Site icon مجلة المنارة

السياسة الجنائية بالمغرب وانواع العقوبات البديلة لمكافحة الجريمة

السياسة الجنائية بالمغرب وانواع العقوبات البديلة لمكافحة الجريمة
محمد الماحي
دكتور في القانون الخاص تخصص قانون الاعمال و الاستثمار
جامعة محمد الاول وجدة

التوطئة
تسعى الدولة لحماية كيانها من الجريمة بوسائل عديدة ومتنوعة، ذلك عن طريق تنفيذ القانون والعدالة الجنائية، من خلال سياسة جنائية تهدف إلى ردع التصرفات المضادة للسلم الاجتماعي.
خضع تنفيذ الجزاء الجنائي لتطور تاريخ موازي لتطور نظرة المجتمع للمجرم، فهذا الأخير لم يعد ينظر إليه على انه ذلك الشخص الخطير على المجتمع وبالتالي إبعاده وعزله عن المجتمع، بل أصبح ينظر إليه كعنصر أساسي داخل تركيبة المجتمع يتعين إصلاحه وتقويمه لتسهيل إدماجه داخل المجتمع.
لذلك كان لزاما البحث عن العقوبات المناسبة والبدائل، في ظل قصور العقوبات السالبة للحرية، سيما قصيرة المدة، فقصر المدة الزمنية غالبا لا يكفي لتنفيذ سياسة جنائية رادعة خاصة فيما يتعلق بمسألة الإصلاح والتهذيب، كما أن تنفيذ هذه العقوبة تمخضت عنه العديد من الإشكاليات والإكراهات تجاوزت في نطاقها مرتكب الفعل الإجرامي، لتمتد إلى مختلف أجهزة العدالة الجنائية، بشكل أساسي المؤسسات السجنية التي تحولت إلى فضاء مكتظ يستعصي ضبطه دون المساس بكرامة وإنسانية السجين .
في هذا الإطار تبنت التشريعات المقارنة في منظومتها التشريعية، مجموعة من البدائل الحديثة، تجاري وتواكب التطور الذي يعرفه عالم الإجرام، في حين أن التوجه الذي ذهبت فيه السياسة الجنائية الوطنية لا يزال متشبتا ببعض البدائل التقليدية، بالرغم من الإشكالات التي تطرحها والتي تحول دون تحقيق أهدافها.
من هنا تتمظهر أهمية الموضوع وحساسيته، لأنه من المسلم به أنه لا يمكن وضع سياسة عقابية بدون إنشاء نظام مرجعي للتجريم والعقاب، غير أن هذا النظام وتوظيفه في الميدان العقابي يتعين أن لا يتم في إطار مغلق بين الحكومة والبرلمان وكذا وزارة العدل، بل يتعين أن يتم على ضوء الأنشطة الفكرية والتنظيمية للوحدات العرفية الجنائية التي توظف من طرف رجال السياسة والممارسين من قضاة ومحامين وأساتذة وباحثين حقوقيين دون أن ننسى المجتمع المدني.
من أجل كل هذا، فإن الموضوع يثير العديد من الإشكالات من بينها: ما المقصود بالسياسة العقابية؟ وما هي تجلياتها؟ ثم إلى أي مدى يمكن مساهمة بدائل العقوبة السالبة للحرية، سواء تعلق الأمر بالبدائل الكلاسيكية التقليدية أو البدائل الحديثة، أن تساهم في إصلاح منظومة العدالة الجنائية؟ وبالتالي حماية المصالح الاجتماعية للمجتمع؟
إن الإجابة عن كافة هذه الإشكالات أو على الأقل البعض منها، أمر يكتنفه الكثير من الصعوبات نظرا لحساسية الموضوع وكذا كونه مازال موضوعا فتيا على الأقل بالنسبة للمغرب، لكن سنحاول قدر الإمكان في هذه المداخلة المتواضعة التطرق إلى النقط الحساسة والمهمة التي يكتنفها الموضوع، وتبسيط قدر الإمكان ماهية وآليات العقوبات البديلة، وذلك من خلال فرعين اثنين حيث سنخصص الفرع الأول للحديث عن آليات وميكانيزمات وضع السياسة الجنائية بالمغرب، أما الفرع الثاني فسنخصصه للحديث عن أنواع العقوبات البديلة في السياسة العقابية لمكافحة الجريمة.

الفرع الأول: آليات ومكانيزمات وضع السياسة الجنائية بالمغرب
إن الحديث عن الآليات وضع السياسة الجنائية وميكانيزماتها، يستدعي منا تقسيم هذا الفرع إلى مبحثين اثنين، حيث سيخصص (المبحث الأول) للحديث عن السياسة الجنائية بالمغرب بين التجريم والعقاب، أما (المبحث الثاني) من هذا الفرع، فسيتم التطرق فيه إلى وضع ميكانيزمات السياسة الجنائية بالمغرب وخصائصها.
المبحث الأول: السياسة الجنائية بالمغرب بين التجريم والعقاب
من المسلم به أنه لا يمكن وضع سياسة عقابية بدون إنشاء نظام مرجعي للتجريم والعقاب، غير أن هذا النظام وتوظيفه في الميدان العقابي يتعين أن لا يتم في إطار مغلق بين الحكومة والبرلمان وكذا وزارة العدل، بل ينبغي أن يتم على ضوء الأنشطة الفكرية والتنظيمية للوحدات العرفية الجنائية التي توظف من طرف رجال السياسة والممارسين من قضاة، محامين، أساتذة وباحثين حقوقيين ثم المجتمع المدني.
المطلب الأول: سياسة التجريم في منظومة العدالة الجنائية
تتوجه سياسة التجريم إلى حماية المصالح الاجتماعية والتي تقضي حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضا بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية، ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا أو التهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ما هي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية، وكل مجتمع يتحفظ بقواعده وأفكاره وقيمه التي تضبط النظام الاجتماعي. فالقواعد الاجتماعية تنظم سلوك الأفراد والجماعات التي تمثلهم، وبعض هذه القواعد تهتم بها سياسة التجريم فتنقلها إلى قانون العقوبات.
وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح. فإذا قدرت الدولة أن المصلحة تستحق أقصى مراتب الحماية القانونية عبرت عن ذلك بالعقوبة .
وتتحدد المصالح الجديرة بالحماية الجنائية وفقا لظروف واحتياجات كل مجتمع وتتأثر بتقاليده ونظامه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ويعتبر التجريم هو أقصى مراتب الحماية التي يخفيها التشريع على نوع معين من المصالح التي تهم المجتمع.
وإذا استقرأنا التطور التاريخي للمصالح التي يحميها قانون العقوبات ، سوف يتضح مدى تأثرها بنظام المجتماعات البشرية ومقومات حياتها، فالتغيرات الاجتماعية تعكس بوجه عام التحولات التي تلحق بهيكل القيم الاجتماعية، وهذه القيم تمثل في جوهرها مجموعة المعتقدات وأنواع السلوك التي يقبلها المواطنون في بلد معين، وتبدو مظاهرها في وسيلة حياتهم والتعبير عن آرائهم. وحتى تتحدد طبيعة كل تغيير اجتماعي فمن الضروري إقامة علاقة بين قواعد السلوك في مجتمع معين و هيكل العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع، فقاعدة السلوك الاجتماعية تمثل وضعا مقبولا لدى الجماعة أو المجتمع الذي أنشأها.
أما العلاقات الاجتماعية فهي الطريق التي يسلك بها الأفراد والجماعات في مجتمع معين، وقد تكون أمرا مقبولا أو غير مقبول، وذلك وفقا للقيم السائدة في المجتمع.
ويجدر التنبيه إلى العلاقة الوثيقة بين كل من سياسة التجريم والسياسة العقابية، فالقاعدة العقابية تشمل على شقين :
التكليف بسلوك اجتماعي معين، وجزاء جنائي يترتب على مخالفة هذا التكليف وهو العقوبة. وواضح مما تقدم مدى الارتباط الوثيق بين التكليف والعقوبة، فكل منهما يكمل الآخر ولا قيام لواحد منهما دون الآخر وفضلا عن ذلك، فإن التجريم كما قلنا يعني إضفاء أقصى مراتب الحماية التشريعية على مصلحة معينة ولما كان أسلوب التعبير عن هذه الحماية هو الجزاء الجنائي فإنه لا بد أن يكون في إدراك وضع سياسة مضمون هذا الجزاء، ومدى خطورته، حتى يصير أحسن تعبير عن نطاق التجريم الذي يراه المشرع.
ومن ناحية أخرى، فإن العقوبة مهما كان نوعها وهي التي تعبر عن عنصر الإلزام في القاعدة العقابية والتجريم ليس مجرد تجريم لاعتداء معين، وإنما هو تجريم مقترن بجزاء معين عند وقوع هذا الاعتداء. ولذا فإن العقوبة ونوعها يجب أن يكون ماثلا أمام المشرع عند التجريم.
المطلب الثاني: سياسة العقاب في منظومة العدالة الجنائية
تبين سياسة العقاب المبادئ التي يتوقف عليها تحديد العقوبات وتطبيقها وتنفيذها، وتحديد العقوبات يأتي مكمل للتجريم الذي لا يقوم وحده بدون العقوبة، ويستأثر به المشرع، ولذا سماه البعض بالتفريد القانوني، أما تطبيق العقوبات وتنفيذها فيتم في مرحلتين متعاقبتين هما التطبيق القضائي والتنفيذ العقابي.
وقد ربطت جل التشريعات الجنائية إتيان الجريمة بتطبيق العقوبة، إذ لا جريمة ولا عقوبة بدون نص قانوني تطبيقا لمبدأ الشرعية.
وتوضح السياسة الجنائية المتبعة في كل بلد الهدف من العقوبات في مراحلها الثلاث التشريعية والقضائية، وتبين الوسائل المتبعة في تحقيق هذا الهدف. ومن خلاله فإن العقوبات تتعدد بصورة مجردة في نصوص تشريعية يضعها الجهاز التشريعي في الدولة، ويتولى الجهاز القضائي تطبيقيا في الواقع الميداني، وذلك وفق المسطرة الجنائية التي تبين الحدود والمساطر والإجراءات التي يجب على القاضي الالتزام بها.
المبحث الثاني: ميكانيزمات وضع السياسة الجنائية بالمغرب وخصائصها
يجب التمييز بين السياسة الجنائية والسياسة العقابية، إذ الأول تكتسي مجالا واسعا يكتنف مجموعة من الإجراءات التي تشكل حلولا للحد من ظاهرة الإجرام وعلى مستويات عديدة، ومنها ما يتعلق بالمسؤولية الجنائية ومبدأ تفريد العقاب.
وهذا ما سيتم التطرق إليه في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: آليات وضع السياسية العقابية بالمغرب
تأثر المشرع المغربي أثناء صياغة القانون الجنائي بقانون العقوبات الفرنسي الذي شرع العمل به في فاتح يناير 1811م، والذي أطلق عليه اسم تقنين نابليون، وقد استفاد المشرع من التعديلات التي عرفها هذا القانون، وبعد الحرب العالمية الثانية عرف العالم تحولا جذريا من حيث الإديلوجية الجنائية وكذا معالجة الأوضاع داخل السجون التي أصبحت ترتكز على مبادئ حقوق الإنسان، في إضفاء الطابع الإنساني على العقوبة وإصلاح السجين متأثرا في ذلك بمدرسة الدفاع الاجتماعي الجديدة التي طورت مفهوم الجزاء والغرض من العقوبة .
ومن ثمة فالقانون الجنائي المغربي هو ثمرة تطور تاريخ طويل، مما يدفع للقول من الناحية النظرية أنه تركيب تشريعي عكس أراء المدارس الفقهية المعاصرة، ونلاحظ من خلال ما نص عليه من مبادئ كتفريد العقاب والتدابير الوقائية وظروف التخفيف والسلطة التقديرية للقاضي ومسؤولية الأشخاص المعنوية وإسناد تطبيق العقوبة للقضاء، وعليه فإن مقتضيات القانون الجنائي المغربي تضمنت ما نصت عليه الاتفاقيات الدولية بما يضمن كرامة الإنسان وحقه في الحياة.
أما فيما يخص المسطرة الجنائية فتظهر قواعد المسطرة الجنائية على سلطة الدولة في توقيع العقاب، لأنها تلزم من جهة بضمان قرينة البراءة ومن جهة أخرى بإعطاء المتهم فرصة وإمكانية للدفاع عن حقوقه، وعليه فإن قواعد المسطرة الجنائية تعتبر قانون للأبرياء والشرفاء من المواطنين وسيلة لحمايتهم من الأخطاء القضائية و من تعسف الدولة في ممارستها لسلطة العقاب ضمانا لتغليب العدل وترسيخ دولة الحق والقانون، حيث أنه ومن المسلم به أن هناك صراعا بين مواجهة الإجرام بفعالية وكذا حماية قرينة البراءة، وعليه فحماية الأفراد يجب ضمانها سواء في المرحلة التي تسبق المحاكمة أو في المرحلة التي تليها.
المطلب الثاني: خصائص السياسة العقابية بالمغرب
حرصت السياسة العقابية على كفالة فعالية قوانين التجريم والعقاب باعتبارها ركائز مهمة ذات أهداف وغايات، ولاشك أن صدور هذه القوانين من بيئة مغربية يجعلها تحظى باحترام الكل، فالتجربة تؤكد أن عملية استيراد قواعد قانونية جاهزة وخاصة العقابية منها لا تمكن من جني أي فائدة منها لأن القواعد القانونية لابد من أن تحاكي الواقع الذي ستطبق فيه. حرص القانون العقابي على تطبيق الردع بنوعيه العام والخاص، يشكل أهم أسباب نجاح أي وسياسة عقابية.
اتسام السياسة العقابية بخاصيتي التناسب والتماثل بين الجرم المرتكب والعقاب عليه، مراعاة في ذلك السلطة التقديرية المخولة للقاضي في تفريد العقوبة ما بين حديها الأقصى والأدنى.
اتسام السياسة الجنائية بالمرونة الناجمة عن قدرتها في التكيف مع الظروف الواقعية المتغيرة، وكثيرا ما تدخل المشرع لمواكبة المستجدات وإحداث تعديلات على النصوص الزجرية.
الفرع الثاني: العقوبات البديلة وأنواعها في السياسة العقابية لمكافحة الجريمة
خضع تنفيذ الجزاء الجنائي لتطور تاريخي موازي لتطور نظرة المجتمع للمجرم، فهذا الأخير لم يعد ينظر إليه على أنه ذلك الشخص الذي يتميز بخطورة إجرامية تقضي بإبعاده وعزله عن المجتمع، وإنما أصبح ينظر إليه كعنصر أساسي داخل التركيبة المجتمعية يتعين إصلاحه لتسهيل عملية إدماجه.
ولتحقيق ذلك أصبح البحث منصبا عن العقوبات المناسبة، خصوصا أمام قصور العقوبة السالبة للحرية، ولاسيما القصيرة المدة، فقصر المدة لا يكفي غالبا لتنفيذ برامج الإصلاح والتهذيب، وإنما تستحيل معه الجهود المبذولة إلى عبث لا يستفيد منه الجاني وكذا المجتمع. كما أن تنفيذ هذه العقوبة تمخضت عنه العديد من المشاكل تجاوزت في نطاقها مرتكب الفعل الجرمي، لتمتد إلى مختلف أجهزة العدالة الجنائية، بشكل أساسي المؤسسات السجنية التي تحولت إلى فضاء مكتظ يستعصى ضبطه دون المساس بكرامة وإنسانية السجين.
في إطار هذه المعطيات تبنت التشريعات المقارنة في منظومتها القانونية مجموعة من البدائل الحديثة، تجاري وتواكب التطور الذي يعرفه الإجرام، في حين أن التوجه الذي ذهبت فيه السياسة الجنائية الوطنية لا يزال متشبثا ببعض البدائل التقليدية بالرغم من الإشكاليات التي تطرحها، والتي تحول دون تحقيق أهدافها.
وللإحاطة بهذا الموضوع سنركز على التوجه الذي ذهبت فيه السياسة الجنائية الوطنية بشأن بدائل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، والتي تقتصر على الفترة الفاصلة بين الدعوى العمومية وقبل تطبيق العقوبة السالبة للحرية (المبحث الأول)، ثم نلقي الضوء على البدائل الحديثة التي تبنتها التشريعات المقارنة، والتي يمكن اعتبارها ببدائل حتى بالنسبة للبدائل التقليدية (المبحث الثاني).
المبحث الأول: العقوبات البديلة الكلاسيكية لمكافحة الجريمة
يمكن حصر مجمل العقوبات الكلاسيكية لمكافحة الجريمة في نوعين أساسيين: وهما الغرامة الجنائية، ثم إيقاف تنفيذ العقوبة.
المطلب الأول: الغرامة الجزائية
إن الغرامة الجزائية أضحت في الوقت المعاصر من أهم العقوبات البديلة وأوسعها انتشارا في التطبيق، وذلك نظرا لقيمتها العقابية التي تتجاوب مع متطلبات السياسة الجنائية الحديثة، فهي من جهة، تجنب المحكوم عليه مساوئ العقوبة الحبسية قصيرة المدة، بحيث تحول دون إبعاده عن بيئته ومحيطه الاجتماعي، كما أنها تجنبه مغبة الاختلاط بمحترفي الإجرام، وتحميه من مخاطر الوصم التي تعوق عملية إدماجه في النسيج الاجتماعي، ومن جهة أخرى، يمكنها أن تشكل إذا ما أحسن تطبيقها عاملا مهما في تقليص الأزمة التي تعرفها أجهزة العدالة الجنائية خصوصا مؤسسات تنفيذ العقوبة، فتطبيقها بالشكل السليم من شأنه أن يعالج المشاكل التي تعاني منها المؤسسات السجنية بسبب الاكتضاض، كما أنها من الممكن أن تشكل موردا مهما يمكن استغلاله لتحسين مواقف العدالة وتعويض المجني عليهم .
وعلى الرغم من هذه الأهمية إلا أن ما يؤخذ على الغرامة في تشريعنا الوطني أنها لازالت تطبق بطريقة تقليدية، فالمشرع المغربي عندما تطرق إلى قواعد تقدير الغرامة ألزم القاضي بمراعات الحدين الأدنى والأقصى المقررين في القانون المعاقب عن كل جريمة، وهذا يجعلها في كثير من الأحيان ما تواجه بعسر المحكوم عليه أو امتناعه عن الأداء، فتتحول عن طريق الإكراه البدني إلى عقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة.

المطلب الثاني: إيقاف تنفيذ العقوبة
إن مؤسسة إيقاف التنفيذ من أهم البدائل التي منحت للقاضي الجنائي بغية مساعدته على تنفيذ الجزاء وفقا لمتطلبات السياسة الجنائية الحديثة، فهو يجنب الجاني المبتدئ مخاطر الاختلاط بمحترفي الإجرام، وفي الوقت ذاته يساعد على تخفيف العبء عن الأجهزة العدالة الجنائية، ولاسيما مؤسسات تنفيذ العقوبة، ولتحقيق هذه النتيجة يتعين على المشرع أن يوسع من سلطات القاضي الجنائي.
إلا أنه وبالرجوع إلى التشريع المغربي نجد بأن سلطة القاضي الجنائي في إيقاف تنفيذ العقوبة ليست على إطلاقها، فهي مقيدة بجملة من الشروط القانونية الصارمة، إذ أن القاضي لا يملك صلاحية إيقاف التنفيذ في مواجهة الجاني الذي تنتفي فيه الخطورة الإجرامية، وإنما يشترط أن يكون مبتدئا أي لم يسبق الحكم عليه من أجل جناية أو جنحة، على خلاف ما ذهبت إله العديد من التشريعات ومنها التشريع المصري، فهذا الأخير وسع من سلطات القاضي الجنائي بحيث أعطى له كامل الصلاحية لإيقاف التنفيذ في مواجهة أي شخص تبين من ظروفه أنه قابل للتأهيل والإصلاح عن طريق التهديد بتنفيذ العقوبة مستقبلا ولو كان عائدا، في حين أن التشريع المغربي قيد من صلاحيات القاضي الجنائي، فهذا الأخير مقيد بنوع العقوبة إذ يجب أن تكون حبيسة، وكذا بتعليل قراره القاضي بوقف التنفيذ، وذلك تحت طائلة تعرضه للنقض.
يعتبر إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار من اهم الآليات التي توصلت إليها التشريعات المقارنة، فهو حسب البعض”نظام عقابي يستهدف تأهيل المحكوم عليه وإصلاحه، وذلك عن طريق وضعه تحت الإشراف والرقابة” .
وقد عرف المشرع المغربي بدور هذه المؤسسة لكن تطبيقها ينحصر في إطار ضيق جدا ينحصر في فئة الأحداث، مما يدفعنا إلى التساؤل عن السبب الذي استثنى بمقتضاه المشرع المغربي فئة الرشداء من هذا النظام، مع العلم أن هذه المؤسسة أثبتت فعاليتها في العديد من التشريعات المقارنة “التشريع الفرنسي”.
المبحث الثاني: العقوبات البديلة الحديثة لمكافحة الجريمة
يستدعي منا هذا المبحث تقسيمه إلى مطلبين اثنين، حيث سيخصص المطلب الأول للحديث عن مسألة الشغل من أجل الصالح العام، أما المطلب الثاني فسيخصص للحديث عن المراقبة الإلكترونية وذلك كالتالي:
المطلب الأول: الشغل من أجل الصالح العام
احتلت عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة مكانة متميزة في سياسة العقابية لأغلب التشريعات المقارنة، وقد أخذت به أول الأمر إنجلترا سنة 1972، ثم سارت على دربها العديد من التشريعات منها إسلندا سنة 1978، والبرتغال سنة 1982،يليها فرنسا سنة 1983 .
وعلى المستوى العربي فإن العديد من التشريعات العربية أدخلت التشريعات العربية أدخلت عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة في منظومتها القانونية، ومن بينها المشرع التونسي الذي أدرجها بمقتضى قانون 89 لسنة 1999، والتشريع العقابي لدولة الإمارات العربية المتحدة ، وكذا التشريع المصري، والجزائري، وغيرها.
إن عقوبة الشغل من أجل المنفعة العامة، باعتبارها من البدائل الحديثة التي توصلت إليها السياسة العقابية لأغلب التشريعات المقارنة، يمكننا القول أنها ليست بالبساطة والسهولة التي توحي بها لأول وهلة، وإنما هي نظام يتطلب تظافر جهود كل مكونات المجتمع من أجل تجاوز الإشكالات التي يطرحها الجنوح البسيط خصوصا على مستوى العدالة الجنائية. وجدير بالذكر أنم السياسة العقابية المقارنة لم تقف عند هذا الحد وإنما استعانت بالتقدم التكنولوجي، حيث استحدثت بدائل للعقوبة السالبة للحرية تعتمد بشكل أساسي على الآلة، وهو ما يعرف بنظام المراقبة الإلكترونية.
المطلب الثاني: المراقبة الإلكترونية
إن المراقبة الإلكترونية كبديل أقرته السياسة الجنائية المعاصرة لبعض التشريعات المقارنة، جاء بهدف الحد من أزمة التي أصبحت تعرفها أجهزة العدالة الجنائية بسبب الجنوح البسيط، فمشكلة الزيادة في أعداد المساجين على النحو الذي يتجاوز الطاقة الاستيعابية للمؤسسات العقابية، ومن المسائل التي تؤرق القائمين على مرافق العدالة الجنائية، لاسيما وأن هذا التكدس يعوق عملية تطبيق البرامج الإصلاحية والتأهيلية سواء في مواجهة المحكومين بمدة طويلة، أو المحكوم عليهم بمدة قصيرة. والمراقبة الإلكترونية حاولت تقليص هذه المشكلة من خلال اعتماد على سياسة تزاوج ما بين مصلحة المحكوم عليه، والتخفيف من الأزمة التي تعرفها أجهزة العدالة الجنائية، فالانتقال بالمحكوم عليه من المؤسسة السجنية إلى محل إقامة كمكان لتنفيذ العقوبة سيساهم في التخفيف من الأزمة التي تعرفها أجهزة العدالة الجنائية، وفي الوقت ذاته سيجنب المحكوم عليه مساوئ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة.
والمراقبة الإلكترونية كتوجه جديد يعتمد على التكنولوجيا الحديثة لم يأتي بمحض الصدفة، وإنما جاءت نتيجة جهود متتالية للفاعلين في السياسة الجنائية، والذين نادوا باجتماعية العقوبة، إذ أن التوجهات الحديثة لم تعد تنظر إلى المجرم على أنه شخص ميئوس منه يتعين عزله وإبعاده عن المجتمع، وإنما أصبحت تنظر إليه كشخص يعاني من صعوبات تعوق عملية إدماجه في المجتمع، لذا فهي لم تنادي فقط بتفريد العقاب، وإنما نادت أيضا بسياسة التفريد التنفيذي، لمساعدة الجاني على الاندماج في المجتمع.

خـاتـمة
تواجه العدالة الجنائية اليوم تحديات لم تكن مطروحة من قبل، جعلتها تفرض الوسائل التقليدية لمجابهة الإجرام، وتتطلع إلى البحث عن خيارات جديدة تساعدها على تجاوز الأزمة التي أضحت تخيم على الأنظمة القانونية لمختلف الدول.
والمغرب كغيره من البلدان عانى ولا زال يعاني من ويلات هذه الأزمة، إذ أصبحت مظاهرها تزداد يوما بعد يوم، ولمواجهتها يتعين عليه أن يسارع للانخراط في التوجه العالمي للسياسة الجنائية، هذا الأخير الذي لم يعد يرتكن إلى السلاح العقابي كرد فعل وحيد لمجابهة الظاهرة الإجرامية، وإنما أصبح يتطلع نحو المستقبل عندما يعاقب. فالفعل الجرمي يكون قد حدث وانتهى، والنظر إلى الماضي لن يكون من شأنه سوى تنمية روح الانتقام، لكن عند النظر إلى المستقبل تتحقق منفعة العقوبة ويتم انتقاء السبل الأكثر تجانسا مع برامج الإصلاح.
ولزيادة فعالية العدالة الجنائية، يتعين إصلاح القانون الجنائي، وقانون المسطرة الجنائية وتحيينهما ليكونا أكثر مواكبة للتطورات المتسارعة التي يعرفها الإجرام، فالجريمة ظاهرة اجتماعية مشحونة بالحركية التي تجعلها قابلة للتطور، فكلما وضعت آلية للعقاب والزجر إلا طفت على السطح تمظهرات إجرامية أكثر حداثة، لذا يتعين دائما أن تبقى الترسانة التشريعية الجنائية على أهبة الاستعداد لمجابهة الأخطار التي تحدق بالعدالة الجنائية.
وفي سبيل ذلك يجب عدم المبالغة في التجريم، ونزع الصفة الإجرامية عن بعض الأفعال البسيطة مع إحالتها على هيئات متخصصة تتولى تسوية النزاعات بطريقة ودية،كما يجب تعزيز الترسانة القانونية المغربية بمجموعة من البدائل التي توسع من الخيارات المتاحة أمام القضاء، والتي تساعد على تجاوز المشاكل المطروحة على مستوى أجهزة العدالة الجنائية، خصوصا وأنه في إطار التضخم الذي تعاني منه المحاكم أصبح البت في القضايا يتم بطريقة آلية تؤدي في بعض الأحيان إلى المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم، ولنجاح هذه الآليات، يجب أن تكحون نابعة من واقع المجتمع المغربي وليس فقط مجرد اقتباسات من الأنظمة القانونية المقارنة نزين بها ترسنتنا القانونية.
ومن الوسائل التي تساعد كذلك على تجاوز هذه الأزمة، تشجيع القضاء من أجل الانخراط في توجه السياسة الجنائية العالمية. فالقاضي لم يعد مجرد آلة طيعة لتطبيق القانون، وإنما أصبح يضطلع بدور مهم في علاج أزمة العدالة الجنائية، لذا لابد من الحرص على توفير قضاء جنائي متخصص ومتفرغ لتحقيق العدالة الجنائية ناجعة على ضوء المعطيات العلمية المرتبطة بالعلوم الجنائية، والتوجهات العالمية للسياسة الجنائية، في إطار ذلك يتعين تعزيز استقلال القضاة دستوريا، والزيادة في أعدادهم لمجابهة التراكمات التي تعرفها المحاكم على مستوى الملفات والقضايا خصوصا البسيطة منها.
كما يجب الحرص على توفير الإمكانيات المادية والمعنوية لمختلف العاملين في أجهزة العدالة الجنائية، وذلك حتى يتمكنوا من أداء وظائفهم في أحسن الظروف، كما يجب تعميم التقنيات المعلوماتية على مختلف أجهزة العدالة الجنائية، وذلك حتى تكحون قادرة على مواكبة البدائل الحديثة.
– إيمان منير :” الطرق البديلة لتسوية أزمة العدالة الجنائية،” بحث لنيل ماستر في القانون الجنائي والعلوم الجنائية، جامعة محمد الأول، وجدة 2009-2010، ص: 84.
– إدريس بن محجوب: قواعد تمثيل العقوبات السالبة للحرية والعقوبات المالية، ج1، ط 1، مطبعة بابل 1988، ص: 158.
– عصام عفيفي عبد الباسط: تجزئة العقوبة نحو سياسة جنائية جديدة، دراسة تحليلية تفصيلية مقارنة، ط 1، دار النهضة العربية القاهرة 2004، ص: 50-51.
– زهير عروس: تدعيم صلاحيات قاضي تنفيذ العقوبات من خلال القانون، مجلة القضاء والتشريع عدد 3 مارس، 2003، جمهورية تونس، ص: 17.
– عطية مهنة دروس في العقوبة، دار النهضة العربية القاهرة، ط 1، 2003 ص: 74.
– فقد ظهر اتجاه فقهي انتباه أنصار المدرسة الوضعية دعو فيه إلى ضرورة إنشاء صندوق للغرامات فيه حصيلة كل الغرامات المحكوم بها، ويخصص هذا الصندوق لمنح تعويضات للمجني عليهم في حالة استحالة حصولهم على التعويضات المحكوم بها. وفعلا فإن هذا التوجه أخضع للدراسة في العديد من المؤتمرات أهمها مؤتمر باريس 1895، وكذا مؤتمر بروكسيل سنة 1900، وقد ثم الخروج من هذه المؤ تمرات بتوصيات تدعوا إلى إنشاء صندوق خاص للغرامات تستخدم حصيلته في إغاثة المجني عليهم، أنظر أبوا المعاطي حافظ أبو الفتوح: م س، ص: 291.
– فقد جاء في الفصل 141 من ق.ج.م، بأنه”للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها، في نطاق الحدين الأدنى والأقصى المقررين في قانون المعاقب على الجريمة، مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية وشخصية المجرم من ناحية أخرى”، .
– محمود نجيب حسني: درونس في العقوبة، م س ص: 107.
– وهو ما ذهب إليه العمل القضائي المغربي، بحيث جاء في حيثيات قرار صادر عن المجلس الاعلى تحت رقم 1/737 مؤرخ في 22-05-2002 في الملف الجنحي عدد 2002/961 “حيث يتضح أن المحكمة إن عست قرارها بمنح المتهم ظروف التخفيف، فإنها لم تأتي بأي تعليل خاص بتوقيع عقوبة حبسية موقوفة التنفيذ في مواجهة المتهم، غير مراعية لذلك ما أوجبه االمشرع في الفصل 55 من القانون الجنائي المشار إليه أعلاه، مما جاء معه قرارها مخالفا للقانون ومعرضا بالتلي للنقض والإبطال” أنظر قضاء مجلس الأعلى عدد 6 ماي 2005، 334.
– نبيه صالح: دراسة في علم الإجرام والعقاب: ط 1 دار العلمية للنشر والتوزيع عمان 2003، ص: 290.
– لطيفة لمهداتي: الشرعية في تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، م س، ص: 86.
– أحمد عوض بلال: علم العقاب النظرية العامة وتطبيقاتها، ط 1، 1983-1984، ص: 184.
– مطواح بم محمد آل مضواح: المنفعة المستقبلية للعقوبة من منظور إصلاحي، مركز الدراسات والبحوث الجامعية، نايف العربية لعلوم الأمنية، الرياض، 2009، ص: 10.
– يوسف وهابي: العدالة الجنائية بين التثبيت والتحديث، مجلة الإشعاع، ع- دجنبر 2002، ص: 1118.

Exit mobile version