المصلحة العامة والسلطة التقديرية للإدارة

عندما نتحدث عن المصلحة العامة فإننا نكون أمام فكرة لها من الأهمية والمكانة ما يجعلها تشكل أساسا للقانون الإداري وبمثابة المفهوم الأم لهذا الأخير[1]، وفي الآن ذاته فإننا أمام فكرة تتسم بالنسبية والعمومية مما يجعل أمر تحديدها بدقة من الناحية القانونية صعبا للغاية.

وهذا ما يفرض البحث في انعكاسات الفكرة وغموضها على السلطة التقديرية للإدارة، لمعرفة نطاق العلاقة القائمة بين الفكرتين، وما إذا كانت المصلحة العامة كمصدر للسلطة التقديرية للإدارة أم مقيدة لها.

وتعد السلطة التقديرية من أهم الصلاحيات التي تحضى بها الإدارة والتي تمنح لها الحرية في اتخاذ القرارات، ويقابلها ما يسمى بالاختصاص المقيد، ويقصد بها حرية الإدارة في اتخاذ القرار الذي تراه ملائما ومناسبا عند القيام باختصاصاتها، بحيث يكون لها الحق في أن تقرر بحرية مدى ملاءمة تدخل ما من عدمه، وكذا الوسائل والوقت المناسب لذلك، حيث يكون للإدارة الاستقلالية في اتخاذ القرار دون إتباع أوامر مسبقة وتعليمات محددة.

أما في ظل الاختصاص المقيد فلا يترك للإدارة أي هامش من حرية التصرف، وتكون ملزمة ومقيدة بما يضعه القانون من شروط مسبقة بشأن مسألة معينة، حيث يحدد لها مسبقا الهدف والسبيل دون أن يكون لها الحق في الاختيار.

فالسلطة التقديرية تختلف عن السلطة المطلقة في كونها تلزم الإدارة بالتقيد بمبدأ المشروعية من خلال الخضوع للقواعد القانونية، وكذا بالمصلحة العامة كهدف أساسي من وراء كل قرار إداري، هذا بالرغم من اختلاف الفقه حول نوعية العلاقة القائمة بين المصلحة العامة والسلطة التقديرية، وهذا ما سنتعرف عليه بعد الخوض في مدلول فكرة المصلحة العامة وصورها المختلفة.

أولا : مدلول المصلحة العامة وصورها المختلفة
  • المصلحة العامة: المدلول والأهمية

من المسلمات في فقه القانون الإداري أن الإدارة تهدف من وراء تصرفاتها وأعمالها تحقيق هدف واحد لا يتغير هو المصلحة العامة.فالنشاط الإداري يختلف عن النشاط الفردي في غاية كل واحد منهما، فالفرد مهما سميت دوافعه، ومهما التزم في نشاطه المثل العليا والقيم الدينية والأخلاقية إلا أنه يستهدف في النهاية أغراضا شخصية وإن كانت قد تتفق أحيانا مع المصلحة العامة[2]، في حين تستهدف الإدارة تحقيق الصالح العام من وراء نشاطها وعملها.

فكل قرار إداري يفترض فيه تحقيق أهداف القانون في المجتمع، وهي العدالة والمصالح العامة للجماعة، بمعنى غاية كل قرار إداري هو تحقيق المصلحة العامة، بيد أن هذا القرار قد يحيد أحيانا عن تلك الغاية ويخرج عن دائرة القانون عن قصد أو عن غير قصد وهنا تختفي المصلحة العامة وتحل محلها المصلحة الشخصية أو الخاصة الناتجة عن الأهواء،[3] ويصبح القرار الإداري فاقدا للمشروعية لعيب الانحراف في استعمال السلطة، وهذا العيب لا يرتبط بالانحراف عن المصلحة العامة فقط، فقد يحدث أن تتخذ الإدارة قرارا معينا تحترم من خلاله الاختصاصات والإجراءات القانونية وتستهدف تحقيق المصلحة العامة، إلا أن الأمر حينما يتعلق بمصلحة عامة غير تلك المقصودة من وراء صدور القرار الإداري نكون أيضا أمام انحراف في استعمال السلطة، فالمشروعية تقتضي الخضوع لمقاصد التشريع المحددة في النصوص القانونية[4].

فالمصلحة العامة بوصفها هدفا لكل قرار إداري، تتسم بطابع واقعي وموضوعي، فهي ليست فكرة مجردة، وإنما واقعية تتحقق بإشباع حاجات معينة بطريقة أوفى وأكمل على يد الإدارة، وهذا ما يستتبع النظر للفكرة باعتبارها هدفا لكل نشاط إداري، نظرة موضوعية، فلا يكفي لتحققها أن يصدر رجل الإدارة قراره عن اعتقاد كامل بأنه يخدم هذا الهدف، وإنما العبرة في تحقيق المصلحة العامة هي صدور القرار استجابة لمتطلبات الحياة الواقعية واحتياجاتها، حيث يكفل ذلك تحقيق الغرض المحدد من القرار.[5]

وهكذا أضحت المصلحة العامة معيارا لقياس مدى مشروعية العمل الإداري، فكل ما هو منافي للمصلحة العامة يعد عملا غير مشروع، فإذا كان الخواص يتصرفون لأجل تحقيق الأهداف التي يريدونها شرط عدم التعسف في ذلك، بمعنى أن الحرية هي المبدأ،فإن الإدارة لا يمكن لها التصرف إلا لغرض مشروع، بمعنى أن الحرية هي الاستثناء[6]، فالمصلحة العامة تشكل أساس مبدأ المشروعية[7] ذلك أنها ارتبطت بفكرة القانون مند نشأتها وصاحبت قيام الدولة القانونية، لذلك كانت حجر الزاوية عند أنصار نظرية العقد الاجتماعي.

وبالرغم من عمومية فكرة المصلحة العامة وغموضها، فإن هذا لم يمنع الفقهاء من البحث عن تعريف لها، وهكذا نجد من يعرف المصلحة العامة[8] على أنها المطالب والرغبات التي تستدعيها الحياة في مجتمع منظم سياسيا، وللفكرة مدلول سياسي وآخر قانوني، ففي المدلول الأول لا تختلف المصلحة العامة في طبيعتها عن المصالح الفردية أو مصالح الجماعات فهي مجرد تحكيم بين مصالح مختلفة، أما بالنسبة للمدلول القانوني، فإنه يستوجب تحديد السلطة التي تملك إجراء التحكيم بين المصالح المختلفة لتعيين وتحديد المصلحة العامة، ولأجل ذلك قد تتدخل السلطة التأسيسية لتحديد بعض الغايات العامة، وقد يترك للمشرع العادي أمر تحديد غايات معينة، كما يمكن للإدارة تحديد بعض عناصر المصلحة العامة وذلك في المجالات غير المحجوزة للمشرع.

وترتبط فكرة المصلحة العامة بشكل كبير بالسلطة العامة التي وجدت أصلا لحماية وتحقيق المصلحة العامة للمجتمع وتقديم الخدمات لأفراده،[9] فالامتيازات التي تحضى بها تبررها وتحددها الأهداف التي تتوخاها من تصرفاتها وأنشطتها، كما أن الديمقراطية الجيدة تقتضي تغليب المصالح العامة على المصالح الفردية والخاصة، هذا بالإضافة إلى كون المصلحة العامة تشكل أساس القانون الإداري الذي يحرص على ضمان فعالية العمل الإداري موازاة مع حرصه على ضمان أكبر حماية ممكنة للمداريين في مواجهة الإدارة وقراراتها.[10]

وهكذا تعتبر المصلحة العامة غاية وهدف كل سلطة عامة وتبرر لها ما تحضى به من امتيازات واسعة يفتقد لها الفرد في تصرفاته وأنشطته التي تهدف تحقيق مصالح خاصة، لكن هذا لا يعني أن تحقيق المصلحة العامة يبقى حكرا على السلطة العامة فقط، بل نجد أن الأفراد بدورهم يساهمون في تحقيق هذه المصلحة، وما ظهور المشروعات الخاصة ذات النفع العام إلا مثال على ذلك.[11]

  • المصلحة العامة والمفاهيم المشابهة :

للمصلحة العامة كما رأينا مدلول واسع وغير محدد بشكل دقيق، فهي فكرة تحتمل أكثر من تعريف، ويتغير معناها باختلاف ظروف الزمان والمكان والميدان الذي ترتبط به، كما تتفرع إلى مفاهيم فرعية تتسم بدورها بعدم الدقة في التحديد وأحيانا بالعمومية والغموض، ما يجعلها تقترب من مفهوم المصلحة العامة كثيرا لتبدو كمرادفات لها، وهذا ما يلاحظ من الاستعمالات الواسعة لهذه المفاهيم للدلالة على المصلحة العامة، وهكذا فحينما تتوخى السلطات الإدارية تحقيق المصلحة العامة باتخاذها لإجراءات الضبط الإداري فإنها تستهدف بالأساس حماية النظام العام الذي يعد الهدف الأساسي للشرطة الإدارية، وفي مجال المرافق العامة، نجد أن السلطات العمومية تهدف من وراء إنشائها تحقيق المصلحة العامة المتمثلة في إشباع الحاجات ذات النفع العام للجمهور، كما تحرص الإدارة على حماية مصلحة المرفق والمحافظة عليه من أجل القيام بمهمته على أحسن وجه، كما تقوم بنزع الملكية الخاصة إذا استدعت المنفعة العامة ذلك، أي لأجل تحقيق المصلحة العامة.

ونلاحظ من خلال الأمثلة أعلاه، تعدد صور و أشكال المصلحة العامة، فأحيانا تتحقق عن طريق حماية النظام العام في مجال الضبط الإداري، أو من خلال إنشاء المرافق العامة وحماية مصلحة المرفق، أو تحقيق المنفعة العامة في مجال نزع الملكية، كما ترد فكرة المصلحة العامة بمفاهيم أخرى مشابهة كحماية الصالح العام أو النفع العام، وتحيل مفاهيم أخرى على الفكرة كحماية الاقتصاد الوطني والسيادة الوطنية والوحدة الترابية والأمن القومي إلى غيرها من المفاهيم التي تندرج ضمن المصلحة الوطنية العليا، ونجد أن حتى المفاهيم الفرعية للفكرة الأم تتفرع بدورها لمفاهيم أخرى تشكل مكونات لها، فإذا أخذنا مفهوم النظام العام مثلا الذي هو شكل من أشكال المصلحة العامة، يتضمن عدة صور تدخل ضمن مكوناته كالصحة العامة والسكينة العامة والأمن العام، إضافة إلى مكونات جديدة ناتجة عن التطور والتوسع الذي عرفه كالنظام العام الاقتصادي والأخلاق العامة والآداب وغيرها…

والملاحظ من خلال هذه التفرعات والعناصر التي تحيل إلى فكرة المصلحة العامة ومدلولها أنها تشترك جميعها في كونها مفاهيم غير محددة بشكل دقيق من الناحية القانونية وتتصف بالعمومية والغموض أحيانا، كما هو الشأن تماما بالنسبة لمفهوم المصلحة العامة، ومن الواضح أن عمومية واتساع مدلول هذه الأخيرة هو الذي انعكس بشكل واضح على مكوناتها وعناصرها وجعلها تتصف بنفس الخصائص، فإذا كان النظام العام مثلا مفهوما نسبيا وفضفاضا فكيف يمكن تحديد مفهوم الأخلاق العامة أو الآداب بدقة ؟ وهي إحدى مكونات مفهوم يفتقد بدوره لتعريف واضح ويتأثر بظروف الزمان والمكان المحيطة به.

وكما سبق الذكر فإن المصلحة العامة تتفرع إلى مصالح مرتبطة بمجالات مختلفة مما يفسر تقاربها مع مفاهيم أخرى تكاد تشكل مرادفات لها، وهنا نتساءل عن ماهية العلاقة الرابطة بين المصلحة العامة وبعض تلك المفاهيم وفي مقدمتها المرفق العام؟

بالنسبة للمرفق العام نجد أنه يستهدف دائما تحقيق المصلحة العامة، ويعرف على أنه كل نشاط يهدف إلى إشباع حاجات ذات نفع عام، فكل عمل يستهدف تحقيق هدف آخر غير المصلحة العامة لا يدخل ضمن إطار المرفق العام، ويتضح هنا أن مفهوم المصلحة العامة هو أكثر اتساعا وشمولية من مفهوم المرفق العام، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن تحقيق المصلحة العامة ليس حكرا على الأشخاص المعنوية العامة، فحتى الفرد يساهم في تحقيقها، لكن دور الفرد يختفي كلما تعلق الأمر بتقدير المصلحة العامة وكيفية تحقيقها، ويتضح ذلك من خلال دور السلطة العامة في إنشاء المرافق العمومية، حيث تملك سلطة تقديرية واسعة في هذا الصدد، ولا يحق للمرتفق التدخل في ذلك باعتبار أنه اختصاص يدخل ضمن المجالات المحفوظة للإدارة، ويستتبع ذلك تمتع الإدارة بامتيازات كبيرة كالحق في تعديل الوضع القانوني والنظامي في مواجهة المرتفق بحجة المصلحة العامة دائما، بالرغم من أن إيديولوجية هذه الأخيرة والتي تشكل أساس المرفق العام تحتوي فكرة ضمان حقوق المرتفق،[12] هذا الأخير الذي يبقى في موقف ضعف في مواجهة الإدارة، وتتعزز سلطة الإدارة أيضا في تحديد وتعيين مصلحة المرفق حيث تملك حرية واسعة في تقديرها، ويعرف مفهوم مصلحة المرفق كونه السير الجيد للمرفق العام، أو هو الهدف الأسمى الذي تتوخاه كل سلطة عامة، وهكذا تتضح علاقة مصلحة المرفق بالمصلحة العامة، حيث كل ما يحقق المصلحة الأولى يدخل ضمن الثانية، فهي جزء لا يتجزأ منها.[13]

ومن المفاهيم المشابهة للمصلحة العامة والتي تشترك معه في العمومية والمرونة، نجد مفهوم المنفعة العامة الذي لم يحدد المشرع معناه بدقة مما جعل البعض يعتبره كمرادف للمصلحة العامة، وبعد التطور الذي طرأ على المنفعة العامة، أصبحت حاليا مرتبطة بما تحققه من مزايا وما تلحقه من أضرار وما تتطلبه من تكلفة مالية وذلك بعد اعتماد نظرية الموازنة، ويمكن القول أن مفهوم المنفعة العامة يقترب كثيرا من فكرة المصلحة العامة، والفرق ينحصر في مجالات استعمال كلا المفهومين، فنجد أن المصلحة العامة تستعمل في كل الأنشطة الإدارية بمختلف مجالاتها، في حين ينحصر استعمال مفهوم المنفعة العامة غالبا في مجال نزع الملكية، بمعنى أن فكرة المصلحة العامة أشمل وأعم.

ونستنتج مما سبق أن فكرة المصلحة العامة حاضرة في كل مجالات الحياة الإدارية وذلك بنفس المفهوم أو من خلال مفاهيم مشابهة لكنها تصب في هدف واحد وهو تحقيق المصلحة العامة، كمفهوم النظام العام في مجال الضبط الإداري ومفهوم مصلحة المرفق في مجال المرافق العمومية، ومفهوم المنفعة العامة في مجال نزع الملكية، فبالرغم من اختلاف المفاهيم إلا أنها تشترك في كونها تستمد أساسها ومشروعيتها من الحرص على حماية المصلحة العامة.

ثانيا: علاقة المصلحة العامة بالسلطة التقديرية للإدارة
  • المصلحة العامة كفكرة مقيدة للسلطة التقديرية للإدارة :

لا شك أن عدم تحديد المشرع لفكرة معينة يعطي للإدارة إمكانية التصرف إزاءها بسلطة تقديرية قد تكون واسعة، ويتضح لنا ذلك من خلال دراسة فكرة المصلحة العامة، حيث نجد أن المشرع لم يضع للمفهوم تعريفا دقيقا يساعد على ضبط وتحديد نطاق التصرفات الإدارية، وقد يكون المشرع فعل ذلك عن قصد لكي لا يقيد تحركات الإدارة ويمنحها بالمقابل الحرية في التصرف والتعامل مع مختلف الظروف والمستجدات الطارئة خاصة إذا علمنا أن مفهوم المصلحة العامة يتسم بالنسبية والعمومية، حيث يختلف مضمونه من مجتمع لآخر ومن حقبة لأخرى.

بالمقابل نجد أن مبدأ المشروعية يفرض على الإدارة احترام قواعده، ومنها أن كل قرار إداري ملزم بالعمل على تحقيق غاية محددة والتي يجب ألا تخرج عن المصلحة العامة كهدف أسمى لكل قرار إداري، وهذا ما جعل بعض الفقه[14] يعتبر أن المصلحة العامة فكرة مقيدة للعمل الإداري، ولا علاقة لها بالسلطة التقديرية على اعتبار أن الإدارة لا تملك أي هامش من حرية التصرف بخصوص ركن الغاية حيث يكون الهدف واضحا من كل قرار إداري وهو تحقيق المصلحة العامة وكل خروج عنها يعد انحرافا في استعمال السلطة، ويعرض القرار للإلغاء، ويرى أنصار هذا الاتجاه الفقهي أن المصلحة العامة رغم أهميتها بالنسبة للعمل الإداري، إلا أنها ليس بإمكانها منح الإدارة الحرية في كل تصرفاتها، فنظرا لغموض الفكرة لا يمكن اعتبارها كمصدر لسلطة الإدارة التقديرية.

كما أنه حتى في حالة توافر عدة أهداف من شأنها تحقيق المصلحة العامة، فإن للإدارة حق الاختيار بين هذه الأهداف، ولكنها ليست مطلقة الحرية في هذا الاختيار، إذ يتعين عليها اختيار الهدف الأكثر تحقيقا للمصلحة العامة، وذلك بالعمل على المفاضلة والموازنة بينها لتحديد أي من الأهداف يحقق المصلحة العامة الحقيقية فعلا، وقد زكى مجلس الدولة الفرنسي هذا التوجه في إحدى قراراته[15]، حيث اتخذ فيه مبدأ الموازنة مفهوما جديدا بمقتضاه لم تعد الموازنة قائمة فقط بين مصلحة عامة ومصلحة خاصة، وإنما امتدت لتشمل الموازنة بين مصلحة عامة ومصلحة عامة أخرى، وسار القاضي الإداري المغربي على نفس المنوال، ونجده أحيانا يوازن بين المصالح العامة، ففي مجال نقل الموظفين من مصلحة لأخرى، ارتكز القاضي الإداري في إحدى قراراته[16] على فكرة التوازن بين مصلحة الإدارة ومصلحة الهيئة التي ينتمي إليها الطاعن، توصل من خلالها إلى أن قرار نقل هذا الأخير بعلة تحقيق المصلحة العامة يعد تدبيرا في غير محله وغير ملائم ما دام أن الإدارة لم تراعي مبدأ التوازن بين المصلحتين.

ويتضح مما سبق أن المصلحة العامة تشكل قيدا على حرية الإدارة في التصرف واتخاذ القرار، ذلك أن النشاط الإداري يكون ملزما بتحقيق المصلحة العامة كهدف وغاية أساسية، وإذا انحرف عن تلك الغاية صار غير مشروع، فكل عمل ابتغى غير المصلحة العامة كان ذلك سببا لعدم مشروعيته. ومعنى ذلك أن إلزام الإدارة بضرورة توافق أعمالها وتصرفاتها مع المصلحة العامة يفقدها حرية الاختيار استنادا إلى قاعدة حيث لا مصلحة لا إمكانية للتصرف،[17] لكن ذلك القيد الذي تفرضه فكرة المصلحة العامة على تصرفات الإدارة وتحركاتها ليس بتلك الفعالية التي تخضع تصرفات الإدارة وقراراتها للاختصاص المقيد، وذلك نظرا لكونه قيدا عاما مرتبطا بفكرة غير محددة قانونيا لدرجة يصعب معها تقييد تصرفات الإدارة بشكل مطلق.

  • المصلحة العامة كمصدر للسلطة التقديرية للإدارة :

إن أنصار الاتجاه الفقهي الذي يعتبر أن المصلحة العامة فكرة مقيدة للسلطة التقديرية للإدارة وينكر وجود علاقة بينهما على اعتبار أن الإدارة تكون في حالة اختصاص مقيد إزاء ركن الغاية، نجدهم لا يفرقون بين فكرة الاختصاص المقيد وبين ضرورة تقيد الإدارة بفكرة المصلحة العامة كهدف لتصرفاتها ونشاطها، في حين أن الفرق واضح بين الحالتين، ذلك أنه عند وجود غرض معين ومحدد ضمن إطار المصلحة العامة بمعناه العام، وهذه هي حالة تخصيص الأهداف، قد تكون الإدارة مقيدة في تصرفاتها إلى حد ما،[18] أما فيما عدا ذلك من الحالات، فإن الإدارة لن تكون ملزمة بغرض معين بذاته من أغراض المصلحة العامة، فقد تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية في اختيار غرض من عدة أغراض معينة ومحددة ضمن إطار المصلحة العامة، وقد لا يحدد للإدارة أية أغراض بصدد اختصاص ما، وفي هذه الحالة تتمتع الإدارة بحرية واسعة للاختيار بين الأغراض الممكنة شرط ألا تمارس اختصاصاتها لتحقيق أغراض بعيدة عن المصلحة العامة.

والعلاقة بين المصلحة العامة ومبدأ المشروعية وطيدة، ويتضح ذلك من خلال ربط مشروعية التصرفات والقرارات الإدارية بمدى استهدافها للمصلحة العامة، وهذا ما يضمن عدم تعسف الإدارة في استعمال سلطتها التقديرية وتفادي تحولها لسلطة مطلقة أو استبدادية، إلا أن ذلك لا يتحقق بمعزل عن تدخل فعال للقاضي الإداري نظرا لارتباط كل من المصلحة العامة وعيب الانحراف في استعمال السلطة بالسلطة التقديرية، فتحت ذريعة المصلحة العامة قد يتستر رجل الإدارة ويصدر قرارات إدارية تبدو في ظاهرها مشروعة وتخدم المصلحة العامة، وفي باطنها تخدم النوايا الذاتية والمصالح الشخصية.

والمصلحة العامة تختفي في حالات قد تعتري القرار الإداري بعض العيوب وتعرضه للإلغاء بسببها، وتكون هذه العيوب مرتبطة بما تمارسه الإدارة من سلطة تقديرية، وهذا ما يستوجب رقابة قضائية فعالة على جانب الملاءمة في التصرفات الإدارية وعدم الاقتصار على المشروعية، وذلك ما يساهم في اكتشاف النوايا الخفية للإدارة، ويتجلى دور القاضي الإداري هنا من خلال ما يمارسه من رقابة على عنصر المصلحة العامة ومدى تحققها في تصرفات الإدارة وأعمالها، وذلك بابتكاره لتقنيات جديدة تمكنه من تشديد الرقابة على مختلف جوانب السلطة التقديرية في القرار الإداري، وتتمثل هذه التقنيات في نظرية الموازنة في مجال نزع الملكية، ونظريتي الخطأ الواضح في التقدير والغلو في مجال التأديب، فهذه النظريات لا شك أنها تحد بشكل كبير من سلطة الإدارة في تقديرها للمصلحة العامة، التي تختفي في القرار الإداري في حالة عدم الموازنة بين الفوائد والأضرار الناجمة عن نزع الملكية، أو في حالة غياب التناسب بين الخطأ والعقوبة المتخذة، أو في حالة وجود خطأ واضح في التقدير أو غلو فيه، إضافة للعيب التقليدي المتمثل في الانحراف في استعمال السلطة.[19]

وعموما، نجد أن المصلحة العامة تؤدي في الغالب وظيفتين متعارضتين، فهي من جهة تقيد سلطات الإدارة وتحد منها باعتبارها غاية يتعين على كل سلطة إدارية توخيها من وراء مختلف قراراتها وأنشطتها، ومن جهة أخرى تقوم بتوسيع تلك السلطات نظرا لعمومية الفكرة وغياب تعريف دقيق لها، فهي تشكل إطارا للعمل الإداري، وهذا الإطار يتميز بالشساعة ما يسمح بهامش واسع للتحرك من خلاله، الشيء الذي يجعلها ميدانا خصبا للسلطة التقديرية للإدارة ومصدرا أساسيا لها، ولهذا الارتباط بين المصلحة العامة والسلطة التقديرية بعض المخاطر التي يمكن أن تفرغ الفكرتين من أهميتهما ومن مبررات وجودهما، وتتمثل تلك المخاطر بالأساس في إمكانية استغلالهما في المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم، والمفاهيم الغامضة والفضفاضة من قبيل المصلحة العامة، تمكن الإدارة من تبرير أي قرار إداري ولو كان ماسا بحرية فردية ما دام أنه محقق للمصلحة العامة.

والمصلحة العامة في كل الأحوال ليست نقيضا للمصلحة الخاصة، فهذه الأخيرة لا تتحقق إلا في ظل ظروف تعرف حماية حقيقية للمصلحة العامة، والتي بغيابها يصعب على الأفراد تحقيق مصالحهم الشخصية. فتدخل الدولة أو السلطة ضروري لضمان ممارسة حقوقهم وحرياتهم في أفضل الظروف، وذلك عن طريق الحرص على المصلحة العامة بصورها المختلفة، كحماية النظام العام على سبيل المثال. فالفرد لن يكون بوسعه ضمان ممارسة حقوقه وحرياته الدستورية في ظل حالة من عدم الاستقرار وغياب الأمن والنظام، وهذا مثال فقط لتوضيح أهمية الحرص على المصلحة العامة وحمايتها دون تعسف كشرط لتحقيق المصلحة الخاصة وضمان ممارسة فعلية للحقوق والحريات الفردية.

 

[1] TRUCHET (D) : les fonctions de la notion de l’intérêt général dans la juris- prudence du conseil d’Etat LGDJ, paris 1977, P : 57.

[2] محمد حسنين عبد العال : فكرة السبب في القرار الإداري ودعوى الإلغاء، دار النهضة العربية، 1971، ص : 344.

[3] الحسن سيمو : القرار الإداري والمصلحة العامة، م.م.إ.م.ت عدد 18 يناير-مارس 1997، ص: 110.

[4] حسن صحيب : القضاء الإداري المغربي:م.م.إ.م.ت “سلسلة مؤلفات وأعمال جامعية” عدد 80-2000، ص : 309.

[5] حسنين عبد العال : م.س، ص: 345.

[6] TRUCHET (D) : op.cit ;P :36 et 92.

[7] CHEVALLIER(J) : Réflexion sur l’idéologie de l’intérêt général : in ; variation autour de l’idéologie de l’intérêt général,vol I, CURAP PUF, 1978, P :11.

[8]  عادل أبو الخير: “الضبط الإداري وحدوده” مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص: 179.

[9] ROUSSET (M) : « Les droits humains et l’Etat de droit » Remald , N°81-82 juillet – octobre 2008, P :21.

[10] DEBBASCH (CH) : « Le droit administratif face à l’évolution de l’administration française » Mélanges waline (M) in «  le juge et le droit public » tome II, paris, LGDJ, juillet 1974 P :344.

[11] ومثال لمساهمة الأفراد في تحقيق المصلحة العامة بعيدا عن أسلوب المرافق العامة، نجد أسلوبي الامتياز والتدبير المفوض حيث تعهد الإدارة إلى فرد أو شركة خاصة مهمة التسيير والتدبير.

[12] EL YAAGOUBI (M) : « les droits de l’usager de services  publics au Maroc » Remald N° 24, juillet- septembre 1998 P :40.

[13] وديع البقالي : السلطة التقديرية للإدارة بين المصلحة العامة والحريات الفردية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة عبد المالك السعدي، الموسم الدراسي 2011-2012، ص: 84.

[14] سليمان الطماوي : “نظرية التعسف في استعمال السلطة” دراسة مقارنة، جامعة عين شمس، الطبعة الثالثة 1978، ص: 61.

[15] C.E :20/10/1972, Association civil sté. Marie de l’assomption, Rec. P 657 conclusion Moriset.

[16] حكم إدارية وجدة عدد 76/95 بتاريخ 12/07/1995 عبد الله النهاري ضد رئيس غرفة الصناعة التقليدية بولاية وجدة، مجلة المحاكم الإدارية، عدد 1، ص 413.

[17] TRUCHET (D) : op.cit, p :163.

[18] ذلك أنه في حالة تخصيص الأهداف، لا يمكن القول أن الإدارة توجد في حالة اختصاص مقيد بشكل مطلق، حيث أن الإدارة تملك حرية اختيار اللحظة المناسبة للتصرف واتخاذ القرار، بحيث يصعب على القاضي الإداري رقابة تكييف شرعية التوقيت المقرر من طرف الإدارة للتصرف أو الوسائل المعتمدة.

[19] وديع البقالي، مرجع سابق، ص 91.

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *