Site icon مجلة المنارة

الضريبة والاقتصاد غير المهيكل

الضريبة والاقتصاد غير المهيكل

الدكتور عبدالصمد أكداش

        أستاذ مساعد

كلية العلوم الاقنونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق

 

إن أهم اسباب ظهور ونمو القطاع غير المنظم تتمثل في الأنظمة الضريبية غير العادلة والضغط الضريبي المرتفع[1]، والأنظمة السياسية غير المتبنية لمشروع مجتمعي عادل[2]

 

إن ارتفاع نسب وأسعار مساهمة الأفراد في الضريبة والضمان والتأمينات الاجتماعية ومعاشات التقاعد تدفع معظمهم إلى البحث عن وظائف أخرى خفية أو غير رسمية تكميلية لدخولهم الهزيلة أصلا، خاصة وأن مستويات الأجور المادية ضعيفة ولا تتناسب مع مستوى المعيشة ولا تضمن العيش الكريم.

 

إننا ننطق من مسلمة أنه كلما كان الضغط الضريبي مرتفعا إلا وعاق النمو الاقتصادي بكل أصنافه، ونعتبر هروب القطاع غير المنظم من التضريب والخضوع للأنظمة الجبائية دافعا  أساسيا لنموه وازدهاره، وبالتالي فإننا نتعامل مع الاقتصاد غير المنظم كواجهة من واجهات التهرب الضريبي والهروب والامتناع الضريبي، فالضريبة سبب من أسباب نشأة القطاع غير المنظم والتهرب الضريبي هو فضاء لممارسة مقاومة عنف الضريبة.

 

إن التهرب الضريبي نتعامل معه كظاهرة شاذة اقتصادية وماليا واجتماعيا، ويمارس تأثيراته السلبية على الإقتصاد والمجتمع والمالية العمومية.

 

لا يمكننا إلا الجزم بأن للتهرب أسباب متعددة ومتداخلة ومتفاعلة، ولابد من مقاربتها وتفكيكها حتى يمكن فهمها وإيجاد الحلول المناسبة للحد من هذه الظاهرة كظاهرة معيقة للعدالة الضريبية وللمنافسة الاقتصادية والمردودية المالية والتي تشكل حافزا من الحوافز الأساسية لنمو الاقتصاد غير المنظم.

من هذه الأسباب ما يتعلق بالتقنيات الضريبية وبالقانون الجبائي نفسه، ومنها ما يتعلق بالممارسات الإدارية، وبالإدارية الضريبية، ومنها ما يعود لعوامل نفسية تهم المكلفين الضريبيين ولدرجات المواطنة الضريبية، وأخيرا منها ما يعود لعوامل سياسية تضبط السياسة الضريبية للدولة وسياستها العمومية.

 

الأسباب الجبائية :

هي أسباب ترتبط بالقانون الضريبية في حد ذاته، فهذا القانون لا يتوفر ولا يتمتع بصرامة ووضعية القوانين الأخرى، لأن بعض المبادئ العامة التي تحكم القوانين الأخرى تنقصه أو تتقلص درجاتها، فمبادئ العمومية والاستمرارية والحياد ليست بالصرامة نفسها في القانون الضريبي، ولهذا السبب يقول “بول ماري كودمي” أن عدم تمتع القانون الجبائي بنفس وضعية القوانين الأخرى يجعله يحظى باحترام أقل وذلك نظرا لسماته الخاصة[3]، وذلك بالإضافة إلى تعقيد النظام الضريبي الذي نعتبر أن له دورا كبيرا في التهرب.

 

فبخصوص المبادئ وإذا ما تناولنا مبدأ العمومية فنجد عدة استثناءات ترد عليه وخاصة ما يهم تشخيص الضريبة، أي اعتبار الشخص المكلف وأعباؤه، وأيضا ما يهم تلك المزايا الضريبية من إعفاءات وتخفيضات وتنزيلات لفائدة بعض القطاعات الاقتصادية لتشجيعها على الاستثمار والتنافس والتشغيل، فالبعض يستفيد من تلك المزايا الضريبية والآخر وهو الأكثر عددا لا يستفيد من ذلك، مما يدفعه إلى التهرب وهكذا فإن سياسة الميزية المطبقة بشكل عام في المادة الجبائية تمس سلبا مبدأ عمومية  القانون الجبائي[4]، وهذا يدفع إلى البحث عن قنوات اقتصادية لا تطالها الضريبة ومثالها الأساسي الاقتصاد غير المنظم.

 

كما أن مبدا استمرارية القاعدة القانونية ليس له تطبيق صارم في القانون الجبائي وذلك بموجب التعديلات المستمرة التي يعرفها المثن الجبائي عبر قوانين المالية السنوية وعبر القوانين التعديلية وعبر الإصلاحات الجبائية التي تدخل على مكوناته وعبر المذكرات الداخلية لوزارة المالية وإدارة الضرائب[5]، الشيء الذي يخلق نوعا من عدم الاستقرار في النص الجبائي، وعدم الاستقرار هذا يعد عنصرا مهما من عناصر تعقيد القوانين الضريبية[6]، وطبعا نعتبر التعقيد من الأسباب الأساسية والدافعة للتهرب  الضريبي.

 

أما بخصوص مبدا الحياد الذي يعتبر من المبادئ القانونية المقدسة فهو يعرف تقلصا في مستوياته بفعل هيمنة مديرية الضرائب وخلفها وزارة المالية في وضع التشريعات الضريبية وهندستها وفي تنفيذها وتطبيقها وحتى في مرحلة التنازع تكون لها الغلبة بفعا إمكانياتها ومعرفتها وتقنيتها وتدخلاتها.

 

وبهذا الصدد لا يمكننا أيضا تجاهل فعل وممارسات جماعات الضغط الضريبية (اللوبي الضريبي) التي تحاول الاستفادة من البنيات الضريبية قدر الإمكان بضغوطات اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية.

 

وداخل هذه الأسباب الجبائية نولي أهمية خاصة لسمة التعقيد التي تميز النظام الضريبي المغربي والتي نعتبرها معاملا مضاعفا للتهرب الضريبي.

 

فالتعقيد التقني للنظام الجبائي يتيح للمكلف ممارسة الهروب الضريبي دون خرق ومخالفة القانون[7] عبر إعداد وتدبير موارده ودخوله بشكل يقلص فيه من مبلغ الضريبة، وهكذا وكلما كانت الضرائب متعددة ومعقدة كلما سهل التهرب منها عبر الإخفاءات والهروبات[8]

 

كما أن أنظمة وآليات التصريح، اي تصريح المكلف بدخله وبوعائه الضريبي، تمكن هذا الأخير بممارسة التهرب عبر إخفاء جزء من الدخول أو الأرباح أو المواد أو الخدمات موضوع التضريب.

 

فرغم وجود إمكانيات المراقبة من طرف الإدارة الضريبية فإن نظام التصريح يظل بابا مفتوحا لتخفيض الدخول[9] خصوصا إذا ما ربطنا ذلك بضعف المواطنة الضريبية لدى المكلفين الضريبيين والذين يتحينون ويتصيدون كل فرصة لتقليص ضرائبهم.

 

         أما بالنسبة لنظام التقدير الجزافي للوعاء الضريبي فهو بطبيعته يقلص من حجم الأوعية الضريبية وبالتالي من مبالغ الضريبة مقارنة بنظام التقدير الفعلي[10] ذلك لأن الأنظمة الجزافية هي بطبيعتها تعرف تقديرا ناقصا للدخل الخاضع للضريبة[11]

 

وإذا كان المشرع المغربي اعتمد الجزاف القانوني بالنسبة لتحديد الوعاء الضريبي في بعض القطاعات كالفلاحة مثلا أو في بعض المهن المحددة بلوائح، وهو جزاف صلب ومن شأنه أن يقلص إمكانيات التهرب، إلا أنه على المستوى التطبيقي يمكن أن نعاين نوعا من سيطرة الجزاف الشخصي والذي يسمى أيضا الجزاف المرن، وهذا الأخير يفتح باب التفاوض ما بين المكلف ورجل الإدارة الضريبية الشيء الذي من شأنه توسيع إمكانيات التهرب والرشوة والمحسوبية.

 

ب – الأسباب الإدارية :

إن التطبيق السيء للضريبة من شأنه أن يفتح طرقا عديدة للتهرب الضريبي بمختلف تجلياته[12]، هذا التطبيق يتم بطبيعة الحال من طرف الإدارة الضريبية، فكيف يمكن اعتبار الإدارة الضريبية أو بالأحرة ممار ستها سببا من اسباب التهرب ؟

 

هناك عدة مقاربات للتفسير، الأولى وتتعلق بغياب وحدة إدارية جبائية متناغمة ومتناسقة، وذات إمكانيات لوجيستيكية وبرامج معلوماتية قادرة على تركيب تحيين المعطيات ووضع جذاذات وطنية للضرائب في علاقة مع كل الفاعلين المؤسساتيين من جهة والفاعلين الاقتصاديين والمهنيين الخواص حتى يسهل دوران المعلومة الاقتصادية والمالية.

 

ومن جهة ثانية إن الضعف العددي للمراقبين الجبائيين إنما يلعب سلبا في أية محاولة للتقليص من مستويات التهرب الضريبي، ويزداد الأمر حدة إذا علمنا أن نظام التصريح أو الإقرار أصبح مهيمنا في النظام الضريبي المغربي ولكن تصريحات المكلفين عليها أن تخضع للمراقبة إجبارا حتى نستطيع تقييمها وتصحيحها بشكل يقارب فعليا المقدرة التكليفية التي هي أساس العدالة الضريبية والمساواة أمام الضريبة. وهذا الضعف العددي للمراقبين[13]  وهو ما يفسر اللجوء إلى المراقبة على الأوراق بدل المراقبة في عين المكان[14] والتي تعتبر فعلا رقابيا مهما جدا

 

ج- الأسباب السيكولوجية :

إن الأسباب النفسية تتعلق بالمكلفين الضريبيين، ذلك أن ثمة سيكلوجية خاصة لمقاومة الضريبة وتقليص مبلغها، وهذه الظاهرة هي ظاهرة إنسانية وبالتالي عامة يشترك فيها كل المكلفين بطبيعة الحال وتختلف درجاتها حسب التشبع بروح التضامن والمواطنة الضريبية وحسب الحس بالشأن العام والمصلحة العامة وحسب شرعية وديمقراطية وصلاح النظام السياسي نفسه.

 

فالعديد من المكلفين ليس لدسهم أي إحساس بالذنب أو الخطأ الأخلاقي عندما يمارسون سلوكات لإنقاص واجباتهم الضريبية، فبالنسبة لعلماء النفس الاجتماعي أن أداء  الضرائب يظهر أنه أداء دون محرضات سيكولوجية، بل إن بعض الاستطلاعات العامة للرأي أثبتت أن الواجب الضريبي لا يمس في شيء أخلاق ووعي الشخص[15]، وهذا ما يجعل الاقتصاد غير المنظم يأخذ بشكل عام طابعا شرعيا ومقبولا[16]، لأنه يتهرب من الضرائب.

 

وبالنسبة للوسط السوسيولوجي والنفسي المغربي فمقاومة الضريبية كانت تاريخيا حاضرة، فتسمية بلاد السيبة مقابل بلاد المخزن كان أساسها ضريبيا بامتياز كما يرى عبد الله العروي[17].

 

ورغم حداثة الضريبة بمعناها الحالي بالمغرب، فقد كانت هناك ترسبات مقاومة الضريبة وتطورت مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمغرب حيث ساد الفقر والحيف الاجتماعي وهيمنة القلة على الثروات الوطنية وسوء توزيع الدخل الوطني، حتى أصبحت ظاهرة عامة كحالة فكرية وذهنية لمقاومة الضريبة وبالتالي للدولة، بل أحيانا كما يقول الزمراني تنتج عن عدم تفهم للحدث الضريبي في حد ذاته[18].

 

وهكذا نعاين موضوعيا انتفاء المواطنة الضريبية بالنسبة للمكلفين الضريبيين الشيء الذي يدفعهم لتوظيف كل الإمكانيات والآليات لتقليص مساهماتهم الضريبية عبر ممارسة كافة أشكال الهروب والتملص والتهرب الضريبي والقطاع فير المنظم فضاء لهذه الممارسات بامتياز.

 

إن المكلف بشكل عام يقوم بعملية حسابية بين ما يدفعه كوتجب ضريبي وبين ما يناله من خدمات المرافق العامة كمواطن، فيتضح له أن ما يضيع عليه أكثر مما يستفيد منه، وبالتالي يكتسب التهرب الضريبي تبريره السيكولوجي[19].

 

وأخيرا لابد من الإشارة إلى تزايد العبء الضريبي وارتفاع الضغط الضريبي العام بموجب تعددية الضرائب وبموجب المزايا الضريبية التي يستفيد منها البعض دون البعض الآخر وبموجب إمكانيات نقل العبء الضريبي والمتوفرة أيضا للبعض دون البعض الآخر، كلها يستبطنها المكلف وتترجم برفض سيكلوجي للقيام بالواجب الضريبي عبر ممارسات التهرب والهروب الضريبيين واللجوء إلى القطاع غير المنظم لتحقيق أقصى المردوديات الممكنة.    

 

د- الأسباب السياسية

إن غياب سياسة عمومية جبائية ومالية ذات شرعية ومصداقية سياسية لا يمكن أن ينتج عنه إلا مزيد من التهرب، ذلك أن الديمقراطية تفترض الوضوح والشفافية وسلطة القاعدة القانونية في مادة المالية العمومية، ومن هنا يقول “بيير جوكس” بأنه ليست هناك ديمقراطية دون مالية عمومية واضحة ودون شفافية وبدون قواعد قانونية ديمقراطية[20]

 

وهكذا فإن التدبير السيء للمال العام على مستوى اتخاذ القرار المالي الإنفاقي أو الضريبي من شأنه أن يخل بمعادلة الوضوح التي هي أساس العدالة، كما أن الضبابية في اتخاذ القرار المالي تعتبر غير مشروعة وغير عادلة[21]

 

ففي حالة التدبير السيء للمنتوج المالي الضريبي، وفي حالة عدم الاستجابية للحاجيات السيكولوجية للمكلفين وعدم تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المأمولة، فهذا ينتج بالضرورة مقاومات متعددة للضريبة.

 

كما أن إنفاق المال العام في نفقات السمعة والدعاية السياسية والبذخ الإداري من شأنه أن يخلق نفس المقاومة، ولهذا فإن التدبير المغامر لأموال الدولة يحث الممول على اتخاذ موقف عدائي فردي والذي يترجم غالبا بتهرب ضريبي[22]

 

كما أن التضريب الضعيف لبعض الأنشطة والقطاعات الاقتصادية ومن ورائها بعض الفئات السوسيو مهنية مقابل تضريب شديد ومرتفع على قطاعات وفئات أخرى كاختيار ضريبي استراتيجي من شأنه أن ينتج غبنا ضريبيا يترجم عبر محاولات للتهرب والهروب الضريبي.

 

والنموذج لذلك هو القطاع الفلاحي، فقبل إعفائه نهائيا من الضريبة لم يكن يساهم إلا بموارد جبائية ضعيفة جدا مقارنة بأهميته في الناتج الداخلي الخام، أي ما بين 25 و3 في المائة[23]، فهذه الضريبة الفلاحية لم تتجاوز ولمدة عقوبة مردودية 60 مليون درهم، وكل محاولات إصلاحها التي قدمت أمام البرلمان تم رفضها أو أفرغت من جوهرها كما صرح وزير المالية عبد اللطيف الجواهري سنة 1982[24]، كما أن الضريبة الفلاحية لم تقتطع في سنوات الجفاف في بداية الثمانينات، وفي سنة 1984 قرر المرحوم الملك الحسن الثاني إعفاء الفلاحة إلى غاية 31 دجنبر 2000 من كل ضريبة مباشرة على المداخيل الفلاحية[25]، كما أنه وعبر خطاب 21 غشت 2008 تم إعفاء هذا القطاع لغاية 31 دجنبر 2013 بقرار ملكي، وتم تجديد هذا الإعفاء إلى غاية 2020، اليء الذي يمكننا أن نقول بموجبه أن القطاع الفلاحي يفلت من التضريب وإن جماعة الضغط (اللوبي) الفلاحي تمارس فعلها التأثيري حول خيارات الضريبة، مما يمس بمساواة الأنشطة الاقتصادية  أمام الضريبة، مما يدفع للتهرب أو لتحويل التوظيفات المالية والاستثمارات إلى هذا القطاع الذي لا يعرف التضريب والذي يعطي قداسة لسؤال الضريبة الفلاحية[26].

 

وعلى مستوى آخر من التفكير فإن هيمنة الضرائب غير المباشرة في البنية الجبائية المغربية كاختيار استراتيجي للسياسات الضريبية ولأصحاب القرار السياسي يعكس إلى أبعد الحدود مدى شغف السلطات العامة بهدف المردودية المالية على حساب الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى الإخلال بمبدأ العدالة الضريبية الذي تقلصه وتنسفه هذه الهيمنة للضرائب غير المباشرة.

 

ومن جانب آخر فإن مركزة السلطة السياسية وبالتالي الاقتصادية بين يد فئة قليلة يجعلها تنظر وتؤسس لنظام جبائي يخدم مصالحها، مما ينتج لا مساواة ولا عدالة كبيرة، فالتاريخ الجبائي قد علمنا أنه ناذرا ما تتردد الطبقات المالكة للسلطة في إلقاء العبء الضريبي على باقي الفئات الأخرى[27]، وعندما تغيب أو تضعف العدالة الضريبية فذلك يشكل فضاءا خصبا ومتناسبا للتهرب.

 

إذن فاختيار التضريب غير المباشر كأساس للنظام الجبائي يعكس بجلاء حضور هدف المردودية والمنتوجية الضريبية على حساب الأهداف الاجتماعية والتوزيعية التي يتيحها التضريب المباشر، وهكذا ركز كل المهتمين بمسألة العدالة الجبائية والتوزيع العادل للعبء الضريبي ما بين فئات كل المكلفين، على ضرورة أن تحتل الضرائب المباشرة النسبة الأكبر في البنيات الضريبية، نظرا للآليات التي توفرها ولخدمة المساواة أمام وبواسطة الضريبة، وبالتالي فهي (أي الضرائب المباشرة) أكثر عدالة من الضرائب غير المباشرة [28].

 

ونرى أنه من الضروري الإشارة في الأخير إلى دور النفقات الجبائية التي يستفيد منها البعض فقط في تنامي التهرب الضريبي واللجوء إلى ما يتيحه الاقتصاد غير المنظم من مزايا جبائية.

 

فبعض القطاعات تستفيد بشكل كبير من المزايا والإعفاءات والتخفيضات الضريبية لمدة متوسطة وطويلة، فالقطاع الفلاحي استفاد لأكثر من ثلاثين سنة من الإعفاء الضريبي ولم يستطع تغدية سكان المغرب[29]     

 

أما قطاع العقار، وحسب تقرير النفقات الجبائية المرفق بمشروع قانون مالية 2013 وهو وثيقة رسمية، سجل أكثر من 402 إجراء لكل الإقتصاد، 44 منها لصالح الأنشطة العقارية والتي قدرت تكلفتها رسميا بمبلغ 6.3 مليار درهم، أي 17.4 في المائة من مجموع النفقات الجبائية[30]، موزعة على الشكل التالي :

 

هكذا يتضح لنا إذن أن الأسباب السياسية متداخلة ومتفاعلة وهي التي تنتج لنا في نهاية التحليل القرار الجبائي، هذا القرار الجبائي والذي يعكس الاختيارات الضريبية لا يمكنه أن يفلت من تأثير الفاعلين السياسيين والاقتصاديين وعلاقات القوة ما بين هؤلاي الفاعلين، ولهذا نتفق مع القولة “كل نظام جبائي هو ثمرة قرار سياسي”

 

وهذه العوامل مجتمعة، الجبائي والتقني والإداري والاجتماعي السيكولوجي والسياسي كلها تساهم في نمو التهرب الضريبي بمختلف أشكاله، كما تدفع البعض إلى الاتماء أو الانتقال إلى الاقتصاد غير المنظم للإفلات من التضريب.

 

حيث ينال الاقتصاد غير المنظم بهذه الصورة من المواطنة الاجتماعية، وهضم الحقوق على مستوى مدة العمل والحد الأدنى للأجر، وعدم قيد الأنشطة في مختلف الدفاتر والتهرب أو التملص من أداء الضرائب، وكلها تعتبر خروقات تسمح بها السلطات العمومية سواء مكرهة أو متغاضية رغبة في تحقيق سلم اجتماعي ولو مؤقت.

 

كما أن العجز الديمقراطي المتصل بالرشوة والفساد والمحسوبية وغياب الشفافية كذلك كآفات مجتمعية، يتغذى من غياب مشروع للتنمية مندمج كفيل بتأمين توزيع مناسب للحقوق والواجبات ويربط الحريات بممارسة المواطنة وبناء تعاقد  جديد بين الوطن والمواطن قوامه العدل والمساواة والحق والقانون[32]

 

إن المقصود بالتهرب هو تجنب أداء الضريبة من قبل المكلف الضريبي سواء عبر أعمال وممارسات مشروعة أو غير مشروعة والهدف من ذلك تقليص مبلغ وواجب الضريبة المستحقة كلا أو جزءا.

 

وبهذا الصدد يجب أن نميز ما بين ظاهرة التهرب الضريبي غير المشروع fraude والذي يوازي إخفاء غير مشروع لكل الوعاء الضريبي أو جزء منه وما بين ظاهرة تجنب الضريبة أو الهروب من الضريبة evasion بتوظيف قواعد ومساطير معمول بها ومتنبأ بها من قبل المشرع.

 

فبهذا المعنى إن التهرب غير المشروع أو الغش الضريبي إنما هو إخفاء كلي أو جزئي لوعاء الضريبة الخاضع للتضريب، وبالتالي فهو خرق مباشر وإرادي للقانون الجبائي لأنه يفترض أعمالا مادية تهدف تجنب الضريبة وإرادة واضحة للغش[33].

 

أما فيما يخص التهرب الضريبي المشروع فيهم تقليص عبء الضريبة الواجبة عبر توظيف واستغلال نواقص وثغرات النظام الضريبي، وهذا النوع يختلف عن النوع الأول بكونه مشروعا وبالتالي فهو مسموح به[34]، ولكل نوع من هذين النوعين من التهرب تجليات وأشكال وأساليب خاصة به.

 

فالتهريب الضريبي المشروع (الغش الضريبي) يمكنه أن يتخذ شكل إخفاء مادي dissimulation matérielle لجزء من الوعاء الضريبي يهدف التملص من أداء الضريبة كإخفاء جزء من الدخل وعدم التصريح به أو إخفاء جزء من البضائع المستوردة لعدم أداء حقوق الجمارك ويلعب التهريب contrebande هنا دورا كبيرا وبهذا الصدد يرى “نكاوسيفاتن” أن التهريب يعتبر فضاءا واسعا للتهرب من الضرائب غير المباشرة في كل دول العالم الثالث[35] والمغرب لا يفلت من هذه المعاينة (شمال المغرب – الأقاليم الجنوبية – شرق المغرب – درب غلف)

 

وهناك من جهة أخرى شكل ألإخفاء المحاسبي dissimulation comptable الذي يتخذ العديد من الأشكال والأساليب كإدماج النفقات الشخصية ضمن بند التكاليف العامة، وكالمغالاة في إظهار الأعباء العامة، وكجعل جزء من الأرباح في شكل اندثارات أو البيع دون فواتير مما يقلص من رقم الأعمال الخاضع للتضريب، وكالفواتير دون بيع والتي تمكن من الحصول على تنزيلات وتخفيضات للرسوم بناء على عملية وهمية[36]، إضافة إلى أساليب محاسبة تقنية كتلبيس جزء من الأرباح لباس أجور أو جعل هبة في شكل بيع وتضخيم الاحتياطات.

 

أما بالنسبة للتهرب الضريبي المشروع فثمة عدة نماذج له، أهمها تقنية الامتناع abstention عن القيام بعمل أو نشاط خاضع للتضريب، أو الامتناع عن امتلاك مادة أو خدمة أو بضاعة خاضعة للضريبة.

 

كما أن هناك أيضا تقنية تدبير ثروة المكلف ومصالحه ونشاطه الاقتصادي والمالي بشكل يخفض فيه من قيمة الوعاء  الضريبي وذلك عبر استغلال ثغرات ونواقص القانون الضريبي، وهذا الحق في اختيار وتحديد الوعاء الضريبي يتجلى بشكل واضح في إدماج الشركات وإعادة خلق شركات جديدة بامتصاص الأولى والبحث عن أي الطرق أقدر وأبلغ على تحقيق النجاعة الضريبية للشخص[37]

 

إضافة إلى ذلك هناك حالات يقبل فيها المشرع ويجيز التهرب الضريبي وتقنية النظام الجزافي régime forfaitaire هي نموذج واضح في هذا المعنى لأن المشرع لا يريد مقاربة وتقييما كليا للمادة الضريبية إذ يقبل بمقاربتها بشكل جزئي لأن التقدير الجزافي هو في الغالب تقدير وتقييم أقل من القيمة الحقيقية للوعاء الضريبي[38]

 

وأمام هذه الحالة لا يمكننا إلا القول بأن السلطات العامة هي التي تنظم هذا التهرب الضريبي المشروع[39]

 

وإذا كنا لغاية اللحظة نتحدث عن التهرب الضريبي الداخلي، علينا أن نشير أيضا إلى التهرب الضريبي الدولي والذي أصبح ظاهرة عالمية بفعل العولمة التجارية والاقتصادية والمالية، والتي أصبحت كل الدول تدعو إلى الحد منه ومحاربته أمام حدة الأزمات المالية والاقتصادية التي عرفها العالم انطلاقا من سنة 2008.

 

وأهم تجليات هذا الصنف من التهرب هو هروب المادة أو الوعاء الضريبي من الجباية الوطنية ليوضع تحت سيادة جبائية أجنبية تكون ضرائبها إما خفيفة أو منعدمة وهكذا فالشركات الأجنبية والشركات المتعددة الجنسية تقوم بتمرير أرباحها إلى الدول التي تقدم وتمنح مزايا ضريبية أو إلى الدول التي تشكل جنات جبائية PARADID FISCAUX، كما يمكن الحديث عن الهروب الشخصي للمكلف نفسه عند بداية تغطية وتحصيل الضريبة كالحالة التي لا يترك فيها المكلف شيئا ماليا أو عينيا لتغطية دينه الضريبي وكالحالة التي تضع فيها بعض الشركات مقراتها الاجتماعية ببلدان أخرى أقل تضريبا[40]

 

[1] « Les taxes expliquent plus du tiers (1/3) de la taille de l’économie informelle » :

Micheal pichhardt , jordi sarda (2006) size and scope of the underground economy in Germany applied economies, vol.38 p1707

[2] Bruno chiarini, marco di domizio et elizabetta marzano « why do underground reducing policies often fail their scope ? sorne answers from the Italian experience economies et politics, vol 21 no 2 (2009), p 308

[3] P.M.GAUDEMET : finances publiques (impôt – emprunt) ed montchrestien domat, paris 1981 p :283

[4] P.M.GAUDEMET, op cité page 283

[5] خطاب السيد وزير الاقتصاد والمالية حول خلاصات الاقتراحات المنبثقة من المناظرة الوطنية 2 حول الجبايات “اتفق الجميع على أن يكون من بين أهداف النظام الجبائي الوعي بتحسين مناخ الأعمال ومنح الفاعليم الاقتصاديين الرؤية الضرورية لمزاولة نشاطهم وذلك بوضع ميثاق لإستقرار المنظومة الجبائية” ص 47

[6] J. Claude MARTINEZ : la légitimité de fraude fiscale

In : études de finances publiques, ECONOMICA, Paris 1984, page 928

[7] P.M.GAUDEMET, op cité page 288

[8] مصطفى الكثيري – حسن الصبار : النموذج الأنسب لأعداد موازنات التنمية الشاملة والتنمية الإدارية مجلة المعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي- الرباط عدد يناير 1985 ص 107

 

[9] FIKRI Abdelkebir : la faude fiscale, op cité page 42

[10] Mustapha SEHIMI : la fuite devant l’imposition fiscale au Maroc : fraude qui fuit, le message de la nation 16-23 mai 1984 page 23

[11] BRACHET (B) : volonté politique et rigidité fiscale, in etudes et finances publiques mélanges en l’honneye de M.P.M GAUDEMENT, ECONOMICA Paris 1984, page 633.

[12]  مصطفى الكثيري، مرجع مذكور سابقا، صفحة 107

[13]  فكري عبد الكبير مرجع مذكور سابقا ص 41

[14]  خطاب وزير المالية والاقتصاد حول خلاصات الاقتراحات المنبثقة عن المناظرة الوطنية للجبايات مرجع مذكور سابقا : ص 45

[15] Schmolders (G) : Psychologie des Finances et de l’impôt.

Col sup. ed PUF Paris 1973, p : 115

[16] G.Verna, « légalité-légitimité : la dialectique de l’informel » dans les entreprises informelles dans le monde. Sous la direction de R.Arellano, Y.Gasse et G.Verna (éd) les presses de l’Université laval, Sainte-Foy, Québec, Canada (1994) p86

[17] A.laroui : les origines sociales  et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912) ed Maspero, 1977 p228.

[18] ZEMRANI (B-A) op cite page 233

[19] SCHMOLDERS (G) op cité page 234

[20] Pierre jox : finances publique : scénarios pour demain, Revue française de finances publiques, n87, Paris France, 2004, p 11.

[21] Michel Bouvier, Rapport introductif : la transparence des finances publiques : une exigence éthique, politique et scientifique.

In la transparence des finances publiques : vers un nouveau modèle, LGDJ es l’extenso, Paris France 2013, P9

[22]  بنصالح أناس الزمراني، مرجع سابق ص 7

[23] فكري عبد الكبير، مقال مكور سابقا، ص 42

[24]  « jusqu’à présent, tout les projets de réforme de fiscalité agricole présente devant le parlement ont été, soit rejetés soit vidée de leur subsistance », cité par Najib AKesbi, quelle influence du parlement sur la décision fiscale ? In : parlement , loi de finance et évaluation des politiques publiques, sou la direction de Mohamed Harakat ? Revue marocaine d’audit et de développement, N 36-2013 el maarif el jadida p 20.

[25] ظهير بمثابة قانون 46-84-1 بتاريخ 1 مارس 1984، الجريدة الرسمية عدد 3727- أبريل 1984

[26] Najib akesbi, op cité, p25

[27] Paul Marie Gaudemet, op cité, p 285

[28] بهذا الصدد نذكر المؤلفات التالية :

– Richard.m.Bird, finances publiques et inégalités, Revue finances et développenet, volume 11, n°1, Mars 1974, p2 et 4

– A.parmentelat –J.F.Pons : inégalités sociales et fiscalité, CNRS, Paris, France, 1977

– Bernard Bob, la redistribution de revenus, ed Economica, Paris, France, 1978

[29] Najib Akesbi, op cite, p 25

 

[30] Najib Akesbi, op cite, p 30-31

[31] Ministére de l’économie et de finances, rapport sur les dépenses fiscales, projet loi de finance 2013.

[32] Parmentelat (a) pons (JF) : inégalités sociales et fiscalité in. Les inégalités sociales (situation-mécanisme – action correctrices) communication présentée au cours de la table ronde d’aix en provence 7-8 mai 1976 CNRS, Paris, France 1977

[33] Bernard bobe et pierre llau :fiscalité et choix économiques, ed calman lévy Paris, 1978 page 104

[34]  يونس أحمد البطريق المالية العامة دار النهضة العربية بيروت 1984 ص 113.

[35]  NG AOSYVATHN (p) : le rôle de l’impôt dans les PVD T1 LGDJ Paris 1983 page 69

[36] Paul marie gaudemet ; finances publiques (impôt – emprunt) Ed. MONTCHRTSTIEN-Domat, paris 1981 page 291

[37] GDAIHI MED : optimisation fiscale et restructuration des sociétés commerciales au Maroc thése de doctorat, droit privé, faculté de droit mohammedia 2015 p 47

[38] Paul marie gaudemet, op cité, page 294

[39] B.Bobe p (llau),  op cité, page 112

[40]  P., gaudemet, op cité, page 295

 

Exit mobile version