Site icon مجلة المنارة

الوعي القانوني

الوعي القانوني

من إنجاز  الدكتور مصطفى الفضالي

توطئة:

 

” لا يسوغ لأحد أن يعتذر بجهل التشريع الجنائي”

الفصل 2 من مدونة القانون الجنائي المغربي.

لاريب أن هذا الفصل قد تضمن أهم المبادئ التي نصت عليها مدونة القانون الجنائي، لكنه واحد من جل ما يتلقاه المخاطبون بالقاعدة القانونية من مصادر قد يجهلونها ويجهلون قيمتها ودوافعها، فتكتسب قوتها ومصداقيتها من كونها “نصا ملزما” يتلقاه المخاطبون ويداولونه فيما بينهم بوصفه “الحقيقة” التي لا تناقش.

وأحسب أن معظم –حتى لا أقول جميع- الذي يتداولون هذا المبدأ يركزون فيه على جانب الجهل بالقاعدة القانونية دون سواها، وهنا نطرح مسألة الجهل في مقابل العلم بالقاعدة القانونية، وبمفهوم المخالفة أنه لا يصح أي احتجاج بعدم العلم بالقاعدة القانونية قصد التهرب من تطبيقها .

بل نذهب إلى أكثر من ذلك ونقول بأن العلم بالقاعدة القانونية لا يكفي، بل يلزم بعد العلم أن يكون المخاطب واعيا بمضمونها، فبدون فهم ووعي لهذه القاعدة سيكون المخاطب بها كمن يحمل من المعارف ما لا يعيه ويستوعبه، بحيث يصدق عليه مثَلُ بني إسرائيل في حملهم للتوراة[1].

هذا بالنسبة للمخاطبين بالقاعدة القانونية، فما هو الشأن بالنسبة لواضعها أي المكلف بتشريعها؟ و من يفسرها ويأولها؟ وأخيرا من يُوكل إليه تطبيقها ؟ أليس كل هؤلاء مطالبون بتحصيل الوعي القانوني المطلوب؟

 

والذي يقتضيه الوعي بالقانون، أنَّ هناك عقلا مدركاً ومُنْتِجا ومفسرا وناقدا ومطبقا للنصوص القانونية، وإلا كان القانون خِلـْـواً من المَعْقولِيَّة التي تدل على بنيته المنطقية السهلة الإدراك، وهو عائق معرفي  يَحُول بين الباحث والمقاربة المعرفية القائلة بأن لكل قانون سؤالا إبيستمولوجياً، يبحث عن مبادئه ومسلماته وحقائقه ، ويكشف ما وراء المتن القانوني من أسئلة معرفية كثيرة، لعل من أبرزها: كيف  نعي القانون ؟.

وعلى هذا السؤال ينبني النظر في الوعي القانوني من حيث هو إدراك عقلي للقانون مبنىً ومعنىً . ومن أهميته المنهجية أيضا، أنه لا يُقتـَصَر فيه على القانون، بل يحتاج  إلى معرفة قانونية تتوزعها مجالات معرفية كثيرة، كالابيستمولوجية القانونية، وعلم الاجتماع  القانوني، واللسانيات القانونية، والمنطق القانوني،…،  مما جعل الوعي فاحصا عن مدى وجود عقل قانوني مدرك، وإلى هذا كله فإنه من الوسائل المستعملة فيما يُسمى “التقنية القانونية” ( la technique juridique)، التي من شأنها أن تقيس فعالية القانون كـَمـّاً وكـَيـْفاً .

 

فظاهرٌ من الوعي القانوني أن مجال النظر فيه دائرٌ بين القانون ومجالات أخرى، ولا ريب أن هذا يَشْـكُـل على كثير من الباحثين، لاقتصار القانونيين على القانون، ولتقصير غيرهم فيما هو قانوني.

وقد رأينا أن نُورد هذا المقال، توضيحا لمفهوم الوعي، ورصدا لأهميته في الحقل القانوني، وآليات تطويره، مما يساهم في تطوير المعرفة القانونية.

أولا: مفهوم الوعي القانوني

في البحث عن الوعي القانوني، ينبغي تحديد جملة من المفاهيم التي تؤطره منهجيا وإبستمولوجيا (معرفيا)، والعلاقة الناظمة بين بعضها البعض، وهذا ما يُشار إليه بالإطار المفهومي[2].

وبَيِّنٌ أن المفهومين المركزيين اللذين يؤطران ما نبحث عنه ، وفيه ، هما: ˝الوعي˝ و ˝القانون˝، ولكن هذا لا يعني إغفال الحقل الدلالي (champ sémiotique) لكليهما، وهو كل المفاهيم التي لها بالمفهومين المذكورين علاقة ما، سواء كانت من قبيل الترادف أو التباين، أو تقابل الجزء من الكل، والكل من الجزء . مثال ذلك :

– ما يربط بين مفهوم الوعي[3] والنظر والتفكير والفهم والاستيعاب والمعرفة والدراية واليقين والعقل…إلخ.

– وما يربط بين مفهوم القانون والدين والأخلاق والعرف والقيم والعلم….إلخ.

وإجمالا، كل ما له علاقة ما بالوعي القانوني، فهو مما ينبغي استدعاؤه فكريا لتحديد فهومه.

ونَظـَرُنَا في مفهوم الوعي القانوني تحليليٌ وتركيبيٌ .

– تحليل المفهوم : الوعي/ القانون

أ- ما الوعي ؟

“الوَعْيُ” في اللغة هو حفظ القلب الشيء. وعي الشيء والحديث يَعيه وَعْياً وأَوْعاه: حفظه وفهمه وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أَوْعَى من فلان أي أَحْفَظٌ وأَفْهَمٌ.

وفي الحديث: ” نَضَّر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاها، فرب مبلغ أوعى من سامع”، و عند الأزهري: الوعي الحافظ الكيس الفقيه. وفي حديث أبي أمامة لا يُعذب الله قلبا وعى القرآن. قال ابن الأثير: أي عَقِله إيمانا به وعملا، فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده. فإنه غير واع له[4].

وعليه لا وعي دون علم وفهم، فكلما ازداد المرء علما وفهما ازدادا وعيا.

والوعي كلمة تعبر عن عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجي عن طريق منافذ الوعي التي تتمثل عادة بحواس الانسان الخمس، لأن المعرفة الآتية عن طريق الحواس لها نفس درجة الضرورة من حيث إثبات الوجود الخارجي، كالمعرفة العقلية بالنسبة للبديهات العقلية، أي أنه يأخذ بالحس كمصدر للمعرفة إلى جانب العقل كملكة ذهنية[5].

فإذا ثبت هذا، انتقلنا إلى مفهوم الوعي في التداول اللغوي غير العربي، حيث يشار ب consciousness بالإنجليزية، وب conscience في الفرنسية، أما إذا اقترنت بالتحسيس فيستعمل مصطلح sensibilisation.

وما قيل في تعريف الوعي، من أنه إعمال العقل من أجل فهم وإدراك الأشياء، فوارد أيضا في تعريفه الاصطلاحي، لكن مع إضافة عناصر إجرائية “operational” لجعله أكثر تحديدا، حيث نجد الفيلسوف الانجليزي جون لوك locke قد عرف الوعي منذ العام 1690 بقوله:” إنه إدراك المرء ما يدور في عقله هو”، كما يعرفه علماء النفس بأنه “هو حالنا التي نكون عليها أثناء اليقظة والانتباه، تمييزا لهذه الحال عما نكون عليه أثناء النوم العميق الخالي من الأحلام[6].

وعموما تختلف مدلولات الوعي، من مجال إلى آخر فهناك من يقرنه باليقظة في مقابل الغيبوبة أو النوم. وهناك من يقرنه بالشعور ويشير به إلى جميع العمليات السيكولوجية الشعورية. ويمكن أن نجمل الدلالة العامة للوعي فيما يلي: “إنه ممارسة نشاط معين فكري، تحليلي، يدوي…إلخ، ووعينا في ذات الوقت بممارستنا له. ومن ثمة يمكن تصنيف الوعي إلى أصناف أربعة هي:

والحصيلة فالوعي: هو ما يكون لدى الانسان من قدرة على استعمال العقل من أجل فهم وإدراك الأشياء من حوله.

فمؤدى التعريفات المذكورة يصب في سياق واحد، وهو أن الوعي عبارة عن استعمال الانسان العقل من أجل فهم وإدراك الأشياء من حوله، فإذا أضيف إلى ذلك التعريفات السابقة الواردة في التداول اللغوي العربي، أمكن تحديد مفهوم الوعي لغة واصطلاحا.

على أن الذي يعنينا هنا ليس مطلق الوعي، بل الوعي المضاف إلى القانون.

ب- ما القانون ؟

إن مفهوم كل قانون، هو تقعيده للظواهر التي يجري عليها حكمه. وهذه القواعد القانونية هي التي تنظم السلوك المرغوب فيه، والمرغوب عنه. وكل إخلال بها يرتب جزاء، بقدر ما هو منصوص عليه في النص القانوني. والنصوص القانونية في هذا الباب كثيرة ومختلفة، باختلاف مصدرها، وموضوعها، والمخاطب بها، وأبعادها الزمانية والمكانية …إلخ . وإذا اختلفت النصوص القانونية، فلا ريب أن تختلف أنحاء النظر في القانون.

والسؤال الآن: إذا كان الاستدلال المراد هنا هو “القانوني”، فأي قانون هو؟ أهو القانون الوضعي، أم القانون الطبيعي، أم القانون الديني ( كالقانون الشرعي بالنسبة للمسلمين، والقانون التوراتي بالنسبة لليهود، والقانون الكنسي بالنسبة للنصارى)، أم القانون الروماني والجرماني والانجلوسكسوني والاسلامي والآسيوي والافريقي…، وسواها من الأنظمة القانونية[10]؟

فهكذا ينبغي أن يُفهم الوصف “القانوني” الذي يوصف به الاستدلال، لا أن يقتصر على القانون الوضعي الذي تصدره الدولة، مع إغفال غيره، فيؤدي ذلك إلى ما يسمى ” الأحدية القانونية ” (Monisme Juridique)؛ وهذا بخلاف من يقول ” بالتعددية القانونية ” (Pluralisme Juridique)، من أجل استثمار كل خطاب قانوني. ولعل هذا لا يتسع له المقام، فلنكتف بالإشارة إلى ذلك، وغرضنا هنا متصل بما تسنه الدولة من قوانين.

فقد اتضح: ما الوعي، وما القانون، وبقي أن نركب بينهما، لتحديد مفهوم الوعي القانوني.

2- تركيب المفهوم : الوعي القانوني

يعرف مجال دراسة القانون ارتباطا بالوعي حسب إطلاعنا شيء من النذرة، حيث لم نجد من التعريفات إلا القليل، ويمكن إدراجها كالتالي:

وفي التعريفات المشار إليها ملاحظة أساسية تتمثل في أن الوعي القانوني لا يكاد يختلف في معناه عما مر بنا في تعريف الوعي، فالعُمدة في التعريفين- الإفرادي (الوعي) والتركيبي (الوعي القانوني)، هو إدراك وفهم العقل لما هو قانوني.

ذلك إذن هو مفهوم الوعي القانوني تحليلا وتركيبا، فما هي أهميته؟

ثانيا : أهمية الوعي القانوني

يمثل الوعي القانوني دورا مهما في حياة البشر والمجتمع، فالبشر يتمسكون في حياتهم الاجتماعية بأصول وقواعد سلوك معينة، تظهر تاريخيا وتتغير مع تطور المجتمع.

وبما أن الوعي القانوني هو مجموع الآراء والأفكار القانونية السائدة في المجتمع، التي تفصح عن علاقة أعضاء الجماعة بالنظام القانوني النافذ، وعن فهمهم وإدراكهم لما يعد مطابقا للقانون أو مخالفا له. فهو بهذا المعنى يشكل الجانب الذاتي الموضوعي الذي يعي القانون كما هو موجود في الواقع. والوعي القانوني باعتباره جزءا من الوعي الاجتماعي العام يصاغ ويتشكل بالتبعية للواقع المادي الاقتصادي للمجتمع، وبقدر ما يكون النظام القانوني معارضا لمصالح الطبقة العادلة بقدر ما تكون الفجوة بين الوعي القانوني والنظام القانوني والعكس صحيح[13].

ولعلنا نرصد أهمية الوعي القانوني إنطلاقا من التقسيمات الثلاثة للعمل القانوني، والمتمثلة في ثلاث مستويات: تشريعي وتأويلي وتطبيقي، وإذا كانت هذه المستويات قد تتداخل في ممارسة القانون. فإنه في كل مستوى من هذه المستويات، تواجه المهتم جملة من الأسئلة تدعوه إلى القيام بعمليات عقلية غرضها تحصيل الفهم والإدراك الجيد الموصل إلى درجة معينة من الوعي.

فمن الأسئلة التي تطرح على المستوى التشريعي:

وبالتالي المشرع يكون واعيا بما يقدمه من نصوص قانونية إذا استطاع أن يمعن النظر في هذه السؤالات، ووجد لها الجواب الصحيح الذي يلائم السلوك المطالب معالجته، وذلك راجع إلى كون هذ السؤالات تمكنه من استعمال القياس على مستوى السلوك المراد معالجته بغيره من السلوكات المجرمة أو الجالبة للضرر.

وهكذا فإما يدخله في زمرة السلوكات المنظمة وفق مقتضيات قانونية، أما إذا لم يجد لها مماثلة إنتقل إلى إيجاد إطار قانوني خاص بها حتى يستطيع الحد منها، وذلك بتجريبها.

ولنضرب مثالا على هذه العملية التي تتولد عن مثل هذه السؤالات والتي تبين مدى وعي ممارسها (المشرع) للقانون.

وليكن السلوك المعروض للتشريع هو التالي: “الصيد في بعض المناطق الذي يؤدي إلى التسبب في وقوع بعض المخاطر”.

فينبغي للمشرع أن يقوم على الأقل بأمرين، إذ يجب عليه أن يبرهن على أن الصيد في بعض المناطق محتاج إلى تنظيم بواسطة القانون، وللبرهنة على ذلك يجب أن يثبت أن الصيد في بعض المناطق يؤدي إلى الإضرار ببعض أنواع الحيوانات أو وقوع بعض الإصابات للأشخاص عن طريق الخطأ، وبالتالي فهو يضر بالحياة الاجتماعية والبيئية. وبالاستناد إلى قاعدة عامة مفادها أنه يجب تنظيم كل سلوك يتسبب في حدوث مضار بالحياة الاجتماعية والبيئية، وإلى اثباته لأضرار الصيد في بعض المناطق، يستنتج أنه لا بد من تنظيم الصيد في هذه المناطق المؤدية إلى المضار.

أما على المستوى التأويلي فمن الأسئلة التي تواجه القانوني و تظهر مدى وعيه ما يلي:

ولا يخفى ما تسوقه هذه السؤالات لمن يطرحها من وعي، ويكفينا من ذلك التمثيل على هذا بالسؤالين الأولين.

السؤال الأول: ما معنى هذا اللفظ أو ذلك؟

يعتبر هذا السؤال مفتاح من مفاتيح تحصيل الوعي في شتى العلوم من بينها العلوم القانونية، وفي هذا الإطار فقد تبنى هذا المنهج علمائنا الأجلاء[16]حيث طبقوا توضيح الحدود ببيان مضمونها قبل أن يخوض في موضوعه، وذلك حسما لأي خلاف قد ينتج عن غموض مدلول الألفاظ. وهذه قاعدة حميدة جعلت من طبقها من المفكرين على قدر كبير من الوضوح في الأداء العلمي لمختلف آرائهم.

ولا يخفى على الباحث القانوني ما لهذا الموقف من أثر واضح في حسم الخلافات التي تنتج عن تعدد مضمون المصطلح الواحد بين العاملين بالدراسات القانونية. ولقد أشار المحدثون من الأوربيين وخاصة أصحاب المدرسة الواقعية إلى قيمة تحديد مضمون الألفاظ[17]. وكل هذا يصب في خانة تنمية الوعي القانوني.

السؤال الثاني: ما دلالة القاعدة القانونية؟

يَجُرُ هذا السؤال رجل القانون أو المهتم بالقانون إلى بناء افتراضات على قدر ما تحتمل هذه القاعدة من المعاني وإلى اتخاذ معيار لتقويم هذه الافتراضات وترجيح بعضها على بعض. وسوف يكون هذا المعيار هو : مدى ملائمة نتائج كل افتراض للتشريع المعمول به ولمبدأ العدل ومقتضيات الحياة.

فيأخذ القانوني (طالب الوعي القانوني) في تحقيق كل افتراض على حدة ليتبين مدى استجابته لهذا المعيار، وكلما أخل الافتراض به انتقل إلى غيره إلى أن يأتي عليها جميعا. فإن لم يترجح لديه واحد منها، وجد نفسه أمام قاعدة لا تستوعب القضية المعروضة أي قاعدة تحمل ثغرة ينبغي سدها، فيضطر معها إلى الانتقال إلى القياس حتى يتمكن من تلافي النقص الحاصل.

أما بخصوص الأسئلة التي يطرحها القانوني في إطار موضوعنا على المستوى التطبيقي، فنذكر منها مايلي:

وعلى أساس هذه الأسئلة يتجه القانوني في عملية التطبيق إلى ممارسة استدلالية مركبة توصل مستعملها إلى النتائج المرجوة عن وعي وإدراك قانونيين. وبالتالي فإن استخلص الحكم من منطوق النص، كان استدلاله برهانيا[19]، أما إذا احتاج إلى اعتبار روح النص، فإنه يسلك مسالك غير برهانية. فقد يوسع أو يحصر مدلول لفظ معين أو مدى قاعدة معينة. وقد يسلك مسلك المقارنة والقياس على التجربة أو العرف أو الاجتهادات القضائية الصادرة، أو يستعمل مبادئ عامة كأن يعمل بالدلالات التي تكون مطابقة للعدل أو للمضمون الموضوعي للقانون أو لمقصود الشارع أو للمصلحة الاجتماعية أو تكون محققة لتوازن المصالح المتعارضة للمتقاضين.

وهكذا يتبين ما للوعي أو الممارسة الواعية للعمل القانوني، تشريعا كان أو تفسيرا أو تطبيقا على الوقائع من أهمية إحداث تطوير وتطبيق النصوص القانونية بطريقة ناجعة.

وزيادة في التبيان عن دور الوعي في القانون نورد مسألة الامتثال للقانون من عدمه، حيث نجد القانون يحوز القَبُول بين أفراد المجتمع إذا كان ترجمة لعادات وتقاليد المجتمع ولا يتعارض مع الشرع والأخلاق السائدة، أما إذا تعارض القانون مع ما سبق فإنهم يخرجون عليه دون النظر إلى التهديد بالقوة. وبالتالي فإدراك ووعي الناس بالقاعدة القانونية يؤدي إلى اقتناعهم بها وكذا احترامهم لها والعمل بها. ويؤكد ذلك دراسة ميدانية حصلنا عليها تؤكد هذا الطرح، أجريت حول ظاهرة تعاطي الحشيش[20]، حيث أبدى الناس عدم الاقتناع بالقاعدة القانونية وعدم احترامهم لها، لذا لم تنخفض نسبة جرائم المخدرات على الرغم من تشديد العقوبة عليها. فالخوف من العقوبة القانونية يعتبر عنصر قليل الأهمية.

وقد فسرت فرقة البحث هذا بأن القانون في واد والمتعاطين في واد آخر، وخلص إلى وجود فجوة بين التشريع وبين الرأي العام والواقع الاجتماعي. فالمشرع يخطئ إذ يلجأ إلى العقاب دون بذل أي جهد لدراسة الواقع الذي يؤدي إلى المشكلة ومحاولة تغييره بأساليب اجتماعية مقبولة قبل الالتجاء إلى قوة القانون وأوامره وعقوباته القاسية، ودون محاولة جادة لإقناع المجتمع على أسس علمية سليمة بخطورة المشكلة وآثارها الضارة بالمجتمع بأكمله[21]. لأن المشرع في بعض الأحيان حماية لمصلحة معينة يتخذ منحى لا يتلائم مع مواقع المجتمع، فتحدث فجوة بين المشرع واضع القاعدة القانونية وبين أفراد المجتمع المكلفين بهذه القاعدة. وبذلك تسود رؤى متباينة في الفهم والإدراك والوعي والتقبل للقوانين.

ثالثا: آليات تطوير الوعي القانوني

تتظافر مجموعة من الآليات في تشكيل وتطوير الوعي القانوني، ويمكن أن نجملها في الرسم البياني التالي:

آليات تشكيل وتطوير الوعي القانوني

 

التعليم
المجتمع المدني
التثقيف الذاتي
وسائل الإعلام

 

1- التعليم :

تعتبر المؤسسات التعليمية أحد المؤسسات العمومية التي تلعب دور في تلقين المعايير والأدوار الاجتماعية بالإضافة إلى صقل المواهب وتنمية المهارات نحو تفعيل للعقل وتنمية للمواهب وصولا إلى درجة الوعي المطلوبة.

لكن الدارس لواقع التعليم في الوقت الراهن يعرف أنه يرتكز على التعليم بالوقائع، فهو يدرس الظواهر ويحللها للتعرف على وظائفها العلمية، وبالتالي للاستفادة من ذلك في الحياة اليومية.

إن المناهج العلمية المعتمدة في كل أنحاء العالم هي مناهج تعتمد على الاطلاع على المعلومات، فهي تعتمد على مبدأ حفظ المعلومات في الذاكرة، ويرى المسؤولون عن هذه المناهج التعليمية، أنه نتيجة لهذا الأسلوب من الاطلاع وحفظ المعلومات، واستعمالها ستكون النتيجة هي تطور الوعي لدى المتلقي – من  ضمنه الوعي القانوني- بشكل تلقائي. إلا أنه ومن ناحية أخرى لا يزال العلم يقول بأن الانسان لا يستعمل سوى جزء ضئيل من طاقته العقلية، لا تتعدى 5% إلى 10% من الطاقة الدماغية[22]. ويعود ذلك إلى أن المناهج العلمية تعمل على حفظ المعلومات فقط، في حين أنها لا تعمل على تطوير وعي المتلقي، وكذلك لا تعمل على تطوير المقدرة الإدراكية عنده.

وارتباطا بموضوعنا المتعلق بالوعي القانوني، يمكن للمناهج التعليمية القائمة على الوعي القانوني أن تدمج الثقافة القانونية ضمن المناهج التعليمية الحالية في أي مؤسسة تعليمية وفي جميع المستويات: الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية[23]. وتعتمد المناهج التعليمية القائمة على الوعي القانوني على نشر الثقافة القانونية المعتمدة على استعمال العقل والفهم والإدراك، وذلك باستعمال القدرات الفكرية للمتعلم. وبالتالي بدلا من أن تعتمد على المناهج التعليمية المعتمدة على الوقائع، نرى التوجه إلى استخدام مناهج أساسها الوعي خاصة منه القانوني، وبفضل هذه المناهج ستكون المحصلة وجود متعلمين على درجة كبيرة من الوعي والقوة على الإدراك للمعلومات القانونية التي يدرسونها.

2 – وسائل الإعلام :

الإعلام قديم قدم المجتمع البشري ومنذ كان الإنسان يعيش في الكهوف استعمل وسائل الإعلام لاطلاع الآخرين على ما يحدث في محيطه، حيث كان يوصل المعلومة من شخص إلى آخر وبعد ما تعلم اللغة والكتابة والأغنية والصورة ثم المسرح أصبح يستعمل هذه الأخيرة. ومع بداية القرن العشرين بدا العالم يشهد ثورة في وسائل الإعلام تمثلت في ظهور الإذاعة ثم التلفزيون وأخيرا الوسائل الإلكترونية (الانترنيت). إن هذا التطور الهائل الذي شهدته وسائل الإعلام وانتشارها السريع في كل أنحاء العالم، قد أحال العالم إلى قرية كبيرة بحق.

ويعد الإعلام أحد الأسس التي لا يمكن تصور الحياة بدونها، فهي تؤدي وظيفة مركبة تتصل بعمليات توصيل المعرفة وتكوين الاتجاهات وتشكيل المواقف. وعموما يعرف الإعلام بأنه النقل الحر والموضوعي للأخبار والمعلومات بإحدى وسائله، ويستهدف العقل وليس غيره.

وقد صنف الباحثون هذ الوسائل إلى خمس أصناف وهي:

وبالرجوع إلى موضوعنا تعتبر وسائل الإعلام بكافة أشكالها المصدر الرئيسي للمعلومة والثقافة القانونية، ولها أثر كبير في تشكيل الاهتمام بتطوير الوعي القانوني لدى مختلف قطاعات أو مكونات المجتمع، لذا يتعين على القطاع الإعلامي أن يتناول باستمرار القضايا القانونية بشكل يجعل منها مادة قابلة للاستيعاب والفهم. وبالإضافة إلى ما سبق فإن هناك مجموعة من الأساليب التي يمكن للإعلام داخل الحقل القانوني أن يستخدمها في سبيل تحقيق الوعي القانوني ومنها التالي:

3 – المجتمع المدني:

من الناحية النظرية يعتبر المجتمع المدني الإطار الذي تنتظم فيه العلاقات بين الأفراد والجماعات على أسس قانونية، أي ذلك المجتمع الذي تحترم فيه حقوق المواطن بكل أنواعها في حدها الأدنى. إنه ذلك المجتمع الذي تقوم فيه دولة المؤسسات.

فالمجتمع المدني يفترض أن يكون متميزا عن الدولة، كما يفترض أن يكون الفرد في هذا المجتمع له حقوق سياسية واقتصادية وثقافية. فالمجتمع المدني يزيد من فرص الأفراد بأن يُعترف لهم بحقوقهم التي يستحقونها وفقا لانسانيتهم. وأن يمكنوا من التمتع بهذه الحقوق المشروعة.

وأحد أهم الوسائل لتحقيق ذلك يكون من خلال مساهمة جمعيات المجتمع المدني في نشر الوعي والثقافة القانونية. ومساهمتها في إرساء دولة الحق والقانون.

وبالتالي وقصد تحقيق المجتمع المدني لهذه الأهداف، لزمه القيام بمجموعة من الأنشطة ندرج بعضها على سبيل المثال:

إن تحقيق الوعي القانوني ونجاحه يتطلب فيما يتطلب أن يكون لجمعيات المجتمع المدني دور أساسي في هذه العملية. كما أن هذه الجمعيات لا يمكن لها أن تعمل إلا في ظل أجواء يسودها القانون، ذلك أن العلاقة التي تربط بين نشوء وتطور المجتمع المدني والقانون تجعل من الصعب الكلام عن أولوية أحدهما على الآخر.

4 – التثقيف الذاتي:

يُشكل التثقيف الذاتي آلية من أهم الآليات التي تحقق ما نبحث فيه ضمن هذا المقال، ألا وهو الوعي القانوني، إذ التثقيف الذاتي يحدد مسؤولية كل فرد في المجتمع لتنمية إدراكه الحقيقي الفعال لواقع مجتمعه، وذلك عن طريق القراءة والاطلاع، ولا يكتفي بما يحصله جاهزا من المؤسسات الرسمية.

وهنا نطرح مسألة غاية في الأهمية وهي الفرق بين التعليم والتربية، فإذا عقدنا مقارنة بين المدرسة والمجتمع من حيث أثرهما، مع افتراض أن الاثنين يستويان في العمل على ترقية الجانب التربوي للناشئ. فلا مفر من أن نقول أن المجتمع يحسن التربية والمدرسة تحسن التعليم، والتربية أعم من التعليم[25].

وتبرز أهمية التثقيف الذاتي في تحقيقه لمجموعة من العناصر الإيجابية نحددها كالتالي:

ومن هذا نرى أن الوعي القانوني إذا ما أريد له أن يتحقق وأن ينتشر فمن الواجب على أفراد المجتمع أنفسهم تحقيق ذلك الأمر، لأن المؤسسات مهما بلغ بها الأمر من تملك الوسائل والإمكانيات لا تستطيع تحقيق الهدف ما لم يكن الفرد ساعيا إليه لتعلق ذلك الأمر بالذات الانسانية والفكر الذي يحمله الفرد[26].

خاتمة :

لقد ساقنا النظر في الوعي القانوني إلى تحديد مفهومه تحليلا وتركيبا. وإلى إظهار أهميته داخل العمل القانوني بمستوياته الثلاث، التشريعي والتأويلي والتطبيقي، وعلى آلية تطوير الوعي القانوني. فما الذي يترتب على جميع ذلك؟

من النتائج العامة للوعي القانوني:

 

[1] قال الله عز وجل في حق اليهود : ” مثل الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين” (الجمعة : 5). هذا المثل ضربه الله تعالى لأحبار بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به عموم اليهود، مثلهم فيه في حملهم للتوراة، وعدم انتفاعهم بها بحمار يحمل أسفارا، فكما أن الحمار لا ينتفع بما في ذلك الأسفار من العلوم النافعة. ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، كذلك اليهود لم ينتفعوا بها في التوراة من العلوم النافعة، لأنهم نبذوها وراء ظهورهم وتركوا العمل بها، واقتنعوا من العلم بأن يحملوها دون فهم.

 

[2] Keith.f. Punch, Developing effective Research Proposales, London, SAGE Publications, 2002, P. 54

[3] وهنا نرى ضرورة تحديد مفهموم اللاوعي: وهو مصطلح في علم النفس يصف العمليات العقليّة والأفكار والتصوّرات والمشاعر التي تدور في عقول الناس دون إدراك منهم. وأوّل دراسة علميّة لوجود هذه العمليّات هي دراسة عالم الأعصاب الفرنسي جان “مارتن شاركو” وتلاميذه في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث درسوا اللاوعي عن طريق التنويم المغنطيسي. وبعد ذلك تبيّن الأطبّاء أنّ كثيراً من ذوي الأمراض العقلية، كالمصابين بالهستيريا أو الهوس، كانوا واقعين تحت تأثير اللاوعي. وكان النمساوي “سيجموند فرويد” أوّل طبيب يُدرك بوضوح أهمّية اللاوعي في علم النفس البشري. وقد طوّر “فرويد” طريقة التحليل النفسيّ لمعالجة ذوي الأمراض العقلية.

[4] ابن منظور، لسان العرب، دار المعرفة، القاهرة، بدون تاريخ، ص. 4876.

[5] الجويني (أبو المعالي)، الكافية في الجدل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1، 1999، ص. 47.

[6] مقال منشور على الموقع الالكتروني: htt://ejabat.google.com.

[7] وهو ذلك النوع من الوعي الذي يكون أساس قيامنا بنشاط معين، دون أن يتطلب منا مجهودا ذهنيا كبيرا، بحيث لا يمنعنا من مزاولة أنشطة ذهنية أخرى.

[8] وهو على عكس الأول يتطلب حضورا ذهنيا قويا، ويرتكز على قدرات عقلية عليا، كالذكاء، والإدراك، والذاكرة… ومن ثمة فإنه يمنعنا من أن نزاول أي نشاط آخر.

[9] وهو الوعي المباشر والفجائي الذي يجعلنا ندرك أشياء، أو علاقات، أو معرفة، دون أن نكون قادرين على الإتيان بأي استدلال

[10] Michel Fromont, grand systémes de droit étrangers, paris, Dalloz, 2001, p.1-12.

[11] مهدي محمد قصاص، الرؤى المتباينة عند القرويين في فهم القانون- دراسة سوسيولوجية لبعض عناصر الثقافة الشعبية، جامعة المنصورة، كلية الآداب، مصر، 2002.

[12] Sally engle merry, Getting justice and getting even, legal consciousness among, class Americans, chicago and london, u.s.a, 1990, p.3.

[13] محمد نور فرحات، الفكر القانوني والواقع الاجتماعي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1981، ص. 291.

[14] طه عبد الرحمن، أليس رجل القانون محتاجا إلى تحصيل علم المنطق، جريدة العلم، بتاريخ 4 مارس 1989، ص. 8.

[15] طه عبد الرحمن ، نفس المرجع السابق، ص. 8.

[16] الجويني (أبو المعالي)، الكافية في الجدل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1، 1999، ص. 31.

[17] أنظر في هذا مادة Realisme، بالقاموس الفلسفي للألاند.

[18] طه عبد الرحمن، نفس المرجع السابق، ص. 8.

[19] لمزيد التوسع الرجوع إلى مقالنا المنشور بمجلة المنارة العدد السادس، ص. 11.

[20] دراسة أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بالقاهرة، عن ظاهرة تعاطي الحشيش، في فترة من عام 1958 – 1962.

[21] مهدي محمد قصاص، الرؤى المتباينة….، مرجع سابق، ص. 254.

[22] مقال منشور على الموقع htt://alishraq.net ، تحت عنوان إكتشاف علمي يظهر الطاقة الكاملة للإنسان.

[23] وهنا لا ننسى الدور الذي يلعبه محو الأمية من الوصول إلى ما تنشده من تطور حضاري وتأمين وعي قانوني لدى كافة أفراد المجتمع، وذلك لأن الفرد الذي لا يقرأ ولا يكتب من الصعب عليه أن يفهم حقوقه والتزاماته المضمنة في النصوص القانونية. لذا يتحتم على كل فرد أن يسعى جاهدا لتعليم نفسه ومحو أميته أولا ومن تم التحرك على أفراد مجتمعه وعندها سنصل بأيسر السبل إلى هدفنا المتمثل ببث الوعي القانوني لدى عامة الناس.

[24] المنشورات الأكاديمية، التربة على البيئة، ص. 40، مأخوذ من : محسن محمد أمين قادر، التربية والوعي البيئي وأثر الضريبة في الحد من التلوث البيئي، رسالة ماجستير، 2009، الأكاديمية العربية المفتوحة، دانمارك، ص. 53.

[25] باست موسى، عرض كتاب التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا لراحل سلامه موسى، الحوار المتمدن، العدد. 2166، 2008.

[26] سالم روضان الموسوي، الوعي والثقافة القانونية، مقال منشور على الموقع الالكتروني، htt://www.annabaa.org.

Exit mobile version