الوسيط من مؤسسة للوساطة إلى آلية لتقييم السياسات العمومية”السياسات العمومية الأمنية نموذجا

الوسيط من مؤسسة للوساطة إلى آلية لتقييم السياسات العموميةالسياسات العمومية الأمنية نموذجا

رشيد  الدحاني طالب الباحث في الدكتوراه :

Préparé par le doctorant DAHHANI RACHID

مقدمة

أحدث دستور 2011 عدة مؤسسات جديدة تعنى بترسيخ مبادئ حقوق الإنسان والحكامة الجيدة والشفافية ضمن مضامين مختلف السياسات العمومية ومن ضمنها السياسات العمومية الأمنية. وبغض النظر عن الآثار السياسية الممكنة لهذا التضخم المؤسسي[1]، فإن هذه المؤسسات الدستورية، وعلى اختلاف مهامها واختصاصاتها، قد شكلت منذ إحداثها دعما أساسيا في مجال الاستشارة المتعلقة بصياغة السياسات العمومية وكذا تقييمها، وذلك من خلال أنشطتها وتقاريرها الدورية التي ترصد كيفية تدبير المؤسسات والإدارات العمومية والجماعات المحلية ومدى سلامة مساطر تنفيذ مختلف السياسات العمومية.

ويعتبر الوسيط من أهم هذه المؤسسات بالنظر للمهام التي يضطلع بها في مجال ترسيخ مبادئ العدالة والإنصاف، من خلال مساهمته في حل عدد كبير من القضايا التي تهم تظلمات المواطنين والمرتفقين من قرارات الإدارة ومن ضمنها المؤسسات الأمنية.

فإذا كانت إسهامات هذه المؤسسة في إيجاد الحلول التوفيقية في موضوع التظلمات التي تجمع الإدارة بالمرتفق من الصلاحيات الأساسية التي يتضمنها إطاره القانوني، فهل بإمكان الوسيط خلال تجسيده لهذه الصلاحيات، أن يساهم في تقييم وتجويد مضامين السياسات العمومية ذات الصلة، بما فيها السياسات العمومية المتعلقة بالميدان الأمني، وذلك من خلال التوصيات التي يحيلها على مختلف الإدارات والقطاعات الحكومية، والتقارير السنوية التي يصدرها والتي تتضمن مقترحات بخصوص تسهيل المساطر الإدارية وتحسين بنيات الاستقبال وتجويد عملية تدبير الإدارة  وتعديل التشريعات التي لا تتناسب مع مبادئ الشفافية والحكامة والإنصاف والعدل وتطوير أداء الإدارة العمومية.

وللجواب على الإشكالية، سيتم التطرق في المبحث الأول من هذا الموضوع إلى الإطار المرجعي لمؤسسات الوساطة بالمغرب، بينما سيخصص المبحث الثاني من الموضوع لمعالجة تجربة الوساطة بالمغرب ومدى تأثيرها في توجيه السياسات العمومية الأمنية.

المبحث الأول: الإطار المرجعي لمؤسسات الوساطة بالمغرب

شكلت مسألة رفع المظالم عن المواطنين في علاقتهم مع الإدارة أحد أهم اهتمامات السلاطين المغاربة على مر التاريخ، فعلى سبيل المثال، حرص السلطان مولاي إسماعيل على تتبع شؤون المظالم، مخصصا لذلك يومين من كل أسبوع، كما دأب مختلف السلاطين على اعتماد كيان وزاري، يتموقع داخل مشاوير قصورهم، تحت إسم “وزارة الشكايات”، للعناية بتظلمات الأفراد والقبائل من أعمال وتصرفات أعوان وموظفي المخزن[2]. و”كان وزير الشكايات يتكلف بالشكايات التي تقدم ضد العمال وظلمهم إلى الملك، يرتبها ويرفعها إليه، وكان المقصود بالمظالم النظر في سيرة العمال وزجرهم”[3].

وغداة الاستقلال، شكل إحداث “مكتب الأبحاث والإرشادات لدى جلالة السلطان”[4] اللبنة الأولى لتجربة الوساطة في المغرب بمفهومها الحديث، وقد عرفت هذه التجربة تطورا كبيرا خلال العقود الأخيرة، حيث تعززت بإحداث “ديوان المظالم” سنة 2001.

وقد أحدث ديوان المظالم طفرة نوعية في مساعي المصالحة والوساطة، حيث منحت أنشطته للمواطنين المتضررين من قرارات الإدارة أفاقا أخرى وبدائل جديدة للدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم القانونية.

وفي هذا الصدد، أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله  بخصوص دواعي إحداث المؤسسة، “إننا نعطي من خلال إحداثنا لمؤسسة ديوان المظالم بعدا آخر ملموسا لمفهومنا للسلطة، القائم على جعلها في خدمة المواطن والتنمية، وعلى قربها منه، والتزامها بضوابط سيادة القانون والإنصاف (…) وكي لا يكون ديوان المظالم مجرد مكتب الشكايات، بل قوة اقتراحية للإصلاح التشريعي والإداري والقضائي”[5].

وفي سنة 2011، تم إحداث مؤسسة الوسيط التي حلت محل ديوان المظالم، لمواكبة الإصلاح المؤسسي العميق الذي يعرفه المغرب، بتحديث هذه المؤسسة وتوطيد المكتسبات التي حققتها وتأهيلها للنهوض بمهام موسعة وهيكلة جديدة[6]، كما تم الرقي بها إلى مصاف المؤسسات الدستورية.

فهل استطاعت مؤسسة الوسيط تعزيز مكتسبات تجربة الوساطة بالمغرب (المطلب الأول) وهل حققت هذه التجربة ما كان ينتظر منها في مجال تدعيم مبادئ العدل والإنصاف في مجال السياسات العمومية على العموم والسياسات الأمنية على الخصوص (المطلب الثاني).

المطلب الأول : تعزيز مكتسبات تجربة الوساطة بالمغرب

تعود التجربة الأولى لمؤسسات الوساطة بمفهومها الحديث في المغرب إلى سنة 2001، حيث تم إحداث ديوان المظالم[7]، وأسندت إليه اختصاصات واسعة في هذا المجال مقارنة مع التجربة السابقة التي جسدها “مكتب الأبحاث والإرشادات لدى جلالة السلطان” الذي رأى النور في 10 نونبر 1956.

وقد ساهم ديوان المظالم منذ إحداثه وبشكل كبير في تدعيم مساعي الوساطة والبحث عن الحلول التوفيقية بشأن التظلمات التي ترد عليه من المواطنين الذي يعتبرون أنفسهم متضررين من أعمال أو قرارات إدارية، بحيث أصبح يشكل قوة اقتراحية لاستخلاص المداخل الضرورية التي تهم حسن سير الإدارة، ومؤسسة ترمي إلى تعزيز الرصيد الوطني في مجال النهوض بحقوق الإنسان وترسيخ المكتسبات التي تحققت على الصعيد السياسي من أجل علاقة ديمقراطية ومتوازنة بين أجهزة الدولة والمواطن[8].

وفي هذا الصدد،  ينص الفصل 162 من الوثيقة الدستورية المذكورة على أن “الوسيط مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية.”

وبذلك، فقد تم الرقي بموجب هذا المقتضى الدستوري بالوسيط إلى مؤسسة دستورية، مما سيمنحه لا محالة وزنا موازيا ومتوافقا مع باقي المؤسسات الدستورية، وسيجعل من أدائه أكثر نضجا وفعالية وقراراته أكثر استقلالية وحيادية وقوة وإلزامية في ظل التراكمات التي يحققها على مجال تجويد الحكامة الإدارية، مقارنه مع ما كانت عليه قرارات مؤسسات الوساطة في التجارب السابقة.

فإحداث الوسيط ودسترته، “يستجيب لضرورة معينة في المغرب المعاصر، ولا يتعلق الأمر بمجرد تقليد أو محاكاة للتجارب الدولية أو إحداث ذب صبغة سياسية أو مجرد بنية لتوطيد تدخلات البرلمانيين”[9].

وتبعا لذلك، فقد تم إعداد إطار قانوني جديد للمؤسسة[10] سنة 2019 بما يتناسب مع وضعيتها الدستورية الجديدة، ويتماشى مع الصلاحيات التي منحها لها الدستور في إطار تدعيم اختصاصات مختلف هيئات الحكامة الجيدة.

إجمالا، يقوم الوسيط بالبحث والتحري بشأن الشكايات والتظلمات التي ترد عليه والتي تخص الحالات التي يتضرر فيها أشخاص ذاتيون أو اعتباريون، مغاربة أو أجانب من جراء أي تصرف صادر عن الإدارة[11]، ويقدم عقب ذلك نتائج تحرياته إلى الإدارة المعنية بالشكاية على شكل توصيات أو اقتراحات أو ملاحظات.

وتبعا لذلك، يتعين على الإدارة المعنية مكاتبة الوسيط لإخباره بالإجراءات المتخذة بشأن ما توصلت به من توصيات أو اقتراحات أو ملاحظات متعلقة بالقضايا المعروضة عليها، أو الصعوبات المادية التي حالت دون تنزيلها[12].

وسواء توصل الوسيط بالتقارير المطلوبة من الإدارات المعنية بالتظلمات في الآجال القانونية، أو لم يتوصل بها، فإنه ملزم  بالبث في هذه التظلمات بناء على ما تتوفر لديه من معلومات عليها، كما يلزمه إطاره القانوني المنظم أن يبلغ المتظلم بمآل قضيته وبموقف الإدارة وكل الإجراءات والتدابير المتخذة إزاء التظلم، أو بالتوصية التي أصدرها في الموضوع عند الاقتضاء.

ولا يقتصر دور وسيط المملكة في هذا المجال فقط على البحث عن حلول منصفة ومتوازنة لمختلف التظلمات، وذلك استنادا إلى ضوابط القانون ومبادئ العدل[13]، وإصدار توصيات بشأنها، بل يمتد دوره إلى الكشف عن الأسباب الحقيقية وراء حدوث هذه التجاوزات أو الإهمال الذي تسبب في هذه التظلمات.

فحسب المادة 23 من القانون  رقم 14.16، إذا أبانت الأبحاث والتحريات التي باشرها الوسيط على أن التطبيق الصارم لنص قانوني من شأنه خلق أوضاع غير عادلة أو ضارة بالمرتفقين، فإنه بإمكانه أن يقترح على رئيس الحكومة تعديل النص المذكور بما يتناسب مع مبادئ العدل والإنصاف.

أما إذا كشفت التحريات والأبحاث أن مصدر التظلم ناتج عن خطأ أو سلوك شخصي لأحد الموظفين أو الأعوان، فإن الوسيط يقوم برفع ملاحظاته واستنتاجاته في الموضوع إلى رئيس الإدارة المعنية لاتخاذ الإجراءات اللازمة، بل يمكنه أن يوجه طبقا لمقتضيات المادة 24 من القانون رقم 14.16  إلى الإدارة المعنية توصية بالمتابعة التأديبية، وإذا اقتضى الحال ذلك، يوصي الوسيط بإحالة الملف على النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في القانون.

كما يقوم الوسيط  طبقا لمقتضيات المادة 40 من القانون  رقم  14.16 برفع تقارير إلى رئيس الحكومة بشأن تصرفات الإدارة التي من شأنها أن تحول دون قيام هذه المؤسسة أو مندوبيها بمهامهم من قبيل عرقلة الأبحاث والتحريات أو الاعتراض على القيام بها أو التهاون الصادر عن مسؤول بالإدارة في الجواب عن مضمون التوصية الموجهة إليه أو في تقديم الدعم اللازم للقيام بالأبحاث أو التحريات التي تعتزم المؤسسة القيام بها أو عدم مدها بالوثائق والمعلومات المطلوبة.

ومن جهة أخرى، فإن الوسيط يحرص على متابعة عمليات تنفيذ التوصيات الصادرة عنه من طرف الإدارات المعنية، بحيث يخول له القانون المنظم رفع تقارير بشأن كل مسؤول أو موظف أو عون تابع للإدارة المعنية صدر عنه موقف غير مبرر أو إخلال بالواجب المفروض عليه القيام به من أجل تنفيذ الحكم الصادر في مواجهة الإدارة، ويمكن للوسيط أن يصدر توصية للإدارة المعنية بتحريك المتابعة التأديبية أو إحالة الملف على النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية إذا اقتضى الحال ذلك[14]

عموما، وبفضل التطور الذي عرفته اختصاصاته والتعدد الذي شهدته آليات اشتغاله، استطاع الوسيط أن يحقق حصيلة جد طيبة منذ إحداثه، سواء على مستوى حل القضايا المعروضة عليه أو على مستوى إرساء الحكامة والشفافية في تدبير الإدارات العمومية، وذلك بالرغم من الصعوبات التي تواجهه.

المطلب الثاني : أية حصيلة لتجربة الوساطة بالمغرب

استطاعت تجربة الوساطة في المغرب بالرغم من حداثتها من توفير بدائل مسطرية أخرى للمواطنين المتضررين من قرارات الإدارة من خلال إيجاد “حلول توفيقية وتسوية ودية، بعيدا عن المقاربة القضائية بإجراءاتها المعقدة وزمنها الطويل وتكلفتها الباهظة أحيانا. فالوسيط يقوم بدعم وتقوية المؤسسات الدستورية الأخرى، حيث يدعم القضاء، ويعزز مهام المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أي حماية حقوق الإنسان من زاوية علاقة الإدارة بالمرتفق”[15].

ومن جهة أخرى، وبعدما تأكد أن الرقابتين التشريعية والقضائية أصبحتا غير كافيتين لحفظ التوازن بين الحقوق والحريات العامة وبين الصلاحيات التي تمارسها الإدارات، صار الوسيط آلية فعالة لحفظ هذا التوازن[16].

هكذا، ففي الست سنوات الأولى من بداية تجربة الوساطة بالمغرب، بمفهومها الحديث، والتي جسدها، ديوان المظالم، أي خلال الفترة ما بين سنة 2004 وسنة 2009، عرفت هذه المؤسسة استقبال عدد كبير من التظلمات، بلغ ما مجموعه 26.576 تظلما بالإضافة إلى 15061 شكاية لا تستوفي الشروط القانونية الضرورية[17].

هذا التطور في عدد التظلمات المسجلة كل سنة يظل ظاهرة نسبية، بحيث أنه لا يمثل في الواقع نشاطها الحقيقي، على اعتبار أن عددا كبيرا من هذه الملفات لا يدخل ضمن اختصاصات مؤسسة الوسيط، وبالتالي فالمؤسسة فور توصلها وفرزها لهذه الشكايات تعمل على توجيه وإرشاد أصحابها إلى إتباع المساطر القانونية الضرورية أمام المؤسسات المختصة.

هكذا، فضمن مجموع التظلمات التي سجلت خلال الفترة ما بين سنة 2011 و 2018، لم تشكل القضايا التي تدخل في نطاق اختصاصات المؤسسة إلا 17.373 شكاية أي ما يعادل نسبة %23 من مجموع الشكايات، مع تسجيل تراجع ملحوظ من سنة إلى أخرى، في عدد الشكايات التي لا تدخل ضمن اختصاصات المؤسسة،  وهو ما يحيل، برأي عبد العزيز بنزاكور وسيط المملكة[18]، على الوعي المتنامي للمواطنين والمرتفقين بطبيعة عمل المؤسسة[19].

وقد همت التظلمات التي ترد على الوسيط عدة ميادين ذات طبيعة إدارية وعقارية ومالية، كما شملت كذلك القضايا المتعلقة بعدم تنفيذ أحكام قضائية صادرة في مواجهة الإدارة وقضايا متعلقة بحقوق الإنسان في المجال الإداري وقضايا أخرى متعلقة بالارتشاء. وتشكل التظلمات ذات الطبيعة الإدارية والمالية والعقارية نسبة كبيرة منها، بحيث تتجاوز سنويا عتبة  %70 من مجموع هذه التظلمات[20].

وقد أصدرت مؤسسة الوسيط خلال الفترة ما بين سنة 2011 و 2018 ما مجموعه 1941 توصية أي بنسبة %11 من مجموع التظلمات التي تدخل ضمن اختصاصها، ولم تنفذ الإدارات المعنية سوى 761 توصية أي ما يعادل ,2 %39.

إذن، فإذا كانت مساعي الوسيط في مجال إشاعة مبادئ العدل والإنصاف أمر حتمي ينبع من صميم الاختصاصات المباشرة التي يمارسها وفقا للإطار القانوني المحدث له، فهل باستطاعة هذه المؤسسة أن تساهم من خلال أنشطتها في ترسيخ قيم التخليق والشفافية والحكامة في تدبير الإدارات العمومية، ومن خلال ذلك، جعلها أساسا تنبني عليه كل السياسات العمومية بما فيها تلك المتعلقة بالميدان الأمني.

المبحث الثاني : تجربة الوساطة بالمغرب ومدى تأثيرها في توجيه السياسات العمومية الأمنية

ساهمت المؤسسات المختصة في المجال الحقوقي ومختلف هيئات الحكامة والوساطة بالمغرب في ترسيخ البعد الحقوقي في المنظومة الأمنية بالمغرب، إذ أصبحت مسألة احترام حقوق الإنسان والحكامة والشفافية والإنصاف من المعايير الأساسية التي يعتمد عليها في عملية تقييم مدى نجاعة السياسات العمومية الأمنية، بل وبفضل إسهاماتها، أصبحت هذه المبادئ شرطا أساسيا تنبني عليه كل المخططات والعمليات الأمنية الميدانية، وإطارا تباشر فيه كل الأبحاث والتحريات القضائية وتمارس فيه آليات إنفاذ مختلف القوانين.

وفي هذا الصدد، أكد الحبيب بلكوش رئيس مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية “إن موضوع الحكامة الأمنية في ارتباطها بحقوق الإنسان كان قبل سنوات لا يأخذ نقاشا واسعا حتى في المؤسسات التشريعية، الأمر الذي كان يستدعي النظر بشكل مختلف يأخذ بعين الاعتبار إشراك القطاعات المعنية في التفكير”[21].

وقد لعبت هذه الهيئات الدستورية بصفة عامة، والوسيط بصفة خاصة دورا كبيرا في إشاعة مبادئ العدل والإنصاف وترسيخ مبادئ الحكامة الإدارية وتحسين أداء الإدارة من خلال توصياتها وتقاريرها (أولا)، وبالتالي أصبحت أنشطة المؤسسة مؤثرة على مسار السياسات العمومية عامة والسياسات العمومية الأمنية على الخصوص (ثانيا).

ساهمت المؤسسات المختصة في المجال الحقوقي ومختلف هيئات الحكامة والوساطة بالمغرب في ترسيخ البعد الحقوقي في المنظومة الأمنية بالمغرب، إذ أصبحت مسألة احترام حقوق الإنسان والحكامة والشفافية والإنصاف من المعايير الأساسية التي يعتمد عليها في عملية تقييم مدى نجاعة السياسات العمومية الأمنية، بل وبفضل إسهاماتها، أصبحت هذه المبادئ شرطا أساسيا تنبني عليه كل المخططات والعمليات الأمنية الميدانية، وإطارا تباشر فيه كل الأبحاث والتحريات القضائية وتمارس فيه آليات إنفاذ مختلف القوانين.

المطلب الأول: الوسيط نحو إشاعة مبادئ العدل والإنصاف وترسيخ مبادئ الحكامة الإدارية وتحسين أداء الإدارة

بالإضافة إلى دوره في مجال البحث عن حلول توفيقية بين المرتفقين المتظلمين والإدارات المعنية، فإن الوسيط يعتبر من أهم الآليات المؤسساتية التي تهدف إلى ترسيخ مبادئ الحكامة الإدارية وتحسين أداء الإدارة من خلال تقييمه لأداء الإدارات والمؤسسات العمومية.

وفي هذا الصدد، وفي إطار تقييمه لأداء الإدارات العمومية برسم سنة 2018، فقد رصد الوسيط في تقريره السنوي أن العديد من الأوراش المهيكلة التي تم إطلاقها لم يتم إتمامها بعد، وبعضها الآخر يجب تقييم انعكاس نتائجه المرجوة على علاقة المواطن بالإدارة[22]، مما يستدعي حسب نفس التقرير من جهة أولى مواصلة الإصلاحات في هذا المجال وتوسيع نطاقها، ومن جهة أخرى إنجاح تنفيذ المبرمج منها وإتمامه في الآجال المحددة.

وهنا وجب التذكير على أن مهام الوسيط لا تقتصر على التقييم الشمولي ومعاينة الاختلالات التي تعتري تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والمشاريع والمخططات ذات الصلة، بل منحه إطاره القانوني، بصفته قوة اقتراحية، صلاحية رفع تقارير خاصة، في إطار سعيه لتحسين أداء الإدارة والرفع من جودة الخدمات العمومية، إلى رئيس الحكومة.

وتتضمن هذه التقارير التوصيات والمقترحات التي تهدف إلى:

  • ترسيخ قيم الشفافية والتخليق والحكامة في تدبير الشأن الإداري وتسيير المرافق العمومية بما يضمن تصحيح الاختلالات التي قد تعتري سيرها وتطوير أدائها؛
  • التقيد بمبادئ حقوق الإنسان كما هو منصوص عليها في الدستور وفي الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب أو انظم إليها؛
  • مراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمهام الإدارة وسائر المرافق العمومية، من أجل تحسين فعاليتها وتنسيق مجالات تدخلها؛
  • تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية وتحسين الخدمات العمومية وتجويد بنية الاستقبال والاتصال؛
  • حث الإدارات المعنية على تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها، واقتراح كل تدبير من شأنه أن يساعدها على ذلك[23].

ويبدو أن مساعي الوسيط في هذا المجال لازالت لم تحقق النتائج المرجوة منها، حيث أنه وبالرغم من التوصيات التي يوجهها للإدارات المعنية وكذا التقارير التي يرفعها إلى رئيس الحكومة، فإن نفس الاختلالات والتجاوزات لا زالت تسجل سنويا، وهو ما أكده محمد بنعليلو رئيس المؤسسة ضمن فعاليات معرض الكتاب الدولي بالدار البيضاء حيث أفاد باستمرار ورود نفس الشكايات على الوسيط كما كان الحال عليه في السابق، دون تغيير،  مما يدل على عدم تحسن الوضع بخصوص علاقة المرتفقين من بالإدارة”[24].

فالإصرار على “استمرار ممارسة نفس الأخطاء الإدارية، والإمعان في تكرارها، يعيق التطور السليم لمؤسسات البلاد، والذي قد تكون له انعكاسات سلبية على علاقتها مع شركائها”[25].

وردا على الأصوات التي ترجع أسباب عدم استجابة الإدارة بشكل كبير لتوصيات الوسيط، إلى كونها غير ملزمة للإدارة وكذلك لعدم توفر المؤسسة على وسائل جبرية لتنفيذها، أكد وسيط المملكة على أنه “لا يمكن القول بأن توصيات مؤسسة وسيط المملكة غير ملزمة. هذا كلام خارج السياق، وإلا فإن توصيات باقي المؤسسات الدستورية غير ملزمة أيضا، معتبرا أن مناقشة هذه المسألة في مجتمع يدافع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، يجب أن تتم من زاوية المسؤولية السياسية والمجتمعية والإدارية، قبل البحث عن وسائل التنفيذ الجبري الأخرى.”[26]

وقد حسم الاجتهاد القضائي هذا الجدل الدائر حول إلزامية توصيات الوسيط من خلال الحكم رقم 444 بتاريخ 20/10/2015 الصادر عن المحكمة الإدارية بالرباط،[27] في ملف يتعلق بعدم تنفيذ توصية صادرة عن الوسيط في التظلم الذي تقدم به أحد العاملين السابقين بشركة الخطوط الملكية المغربية في مواجهة هذه الشركة، بخصوص أحقيته في الاستفادة من التذاكر مخفضة السعر كحق مكتسب بعد أن تم وضع حد لمهامه بالشركة نتيجة لفقدانه لقدرته البدنية.

وورد في هذا الحكم القضائي أن التوصيات التي تصدر عن الوسيط تكون ملزمة لجميع الأطراف، بيد أن طبيعتها الإلزامية ليست فورية الأثر كما هو الحال بالنسبة للقرارات الإدارية أو القضائية، بل هي متراخية التنفيذ وتتحقق إلزاميتها بشكل غير مباشر، فهي تتبع مدى تعاون الإدارة من عدمه، ففي حال تعاون الإدارة المعنية يرتبط تنفيذ قرار الوسيط بإجراءات الإدارة ذاتها وظروف عملها والإمكانيات المتاحة لها.

أما في حال عدم تعاون الإدارة،  فإن تنفيذ توصيات الوسيط يتم عبر إحالة الأمر على رئيس الحكومة الذي يقع عليه واجب الحرص على تطبيقها وردع من يمتنع عن ذلك واتخاذ الإجراء المناسب بحق تلك الإدارة حتى تمتثل للتوصيات المشار إليها، بما في ذلك توقيع الجزاء التأديبي.

فإذا كانت مسألة إلزامية توصيات الوسيط من عدمها، تعتبر من  بين أهم النقط التي أثارت الجدل خلال الفترة السابقة حول أنشطة هذه المؤسسة، فإن التقرير الأخير للوسيط لسنة 2018 الذي صدر في شهر دجنبر من سنة 2019، أعاد الجدل من جديد حول هذه المسألة، اعتبارا أن الإدارة لم تنفذ إلا نسبة% 39  من التوصيات الصادرة عن الوسيط خلال الفترة الممتدة ما بين سنة 2011 وسنة 2018، “وهو ما يبقي التساؤل مشروعا حول جدوى البرامج المسطرة والميزانيات المرصودة، إذا كانت المؤسسة ستضطر إلى إنتاج المزيد من التوصيات، عوض إيجاد المزيد من الحلول، بعدما لم تعد هذه التوصيات تحرك الإحساس بالمسؤولية لدى المعنيين بها[28].

بالرغم من هذا النقاش القانوني المرتبط بمدى استجابة الإدارة لتوصيات الوسيط، فإن هذه المؤسسة تتوفر على آليات مهمة تساعدها، ليس فقط على تطوير مساعي الوساطة والبحث عن حلول توفيقية للشكايات التي تربط المرتفقين بالإدارة، بل في ترسيخ مبادئ الحكامة الإدارية وتحسين أداء الإدارة من خلال التقرير السنوي الذي يرفعه رئيسه لجلالة الملك[29]، والذي يضم جردا لما قامت به المؤسسة من أنشطة للوساطة، كما يرصد مختلف الاختلالات التي يقف عليها والتي تهم علاقة الإدارة بالمرتفقين  ومقترحات بشأن تجويدها وتحسين الخدمات الإدارية والمساطر والتشريعات المتعلقة بها.

كما يوجه الوسيط نسخة من التقرير السنوي إلى كل من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، ويقدم أمام البرلمان مرة واحدة في السنة على الأقل ملخصا تركيبيا لمضمون هذا التقرير يكون موضوع مناقشة وذلك طبقا لمقتضيات المادة 49 من القانون  رقم 14.16.

إن هذه التقارير التي لا يجب أن ينظر إليها فقط كوسيلة للتواصل مع المحيط المؤسساتي، بمعنى آخر، أن تختصر وظيفتها في كونها وثائق رسمية إخبارية يقوم الوسيط من خلالها بإطلاع باقي المؤسسات بحصيلة أنشطته خلال سنة كاملة، وإلا لن تعدو أن تكون بذلك مجرد بلاغات تواصلية سنوية تحمل أرقاما وبيانات وخلاصات واقتراحات وتوصيات، تبلغ مراميها بمجرد إيصال مضمونها للمؤسسات المعنية والرأي العام الوطني، ولكن على العكس من ذلك تماما، فالمشرع الدستوري المغربي أراد منها أن تكون آلية للتأثير ووسيلة للرفع من حكامة الإدارة المغربية وتجويد خدماتها وترسيخ قيم التخليق والشفافية في تدبيرها، لذلك يظل التساؤل مطروحا حول مدى تجاوب كل من البرلمان والحكومة مع مضامين هذا التقرير.

وفي هذا الصدد، ومن خلال دراسة حصيلة مؤسسة الوسيط، يتبين بكل وضوح عدم عقد أية لقاءات عمل منذ إحداث هذه المؤسسة سواء مع البرلمان بمجلسيه أو مع الحكومة أو مع القطاعات الحكومية المعنية لدراسة مضامين تقاريرها السنوية، باستثناء بعض اللقاء التواصلية التي عقدتها المؤسسة، علما أن الفصل 160 من الدستور يلزم مناقشة التقرير السنوي للوسيط من قبل البرلمان، غير أن هذا المقتضى الدستوري لم يتم تفعيله لحد الساعة، وهو وضع غير طبيعي ويعتبر خرقا للدستور.

وفي انتظار تفعيل هذا المقتضى الدستوري مستقبلا، بحضور الوسيط للبرلمان وتقديمه للملخص التركيبي الذي يهم نشاط المؤسسة السنوي ومناقشته مع أعضاء البرلمان، فإنه لا يمكن الجزم قطعا بغياب أي اهتمام بتقاريره السنوية من لدن المؤسسة التشريعية وكذلك من لدن الحكومة.

فجلسات الأسئلة الشفوية والكتابية التي يعقدها البرلمان في إطار مراقبته للعمل الحكومي، سجلت ما مجموعه 12 سؤالا شفويا مقدما من طرف أعضاءه تفاعلا مع التقارير السنوية التي يصدرها الوسيط وذلك منذ إحداثه، والتي همت على الخصوص الملاحظات التي رصدتها هذه التقارير حول ضعف تجاوب الإدارات والمؤسسات العمومية مع توصيات هذه المؤسسة [30].

وفي هدا الصدد، فقد تم تسجيل آخر سؤال تفاعلي يخص هذا الموضوع، بتاريخ 2 يناير 2020، تقدمت به نائبة برلمانية عن فريق التجمع الدستوري[31]، وذلك فور صدور التقرير الأخير للوسيط برسم سنة 2018 في 19 دجنبر 2019.

وإجمالا، فهي حصيلة جيدة وتعبر عن اهتمام وتتبع أعضاء المؤسسة التشريعية لأنشطة الوسيط، بالرغم من أن الحكومة لم تجب خلال هذه الفترة إلا عن سؤال واحد من ضمن مجموع الأسئلة المطروحة، وهو ما يجعل المجال مفتوحا للتساؤل حول الأسباب الحقيقية التي حالت دون ذلك.

وبخصوص السؤال الوحيد الذي أجابت عنه الحكومة والمرتبط بتقارير الوسيط، فقد وجهه فريق حزب العدالة والتنمية بمجلس النواب في جلسة 23 دجنبر 2014 إلى الوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، حيث وفي معرض جوابه أكد محمد مبديع، الوزير المكلف بهذا القطاع، على أن الحكومة وفي تفاعلها مع تقرير الوسيط، تكلف المفتشيات العامة بالإدارات لمعالجة هذه الشكاوى والسهر على تنفيذ مختلف التوصيات، وبناءا على التقارير التي تعدها هذه المفتشيات تقيم الحكومة مدى استجابة مختلف الإدارات لتوصيات الوسيط[32].

وقد سجل الوزير كذلك المنحى التصاعدي لعدد التقارير السنوية المعدة من طرف الإدارات والموجهة إلى الوسيط كجواب عن توصياته، حيث سجلت سنة 2013 توجيه 43 تقريرا لوسيط المملكة مقابل 19 تقريرا سنة 2013 و 4 تقارير فقط سنة 2011، وهو ما اعتبره الوزير المذكور حصيلة جد إيجابية تبرز الجدية والتقدير الذي  تعبر عنه الحكومة والإدارات العمومية للدور الذي تقوم به مؤسسة الوسيط والتفاعل الإيجابي مع الشكاوى وتظلمات المرتفقين[33].

ومن جهة أخرى، وبخصوص تفاعل الإدارات العمومية مع توصياته، فقد سجل تقرير الوسيط لسنة 2018، توصله ب 55 تقريرا كجواب عن 58 توصية موجهة لمختلف الإدارات العمومية، أي بنسبة جواب قياسية تصل إلى % 94. وعلى الرغم من أهمية هذه النسبة، فإنه من غير المعقول أن لا يتم الإجابة من طرف بعض الإدارات العمومية على توصيات الوسيط، اعتبارا لقيمة المؤسسة الدستورية وكذلك سمو أهدافها.

وورد في تقرير الوسيط بخصوص ذلك، على أنه “وتنفيذا للتعليمات المولوية السامية الرامية إلى تفعيل جميع اختصاصات المؤسسة، ستسعى في الإبان، إلى إعمال ما يخولها القانون من صلاحيات في هذا الموضوع بخصوص الإدارات التي لا تتجاوب مع توصياتها”[34].

إن تفعيل المقتضيات التأديبية أو المتابعات القضائية التي يتضمنها القانون المنظم للوسيط، بشكل أكبر، في حق المسؤولين أو الموظفين أو الأعوان المعنيين، قد يساهم كذلك في تعزيز انخراط الإدارة المغربية بكل مكوناتها في ورش التخليق والشفافية والحكامة، وهو أمر من شأنه أن يخفف من عبء الشكايات التي تتقل كاهل المؤسسة والمرتبطة بتدبير المرفق العمومي.

المطلب الثاني: دور الوسيط  في تقييم نجاعة  السياسات العمومية الأمنية

إذا كانت النصوص المنظمة للوسيط لا تشير صراحة إلى تدخل المؤسسة بشكل مباشر في عملية تقييم السياسات العمومية بشكل عام والسياسات العمومية التي تهم الميدان الأمني على الخصوص، فإن عمليات التحري والبحث في التظلمات المعروضة عليه والنظر في شفافية وحكامه تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية، تسمح له بتجميع المعطيات الضرورية حول مدى احترام الإدارات المعنية  لمبادئ سيادة القانون والعدل والإنصاف وقيم التخليق والشفافية في عملية  تدبيرها لشؤونها وفي علاقتها  مع المرتفقين.

فمن خلال هذه المؤشرات التي يستقيها الوسيط، يستطيع أن يجري تقييما شاملا للإدارة المعنية وكذلك للسياسية العمومية المعتمدة من الزاوية الحقوقية، ومن خلال هذه القراءة، يمكن أن يتخذ الإجراء المناسب لتقويم عمل المؤسسات الأمنية على غرار باقي الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية، خصوصا في الجانب المتعلق بعلاقتها بالمرتفقين.

فمسألة تقييم السياسات العمومية الأمنية وإن كانت غير منصوص عليها في التشريع المتعلق بالوسيط، فإن الآليات التي خولها له القانون، تسمح له بتكوين رؤية شمولية للجوانب المتعلقة بالتشريع الأمني، والمساطر المعتمدة في مجال ولوج المواطنين للخدمة الأمنية، وكيفية تدبير المؤسسات الأمنية ومدى احترامها لمبادئ الشفافية والحكامة. وهي جوانب مهمة لا تتعلق بتدبير المؤسسات الأمنية فحسب، بل تشمل حتى مدى نجاعة السياسات العمومية الأمنية.

فبالإضافة إلى التوصيات التي يمكن أن يوجهها للإدارة الأمنية المعنية، على غرار باقي الإدارات العمومية، بخصوص التظلمات الواردة عليه، فالوسيط يضمن في تقريره السنوي الذي يرفعه لجلالة الملك ويوجه نسخا منه للبرلمان والحكومة الملاحظات التي تخص الإدارات العمومية موضوع التظلمات، بما فيها المؤسسات الأمنية، خصوصا مدى تفاعلها مع توصياته التي تهم التظلمات المسجلة أو الاختلالات التدبيرية سواء في تنفيذ المشاريع أو في المساطر المعتمدة.

كما يخول له إطاره القانوني توجيه مذكرات للإدارة الأمنية المعنية قصد إثارة انتباهها إلى الإخلال الحاصل في معاملتها مع المرتفقين، وأن يبدي كذلك رأيه، بمناسبة تظلم أحيل عليه، بخصوص المشاريع والبرامج التي تعدها قصد تحسين أداءها.

علاوة على ذلك، فالقانون رقم 14.16 جعل من الوسيط مؤسسة فاعلة ومنحها قوة اقتراحية كبيرة في مجال تحديث وإصلاح هياكل ومساطر الإدارة، وترسيخ قيم الإدارة المواطنة وأخلاقيات المرفق العمومي[35].

إن كل هذه المهام التي أسندت للوسيط تجعل منه مخاطبا لا يقل أهمية عن باقي المتدخلين في مجال تقييم السياسات العمومية الأمنية، خصوصا وأن هذه المؤسسة تعتبر مبدئيا مستقلة عن كل التيارات السياسية، ولا تحكمها رهانات انتخابية أو منطق التكتلات والتوازنات السياسية أو الولاءات النقابية التي قد تحكم أحيانا مواقف بعض الفرق البرلمانية والأحزاب السياسية الممثلة فيها، مما يفتح للوسيط مجالا واسعا وهامشا كبيرا من الحرية والتجرد لإعداد تقارير أكثر عمقا تهم التقييم الأمثل لعملية تدبير المؤسسات الأمنية والسياسات العمومية المرتبطة بالميدان الأمني والتشريعات المتعلقة بها ومدى تجاوبها مع تطلعات المواطنين وتظلماتهم.

واستنادا إلى التقارير التي يعدها الوسيط بخصوص التظلمات التي ترد عليه والتي تهم المجال الأمني،  نجد أن المؤسسة تلقت برسم سنة 2018 تقارير مفصلة، وفي الآجال القانونية، من مختلف المؤسسات الأمنية المعنية بتظلمات المرتفقين ويتعلق الأمر حسب الترتيب المعتمد في هذا التقرير بالمفتشية العامة للقوات المساعدة – شطر الجنوب والمديرية العامة للأمن الوطني وإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة وإدارة الدرك الملكي والمفتشية العامة للقوات المساعدة – شطر الشمال وإدارة الدفاع الوطني.

وأشاد نفس التقرير بالإجراءات التي اتخذتها كل الإدارات الأمنية المعنية بهذه التظلمات في مجال التخليق والحكامة الأمنية، والتي كان لها تأثير مباشر على علاقة المواطن بالمرفق الأمني.

ويلاحظ أن معظم التظلمات التي همت الميادين الأمنية، ارتبطت أساسا بمواضيع  من قبيل عدم الاستفادة من بعض الامتيازات الاجتماعية والتعويض عن حوادث الشغل والتوظيف وانجاز الوثائق والسندات الإدارية.

إنه من الجلي أن مسألة تقييم السياسات العمومية في المجال الأمني في الوقت الراهن من طرف مؤسسة الوسيط لا تزال مرتبطة وملازمة لمواضيع التظلمات التي ترد عليه من لذن المرتفقين، مما يجعل الرهان الأكبر في المستقبل أمام هذا المؤسسة هو توسيع نطاق هذا التقييم ليشمل جوانب أخرى من تدبير الشأن الأمني، وذلك، سعيا لتحقيق الحكامة الأمنية الجيدة.

وهو أمر يصعب تحقيقه بالكامل نظرا لطبيعة أنشطة المؤسسات الأمنية التي تحتفظ بهامش كبير من السرية، خصوصا فيما يتعلق بالجوانب الاستخباراتية ومنظومة التسلح واستراتيجيات الدفاع الوطني وغيرها من الأمور التي تستوجبها ضرورة الحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي للبلاد.

خاتمة

لا تزال تجربة الوساطة بالمغرب في بدايتها، بغض النظر عن نتائج التقييم الأولي الذي يمكن إجراؤه لحصيلتها خصوصا في مجال إشاعة مبادئ العدل والإنصاف وترسيخ مبادئ الحكامة الإدارية وتحسين أداء الإدارة.

فالمؤسسة مدعوة  لمضاعفة جهودها للتنزيل الأمثل لاختصاصاتها وممارستها كاملة للحد من الاختلالات التي تعتري الإدارات والمؤسسات العمومية في إطار علاقة تشاركية تهدف إلى تجويد الشأن العمومي، غير أن نجاح هذه المؤسسة يبقى رهينا كذلك  بتفاعل باقي المؤسسات الدستورية خصوصا البرلمان والحكومة مع توصياتها وتقاريرها.

إن تحقيق هذا التفاعل المؤسساتي كفيل بأن يجعل من الوسيط مؤسسة محورية في مجال الوساطة والإنصاف وآلية فعالة لتقييم تدبير المؤسسات العمومية والسياسات العمومية بصفة عامة وتلك المتعلقة بالميدان الأمني على الخصوص من الزاوية الحقوقية.


[1]  حسن طارق، هيئات الحكامة والبرلمان: بين الاستقلالية والمساءلة سلسلة الدراسات الدستورية والسياسية، منشورات مجلة العلوم القانونية، العدد الأول مايو 2013، ص 23 .

[2]  عبد العزيز بنزاكور، من ديوان المظالم إلى مؤسسة وسيط المملكة: حصيلة وآفاق الوساطة الإدارية بالمغرب، مجلة مؤسسة وسيط المملكة المغربية، العدد الخامس، غشت 2015، ص 14.

[3] محمد عابد الجابري، إضاءات وشهادات “البيان المطرب لنظام حكومة المغرب -المفهوم القديم للسلطة والصراع حول الاختيارات، مجلة مواقف، العدد 3، فبراير، 2003، ص 11.

[4]  أحدث “مكتب الأبحاث والإرشادات لدى جلالة السلطان” بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.56.279 بتاريخ 6 ربيع الثاني 1376 الموافق ل 10 نونبر 1956، ج.ر عدد 2303 بتاريخ 11 جمادى الأولى 1376 الموافق ل 14 دجنبر1956، ص 3170.

[5] مقتطف من الرسالة الملكية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان بتاريخ 9 دجنبر 2001.

[6]  كريم لحرش، مرجع سابق، ص 10.

[7]   أحدث “ديوان المظالم” بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.01.298 بتاريخ 23 رمضان 1422 الموافق ل 9 ديسمبر 2001،  ج.ر عدد 4963 بتاريخ 8 شوال 1422الموافق ل 24 ديسمبر 2001، ص 4281.

[8]   تقرير والي المظالم عن حصيلة نشاط المؤسسة برسم سنتي 2004 و2005، ج.ر عدد 5488 بتاريخ 14 ذو الحجة 1427 الموافق ل 4 يناير 2007، ص200 و 2001.

[9] محمد اليعكوبي، وسيط المملكة: مدافع عن الحقوق والحريات أم مصالح المرتفقين، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 122-123، ماي 2015، ص 12.

[10]  القانون رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط، الصادر بتنفيذه  الظهير الشريف رقم 1.19.43 بتاريخ  4 رجب 1440 الموافق ل11 مارس 2019،  ج.ر عدد 6765 بتاريخ 25 رجب 1440 الموافق ل فاتح أبريل 2019، ص 1722.

[11]  المادة 11 من القانون رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط.

[12]  تحدد المواد 22  و36 من القانون رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط الآجال القانونية التي يتعين فيها على الإدارة المعنية بالقضايا موضوع التظلم توجيه جوابها للوسيط.

[13]   المادة 25 من القانون  رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط.

[14]  المادة 41 من القانون  رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط.

[15]  مداخلة الأستاذ محمد بنعليلو وسيط المملكة حول موضوع: مؤسسة وسيط المملكة دعامة لتكريس الحكامة الإدارية” خلال الندوة المنظمة بالمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء يوم 12 فبراير 20193.

[16] أحمد بوعشيق، إحداث مؤسسة ديوان المظالم، نحو منظور جديد لعلاقات الإدارة بالمواطنين، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، الطبعة الأولى، العدد 3، ص 70.

[17] – تقرير والي المظالم عن حصيلة نشاطه برسم سنتي 2006 و2007، ص 2،  ج.ر عدد 5680 بتاريخ 7 ذو القعدة 1429 الموافق ل 6 نوفمبر 2008، ص 4022.

   – تقرير والي المظالم عن حصيلة نشاطه برسم سنتي 2008 و2009،  ص 2، ج.ر عدد 5899 مكرر بتاريخ 7 محرم 1432 الموافق ل13 ديسمبر2010، ص 5266.

[18]  تم تعيين محمد بنعليلو وسيطا للمملكة خلفا لعبد العزيز بنزاكور بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.18.105 صادر في 26 ربيع الآخر1440الموافق ل3 يناير 2019، ج.ر عدد 6742 بتاريخ 3 جمادى الأولى 1440 الموافق ل10 يناير 2019،  ص 53.

[19] تقرير وسيط المملكة برسم سنة 2018.

[20]  تتضمن تقارير ديوان المظالم برسم سنوات 2006 و2007 و2008 و2009 وتقارير الوسيط خلال الفترة الممتدة من سنة 2011 إلى سنة 2018 معطيات مفصلة ومؤشرات إحصائية عن التظلمات والشكايات التي وردت على هذه المؤسستين حسب طبيعة التظلم والقطاع المعني والقضايا الفرعية وطريقة استقبال التظلمات و التوزيع الجغرافي ونسب حل القضايا ومآل التوصيات. 

[21] ندوة حول “الحكامة الأمنية وحقوق الإنسان” منظمة من قبل مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية والمعهد الدنماركي لحقوق الإنسان، بالرباط يوم 21 نونبر 2019.

[22]  تقرير الوسيط برسم سنة 2018 ص 2.

[23]  تفصل المادة 42 من القانون رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط مضامين التقارير الخاصة التي يوجهها الوسيط لرئيس الحكومة.

[24] ندوة بخصوص “مؤسسة وسيط المملكة دعامة لتكريس الحكامة الإدارية” منظمة ضمن فعاليات معرض الكتاب الدولي بالدار البيضاء يوم 13 فبراير 2019.

[25] محمد بنزاكور، وسيط المملكة مؤسسة دستورية لتسهيل الحوار في مجال اختصاصاتها، مجلة وسيط المملكة، العدد 13، أبريل 2018، ص 17.

[26] قصاصة وكالة المغرب العربي للأنباء ليوم 3 دحنبر2019  بمناسبة تقديم الوسيط للتقرير السنوي للمؤسسة برسم سنة 2018.

[27] أنس سعدون، القضاء المغربي يعلن توصيات الوسيط ملزمة، منشورات الموقع الإلكتروني ليكال أجوندا www.legal-agenda.com ، تم الإطلاع عليه بتاريخ 12/11/2015، ص إلكترونية.

[28]   تقرير الوسيط برسم سنة 2018 ص 3.

[29]  المادة 47 من القانون  رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط.

[30] منشورات  مجلس النواب، مراقبة العمل الحكومي: الأسئلة الشفوية – التفاعل مع تقرير وسيط المملكة.

[31] منشورات مجلس النواب، مرجع سابق.

[32]  منشورات مجلس النواب، مرجع سابق.

[33]  منشورات مجلس النواب، مرجع سابق.

[34]  تقرير الوسيط برسم سنة 2018، ص 135.

[35]  المادة 44 من القانون  رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط.

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *