Site icon مجلة المنارة

المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في إطار اشتراك الموثقين

 

المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في إطار اشتراك الموثقين

 

 

وائل تيسية

طالب باحث

 

 

بالرجوع إلى المستجدات التي جاء بها القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق رقم 32-09 وبإستقرائنا للنصوص التي تتطرق إلى فكرة المشاركة بين الموثقين، و محاولة منا تسليط الضوء على هذا الموضوع حديث النشأة سنتولى القيام بتحليل فكرة المشاركة بين الموثقين بغية معرفة نوع الاشتراك الحاصل بين الموثقين وكذلك وضع تصور قانوني لإمكانية مساءلة الموثقين في إطار المشاركة مساءلة جنائية.

قبل الخوض في دراسة فكرة المشاركة بين الموثقين، سنحاول التطرق إلى المذاهب الفقهية المؤسسة للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي وبيان موقف المشرع الفرنسي من فكرة الاشتراك بين الموثقين (المحور الأول)، ثم سنتولى تحليل التوجه العام للقانون المغربي في شأن المشاركة بين الموثقين (المحور الثاني).

المحور الأول: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في إطار اشتراك الموثقين

 

ساهمت التوجهات الفقهية الدارسة للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في بلورة قواعد قانونية تهدف إما إلى مساءلة الشخص المعنوي مساءلة جنائيـــة أو عــــدم مساءلتـــه (1) إذ أن تلك المدارس قد تشبثت بمبادئ و أسس أعتمدت عليها كثير من الدول و من بينها فرنسا  (2).

1/ المدارس الفقهية الدارسة للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

 

إن الهدف الأساسي من إثارة التوجه الفقهي المحدد للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي و المبادئ التي تميز كل اتجاه فقهي على حدى، هو تحليل المقتضيات القانونية المرتبطة بالمسؤولية الجنائيـة للشركة المدنية للموثقين في ظل القانون الفرنسي ثم بعد ذلك في إطار القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق بالمغرب لسنة 2011.

على هذا السبيل، تباينت الآراء الفقهية بين من هم رافضين لإسناد المسؤولية الجنائيـة للشخـص المعنـوي و بين من هم المؤيدين لها.

1-1 الاتجاه التقليدي للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

 

اعتمد الاتجاه الرافض للإقرار المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي على مجموعة من الحجج التي تنفي إمكانية مساءلة الشخص المعنوي مساءلة جنائيـة لعدم قدرته على التمييز والإدراك من جهة ثم إسنادا لمبدأ قانوني مفاده شخصية العقوبة و من ثمة سنعمل على رصد أساس توجه المدرسة التقليدية ثم سندرس مبررات رفض إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي.

·       أساس توجه المدرسة التقليدية

 

قد أنكر هذا المذهب المساءلة الجنائية للأشخاص المعنوية ذاتها باعتبارها أشخاصا قانونية مستقلة ومتميزة عن الأشخاص الطبيعيين المعبرين عن إرادتها “كأعضائها وممثليها”، فالأفعال المجرمة التي تقع من العضو أو الممثل باسم الشخص المعنوي ولحسابه لا يسأل عنها الشخص المعنوي جنائيا بينما يعد المسؤول عنها من يرتكبها من الأشخاص الطبيعيين فقط، ذلك أن الأشخاص المعنوية هي أشخاص افتراضية وهمية ولا يجوز إخضاع الوهم للعقاب وبذلك فإن هذا الاتجاه الفقهي يكتفي بالمسؤولية الجنائية للشخص الطبيعي وحده دون مسؤولية الشخص المعنوي [1].

إنطلاقا مما سبق يتأكد جليا أن مساءلة الشخص المعنوي مساءلة جنائية تكاد تكون مستحيلة بالنظر لطبيعة الشخص المعنوي وصعوبة تطبيق بعض العقوبات أو أبعد من ذلك عدم إمكانية تصور توقيع العقوبات السالبة للحرية.

 

·       مبررات رفض إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

 

تذرع أنصار مذهب الرافضين للمساءلة الجنائية للأشخاص المعنوية بحجة هامة استندوا إليها في تبرير وجهة نظرهم، وفحوى هذه الحجة يتبلور في أن وجود الشخص المعنوي وأهليته محددان بالغاية التي أنشىء من أجلها وتلك الغاية ليست هي إرتكاب الجريمة، ومن ثم فلا تكون له أهلية جنائية في مجال ارتكاب الجرائم وذلك ما يعرف بمبدأ تخصيص الشخص المعنوي[2]، وعليه فإن أنصار النظرية التقليدية يعتبرون أن الشخص المعنوي ليس أهلا للمساءلة الجنائية منطلقين من الغاية و الباعث المنشئ للشخص المعنوي ذاته.

علاوة على ذلك، فإن المدرسة التقليدية لم تتخذ حجة واحدة انكارا منها لإمكانية ترتيب العقوبات على الشخص المعنوي إذ أن هذا الأخير مجرد من الإرادة بسبب افتقاره للقدرات العقلية و الملكات الذهنية، فهو ليس إلا من صنع المشرع، رغبة منه في تمكين بعض الهيئات من تحقيق منفعة عامة [3].

في سياق آخر، تبنت النظرية التقليدية مبدأ قانوني قوامه اسناد العقوبة إلى الشخص الذاتي في ظل المبدأ العام لشخصية العقوبات. جوهر هذه الحجة – لدى مذهب الرافضين – يتبلور في أن إخضاع الشخص المعنوي للمساءلة الجنائية ينطوي على إعتداء صارخ وإخلال جسيم بأحد المبادئ القانونية الهامة و الراسخة التي تحمل الطرح القانوني الجنائي وهو مبدأ شخصية العقوبات و مقتضاه عدم جواز التوقيع العقوبة الجنائية إلا على ذات الشخص المعنوي الذي ارتكب الجريمة دون سواه، فإذا كنا بصدد تطبيق عقوبات جنائية على الشخص المعنوي كالغرامة أو المصادرة مثلا، فلا شك أن تلك العقوبات سوف تمتد حتما و بالضرورة لينفذ سهمها و يصيب أشخاص آخرين أبرياء دون ذنب أو خطأ يمكن أن ينسب إليهم، هؤلاء الأشخاص هم الأشخاص الطبيعيين المساهمين أو المشتركين في تكوين الشخص المعنوي و قد يكون من بينهم من لم يشترك إطلاقا في الجريمة، ولم يكن ليقبل ارتكابها، وربما كانت الجريمة قد وقعت دون علمه أو برغم إرادته [4].

1-2 الاتجاه الحديث المسند للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

 

ظهر الاتجاه الحديث الذي يقر ترتيب المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي مستحضرا في ذلك جملة من المبادئ التي تمكن من توقيع العقوبة على الشخص المعنوي وبالتالي ترتيب المسؤولية الجنائية عليه، إذ سنتولى دراسة خصوصية المدرسة الحديثة ، ثم سنحاول إيراد الإستثناء في الاتجاه الحديث.

·       خصوصية المدرسة الحديثة

 

أخذت المدرسة الحديثة منحى مغاير للمنحى الذي سارت عليه المدرسة التقليدية بتأييدها بضرورة مساءلة الشخص المعنوي مساءلة جنائية، ولقد اعترف هذا المذهب بمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا بصورة شخصية ذاتية بالنسبة لجرائم الأشخاص الطبيعيين التي تقع منهم – باسمها ولحسابها- ، بوصفهم معبرين عن إرادتها وذلك باستقلالها عن المسؤولية الجنائية لهؤلاء الأفراد عن تلك الجرائم فالأشخاص المعنوية في الرؤية القانونية لهذا الاتجاه، هي أشخاص حقيقية تتمتع بشخصية قانونية عن أعضائها و ممثليها[5].

من هذا المنطلق، يعتبر المذهب الحديث أن تطبيق المسؤولية الجنائية في حق الشخص المعنوي هي واجبة مستندين في ذلك إلى فكرة استقلال الأشخاص المعنوية عن الأشخاص الذاتيين المؤسسين و العاملين بها، ومن حيث العقاب فإن هذا الفريق الفقهي يعتقد أن معاقبة تلك الأشخاص لا يخل بمبدأ شخصية العقوبات فضلا عن إمكانية معاقبة تلك الأشخاص القانونية بما يلائم طبيعتها من العقوبات الجنائية القائمة في التشريعات الحالية، مع إمكانية ابتداع عقوبة جديدة تناسب طبيعتها الخاصة، ويضاف إلى ذلك أن توقيع العقاب على تلك الكائنات المعنوية يحقق جدواه في ردعها عن إرتكاب الجرائم ومكافحة مخاطرها والوقاية منها – ردع خاص- وكذلك منع غيرها من الأشخاص المعنوية الآخرى من محاكاة سلوكها أي تحقيق الردع العام أيضا [6]، فالقانون الجنائي قد أدرج بعض الأمثلة التي تعبر عن الردع العام للشخص المعنوي ونخص بالذكر حل الشخص المعنوي ونشر الحكم الصادر بالإدانة بحيث تعتبر كل منهما عقوبات إضافية.

·        إقرار المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية على سبيل الاستثناء

 

ظهر اتجاه فكري جديد يأخذ بالمدرستين التقليدية و الحديثة ويسمى بالمذهب التوفيقي، وعلى ذلك فإن جوهر الرأي في فكر المذهب التوفيقي، يتبلور في تقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية ولكن على سبيل الاسثتناء، في الحالات التي يراها المشرع تشكل خطرا أو ضررا بالغا على المجتمع و الأفراد، ويصدر بها نصوص قانونية تقرها صراحة، ويبرر هذا الاتجاه رأيه بأن المسؤولية الجنائية الفردية للشخص الطبيعي مرتكب الجريمة ليست كافية لتوقي مخاطر الأشخاص المعنوية، ومن ثم وجب تقرير مسؤولية هذه الأشخاص الأخيرة، ولكن في الحدود الاستثنائية التي تكفل الحفاظ على الأحكام و القواعد العامة لقانون العقوبات وعدم إهدارها [7].

من خلال ما سبق ما هو الاتجاه الفقهي الذي استمد منه القانون الفرنسي مرجعيته من أجل مساءلة الموثقين جنائيا في إطار الاشتراك؟.

2/ اشتراك الموثقين في ظل التشريع الفرنسي

 

بعد ما سلطنا الضوء على المدارس الفقهية التي ناقشت إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي أو عدم الاعتماد بقاعدة الإسناد، سنستهل في هذه النقطة برصد التوجه الجديد للقانون الفرنسي بشأن مساءلة الشخص المعنوي مساءلة جنائية ، ثم تبيان موقف القانون الفرنسي من اشتراك الموثقين و إمكانية توقيع المسؤولية الجنائية عليهم في إطار منظم.

2-1 المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في ظل التشريع الفرنسي

 

إن الهدف من وراء رصد الاتجاهات الفقهية التي تناقش فكرة المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي هو بالأساس وضع أرضية من أجل تأسيس فكرة إما تؤيد مساءلة الموثقين الفرنسيين في إطار إشتراكهم مساءلة جنائية أو عدم إسناد المسؤولية إليهم، وذلك كله يصب في إطار المساءلة الجنائية للشخص المعنوي، ومن ثمة وجب تناول الاتجاه الحديث لقانون العقوبات الفرنسي، دون إغفال موقف التشريعات الخاصة من مساءلة الشخص المعنوي جنائيا.

إن القاعدة العامة التي سادت التشريعات العقابية المتتالية في فرنسا هي انتقاء المساءلة الجنائية للأشخاص المعنوية إذ صدرت تلك التشريعات خالية من ثمة نصوص صريحة تجرم أفعالا أو امتناعات تكون محلا للمساءلة الجنائية لتلك الأشخاص، و بالرغم من أن تلك القاعدة قد استقرت ردحا من الزمن في قوانين العقوبات الفرنسية في مراحل تطورها المختلفة، فإن المشرع الفرنسي عندما أدرك تزايد دور الأشخاص المعنوية واتساع مجال أنشطتها وتعاظم مخاطرها خصوصا في ظل الإمكانات الهائلة والقدرات الفائقة التي تتمتع بها ونزولا على مقتضيات الواقع وضرورة حماية المجتمع، اضطر إلى التصدي لهذه الأشخاص بإيراد بعض الاستثناءات على تلك القاعدة، فأجاز مساءلة الأشخاص المعنوية في حالات محددة تقررها التشريعات العقابية الخاصة، وبذلك يكون المشرع قد اعتنق المذهب التوفيقي الذي مفاده رفض تلك المسؤولية كقاعدة عامة وقبولها على سبيل الإستثناء[8].

ولم يكتف المشرع الفرنسي بإقرار المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي صراحة بل ذهب أبعد من ذلك حينما صدر في 16 كانون أول 1992 القانون الذي حدد قواعد الإجراءات الجزائية المتبعة في محاكمة الشخص المعنوي (المواد من 706- 706/46)[9].

من خلال ما تم تحليله، يتبين لنا أن قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1992 قد أخذ بفكرة إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي مراعيا في ذلك متطلبات الواقع التي تحتم توقيع الجزاء ليس على الأشخاص الذاتية وممثلي الشخص المعنوي فحسب بل كذلك على الشخص المعنوي ذاته، وعلى هذا الأساس، أورد قانون العقوبات الفرنسي الجديد الذي دخل حيز التنفيذ سنة 1994 مجموعة من العقوبات التي تتلاءم والحال مع طبيعة الشخص المعنوي، على سبيل المثال: ثم إقرار الغرامة كعقوبة تقع على الشخص المعنوي” خمسة أضعاف للغرامة المطبقة على الشخص الطبيعي لذات الجريمة المرتكبة، ومن الممكن إيقاعها في جرائم الجنايات و الجنح و المخالفات بعكس العقوبات الأخرى التي لا تطبق إلا في حالات الجنح و الجنايات (المادتين 131/37 و 131/39).

وبموازاة ذلك، هناك عقوبة قاسية تتمثل في حل الشخص المعنوي، وتؤدي بذلك إلى إنهاء حياته.

ونستنتج من المادة 131/38 من قانون العقوبات الفرنسي أن مساءلة الشخص المعنوي جنائيا يمكن أن تكون في صورة حظر ممارسة النشاط المهني أو الاجتماعي، إذ يكون هذا الحظر إما بصورة نهائية أو لمدة خمس سنوات كحد أقصى.

علاوة على ذلك يتضح من مقتضيات المادة 131/46 من قانون العقوبات الفرنسي أن الشخص المعنوي يمكن أن يوضع تحت رقابة القضاء وهو تدبير مؤقت ويتم عن طريق تعيين نائب قضائي من قبل المحكمة تقوم بتحديد مهمته، ويجب على هذا الوكيل أن يقدم إلى قاضي تطبيق العقوبات كل ستة أشهر تقريرا عن سير مهمته.

من هنا يتضح لنا جليا أن قانون العقوبات الفرنسي جاء بمجموعة من المقتضيات الزجرية الهادفة إلى توقيع الجزاءات الجنائية على الشخص المعنوي حماية لمصالح الدولة و الخواص.

تضمنت التشريعات العقابية الفرنسية- سواء ما يخص منها المجتمع الفرنسي أو ما يتعلق بالمستعمرات الفرنسية- خلال مراحل تطورها المختلفة تطبيقات عديدة للمذهب التوفيقي، ذلك أن المشرع الجنائي في فرنسا وإذا كان قد ظل وفيا لقاعدة رفض المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية ردحا طويلا من الزمن إلا أنه قد اضطر للخروج على مقتضى تلك القاعدة في عدة مجالات ينحصر أغلبها في ميدان الجرائم الاقتصادية، إذ أًصدر مجموعة من النصوص العقابية التي تنطوي على إجازة تلك المسؤولية على سبيل الاستثناء من القاعدة العامة وذلك بقصد التصدي للمخاطر الناجمة عن مباشرة الاشخاص المعنوية لأنشطتها المختلفة [10].

ومن بين القوانين التي تساءل الشخص المعنوي مساءلة جنائية نجد القانون الصادر في 17/03/1905 بشأن شركات التأمين على الحياة حيث نصت المادة 15 منه على أن:” تعاقب الشركات التي تخالف نصوص هذا القانون بدفع غرامة لا تقل عن مائة فرنك ولا تزيد عن ألاف فرنك، وفي حالة العود لا تقل الغرامة عن خمسمائة فرنك ولا تزيد عن عشرة ألاف فرنك”، و بالتالي نخلص أن قانون شركات التأمين على الحياة تسئل بصورة شخصية ومباشرة وذلك بشكل مستقل عن الأشخاص الذاتيين المكونين للشخص المعنوي.

هناك كذلك قانون مهم يتصل بشكل مباشر بموضوعنا و الذي سيعطينا نظرة حقيقية عن مدى إمكانية توقيع العقوبات على الموثقين في إطار تنظيمي، هذا القانون هو القانون رقم 1130 الصادر في 31/12/1971 بشأن تنظيم المهن القانونية و القضائية، حيث اوردت المادة 67 منه ما يلي: “في حالة حظر ممارسة العمل الاستشاري في المجال القانوني لأحد الأشخاص و شغل هذا الشخص لإحدى الشركات المدنية للمحامين والاستشارات القانونية، سواء بشكل قانوني أو واقعي، فإنه يجوز الحكم بحرمان تلك الشركة من إعطاء الاستشارات أو إبرام مقترحات قانونية”. ويعد هذا الجزاء من قبيل العقوبات الملائمة لطبيعة الأشخاص المعنوية في رأينا و ليس مجرد تدبير[11] .

من خلال كل ما سبق، يتضح أن تعدد التشريعات الفرنسية التي تسند المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي ما هو إلا توجه يعبر عن نية المشرع الفرنسي في عدم إفلات الاشخاص المعنوية من العقاب ترسيخا منها للدور الذي أصبحت تقوم به تلك الأشخاص على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي.

2-2  أساس مساءلة الموثقين الفرنسيين في إطار اشتراكهم مساءلة جنائية

 

إن رصد الاتجاهات الفقهية التي تبرز الإطار النظري لفكرة إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي لم تكن بمحض الصدفة، بل كان الهدف منها البحث في موضوع الاشتراك بين الموثقين أو المشاركة في ظل القانون الفرنسي ثم القانون المغربي الذي سوف نولي له عناية خاصة عند دراستنا لموضوع إمكانية مساءلة الموثقين في إطار اشتراكهم مساءلة جنائية وذلك في محور خاص.

فيما يخص القانون الفرنسي، سنتولى بداية وضع الاطار النظري والقانوني لمساءلة الموثقين في إطار إشتراكهم ، ثم بعد ذلك سنتناول مدى إمكانية مساءلة الموثقين في إطار الاشتراك مساءلة جنائية.

في فرنسا تتعدد صور إشتراك الموثقين فيما بينهم في إطار شركات مدنية، والتي تكون في الأصل إما شركة مدنية مهنية « société civile professionnelle »، أو شركة مقتصرة على الوسائل « société de moyens ». في هذا الصدد يتعين القول أن إشتراك الموثقين يكون إما اشتراكا مهنيا أو إشتراكا في الوسائل التي تيسر المهام التوثيقية.

فيما يخص الاشتراك المهني بين الموثقين، فإن القانون الفرنسي يميز بين إطارين ألا وهما: الشركة المدنية المهنية ذات مكتب توثيقي واحد والشركة المدنية المهنية للموثقين. بالنسبة للنوع الأول من الشركات فإن الموثقين في إطار إشتراكهم لا يتوفرون على مكتب لممارسة مهامهم، إذ يمارسون تلك المهام في مكتب توثيقي واحد  بإسم الشركة التي لها أن تعين الموثق المكلف بإبرام العقود، ومن ثم فإن القانون يمنح صفة الموثق إلى الشركة موضوع الدراسة [12].

أما بالنسبة للشركة المدنية المهنية للموثقين فلا تتوفر على مكتب توثيقي واحد بل كل الموثقين يمارسون مهامهم كل في مكتبه[13].

كل تلك الشركات المدنية المهنية هي منظمة في فرنسا بمقتضى قانون 29 نونبر 1966، مكملة بمجموعة من الظهائر لمجلس الدولة[14] ،ومن بين شروط تأسيسها أن كل المهنيين الشركاء بما فيهم مثلا المحاميين، الخبراء المحاسبين و الموثقين يجب أن يمارسوا مهامهم بشكل مشترك و حصولهم على ديبلومات التي تخول لهم القيام بمهامهم هو شرط ضروري، وهذا المقتضى الأخير تم التنصيص عليه في المادة 3 من قانون 29 نونبر 1966.

أما فيما يتعلق بطريقة تسيير الشركة المدنية المهنية للموثقين، فإن هذه الشركة تتلقى بإسمها الخاص كل المستحقات و الأتعاب بمناسبة ممارسة النشاط المهني من طرف الموثقين المشاركين، وتقوم الشركة على هذا الأساس بتوزيع الأرباح بين الموثقين الشركاء، غير أن توزيع الأرباح يمكن أن يتفاوت بين هؤلاء الموثقين بالنظر إلى المهام المسندة لكل واحد منهم وحصة الخدمات المقدمة من طرفهم [15].

بعدما تطرقنا إلى الشركات المدنية المهنية المؤسسة بين الموثقين والتي تساهم في التعاون و التعاضد المهني بين الموثقين في إطار إبرام العقود و السهر على إكتمال المسطرة القانونية المتعلقة بالصفقات المحررة موضوع الاستشارة القانونية، سنسلط الضوء على صنف آخر من الشركات التي يمكن للموثقين أن يؤسسوها فيما بينهم لتيسير ممارسة نشاطهم المهني وهي الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل التي ليس لها نفس الأهداف مقارنة مع الشركات المدنية المهنية للموثقين التي تسعى إلى توحيد النشاط المهني بين مختلف الموثقين الشركاء، بل على العكس من ذلك فالغاية من تأسيس الشركات المدنية المقتصرة على الوسائل هو تسهيل ممارسة النشاط المهني التوثيقي بين الموثقين الأعضاء في الشركة بتوفير كل الوسائل الممكنة لتيسير أداء تلك المهام التوثيقية [16].

اعتمادا على ما سبق فإن الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل على خلاف الشركة المدنية المهنية التي تعد شركة تهدف إلى الممارسة المشتركة في الوظيفة، تهدف إلى خدمة أعضائها ولا تقوم الشركة ذاتها بممارسة النشاط المهني، وهذا ما تم التنصيص عليه في المادة 36 من قانون 29 نونبر 1966، إذ تعتبر الشركة المقتصرة على الوسائل شركة ثانوية تشبه إلى حد ما المجموعات ذات النفع الاقتصادي « groupement d’intérêt économique » [17]، في هذا الإطار تقوم هذه الشركة بتوفير الوسائل التالية : كراء محلات مشتركة معدة للاستغلال و الاستعمال المهني، كتابة مختصة مشتركة لتسهيل عمل الموثقين، الاشتراك في الخدمات المحاسباتية و المعلوماتية، عمال النظافة إلى غير ذلك.

إنطلاقا مما سبق يظهر لنا بشكل بين أن القانون الفرنسي قد عدد من أشكال الاشتراك بين الموثقين سواء في نسق خاص بالاشتراك في النشاط المهني وكذلك في إطار تعاون الموثقين في الوسائل اللوجيستيكية التي تمكن من ممارسة النشاط المهني.

من أجل معرفة التوجه الذي اعتمد عليه المشرع الفرنسي في إبراز مدى إمكانية مساءلة الشركة المدنية للموثقين مساءلة جنائية، ارتأينا الانطلاق من مقتضيات المادة 121-2 الفقرة 1 من القانون الجنائي الفرنسي المعدلة بموجب قانون رقم 2004-204 بتاريخ 9 مارس 2004 الذي دخل حيز التنفيذ في 31 دجنبر 2005، إذ يستنتج من المادة السابقة أن الأشخاص المعنوية هي مسؤولة مسؤولية جنائية عن الأفعال الجرمية المرتكبة من طرف الأجهزة التابعة لها أو ممثليها، غير أن مساءلة الشخص المعنوي جنائيا لا يمكن من إعفاء الأشخاص الذاتيين من ترتيب المسؤولية الجنائية عليهم التابعين للشخص المعنوي (المادة 121-2، الفقرة 3 من القانون المذكور). في نفس السياق، فإن ترتيب المسؤولية على الشخص المعنوي تتحقق بوجود شرطين أساسيين:

الأول هو إحترام مبدأ الشرعية الجنائية و الثاني ضرورة اقتراف الأفعال الجرمية قانونا من طرف ممثلي الشركة لحساب الشخص المعنوي [18] .

علاوة على ذلك جاء القانون الجنائي الفرنسي الصادر سنة 1994 بجملة من المقتضيات القانونية التي تحدد إطار المساءلة الجنائية للشخص المعنوي شأنه في ذلك شأن الشخص الذاتي، بحيث يمكن أن تثار مسؤولية الشركة المدنية للموثقين في إطار المادتين 441-2و 313-9 قد جاءت المادة 441-2 من القانون السالف الذكر المتعلقة بالتزوير في محرر عمومي بقاعدة قانونية مؤداها مؤاخدة كل مؤسسة عمومية سلمت وثيقة تبين حق أو هوية أو صفة أو تمنح رخصة، تعاقب بخمس سنوات سجنا وغرامة قدرها خمس وسبعين ألف أورو. في هذا الإطار يتبين لنا بشكل واضح أن القانون الفرنسي قد عاقب المؤسسة العمومية المقترفة للتزوير العمومي بغرامة تقدر بخمس وسبعين ألف أورو لكن الإشكال الذي يطرح تعقيدات هو مدى تصور توقيع عقوبة سالبة للحرية على الشخص المعنوي، غير أن المشرع الجنائي الفرنسي من رأينا قد أورد تلك العقوبات السالبة للحرية قاصدا توقيعها على الشخص الذاتي لا المعنوي بحيث أن الأشخاص الذاتيين وخصوصا الموثقين بصفتهم مفوضي السلطة العمومية الممارسين لمهامهم في إطار الشركة المدنية للتوثيق العصري يمكن أن تترتب عليهم مقتضيات المادة 441-2 المذكورة سالفا تحت لواء ممارسة المهام التوثيقية.

فيما يتعلق بالمادة 313-9 من القانون الجنائي الفرنسي التي تنص على جريمة النصب فإن العقوبة المقررة للشخص المعنوي يمكن أن تتخذ صورة غرامة لايمكن أن تتجاوز أربعة أضعاف الغرامة المقررة للشخص الذاتي وذلك وفق المادة 131-38 من القانون السالف الذكر، إضافة إلى ذلك فإن القانون الجنائي الفرنسي قرر عقوبات إضافية على إثر إرتكاب جريمة النصب استنادا للمادة 131-39 نذكر من بينها حل الشخص المعنوي، المنع الدائم أو المؤقت لمدة خمس سنوات أو أكثر لممارسة نشاط أو مجموعة من الأنشطة المهنية بشكل مباشر أو غير مباشر، الوضع تحت المراقبة القضائية لمدة خمس سنوات أو أكثر، غلق المقاولة التي اقترفت فيها الجريمة، لمدة خمس سنوات أو أكثر، غير أن ما يتضح في الأمثلة السابقة ذكرها أن الشخص المعنوي لا يمكن أن يكون موضوع وضع تحت المراقبة القضائية وهذا ما يؤكد على أن المشرع الفرنسي قد رتب المسؤولية الجنائية على الشخص المعنوي في مجموعة من الحالات دون إغفال إسناد تلك المسؤولية على الأشخاص الذاتية الذين يمثلون الشخص المعنوي و الذين يمارسون في إطاره كل الأنشطة المهنية موضوع المساءلة الجنائية. في هذا الباب نخلص إلى أن المادتين السابقتين إرتبطتا بفكرة إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي وبالتالي يمكن ترتيب المسؤولية الجنائية في هاته الحالة على الشركة المدنية للموثقين، غير أنه يمكن تطبيق تلك المساءلة الجنائية على الشركة المدنية المهنية للموثقين استنادا للمادة 121-2 من القانون الجنائي الفرنسي دون الشركات المدنية المقتصرة على الوسائل خصوصا وأن الموثقين في الصنف الأول من الشركات يشتركون في الوظيفة التوثيقية لحساب الشركة، وبالتالي مساءلة الشركة تظل ضرورية دون إغفال مساءلة الموثقين الشركاء عن الأفعال الجرمية المقترفة في إطار التمثيلية.

لم يرد المشرع الفرنسي توسيع نطاق المساءلة الجنائية للشخص المعنوي بالنظر لحدود إمكانية مساءلة الشخص المعنوي مساءلة جنائية [19].

من هذا المنطلق فإن كل ما سبق التفصيل فيه يزكي فكرة اعتماد المشرع الفرنسي لمبدأ إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي على سبيل الاستئناس موفقا في ذلك بين جواز تطبيق المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي واستبعاد ذلك في حالة أخرى، فهل يا ترى حدى المشرع المغربي حدو المشرع الفرنسي في تقرير المسؤولية الجنائية على الشركة المدنية للموثقين باعتبارها شخصا معنويا؟

المحور الثاني: مدى إمكانية ترتيب المسؤولية الجنائية على الشركة المدنية للموثقين بالمغرب

 

جاء القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق رقم 32-09 الصادر سنة 2011 بزمرة من المقتضيات القانونية الجديدة التي تهم شأن الموثقين، والتي تساعد على تيسير تدبير مكاتب الموثقين بشكل يمكن معه ممارسة الوظيفة التوثيقية بصورة تتلاءم و الحال مع المستجدات القانونية الكونية، في نفس السياق سنحاول دراسة مفهوم المشاركة بين الموثقين و الوقوف على أوجه التشابه والاختلاف بين القانون الفرنسي و المغربي في موضوع الاشتراك بين الموثقين (1)،ثم سنتولى تحليل النتائج المترتبة عن اتخاذ المشرع المغربي لفكرة المساءلة الجنائية للشركة المدنية للموثقين مع إبراز دواعي تبني ذلك المنهج (2).

1/ الإطار العام للاشتراك بين الموثقين بالمغرب

 

كما أسلفنا الذكر فإن قانون 32-09 اعتمد مفاهيم جديدة على خلاف الظهير بمثابة قانون لـ 4 ماي 1925 المنظم لمهنة التوثيق، إذ أن الوقوف على مفهوم المشاركة بين الموثقين هو أمر في غاية الأهمية بغية تأسيس فكرة جواز مساءلة الموثقين في إطار اشتراكهم جنائيا أو عدم جوازها، بحيث يجب تبيان المقتضيات القانونية المصاحبة لفكرة المشاركة بين الموثقين.

1-1 مفهوم المشاركة في القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق

ثم إيراد مفهوم المشاركة بين الموثقين في القسم الثالث من القانون 32-09 متضمنا ست مواد (من 59 إلى 64) اهتمت بوضع أساس لتطبيق المشاركة بين الموثقين ، ثم سنعتمد دراسة المسطرة المتبعة لإبرام عقد المشاركة بين الموثقين.

تعني المشاركة بين الموثقين حسب المادة 59 من القانون رقم 32-09 إبرام عقد مشاركة بين موثقين أو أكثر في الوسائل اللازمة لممارسة مهنتهم وتسيير المكتب إذا كانوا معينين في نفس الدائرة الترابية للمحكمة الاستئنافية. على هذا الأساس فمفهوم المشاركة بين الموثقين يقتصر على الوسائل و الأدوات التي تسهل ممارسة النشاط التوثيقي وعلى سبيل المثال فالعمل في مكتب توثيق واحد مع أداء التكاليف المرتبطة بكراء مكتب الموثقين و تسديد فواتير الماء و الكهرباء، و الهاتف وأجور المستخدمين، هذه كلها وسائل لا تدخل في إطار الممارسة الفعلية للمهام التوثيقية بل هي أدوات تمكن من تبسيط ممارسة الوظيفة بين الموثقين.

ارتبط مفهوم المشاركة بين الموثقين استنادا إلى المادة 59 من القانون المذكور بالشركة المدنية المقتصرة على الوسائل التي لا يكون موضوع اشتراكها توحيد الممارسة المهنية، بل تقتصر فقط على الآليات اللوجيستيكية المساعدة على توفير الظروف الملائمة لأداء الوظيفة التوثيقية. في هذا الصدد، تظل المسؤولية شخصية عن العقود و المحررات التي ينجزها الموثق أو يتلقاها (المادة 62، الفقرة الأولى من القانون المذكور)، وهناك مستوى آخر تكون المسؤولية فيها كذلك شخصية للموثق وذلك عند حفظ أصول العقود و الوثائق التي بحوزته وعن مسك سجلاته وحفظهما (المادة 62، الفقرة الثانية من القانون المذكور).

وفي نفس السياق، إذا حدث نزاع مهني بين الموثقين، ولم يتوصل رئيس المجلس الجهوي للموثقين إلى التوفيق بينهم، يعرض النزاع وجوبا على تحكيم يقوم به موثقون يختار كل طرف أحدهم لهذه الغاية وينضم إليهم محكم معين من طرف رئيس المجلس الجهوي. لا يكون القرار المتخذ قابلا لأي طعن (المادة 62 من القانون المذكور).

تضمن قانون رقم 32-09 مجموعة من القواعد القانونية التي توضح المسطرة المتبعة لتأسيس عقد المشاركة بين الموثقين، ثم كيفية انتهاء عقد المشاركة.

يجب أن تكون المشاركة حسب المادة 59 من القانون رقم 32-09 محل عقد محرر بين موثقين أو أكثر تراعى فيه مقتضيات القانون السالف الذكر، وينص فيه خاصة على ضمان الاستقلال المهني للموثق وتقيده بالسر المهني. تجدر الإشارة أن نموذج العقد المذكور يصدر عن المجلس الوطني للموثقين، بحيث تسلم نظائر عقد المشاركة لكل من وزارة العدل و المجلس الجهوي للموثقين و الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف المعين بدائرتها الموثقون المتشاركون و الوكيل العام للملك لديها. وفي هذا الإطار يمكن لوزير العدل أن يطلب من الموثقين تعديل اتفاقهم إذا اعتبره منافيا لقواعد المهنة، فاستنادا للمادة 61 من القانون المذكور إذا لم يبث وزير العدل في الطلب داخل أجل ثلاثة أشهر من توصله بالعقد، يصبح العقد نافذ المفعول.

على العموم تنتهي المشاركة في الحالات التالية وذلك حسب ما تم التنصيص عليه في المادة 63 من القانون المذكور:

تجدر الإشارة إلى أن المادة 64 من القانون المذكور نصت على تضمين جميع عمليات تصفية المشاركة في محضر بحضور الموثقين المتشاركين أو من يمثلهم، تحت مراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف التي يوجد بها مكتب المتشاركين أو من ينتدبه لذلك، وممثل عن الوزير المكلف بالمالية وكذلك رئيس المجلس الجهوي للموثقين أو من ينوب عنه، كما أنه يمكن عن الاقتضاء الاستعانة بخبير محاسب.

1-2 دراسة مقارنة للاشتراك بين الموثقين بين القانونين الفرنسي  و المغربي

 

حاولنا سلفا تقديم صورة حقيقية للإطار القانوني الذي ينظم الاشتراك بين الموثقين على ضوء القانون الفرنسي،  بحيث خلصنا إلى أن المشرع الفرنسي ذهب في اتجاه تكريس فكرة إسناد المسؤولية الجنائية للشركة المدنية للموثقين، ثم كانت دراسة مفهوم المشاركة في القانون المغربي حتمية للوقوف على المستجد القانوني المرتبط بإبرام عقد المشاركة بين الموثقين. في هذا الإطار سنسعى إلى مقارنة اشتراك الموثقين بين القانونين الفرنسي و المغربي، ثم دراسة الآثار الناجمة عن اختيار بنية الاشتراك في القانونين الفرنسي و المغربي.

في فرنسا، أورد قانون رقم 29 نونبر1966 المتعلق بالشركات المدنية المهنية أصناف الشركات المدنية التي على ضوءها يمكن الإشتراك بين الموثقين، فكما أسلفنا الذكر أن الشركات المدنية المؤسسة من لدن الموثقين يمكن أن تكون في صورة شركات مدنية ذات مكتب واحد وشركات مدنية مهنية للموثقين، وكذلك شركات مدنية مقتصرة على الوسائل.

أما القانون المغربي الجديد المنظم لمهنة التوثيق الصادر سنة 2011 لم يشر بتاتا إلى نوع الشركة المدنية التي يمكن للموثقين تأسيسها، بل اقتصر على ذكر خصائص البنية التي يمكن على أساسها إبرام عقد المشاركة بين الموثقين، فمن بين مميزات تلك البنية نجد أن المشاركة بين الموثقين جاءت لتيسير عمل الموثقين فيما بينهم بناءا على الوسائل اللازمة لممارسة مهنتهم وإدارة وتسيير المكتب، ونخص بالذكر أن القانون رقم 32-09 جاء بمفهوم جديد على خلاف القانون الفرنسي وهو مفهوم المشاركة بين الموثقين، فاختيار ذلك المفهوم في نظرنا لم يكن اعتباطيا بل ينطوي على فكرة أساسية وهي أن المشاركة تتضمن الوسائل فقط دون الأنشطة الوظيفية للموثقين.

انطلاقا مما سبق يتبين لنا أن المشرع المغربي في القانون رقم 32-09 لم يتبنى موقف قانون الشركات المدنية المهنية الصادر في سنة 1966 بأخذه لنوع واحد من الاشتراك بين الموثقين ألا وهو الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل.

في فرنسا، فإن أول آثر ينتج عن اختيار الموثقين للشركة المدنية المهنية«société civile professionnelle » هو تحمل الشركة تبعات الأفعال الجرمية المقترفة من طرف ممثليها (الموثقين الشركاء) وذلك استنادا للمادة 121-2 من القانون الجنائي المعدلة بموجب قانون رقم 2004-204 بتاريخ 9 مارس 2004 الذي دخل حيز التنفيذ في 31 دجنبر 2005 في نفس السياق فإن الشركات المدنية المقتصرة على الوسائل لا يمكن أن تتحمل تداعيات الأنشطة الجرمية المرتكبة من طرف الموثقين الشركاء لأن غرض إنشاء الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل ليس الاشتراك في الوظيفة التوثيقية بين الموثقين بل تعاون في السبل و الآليات اللوجيستيكية لممارسة أفضل لمهنة التوثيق.

يلاحظ أن الشركات المدنية المهنية أثناء القيام بمهامها تتوفر على خاتم الشركة تقوم بالتأشير على كل المحررات و الوثائق التي تشهد عليها، بما فيهم العقود المبرمة، أما في القانون المغربي فإن اختيار البنية التي على ضوءها يمكن الاشتراك بين الموثقين لا تطرح أي إشكال خصوصا وأن القانون رقم 32-09 قد تبنى نوع واحد من الشركات المدنية للموثقين ألا وهي الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل« société civile de moyens » ولو لم يتم التنصيص على عبارة الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل في نفس القانون.

استنادا لما سبق يتعين القول أن القانون الفرنسي وسع من نطاق الاشتراك بين الموثقين على أساسين إثنين، الأول يكمن في كثرة الشركات المدنية للموثقين التي على ضوءها يمكن اشتراك الموثقين فيما بينهم، و الأساس الثاني قوامه مساءلة الشركة المدنية المهنية للموثقين وعدم جواز ترتيب المساءلة الجنائية على الشركات المدنية المقتصرة على الوسائل، هذا الأساس ما هي الأسباب التي تبرر اتخاذ المشرع المغربي فكرة المشاركة بين الموثقين و النتائج المترتبة عن تبني ذلك الموقف؟

2/ الإطار الخاص للمشاركة بين الموثقين في ظل القانون المغربي

 

بعد إستقرائنا لأهم الأسس التي اعتمد عليها القانونين الفرنسي و المغربي في إقامة فكرة اشتراك الموثقين و النتائج المترتبة عنها فيما يخص إمكانية ترتيب المسؤولية الجنائية على الشركات المدنية المهنية في فرنسا، وعدم جواز ترتيب تلك المسؤولية على الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل بالمغرب، سنهتم في هذا النسق بتناول الأسباب المبررة لتبني مفهوم المشاركة بين الموثقين بالمغرب ، دون أن ننسى تحليل النتائج المترتبة عن اختيار توجه المشاركة بين الموثقين في نفس القانون.

2-1 الأسباب المبررة لتبنى القانون المغربي فكرة المشاركة بين الموثقين

 

إن الخوض في مناقشة دواعي تبني المشرع المغربي للمشاركة بين الموثقين سيمكن لا محال من استنباط التوجه العام الذي سار عليه المشرع فيما يخص الاشتراك بين الموثقين وما مدى اقتباسه من المشرع الفرنسي للقواعد التي تحكم فكرة الاشتراك بين الموثقين، من هذا المنطلق سنتناول مبدأ شخصية العقوبة ، ثم سندرس مشاركة الموثقين في مكتب واحد.

·        مبدأ شخصية العقوبة في إطار مفهوم المشاركة بين الموثقين

 

لم تكن إرادة المشرع المغربي في القانون رقم 32-09 متجهة لخلق إطار جديد يدمج كل الموثقين الساعين إلى الاشتراك فيما بينهم في إطار شركة مدنية يمكن مساءلتها مساءلة جنائية، بل كان الهدف من إدارج المشاركة بين الموثقين هو سن نظام جديد يسهل على الموثقين الذين يصعب عليهم تحمل أعباء المكتب بمفردهم، إلا أن مسؤولية كل موثق تبقى قائمة بالنظر للأفعال الجرمية المقترفة من كل موثق بصفة منفردة، وبالتالي نجد أن مبدأ شخصية العقوبة هي السائدة في القانون المغربي، ولا يمكن مساءلة الشركة المدنية المقتصرة على الوسائل « société civile de moyens » مساءلة جنائية.

·        المشاركة بين الموثقين في مكتب واحد

 

أراد المشرع المغربي في القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق رقم 32-09 أن يحل بعض المشاكل التي تعترض الموثقين أثناء ممارستهم لمهامهم، على سبيل المثال، ارتفاع تكلفة تجهيز المكتب التوثيقي، غلاء ثمن كراء المحلات ذات الاستعمال المهني إلى غير ذلك من التكاليف التي تظل عبئا كبيرا على الموثقين الراغبين في ممارسة نشاطهم المهني، فالعلة هنا في إدراج المشاركة بين الموثقين تجد مناطها في تيسير ظروف الاشتغال بين الموثقين.

2-2 النتائج المترتبة عن اختيار مفهوم المشاركة بين الموثقين بالمغرب

 

تمت الإشارة آنفا إلى دواعي تبني المشرع المغربي لمفهوم المشاركة بين الموثقين، إلا أن تلك الدراسة تقتضي منا مناقشة ليس الأسباب فحسب بل استعراض النتائج المترتبة عن اتخاذ فكرة المشاركة بين الموثقين على مستوى توقيع العقوبة ، وكذلك إبراز إستحالة ترتيب المسؤولية الجنائية على الشخص المعنوي.

يمكن القول أن عقد المشاركة المبرم بين الموثقين يرتب أثرين اثنين: الأول المسؤولية الشخصية للموثق على الوثائق و العقود والمحررات المنجزة من لدنه والتي يتلقاها، أما الأثر الثاني يكمن في المسؤولية الشخصية للموثق فيما يخص حفظ أصول العقود وكل الوثائق التي بحوزته ومسك سجلاته وحفظها، وكنتيجة لترتيب تلك المسؤولية على الموثق فإن هذا الأخير يكون مسؤولا جنائيا على كل الإخلالات التي تطال العقود المبرمة من لدنه وكل هدر للعقود والسجلات الواجب عليه حفظها على هذا السبيل إختار المشرع المغربي في نظرنا مساءلة الموثق بشكل منفرد ولو في إطار المشاركة باستبعاده لفكرة مساءلة الشركة المدنية للموثقين لصعوبة تطبيق الجزاء الجنائي عليها ولكثرة التعقيدات التي ترافق مسطرة حل الشخص المعنوي هذا من جهة، ولا يجب إغفال السند الذي منحته الدولة للموثق من أجل إبرام العقود و الحفاظ على كل محرر يتلقاه، فالدولة عندما تفوض سلطتها للموثق باعتباره ممثلا للسلطة العمومية أرادت أن يتحمل هذا الأخير المسؤولية بشكل كامل مستندا في ذلك إلى أخلاقيات المهنة وإلى الأمانة والشرف الهادف إلى استقرار المعاملات داخل المجتمع.

في معرض الحديث عن أشكال الشركات المدنية التي يمكن للموثقين تأسيسها بفرنسا، تطرقنا إلى أن الشركة المدنية المهنية يمكن أن تساءل مساءلة جنائية باعتبارها شخصا معنويا دون الشركات المدنية المقتصرة على الوسائل « société civile de moyens »، لكن المشرع المغربي اعتمد البنية السابقة للشركات كقاعدة عامة تحكم طبيعة الاشتراك بين الموثقين بالمغرب ومن هذا المنطلق اتخذ المشرع المغربي النسق السهل لاسناد المسؤولية الجنائية للشخص الذاتي “الموثق” دون الشخص المعنوي “الشركة المدنية”.

نخلص في الأخير إلى فكرة جوهرية مفادها أن موقف المشرع المغربي ظل محتشما بالنظر للموقف الذي سار عليه المشرع الفرنسي فيما يتعلق بترتيب المسؤولية الجنائية على الشركة المدنية للموثقين.

 

 

 

 

 

 

[1] – د. حسام عبد المجيد يوسف جادو، ” المسؤولية الجنائية للاشخاص المعنوية” دراسة مقارنة، دار الفكر الجامعي، الطبعة الأولى 2013 ص 101.

[2] – د. حسام عبد المجيد يوسف جادو، المرجع السابق ص 105-106

[3] – رامي يوسف محمد ناصر ” المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي عن جرائم اقتصادية” أطروحة لنيل الماجستير في القانون العام بكلية الدراسات العليا في جامعة النجاح الوطنية في نابلس فلسطين 2010، ص 9 و 10.

[4] – د.حسام عبد المجيد يوسف جادو،” المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية” ، دراسة مقارنة ، المرجع السابق، ص 170

 

[5] – د.حسام عبد المجيد يوسف جادو، نفس المرجع ص 101.

 

[6] – د.حسام عبد المجيد يوسف جادو، المرجع السابق ص 102، 103.

[7] – د.حسام عبد المجيد يوسف جادو، المرجع السابق ص 217، 218.

[8] -د.حسام عبد المجيد يوسف جادو، المرجع السابق ص: 262

[9] -د.أنور محمد صدفي المساعدة ” المسؤولية الجنائية عن الجرائم الاقتصادية” دراسة تحليلية تأصيلية مقارنة في التشريعات الأردنية و السورية و اللبنانية و المصرية و الفرنسية وغيرها، دار الثقافة – للنشر و التوزيع 2007، الطبعة الأولى الإصدار الأول ص 412.

[10] – د. حسام عبد المجيد يوسف جادو، المرجع السابق ص 263.

 [11]- د. حسام عبد المجيد يوسف جادو، المرجع السابق ص 272.

 

[12] Me Med fayçal EL Aoufir, « la fonction notariale » imprimerie Beni Snassen, dépôt légal, 2008/0237, page 225 et 226.

 

[13] Me Med fayçal EL Aoufir,  opcite, page 226.

[14] Maurice COZIAN, Alain VINDIER, Florence de BOISSY, « droit des sociétés », litec, Groupe lexis nexis, 16 eme édition, du juris classeur,2003, page 591.

[15] Maurice COZIAN, Alain VINDIER, Florence de BOISSY« droit des sociétés », litec, Groupe lexis nexis, 16 eme édition, du juris classeur,2003, page 593.

[16] Me Med fayçal EL Aoufir, opcite, page 226.

[17] Maurice COZIAN, Alain VINDIER, Florence de BOISSY,  opcite, page 594.

 

[18] – Jeanne de POULPIQUET, « Responsabilité des notaires, civile. disciplinaire, pénale ». Deuxième édition, Mai 2009. Dalloz, page 238-239

[19] – Jeanne de POULPIQUET, opcite- page 239

 

Exit mobile version