق الإضراب منذ سنة 1961 في ميثاقها الجماعي[10].

وليس هناك اتفاق بين أعضاء المجتمع الدولي في شأن الإضراب ومدى تحريمه، فهناك من الدول الرأسمالية ما يسمح به في حدود معينة كما هو الحال في فرنسا ابتداء من سنة 1946، وتوجد دول أخرى كسويسرا وبلجيكا وألمانيا تمنع الإضراب مطلقا وتعتبره في جميع الأحوال عملا غير مشروع، ومن الدول ما يقرره للعاملين بالقطاع الخاص فقط دون موظفي الدولة وعمالها كالولايات المتحدة الأمريكية التي صدر بها قانون “تافت هادتلي” (عضوا مجلسي الشيوخ والنواب) في 23 يونيو 1947، حيث تقرر بمقتضى ذلك القانون إباحة حق الإضراب للعمال في القطاع الخاص دون موظفي الدولة.

أما الدول الاشتراكية فقد كانت أغلبها تحرم الإضراب، وتعتبره نوعا من التخريب لأموال الدولة وتعطيل لمصالحها، وتأخير لتنفيذ الخطة القومية الشاملة التي تسير عليها الدولة[11]، ففكرة الإضراب في هذه الدول غير مجسدة نظرا لأن هذه الفكرة مرتبطة أصلا بالمجتمع الطبقي، فالإضراب هو السلاح الفعال الذي يستخدم في صراع الطبقات، وبما أن المجتمعات الاشتراكية قد وضعت حدا لهذا الصراع، فإذا تم القيام بالإضراب من الناحية الفعلية فإنه سيقمع، لاعتباره اعتداء صارخا على سلامة وأمن الدولة نفسها.

وهكذا نجد، أن الإضراب في جمهورية مصر العربية مثلا معاقب عليه جنائيا، فضلا على ذلك فقد شدد المشرع العقوبة عند الإضراب الذي يقع من ثلاثة أشخاص فأكثر، وجعل في حكم الإضراب من يترك العمل ولو في صورة استقالة، ولم يكتف المشرع بذلك بل أضاف توقيع عقوبة العزل من الوظيفة كعقوبة تأديبية وذلك بالنسبة للموظفين العموميين.

وبالتالي، يتضح لنا أن التشريعات لم تقف مواقف موحدة من مسألة حق الإضراب.

وعليه، سنتناول مكانة إضراب الموظف العمومي في بعض التشريعات المقارنة، ونأخذ فرنسا كنموذج للدول التي تنظم الحق في الإضراب وتضع له من القيود التشريعية والتنفيذية ما يجعله يمارس في إطار لا يؤثر على مبدأ سير المرافق العامة، وذلك في المطلب الأول، ثم نتناول بعد ذلك، مدى تمتع الموظفين العموميين بالحق في الإضراب في جمهورية مصر العربية في المطلب الثاني.

المطلب الأول: الموظف العمومي وحق الإضراب في النظام الفرنسي

لم يرد بالتشريع الجنائي الفرنسي أي نص بشأن الإضراب، الأمر الذي يوحي بأن الإضراب يعتبر عملا مشروعا وحقا للموظفين – باعتباره مظهرا هاما من مظاهر حرية التعبير عن الرأي– طالما لم يصدر نص بتحريمه[12]، وعندما صدر دستور 27 أكتوبر 1946 ونص في ديباجته على أن حق الإضراب يباشر في نطاق القوانين التي تنظمه، حدث خلاف بين الفقه والقضاء في المعنى المقصود من هذا النص، وحق الموظفين في الإضراب استنادا إلى النص الوارد في ذلك التصدير وحق السلطة العامة في تنظيمه.

ويمكن أن نتناول حالة الإضراب في التشريع الفرنسي في مرحلتين: الأولى وهي المرحلة السابقة على دستور 1946، حيث اتسم هذا الحق في تلك الحقبة بعدم المشروعية، أما المرحلة الثانية فهي ما بعد وضع دستور سنة 1946 والتي تقرر فيها الاعتراف بالإضراب للموظف العام مع تنظيمه بضوابط وقيود معينة “التنظيم المقيد”.

لذلك نقسم دراستنا لهذا المطلب إلى فرعين:

الأول: حظر الإضراب على الموظفين العموميين.

الثاني: تقرير حق الإضراب للموظفين العموميين.

الفرع الأول: حظر الإضراب على الموظفين العموميين

لقد عرفت فرنسا أول الإضرابات بفعل دخولها في الثورة الصناعية وذلك قبل ثورة 1789 بالرغم من منع التكتلات والتجمعات المهنية. ومنذ ذلك التاريخ تم القيام بالعديد من الإضرابات في جميع القطاعات والنشاطات وذلك بالرغم من القمع الذي كان يسلط على العمال المضربين، وكثيرا ما كانت تلك الإضرابات تقام للاحتجاج إما عن عدد ساعات العمل، أو ضد استخدام عمال غير منتمين للمهنة، وبعد الثورة الفرنسية تفاقمت الأوضاع الاجتماعية بفعل دخول فرنسا في العهد الليبرالي المتوحش والاستغلال المفرط مع تدني ظروف العمل.[13]

وبناء على ذلك، كان المنع الكلي والحقيقي للإضراب الذي لم يكن إلا عندما منع تكوين تجمعات من أجل الدفاع عن المصالح المهنية، وذلك ما تم تأكيده في قانون شابلي(CHAPELIER) الصادر في 10 يونيو 1791 والذي منع كل تجمع مهني وكل عمل نقابي بفرنسا، وخلال ذلك العهد وبالضبط في نونبر1831، قام عمال الأقمشة بإضراب بسبب رفض بعض أصحاب العمل تطبيق تسعيرة اتفاقية، غير أن ذلك الإضراب ووجه بقمع عنيف تأكيدا لمنع الاتفاق الجماعي تطبيقا لقانون منع التجمعات والتكتلات المهنية[14].

غير أن تلك الاحتجاجات والتمرد العمالي لم يتوقف رغم القمع الذي تعرضت له الطبقة الشغيلة بمناسبة جميع الحركات الاحتجاجية التي عرفتها فرنسا خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ولقد دام ذلك المنع إلى سنة 1848 بصدور قانون 27/02 من نفس السنة، حيث اعترف للعمال بحق التجمع فيما بينهم لاستغلال نتائج عملهم ولكن ذلك القانون لم يدم طويلا، وبصدور قانون 27/02/1849 تم إلغاء ما جاء به القانون المذكور، فقد نص على منع التجمع سواء المتعلق بالمستخدمين أو العمال، وكان قصد واضعي القانون من ذلك المساواة بين المستخدمين وبين العمال أمام القانون. وبتعديل قانون العقوبات بموجب قانون 25/05/1864 تم بمقتضاه إلغاء قانون منع التحالف والائتلاف بين العمال؛ ونص من جهة ثانية على جنحة المساس بحرية العمل، وقد وضع ذلك القانون على أساس مبدأ أن يباح للجماعة ما يباح للفرد، بمعنى إذا كان للعامل كفرد أن يتوقف عن العمل انطلاقا من مبدأ الحرية في العمل الذي أقرته الثورة الفرنسية، فإنه يجوز للعمال أن يتفقوا على توقيف العمل، وأن يتمتعوا بنفس الحقوق كجماعة ما داموا يتمتعون بها كأفراد[15].

وبتاريخ 31 مارس 1868، سمح بتنظيم بعض الشروط المحددة للتجمعات العمالية، إلا أن الاعتراف الحقيقي لحق التجمع لم يكن إلا بتاريخ 21 مارس 1884، أي بعد 16 سنة، وتم بذلك إلغاء العقوبات المقررة على العمال القائمين بالإضراب، وتحريم أي ضغط على العمال في الدخول في إضراب عن طريق العنف والقوة، أو التهديد أو ما يشابه ذلك من التصرفات التي من شأنها التأثير على العمال ومنعهم من أداء عملهم بحرية وتلقائية، غير أن الاعتراف الضمني بحق الإضراب، لم يفسر بذلك الشكل في ظل الجمهورية الثالثة حيث كانت الإضرابات التي قامت سنة 1932 إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية سنة 1939[16]، سببا في إنهاء علاقات العمل بالنسبة للمضربين[17].

ونتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية اشتدت حركة الإضراب في تلك الفترة غير أن الجبهة الاشتراكية في الحكم لم تقمع تلك الإضرابات ولم تتابعها جزائيا، كما كان يسمح لها القانون بذلك، بل النقابات هي التي طالبت بإحداث اللجوء إلى التحكيم الإجباري قبل اللجوء إلى الإضراب، وأثناء الحرب العالمية الثانية حلت النقابات غير أن ذلك لم يمنع حدوث الكثير من الإضرابات التي كانت ممزوجة بطابع سياسي[18].

لذلك ظل إضراب الموظفين العموميين عملا غير مشروع قبل دستور 1946، واعتبر بمثابة عمل غير مشروع يوجب توقيع الجزاء التأديبي باعتباره مخالفة تأديبية، كما اعتبر في بعض الحالات بمثابة جريمة جنائية ومخالفة تأديبية في آن واحد، ولا يتمتع الموظف العام في حالة ممارسة الإضراب بأية ضمانات تأديبية، وهذا ما أكده الفقه والقضاء[19].

ومن الناحية القانونية، فإن القانون الجنائي الفرنسي في فصوله من 123 إلى 126 كان يسمح بمتابعة تحالف الموظفين ضد الإدارة[20]، وكانت عدم مشروعية الإضراب في تلك الفترة تجد أساسها في الإخلال بقاعدة استمرارية المرفق العام بنظام واطراد، وبقاعدة الخضوع للطاعة الرئاسية.

وسيرا على ذلك النهج، جاء القانون بمثابة النظام العام للموظفين الصادر في 14 شتنبر 1941، لا ليحرم الإضراب فحسب وإنما ليجعله أمرا غير مشروع، حيث نصت المادة 17 منه على أن “أي عمل من جانب أي موظف يكون من شأنه الإضرار بالاستمرار اللازم للسير الطبيعي للمرفق العام يشكل إخلالا جسيما بواجباته الأساسية، وعندما ينشأ أي عمل من هذه الطبيعة عن عمل جماعي أو متفق عليه، فإن الموظف يحرم نتيجة لذلك من الضمانات المنصوص عليها في هذا النظام فيما يتعلق بالمجال التأديبي.”[21].

أما بخصوص موقف فقهاء القانون العام في فرنسا في تلك المرحلة، فقد اعتبر السواد الأعظم منهم (الأستاذ “Gaston Jése”، الأستاذ “Maurice Hauriou”، الأستاذ”Louis Rolland، الأستاذ “V. Deguit”…) أن إضراب الموظفين يعد عملا غير مشروع، ويمثل خطأ جسيما وذلك لتعارضه مع مفهوم المرفق العام الذي يقوم في أساسه على رعاية الصالح العام، وأن إجازة الإضراب في هاته الحالة يجعله يخضع لمصالح الموظفين الخاصة، ولا يمكن أن تكون المصلحة الخاصة مفضلة على المصلحة العامة، حيث يرتكز نظام المرفق العام على هيمنة وتفوق المصلحة العامة، وبالتالي يكون الإضراب من جهة الموظفين العموميين عملا غير مشروع ويشكل خطأ تأديبيا[22].

كما يرى ذلك الاتجاه الفقهي أن الإضراب يتعارض مع مبدأ أساسي من المبادئ التي تحكم سير المرافق العامة ألا وهو سير المرافق العامة بنظام واطراد، وأن المركز اللائحي الذي يشغله الموظف يجعل شروط وأوضاع العمل بالنسبة له تتحدد بأداة تنظيمية تصدرها السلطة العامة بإرادتها المنفردة، وبالتالي ليس هناك مجالا للتفاوض لمناقشة تلك الشروط كما هو الحال في علاقات الشغل الخاصة.

فالوظيفة العامة في رأي الفقه الفرنسي تقوم على أساس مبدأ السلطة الرئاسية وفكرة النظام العام، وأن كل ما يهدف إلى هدم هذا المبدأ يكون محظورا، وبالتبعية لذلك يحظر على الموظف العموميين اللجوء إلى الإضراب، لأنه يعتبر عملا من أعمال التحدي في مواجهة الدولة[23].

والفقيه الفرنسي ديجي “Deguit” يوضح رفضه القاطع للإضراب، حيث يقرر عدم وجود حق الإضراب بصورة عامة، ومن باب أولى فإنه لا يوجد بالنسبة لأية طائفة من الموظفين العموميين، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك حيث يطالب بضرورة اعتبار إضراب الموظفين جريمة جنائية[24].

الفرع الثاني: تقرير حق الإضراب للموظفين العموميين “التنظيم المقيد”

ظل القانون رقم 46-2294 الصادر في أكتوبر 1946 المتعلق بالنظام العام للموظفين صامتا فيما يتعلق بموضوع إضراب الموظفين وإن كان قد اعترف لهم صراحة بالحرية النقابية.

كما أن دستور الجمهورية الرابعة الفرنسي الصادر بتاريخ 27 أكتوبر سنة 1946 لم ينص على الحقوق والحريات العامة إلا في ديباجته، بخلاف مشروع الدستور الفرنسي الذي رفضه الشعب الفرنسي وهو المسمى «دستور أبريل 1946» فقد وضع النصوص الخاصة بالحقوق والحريات العامة في صلب الدستور ذاته[25].

وقد نصت مقدمة الدستور الصادر في 27 أكتوبر 1946 على أن “حق الإضراب يمارس في إطار القوانين التي تنظمه”؛

“Le droit de grève s’exerce dans le cadre des lois qui le règlement”[26]

كما أثير التساؤل هل يمكن الاستناد لهذا النص الوارد في مقدمة الدستور كأساس لتبرير شرعية الإضراب في المرافق العامة؟

لقد أجاب رجال السياسة والنقابيون ورجال القانون على هذا التساؤل بإجابات مختلفة، وذلك على النحو التالي:

ذهب اتجاه إلى أنه لا يمكن الاستناد إلى ما ورد في مقدمة الدستور بصفة مباشرة لإجازة الحق في الإضراب بالنسبة للموظف العمومي، وذلك لأن ما ورد بمقدمة الدستور ما هو إلا توجيه وإرشاد للمشرع، وبالتالي فإن القيمة المنهجية فقط للمقدمة تحول دون الاعتراف للموظفين بحق الإضراب في غياب قانون يعترف لهم بهذا الحق، وعليه فإن الأحكام التي جاءت بها هذه المقدمة لا تعتبر قواعد قانونية ملزمة للمشرع، وإنما تعتبر هذه الأحكام بمثابة مبادئ عامة ذات قيمة سياسية أو فلسفية محضة أكثر منها قواعد قانونية ملزمة، ويترتب على الأخذ بهذا الرأي أن المشرع يستطيع أن يضع تشريعات أو يسن قوانين عادية تخالف المبادئ الواردة في المقدمة، دون أن يحتج على هذه التشريعات بعدم دستوريتها ومخالفتها لأحكام المقدمة[27].

وقد ذهب اتجاه آخر من الفقه، على عكس الاتجاه السابق، إلى تبني رأي آخر مفاده أن ما ورد بمقدمة دستور سنة 1946، يعطي للموظفين الحق في الإضراب على اعتبار أن الاعتراف بالحق النقابي يستتبع بالضرورة الاعتراف بحق الإضراب، ذلك السلاح الرئيسي والملاذ الأخير للنقابات في الدفاع عن حقوق ومصالح أعضائها.

ومقدمة الدستور في رأي ذلك الاتجاه لها قيمة قانونية، وأن تلك القيمة تعتبر أعلى مرتبة من النصوص الدستورية ذاتها، لأنها بمثابة تعبير عن الإرادة العليا للأمة، فهي تحتوي على القواعد الأساسية الكامنة في الضمير الإنساني، تلك القواعد التي يتعين احترامها والنزول على حكمها دون حاجة لأن ينص عليها في مقدمة دستورية أو إعلان للحقوق[28].

وبذلك تكون المقدمة وفقا لذلك الرأي ملزمة للهيئة التأسيسية التي تضع الدستور والمشرع العادي من باب أولى.

على أن هناك فريقا من الفقهاء يجعل تلك المقدمة مساوية على الأقل للنصوص الدستورية، استنادا إلى أن المقدمة ما هي إلا تعبير عن إرادة الهيئة التأسيسية، مثلها في ذلك مثل النصوص الدستورية ذاتها، فهي تعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور، وتعادل القوة والقيمة التي تتمتع بها النصوص الدستورية، وبالتالي تتمتع نصوصها بما تتمتع به نصوص الدساتير من حصانة في مواجهة المجالس النيابية.

غير أن ذلك الرأي وجد أن المقدمة لا تتمتع بضمانات الرقابة على دستورية القوانين المنصوص عليها في المواد 91 إلى 93، من الدستور المذكور، لذلك إذا أصدر المشرع العادي قانونا مخالفا لتلك المبادئ الوارد ذكرها في المقدمة، فإن مثل ذلك التشريع يظل نافذا وساري المفعول، حيث لا توجد وسيلة للطعن في دستوريته[29].

وقد تم الاعتراف بحق الإضراب للموظفين العموميين بصورة صريحة في قرار المجلس الدستوري الصادر في 25 يونيو سنة 1979 عندما أكد المجلس الدستوري في ذلك القرار على أنه طبقا لما جاء بمقدمة دستور سنة 1946، ودستور الجمهورية الخامسة الفرنسي في 04 أكتوبر سنة 1958 «والمسمى دستور ديجول» من أن “حق الإضراب يمارس في إطار القوانين التي تنظمه” وأن أعضاء الجمعية التأسيسية قد أرادوا بهذا النص أن يكون له قيمة دستورية[30].

كما أكد القانون رقم 83-634 الصادر في 13 يوليوز 1983، المتعلق بحقوق والتزامات الموظفين في المادة 10 على هذا المبدأ إذ جاء فيه: “يمارس الموظفون حق الإضراب في إطار القوانين التي تنظمه”، كما أن مجلس الدولة الفرنسي قام بسد الفراغ التشريعي الذي ساد في الفترة ما بين صدور دستور 1946 وقيام المشرع بإصدار قانون 1963، الذي نظم فيه حق الإضراب، ولولا فعله هذا لعمت الفوضى ولأصبح الدستور فارغ المضمون، وهنا ظهر الدور الإنشائي للقاضي الإداري في وضع القواعد الضابطة حتى يتسنى للمشرع القيام بتنظيمها، وفعلا تنبه المشرع ولو بعد فترة وقام بإصدار تشريع 31 يوليوز 1963، الذي يهم موظفي الدولة والجماعات المحلية وعمال المقاولات والهيئات والمؤسسات العمومية أو الخصوصية المعهود إليها بإدارة مرفق عام[31]، حيث قنن فيه المشرع ما استقر عليه المجلس من قواعد؛

وبذلك أصبح حق الإضراب مقررا للموظفين في فرنسا دستوريا وتشريعيا ومعترفا به على صعيد القضاء.

لقد ألزم قانون 31 يوليوز 1963 المعنيين بالأمر بتوجيه إنذار بالإضراب إلى السلطات المختصة قبل القيام بالإضراب بخمسة أيام، كما يجب أن يتضمن هذا الإنذار أسباب قيامه والتاريخ المقرر للقيام به وفي حالة عدم احترام الشروط فإن الموظفين المضربين يحالون على السلطة التأديبية المختصة.

كما نص القانون رقم 82.889 الصادر بتاريخ 19 أكتوبر 1982 على ضرورة التفاوض بين الجهات المختصة خلال مدة الإنذار، قبل قيام الإضراب[32].

المطلب الثاني: الموظف العمومي وحق الإضراب في النظام المصري

سوف نحاول التعرف في هذا المطلب على موقف المشرع المصري من الإضراب، فهل اعترف للموظف العمومي بهذا الحق؟، و ذلك من خلال تقسيمه إلى فرعين:

الفرع الأول: مرحلة حظر ممارسة حق الإضراب.

الفرع الثاني: مرحلة الاعتراف بحق الإضراب.

الفرع الأول: مرحلة حظر ممارسة حق الإضراب

لم يكن الإضراب في مصر معاقبا عليه جنائيا حتى عام 1923، وكان يكتفى بتوقيع العقوبات التأديبية على الموظفين والتي قد تصل إلى العزل[33].

ومع انتشار الحركات العمالية والتجمعات النقابية واستخدامها سلاح الإضراب للتأثير على السلطة العامة في تحقيق مطالبها، شعر المشرع المصري بالخطر الذي  ينتاب سير المرافق العمومية من جراء اللجوء إلى الإضراب، وأن الجزاء التأديبي وحده غير كاف لردع الموظفين عن الإضراب رغم خطورته، فأصدر القانون رقم 37 لسنة 1923 معدلا قانون العقوبات، لتجريم الإضراب جنائيا ونقل ذلك التعديل بحالته إلى قانون العقوبات الصادر عام 1937، ولكن تلك التشريعات لم تحول دون قيام الموظفين بالإضراب خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول البلاد في أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، لذلك اضطر المشرع إلى التدخل لتشديد عقوبة الإضراب وتوسيع نطاق جرائمه، وذلك بمقتضى المرسوم رقم 116 لسنة 1946 والقانون رقم 24 لسنة 1951، حيث أورد فيه عقوبات أشد وجرم فيه حالات أخرى لم تكن موجودة في القوانين السابقة[34]، وهذا عكس ما هو عليه الحال في فرنسا فقبل إقرار المشرع للإضراب في ديباجة دستور 1946، فإن المشرع والقضاء في تلك الفترة كانا ينظران للإضراب على أنه عمل غير مشروع، لكنهما لم يذهبا إلى حد تجريمه بعقوبات جنائية، لذا كان من غير المألوف أن يتجه المشرع المصري إلى تجريم ممارسة حق الإضراب وفرض عقوبات جنائية على ممارسة هذا الحق وفقا للمادتين (174، 174 أ) من قانون العقوبات[35].

وعلى إثر الإضرابات والمظاهرات وحوادث التخريب التي اندلعت يومي 11 و 18 يناير عام 1977، أصدر المشرع القانون الاستفتائي رقم 02 لسنة 1977، فنص في مادته السابعة على أن ” يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة العاملون الذين يضربون عن عملهم عمدا متفقين في ذلك أو مبتغين تحقيق غرض مشترك إذا كان من شأن هذا الإضراب تهديد الاقتصاد القومي“.

فذلك القانون يبين لنا مدى تشدد المشرع المصري في تجريم فعل الإضراب لفرض عقوبة جنائية تصل إلى حد الأشغال الشاقة المؤبدة، إلا أن تلك المادة قد ألغيت بإلغاء القانون المشار إليه، وذلك بمقتضى قانون رقم 194 لسنة 1983 المعمول به من اليوم التالي لتاريخ نشره بالجريدة الرسمية في 25 شتنبر 1983.

وبإلغاء ذلك النص أصبحت نصوص قانون العقوبات (القانون الجنائي) التي تتضمن عقوبات قاسية هي وحدها التي تحكم الإضراب، وتتجلى في المواد التالية: (124، 124أ، 124ب، 124ج، 374 مكرر، 375).[36]

والواقع أن المشرع المصري ما كان يجب عليه أن يلجأ إلى تلك الطريقة في التحريم حيث إنه لم يترك الساحة للعقوبات التأديبية كرادع لممارسة الإضراب، بل إنه تجاوز ذلك إلى زج بأفعال المضربين إلى ساحة قانون العقوبات مهدرا بذلك حقا من أهم الحقوق التي تمس الموظف في وظيفته وهو حقه في الالتجاء لقاضيه الطبيعي وممارسة حرياته، بل وألجمه عن التعبير عن مطالبه المهنية، فالعقوبات التي نص عليها المشرع لم تقتصر على الموظفين المضربين بل أنها امتدت لتجرم الموظف الفرد الذي يجرؤ على الامتناع عن العمل حتى ولو في صورة استقالة، بل إنه يتعرض للعزل إذا كان المضرب من الموظفين.

والمشرع أسرف في العقاب بتجريمه للإضراب وتشدده في العقوبات المغالى فيها، وذلك الغلو أخرج المشرع عن القواعد العامة في قانون العقوبات ومن مظاهر ذلك الغلو [37]:

* ضاعف عقوبة الشريك بالتحريض في جريمة الامتناع العمد عن العمل وجعلها ضعف عقوبة الفاعل الأصلي، وذلك بالمخالفة للقواعد العامة التي تجعل للشريك عقوبة مساوية أو أقل من الفاعل الأصلي؛

* عاقب على التحريض ولو لم يترتب عليه أية نتيجة مع أن القواعد العامة تقضي بأن الشريك لا يعاقب طالما أن الفعل المكون للجريمة لم يتم إلا إذا كان المشرع قد اعتبر التحريض جريمة مستقلة؛

* جرم حرية الرأي وحرية النشر بل إنه صادر تلك الحريات حيث العقوبة لمجرد التحبيد، وبذلك يعاقب على مجرد إبداء الرأي بل إنه جرم إذاعة أية أخبار حتى ولو كانت صحيحة مهدرا بذلك حرية نص عليها الدستور ألا وهي حرية الرأي والتعبير؛

* بحث وراء وأد الإضراب بأية وسيلة كانت حيث جعل الإضراب سببا في حل المنظمات النقابية حلا قضائيا إجباريا طبقا للمادة (70) من قانون النقابات العمالية رقم (35) لسنة 1972 وبذلك سلب المنظمات النقابية كل حقوقها وجعلها فارغة المضمون لا حول ولا قوة لها عكس ما هو متبع في فرنسا؛

* جعل من الموظف الذي يترك العمل ولو في صورة استقالة مضربا وهذا الحكم مخالف لما كان مستقرا عليه في القضاء المصري[38] في ذلك الوقت الذي رفض إجراء حكم الامتناع عن العمل في حالة الاستقالة؛

* جرم الامتناع عن العمل أيا كان سبب الامتناع حتى ولو كان الهدف مشروعا؛

* عاقب على تقديم الاستقالة وذلك إذا صادف أن تقدم ثلاثة من الموظفين باستقالاتهم حتى ولو لم تهدف هذه الاستقالات إلى تحقيق هدف غير مشروع أو لم يكن بينهم اتفاق مسبق وفي ذلك اعتداء على حرية العمل التي كفلها الدستور، أضف إلى ذلك كيف يجرم المشرع مجرد تقديم الاستقالة في حين أن الاستقالة لا تنتج أي أثر إلا بعد موافقة الإدارة عليها أو مرور شهر على تقديمها، وفي حالة رفضها تصبح كأن لم تكن.

وكيف يعاقب المشرع على شيء لم يحدث بعد ومعلق على شرط والمعلق لا ينتج أثره إلا بعد تحقق الشرط، علاوة على ذلك فإن طالب الاستقالة لا يتمسك بالوظيفة بل أنه يرغب في فصم عرى العلاقة الوظيفية، فكيف يعاقب على استعمال حقه ؟!

في حين، أن القانون السابق رقم 37 لسنة 1923 كان يشترط الاتفاق السابق على الإضراب وأن يكون هناك تشاور وإقرار الرأي على ترك العمل حتى يتم تجريم الفعل، في حين أن المادة (124ع) لا تشترط سوى تحقيق غرض مشترك كذلك فإن قانون 37 كان يتطلبه أن يكون الإضراب بدون مسوغ مشروع أما المادة (124) من القانون الحالي فلا تشترط شيء من ذلك. وهذا يوضح مدى تشدد تلك المادة وجنوحها للغلو المفرط في القسوة.

 والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مدى مشروعية ممارسة الموظفين لحرية الإضراب في مصر بعد أن انضمت هذه الأخيرة للاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟

الفرع الثاني: مرحلة الاعتراف بحق الإضراب

يمكن القول بأن مصر بعد أن صادقت على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأصبحت جزءا لا يتجزأ من القانون الداخلي المصري، فإنه بموجب تلك الاتفاقية يصبح حق الإضراب مكفولا في مصر لجميع طوائف العاملين بما فيهم الموظفين، مما يتعين على المشرع أن يقوم بتنظيم هذا الحق[39].

وقعت مصر على الاتفاقية المذكورة في 04 غشت 1967، لكنها لم تصادق عليها إلا في01 أكتوبر1981، وقد نصت المادة الثامنة من تلك الاتفاقية على أن “تتعهد الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بأن تكفل:

1-…)د ( الحق في الاضراب على أن يمارس طبقا لقوانين القطر المختص؛

2- لا تحول هذه المادة دون فرض القيود القانونية على ممارسة هذه الحقوق بواسطة أعضاء القوات المسلحة أو الشرطة أو الادارة الحكومية”.

وبعد المصادقة على تلك الاتفاقية صار جدل بين الفقهاء حول القيمة القانونية لتلك المعاهدة، فكان هناك شبه إجماع من الفقه يؤيدهم في ذلك القضاء على أن الاتفاقية لا يرد عليها الحظر الوارد في المادة 151 من الدستور[40]، فيدخل إبرامها ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية وحده، وبالتالي تكون لها قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها.

وبناء عليه، أصبح الإضراب حقا معترفا به للموظفين في مصر منذ 14 أبريل 1982 تاريخ العمل بتلك الاتفاقية، ويكون قد حدث إلغاء ضمني للنصوص الواردة في قانون العقوبات والتي تضمنت تجريم الإضراب، لأن الاتفاقية وهي في مرتبة القانون العادي لاحقة، والقانون اللاحق يلغي السابق ويحل محله فيما يتعارض معه من أحكام.

أولا: موقف الفقه

يرى بعض الفقه أن تلك الاتفاقية لا تعدو أن تكون وعدا مبذولا من جانب الدولة التي وقعتها وقبلتها بصفتها شخصا من أشخاص القانون الدولي العام بالقيام بعمل منسق مع غيرها من الدول لضمان تقرير الحقوق الواردة بها وكفالتها سواء بتعديل تشريعاتها لتتوافق معها أو بتقريرها إن كانت تشريعاتها تخلو من مثل هذه الحقوق، أو أن تضع من القيود القانونية ما تراه في صالحها، وأن كل ما يترتب على عدم مراعاة الدولة لهذه الحقوق هو مجرد مسؤولية دولية في مواجهتها قبل الدول الأخرى الأطراف في الاتفاقية، على أن هذه المسؤولية تظل من الناحية الواقعية في دائرة الأمور النظرية التي لا يترتب عليها نتائج قانونية فعلية[41].

استند هذا الرأي لتبرير اتجاهه هذا الى حجتين، الأولى مستمدة من نصوص الاتفاقية ذاتها، والثانية مستمدة من تشبيه ما ورد بتلك الاتفاقية بنص المادة الثانية من دستور1971 من أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وأن ما استقر عليه قضاء محكمة النقض والدستورية العليا أن ذلك النص ليس واجب الإعمال بذاته وإنما هو دعوة من المشرع كي يتخذ الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا فيما يسنه من قوانين. وعليه، فإن أحكام الشريعة الإسلامية لا تكون واجبة التطبيق بالتعويل على نص الدستور المشار اليه إلا إذا استجاب المشرع لدعوته وأفرغ تلك الأحكام في نصوص  تشريعية محددة ومنضبطة تنقلها إلى مجال العمل والتنفيذ.

وينتهي أصحاب هذا الاتجاه إلى أن الاتفاقية المذكورة لم تلغ النصوص المجرمة لحق الإضراب في  قانون العقوبات المصري، بل ما زال فعلا إجراميا معاقبا عليه بالمواد 124أ و374 من قانون العقوبات، وأن إعمال حق الإضراب وفقا لتلك الاتفاقية رهين بوضع القوانين المنظمة له من جانب المشرع المصري، وإن كان يجب على هذا الأخير أن يسارع إلى وضع الضوابط اللازمة لهذا الحق على نحو يحقق مصلحة الدولة العليا ومصالح العاملين[42].

ويذهب الرأي الغالب في الفقه الى الرد على أصحاب الاتجاه السابق من خلال القول بأن المادة الأولى من نفس الاتفاقية المذكورة نصت على تعهد الدول بتبني الإجراءات التشريعية من أجل التحقيق الكامل للحقوق المعترف بها في تلك الاتفاقية، كما أن فرض القيود على الحقوق والحريات العامة يكون بتنظيم استخدامها وليس إعدامها كلية، ذلك أنه من الثابت فقها وقضاء، أن حجب الحقوق لا يمكن اعتباره من قبيل التقييد، إذ أن التقييد للحي ولا قيد على عدم، والدليل على ذلك هو التحفظ الوارد بنص المادة الثامنة من الاتفاقية من حيث فرض القيود القانونية على ممارسة هذه الحقوق بواسطة أعضاء القوات المسلحة أو الشرطة أو الإدارة الحكومية، إذ لو كانت نصوص الاتفاقية مجرد تعهد ومجردة من صفة  الإلزام لما اضطرت الاتفاقية إلى تلك الصياغة حيث تقرر: “لا تحول هذه المادة دون فرض القيود القانونية…”[43].

كما أنه لا وجه للمقارنة بين نص المادة الثانية من الدستور وأحكام الاتفاقية، لأن أحكام هذه الأخيرة ليست من ذات طبيعة النص الدستوري، فكل نص دستوري ينفذ عن طريق التشريع المنفذ لأحكامه ما لم يكن صالحا للتطبيق مباشرة، ولكن تعتبر نصوص تلك الاتفاقية نافذة بمقتضى أحكام الدستور ذاته طبقا لنص المادة 151 من الدستور.

ثانيا: اتجاه القضاء

إذا كان أغلب الفقه قد انتهى الى شرعية الحق في الإضراب بالنسبة للموظف العمومي طبقا لنصوص الاتفاقية، فقد جاء القضاء المصري في هذا الصدد مؤيدا لهذا الاتجاه، سواء القضاء العادي أو قضاء مجلس الدولة، حيث انتهى الحكم الجريء لمحكمة أمن الدولة العليا طوارئ في 16 أبريل 1987 ببراءة موظفي السكك الحديدية، حيث أكد أن من حق العمال على اختلاف طوائفهم ممارسة حق الإضراب، وفقا للقيود التي تضعها السلطة العامة، فإن تقاعست هذه الأخيرة عن تنظيم هذا الحق فلا يعني ذلك حرمان  العمال منه.

وقد ذهب الحكم إلى: “وحيث أنه متى كان ذلك فإن الاتفاقية المذكورة وقد نشرت في الجريدة الرسمية في الثامن من أبريل سنة 1982 بعد أن وافق عليها مجلس الشعب تعتبر قانونا من قوانين الدولة وما دامت لاحقة لقانون العقوبات فإن اعتبار المادة 124 قد ألغيت ضمنيا بالمادة 8 فقرة (د) من الاتفاقية المشار إليها أعلاه عملا بنص المادة الثانية من القانون المدني التي تنص على أنه لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعد ذلك التشريع، ولا يقدح في ذلك أن المادة 124 من قانون العقوبات قد عدلت برفع الغرامة بالقانون رقم 92 لسنة 1982 بعد نشر الاتفاقية في الجريدة الرسمية لأنه إذا كان من المقرر فقها وقضاء أن الساقط لا يعود فإنه بالتالي ومن باب أولى لا يعدل لأن التعديل لا يمكن أن يرد على معدوم أو ما دام الثابت أن المادة 124 قد ألغيت ضمنيا بالاتفاقية ولم يعد لها وجود، مما تكون معه تهمة الامتناع عن العمل قد بنيت على غير أساس من القانون”[44].

كما انتهت المحكمة التأديبية إلى براءة عمال مصنع السجاد الجمعية التعاونية للصناعات المنزلية من تهمة الإضراب وذهب الحكم إلى: “أن الامتناع عن العمل(الإضراب) قد أصبح منذ سريان الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي وقعت عليها جمهورية مصر العربية وذلك على النحو سالف البيان اعتبارا من 08/04/1982 حقا من الحقوق المكفولة للعاملين بالدولة (عاملين مدنيين وقطاع عام) ومن ثم فإن هذا السلوك لا يعد خروجا من جانبهم على مقتضى الواجب الوظيفي وخاصة أنه لم يثبت من الأوراق أنه عند ممارستهم لهذا الحق لم يقع منهم ما يخالف المحافظة على ممتلكات أموال الشركة التي يعملون بها ولا ينال من ذلك أن المشرع في جمهورية مصر العربية حتى الآن لم يصدر التشريعات المنظمة لممارسة حق الإضراب لأنه لا يسوغ أن يكون الموقف السلبي مبررا للعصف بهذا الحق والتحلل من أحد الالتزامات الهامة التي قبل أن يكفلها من قبل المجتمع الدولي وخاصة أن هذا الحق يعد من أهم مظاهر ممارسة الديمقراطية وهو ما أكدته واعتنقته معظم التشريعات في العالم…”[45]، وهو الحكم الذي يفيد عدم وجود أي عقوبة تأديبية في علاقة العمل بسبب ممارسة حق الإضراب الذي وصفه الحكم بأنه من أهم مظاهر ممارسة الديمقراطية[46].

[1] – أحمد مفيد: “المنازعات المتعلقة بالحق في الإضراب في قطاع الوظيفة العمومية، تعليق على القرار الصادر عن المحكمة الإدارية بمكناس في قضية محمد شيبان ضد وزير التربية الوطنية”، المجلة المغربية للمنازعات القانونية (REMARC)، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، عدد 2، 2004، ص.98.

[2] – أورده محمد خيري مرغيني: “المبادئ العامة للقانون الإداري بالمغرب”، نشر وتوزيع مكتبة الطالب، الرباط، الطبعة الثانية، 1982، ص.11.

[3] – عبد الواحد القريشي: “القضاء الإداري و دولة الحق و القانون بالمغرب”، الشركة المغربية لتوزيع الكتاب، الطبعة الأولى، 2009، ص.185.

[4] – سليمان محمد الطماوي: “الوجيز في القانون الإداري –دراسة مقارنة-“، دار الفكر العربي، القاهرة، 1988، ص.385.

[5] – أورده محمد الشرقاني: “مدى مشروعية الإضراب العمالي بالمغرب”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية، جامعة محمد الخامس، الرباط ، 1991، ص.18.

[6] – المحكمة الإدارية بمكناس، حكم عدد. 63-2001- 3 غ،  بتاريخ 12 يوليوز2001، محمد شيبان ضد وزير التربية الوطنية، منشور بالمجلة المغربية للمنازعات القانونية، عدد. 2-2004، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص.88.

[7] – هذا التعريف استند إلى ما جاء به مجلس الدولة الفرنسي في قرار “DEHAENE” بتاريخ 07 يوليو 1950 ( أنظر الصفحة 56 من هذا البحث)، وأخذ في نفس الوقت وفقا لما جاء في قرار الغرفة الاجتماعية بمحكمة التمييز بباريس بتاريخ 27 يونيو 1951 والذي تم النص فيه على أن الإضراب ينتمي إلى النظام القانوني الجماعي لحق بسيط و يغير نظام العلاقات الفردية للعمل.

[8] – منظمة العمل الدولية، تم إنشاؤها سنة 1919، وأصبح لدستورها ومواثيقها قوة القانون وإلزامه.

[9] – توصية التوفيق الاختياري والتحكيم رقم (92) لسنة 1951، تهدف إلى تشجيع إقامة آلية توفيق بين العمال وأصحاب الأعمال، وأن تكون مشاركتهم فيها بممثلين متساويين في العدد لكل طرف، وتؤكد على الطبيعة الاختيارية لإجراءات كل من التوفيق والتحكيم، وعلى عدم جواز تفسير أحكامها أو نصوصها بما يقيد الحق في الإضراب. (أنظر التوصية الصادرة بالدورة الرابعة و الثلاثون لمؤتمر الشغل الدولي سنة 1951 ضمن منشورات مكتب العمل الدولي بجنيف ، القانون النقابي لمنظمة العمل الدولية معايير وإجراءات، صفحة.77).

[10] – عزيز بودالي: “إشكاليات ممارسة حق الإضراب بين ايجابيات القانون ومعوقات الواقع“، مجلة القسطاس الصادرة عن هيئة المحامين بمكناس، العدد الخامس، يونيو 2005، مطبعة تافيلالت، ص.87.

[11] – محمد أنس قاسم جعفر: “الموظف العام وممارسة العمل النقابي”، دار النهضة العربية، بيروت، 1986، ص.86.

[12] –  محمد عبد الحميد أبو زيد: “دوام سير المرفق العمومي، دراسة مقارنة”، دار وهدان للطباعة والنشر، 1975، ص.20.

[13] – عبد السلام ذيب: “قانون العمل الجزائري و التحولات الاقتصادية”، دار القصبة والنشر، 2003، ص.365.

[14] – سامر أحمد موسى: “إضراب العاملين في المرافق العامة-دراسة في النظام القانوني الفلسطيني والفرنسي والجزائري-“، ص.7،                         الموقع الالكتروني:www.eastlaws.com.

[15] – سليمان أحمية:” آليات تسوية منازعات العمل والضمان الاجتماعي في القانون الجزائري”، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1998، ص.366.

[16]  – عرفت فرنسا خلال تلك الفترة نوعا جديدا من الإضراب بحيث أصبح العمال يحتلون أماكن العمل.

[17] – سامر أحمد موسى: “إضراب العاملين في المرافق العامة-دراسة في النظام القانوني الفلسطيني والفرنسي والجزائري-“، مرجع سابق، ص.08.

[18]  – عبد السلام ذيب: “قانون العمل الجزائري و التحولات الاقتصادية”، مرجع سابق، ص.366.

[19] – علي عبد الفتاح محمد خليل: “حرية الممارسة السياسية للموظف العام”، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، طبعة 2007، ص.472.

[20] – Voir: TAHRI Ahmed : « les droits du fonctionnaire marocain, entre la théorie et la pratique », mémoire de 3ème cycle pour l’obtention du diplôme des études supérieures en droit public, Faculté des sciences juridiques, Rabat, 1999, p.172.

[21] – منصور محمد أحمد: “الحرية النقابية للموظف العام”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1999، ص.713.

[22] – مليكة الصروخ: “نظرية المرافق العامة الكبرى”، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية، 1992، ص.120-121.

[23] – علي عبد الفتاح محمد خليل: “حرية الممارسة السياسية للموظف العام”، مرجع سابق، ص.473.

[24] – عبد الحميد محمد العربي: “ممارسة الموظف للحريات العامة في القانون الإداري والقانون الدولي (دراسة مقارنة)”، 2003، ص.269.

[25] – محمد عبد الحميد أبو زيد: “دوام سير المرفق العمومي، دراسة مقارنة”، مرجع سابق، ص.26.

[26] –  Emmanuel Aubin,”Droit de la fonction publique”,Gualini éditeur,2éme édition,2004,p.71.

[27] – منصور محمد أحمد: “الحرية النقابية للموظف العام “، مرجع سابق، ص.715.

[28] – محمد عبد الحميد أبو زيد: “دوام سير المرفق العمومي، دراسة مقارنة”، مرجع سابق، ص.27 .

[29] – محمد عبد الحميد أبو زيد: “دوام سير المرفق العمومي، دراسة مقارنة”، مرجع سابق، ص.26.

[30] – راجع في ذلك قرارات المجلس الدستوري الآتية:

C.C, Dec n° 79-105, DC du 25 juillet 1979, Rec., Cons. Constit… p : 42

42-144 DC du 22 oct. 1982, Rec., Cons. Constit, p : 61

86-217 du 18 sept 1986, Rec., Cons. Constit, p : 141

[31] – رتيلي فاطمة ومن معها: “إشكالية الإضراب في المرافق العمومية”، مرجع سابق، ص.16.

[32] – مليكة الصروخ: “نظرية المرافق العامة الكبرى”، مرجع سابق، ص.121.

[33] – محمد عبد الحميد أبو زيد:  “دوام سير المرفق العمومي، دراسة مقارنة”، مرجع سابق، ص.44-45.

[34] – منصور محمد أحمد: “الحرية النقابية للموظف العام “، مرجع سابق، ص.848.

[35] – علي عبد الفتاح محمد خليل: “حرية الممارسة السياسية للموظف العام”، مرجع سابق، ص.512.

[36] –  مليكة الصروخ: “نظرية المرافق العامة الكبرى”، مرجع سابق، ص.123.

[37] – عبد الحميد محمد العربي: “ممارسة الموظف للحريات العامة في القانون الإداري والقانون الدولي”، مرجع سابق، ص.389.

[38] – محكمة النقض المصرية في 2 مارس 1926، المجموعة الرسمية سنة 1927، رقم 66، ص.102.

راجع: محمد عبد الحميد أبو زيد: “دوام سير المرفق العمومي، دراسة مقارنة”، مرجع سابق، ص.61.

[39] – عبد الحميد محمد العربي: “ممارسة الموظف للحريات العامة في القانون الإداري والقانون الدولي”، مرجع سابق، ص.390.

[40] – تنص المادة 151 من الدستور المصري الصادر في سنة 1971 على أن: “رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات و يبلغها مجلس الشعب مشفوعة بما يتناسب من البيان، و تكون لها قوة القانون بعد إبرامها و التصديق عليها، ونشرها وفقا للأوضاع المقررة، على أن معاهدات الصلح والتحالف والتجارة والملاحة وجميع المعاهدات التي يترتب تعديل في أراضي الدولة والتي تتعلق بحقوق السيادة، أو التي تحمل خزانة الدولة شيئا من النفقات غير الواردة بالموازنة، تجب موافقة مجلس الشعب عليها”.

-[41] هشام أبو الفتوح: “الإضراب عن العمل بين التحريم و الإباحة”، دار النهضة العربية، 1989، ص.203-204.

[42]– علي عبد الفتاح محمد خليل: “حرية الممارسة السياسية للموظف العام”، مرجع سابق، ص.523.

[43] – منصور محمد أحمد: “الحرية النقابية للموظف العام “، مرجع سابق، ص893.

[44] – الحكم 4190 لسنة 1986 الأزبكية صدر في 16/04/1987.

[45] – الدعوى 120-17 ق تأديبية طنطا صدر في 10/03/1991.

[46] – مركز هشام مبارك للقانون(مصر): “إضراب الموظفين العموميين والأطباء حق مشروع يكفله القانون والمواثيق الدولية”

الموقع الالكتروني: www.hmlc-egy.org/node/106.

Exit mobile version