Site icon مجلة المنارة

الجهوية وإعداد التراب في بعض التجارب المقارنة

 

الجهوية وإعداد التراب في بعض التجارب المقارنة

 

د. شفيق بوكرين

باحث في العلوم السياسية والقانون الدولي

 

مقدمة :

تعد الجهوية من المواضيع التي كثر الحديث عنها، نظرا لميادين تدخلها، والتي تهدف إلى تفعيل سياسة الدولة على المستوى الجهوي، ولاسيما في مجال إعداد التراب، بحيث تعمل على تحقيق الانسجام بين التصاميم الوطنية والتصاميم الجهوية لإعداد التراب .

و في هذا الإطار، فإن سياسة إعداد التراب تهدف إلى بلورة نظرة مستقبلية، وترسم التوجهات الكبرى لما سيكون عليه المجال بجميع مكوناته خلال مدة طويلة، الأمر الذي يتطلب سياسة لإعداد التراب ترتكز على اللامركزية الجهوية، باعتبار هذه الأخيرة تلعب دورا مهما في تنفيذ هذه السياسة .

وتعتبر الجهوية  أداة من أدوات ممارسة الديمقراطية على المستوى المحلي، وكذا وسيلة من وسائل تحقيق التنمية المتوازية للبلاد، وهيكلا من الهياكل القادرة على تجميع الطاقات البشرية والمادية، وذلك إذا ما تم توجيهها توجيها عقلانيا.[1]

فالجهوية لها أهداف اقتصادية واجتماعية، بحيث تهدف إلى تحقيق توازن بين جميع أقاليم البلاد، وهي أيضا عنصر أساسي لإعداد التراب، حتى أنه لا يمكن نهج أي سياسة لإعداد التراب دون تعزيز وتقوية الإدارة الجهوية ،لجعلها في خدمة الجماعات الترابية.

وبالتالي فالجهة تعتبر أداة لإنتاج تقسيم ترابي يؤدي إلى وجود عينات ذات ترابط داخلي، وإلى إحداث إطار لعلاقات تبادل وتكامل بينها، ولكن دون تفكيك عن الدولة المركزية، وفق تصميم ترابي ناجح يعتبر التنمية الجهوية مظهرا من مظاهره.

وعموما، فإعداد التراب هي سياسة يجري بموجبها تحديد الإجراءات والتدابير التي يتعين اتخاذها من أجل تهيئة مجال جغرافي معين، بغية تنميته تنمية شمولية ومتوازية هدفها الحد من الإختلالات والفوارق الإقتصادية والإجتماعية بين مختلف أجزائه.

يتضح إذن، أن هناك علاقة بين الجهوية وإعداد التراب، إلا أن هذا التنظيم الجهوي يختلف من بلد لآخر، حيث تم تبني نظام الجهوية السياسية في كل من إيطاليا وإسبانيا، بينما اتبعت ألمانيا نظام الفدراليات، فدساتير هذه الأنظمة نصت على اعتماد جهويات، تكون قادرة على تجاوز الإختلالات والمشاكل التي كانت تعوق مسارها التنموي.

وتكمن أهمية الموضوع، في كون سياسة إعداد التراب في ظل هذه الأنظمة الأوربية، سواء أكانت بسيطة كإسبانيا وإيطاليا، أو فيدرالية كألمانيا،  ستمكننا من استجلاء تجربة وتطور هذه الدول في سياسة إعداد التراب من خلال البعد الجهوي، وبالتالي تحديد موقع هذا البعد داخل هذه السياسة .

ومن ثمة، فإن الإشكالية المحورية التي يمكن إثارتها وارتباطا بالموضوع، هي كالتالي: كيف يمكن إبراز طبيعة العلاقة بين الجهوية وسياسة إعداد التراب في ظل بعض النماذج الأوربية التي هي موضوع هذه الدراسة ؟

ولبسط هذا الموضوع، سنحاول معالجة هذه الإشكالية، من خلال تحديد تجليات الجهوية وإعداد التراب داخل هذه الأنظمة الأوربية في فقرة أولى، على أن نحدد في نقطة موالية طبيعة العلاقة بين الجهوية وإعداد التراب في تلك الأنظمة.

ذلك ما سنتناوله من خلال اعتماد مقارنة بين النظاميين الإيطالي والإسباني من جهة، والنظام الألماني من جهة ثانية .

  1. I) تجليات الجهوية في ظل بعض الأنظمة الأوروبية

إن ما يميز الأنظمة السياسية الحديثة الأوروبية هو توزيع السلطة والاختصاص داخل الدولة على وحدتها الإقليمية، معترفة لها بمجموعة من الحقوق الأساسية، ومن أهمها وضع دستور محلي خاص بها، لتنظيم  سلطاتها التشريعية، التنفيذية والقضائية باستقلال عن الإدارة المركزية .

وتكمن التجارب المقارنة في كون هذه الدول جعلت من الجهوية آلية تدبيرية لإعداد التراب  ضمن المخططات التنموية والسياسية والاقتصادية المحددة، وتنبني على معايير تنسجم مع السياق الاجتماعي والثقافي الذي تنتمي إليه، وذلك لتجاوز الإختلالات والفوارق الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها بعض الجهات والأقاليم.

و في هذا الاتجاه تكتسي تجربة الدول الموحدة كايطاليا واسبانيا أهمية بالغة، باعتبارها تشكل نماذج متميزة في تحديد سياسة إعداد التراب في الإطار الجهوي،  وأيضا باعتبارها تكرس هذا البعد، وتحقق فيه نجاحا كبيرا (مطلب ثاني).

سنقتصر في هذا العنصر على النموذجيين الإيطالي والإسباني، لكون التجربتين يشكلان إطارا متميزا للجهة داخل الدول ذات الطبيعة البسيطة، فكلاهما اختارا نظام الجهوية السياسية، لكن ما يميز إيطاليا، أنها تعرف نوعين من الجهات، جهات ذات نظام عادي وجهات ذات نظام خاص، المنصوص عليه في المادة 116 من الدستور الإيطالي[2].

أما إسبانيا، فعرفت نظام ما يعرف بالجماعات المستقلة، باعتبارها وحدات تتمتع بالاستقلال في تسيير مصالحها.

أ- الجهوية في النموذج الإيطالي.

تعتبر إيطاليا من الدول الأوربية السباقة إلى تبني خيار الجهوية، والأمر الذي دفع هذه الأخيرة يعود لسببين: الأول: يتجلى في مطلب تحديث الدولة التي لم تكن أبدا متجذرة في المجتمع الإيطالي،  زيادة على ما فقدته من مصداقية في ظل النظام الفاشي . أما الثانية:  يتمثل في معالجة مشاكل الجنوب الإيطالي .و مع ذلك يعتبر القانون الصادر عن البرلمان بتاريخ 17 فبراير 1968 أول قانون نظم الجهات الإيطالية الحديثة أعقبه قانون رقم 382 بتاريخ 1975 الذي منح للجهة مكانة متميزة بين باقي المؤسسات.

إن إيطاليا تقدم مثالا على الجهة ذات الطابع السياسي في إطار الدولة الموحدة، فالجهة جماعة ترابية دستورية، تتقاسم مع السلطات المركزية الوظائف السياسية خاصة في الميدانين التشريعي والتنظيمي[3]، تجعلها مختصة بوضع نظامها أو قانونها بجميع الوظائف الإدارية التي تتيح لها تدبير مجالها الترابي الخاص، وثروتها الذاتية، وتقترح قوانين على البرلمان، وتصدر قوانين جهوية وتضع ميزانيتها،  وتتولى جباية  ضرائبها  الخاصة، زيادة على  ممارستها لسلطة  الوصاية  على الجماعات  المحلية   الأخرى، والمؤسسات العمومية التي تتواجد في نطاق ترابها.[4]

هكذا، فالجهات الإيطالية تتوفر على اختصاصات أوسع مقارنة مع باقي الجهات في الدول الأوربية الموحدة، من بينها الاختصاصات المتعلقة بمجال إعداد التراب  ( التعمير- الغابات – الأشغال العمومية – الطرق-الخ…).

ب- الجهوية في النموذج الإسباني.

انتقلت إسبانيا إلى النظام الديمقراطي مباشرة بعد سنة 1975( وفاة فرانكو)، حيث تم وضع دستور 1978 الذي أسس لملكية دستورية، ودولة إجتماعية وديمقراطية، وما يميز النظام السياسي الإسباني هو طبيعة السلطة المركزية، إذ تنص المادة الثانية من دستور1978 على مبدأين رئيسيين: مبدأ وحدة الأمة الاسبانية، الذي يضمن حق الاستقلال الذاتي للقوميات والأقاليم التي تتكامل فيما بينها عن طريق التضامن، والمبدأ الثاني يتمثل في المساواة بين جميع الاسبانيين في  الحقوق والواجبات، وكذلك المساواة بين جميع الجهات الاسبانية.

و ترجع أسباب إقرار نظام الجماعات المستقلة بإسبانيا إلى العوامل الجغرافية والتاريخية للبلد، حيث أن موقعه الإستراتيجية بين أوربا وإفريقيا ،و توفره على ثلاث واجهات بحرية، ساهم فيه التنوع الإثني والثقافي والتعدد اللغوي في المجتمع الإسباني، الناتج عن الهجرة.

ومن أجل الحفاظ على التنوع داخل الدولة الواحدة وتجنب الحركات الانفصالية، قامت الدولة الإسبانية بإعطاء الجهات ( الجماعات المستقلة ) اختصاصات واسعة من خلال الدستور الوطني ومنحها الحق في وضع أنظمة أساسية محلية .

والملاحظ  كذلك، أن الدستور الإسباني قد حدد الصلاحيات بدقة بين الدولة والجماعات المستقلة، بحيث نصت المادة 148 على الصلاحيات المحجوزة للدولة، والمادة 149 على الصلاحيات المحجوزة للجهات.

فبالنسبة للأولى، فهي القابلة أن تكون مشتركة مع الجهات، فتشير المادة 156 من الدستور الإسباني إلى أنه ” يمكن للجماعات المستقلة أن تقوم بدور مفوض لها أو بتعاون مع الدولة من أجل تسيير التحصيل وتصفية المداخيل الضريبية وفقا للقوانين والأنظمة الأساسية، ويمكنها كذلك أن تضع الضرائب الخاصة بهما ” فمجال المالية العامة يمكن أن يكون مشتركا بين الدولة والجماعات المستقلة .

أما الثانية، فهي قابلة للتفويض للجماعات المستقلة، فهي مجالات يجوز للكورتيس العام تفويضها إلى الجماعات المستقلة بناء على الفقرتين الأولى والثانية من المادة 150 من الدستور، أو بناءا على قانون تنظيمي[5]، ومن بين هذه المجالات:

– التشريع الأساسي والنظام الاقتصادي للضمان الاجتماعي .

– السكك الحديدية والنقل البري الذي يمر في أكثر من جماعة مستقلة، ونظام الاتصالات، والبريد.

و من جهة أخرى فالصلاحيات المحجوزة للجهات ( الجماعة المستقلة) تنقسم إلى نوعين، مجالات محجوزة لصلاحيات الجماعات المستقلة، ومجالات مشتركة بين كل الجماعات المستقلة، هي التي نصت عليها المادة 148 من الدستور الإسباني :

– الفلاحة والماشية.

– الجبال واستغلال الغابات.

– حماية البيئة.

– تشجيع وتطوير اقتصاد الجماعات المستقلة.

– تشجيع الثقافة والبحث العلمي والتعليم بلغة الجماعة المستقلة .

بفضل توزيع الصلاحيات بين الدولة والجهات استطاعت إسبانيا تجاوز مشاكلها اللغوية والعرقية والمجالية، وبالتالي تمكنت من بناء دولة قوية فاعلة داخل منظومة الإتحاد الأوربي .

وعليه ،فإن النظام الجهوي في كل من إيطاليا وإسبانيا، سعى إلى ترسيخ البعد الجهوي، من خلال إحداث تضامن وتعاون بين الجهات، من أجل تحقيق التوازن على المستوى المجالي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ومن جهة أخرى المساهمة في بلورة تنمية وطنية شاملة، تساير التوجهات التنموية للاتحاد الأوربي.

إن ألمانيا باعتبارها دولة فيدرالية، فهي تشمل العديد من الجهات التي يطلق عليها “اللاندر” lander،   وهي عبارة عن ولايات تستمد اختصاصاتها التشريعية والقضائية والإدارية من دستورها الخاص بها[6].

فإذا كانت بعض الميادين الهامة في التشريع تختص بها الدولة الفيدرالية، فإن ” اللاندر” يباشر سلطات هامة كالشؤون الثقافية بما فيها التعليم المدرسي والجامعي والبث الإذاعي والتلفزي والأمن الداخلي ووضع القواعد العامة التنظيمية للجماعات المحلية التابعة لها، كما تتوفر على برلمان منتخب بطريقة ديمقراطية، وهو جهاز تشريعي منتخب  بالاقتراع  العام  المباشر لمدة  تتراوح  بين 4 و6 سنوات، وحكومة منبثقة عن هذا البرلمان وبنيات إدارية وقضاء خاص.

أما الإدارة والتنفيذ ،فيدخلان في صلاحيات الجهات التي تقوم بتنفيذ قوانين الإتحاد ،على ألا تمس بالمبادئ العامة المكفولة من الدستور الاتحادي، والتي يمكن إجمالها في النقط التالية:

– مبدأ عدم المساس بالهيكلة الفدرالية (المادة 79 من دستور 1949).

– مبدأ مشاركة الولايات في التشريع والإدارة على الصعيد الإتحادي ( المادة 79 من دستور 1949).

– مبدأ التجانس (المادة 28 من دستور 1949).

وللإشارة، فمبدأ الولاء والإخلاص المتبادل غير منصوص عليه في الدستور، ويتمثل على سبيل المثال لا الحصر في المجال المالي، وبالأخص تعهد إحترام الولايات للمعاهدات الدولية ومعاملة الإتحاد للولايات معاملة متساوية .

ويمكن أن نعتبر النموذج الألماني مثالا للفدرالية المتعاونة بين الإتحاد Bund والولايات Lander، وهذا المبدأ تم تكريسه دستوريا من خلال التعديل الدستوري لسنة 1969 بإدخال مبدأ التعاون والتشارك بين الإتحاد والولايات، أو ما يطلق عليه بمفهوم الصلاحيات المشتركة، إذ يمكن للإتحاد الفيدرالي المشاركة مع الولايات – بناء على إتفاقيات – في ميادين البرامج التعليمية وتشجيع مؤسسات ومشاريع البحث العلمي، كما يساهم في إنجاز المهام الممنوحة للولايات في مجموعة من المجالات الإقتصادية والزراعية إذا كانت هذه المهام ذات نفع عام على المجتمع ولها تأثير على تحسين الظروف الحياتية.[7] (المادة 91 من الدستور الألماني).

وفي إطار توزيع المهام المالية بين الاتحاد والمناطق، يتحمل كل من الإتحاد والولايات بشكل منفصل النفقات، لكن الأعمال التي تقوم بها الولايات بناءا على تكليف من الإتحاد، فإن هذا الأخير هو الذي يتحمل النفقات المترتبة على ذلك ( 104 من الدستور الألماني ).

ويمكن للإتحاد منح مساعدات مالية لغرض إستثمارات ذات أهمية خاصة للولايات والبلديات، بهدف خلق توازن إقتصادي بين مختلف الولايات داخل الإتحاد.

 

 

(II طبيعة علاقة الجهوية بإعداد التراب  في ظل الأنظمة الأوربية المقارنة .

تكتسي العلاقات التي تربط اللامركزية الجهوية  بإعداد التراب أهمية خاصة، لكون هذا التحديد  يتميز بطابعه الإستقلالي الذي يرجع  الأصل فيه إلى النقاش الدائر حول المركزية واللامركزية، إذ أن  العمل الجهوي يثير مسألة اللامركزية، بينما يحيل إعداد التراب على آليات الاندماج والتضامن الوطني،   بالتالي دعم المركزية .[8]

لكن اختلاف الأساس الذي يقوم عليه كل من المبدأ اللامركزي ومبدأ إعداد التراب لا يصل إلى حد التناقض، بل إن العلاقة التي تربط بين اللامركزية وإعداد التراب هي علاقة جدلية وتكاملية، بحيث إذا كانت اللامركزية تؤدي من الوجهة الاقتصادية إلى إحداث مراكز  للقرار تتمتع بنوع من الاستقلال، مع ما قد يترتب عن ذلك من مضاعفة الفوارق الجهوية، فبالمقابل، يقوم مفهوم إعداد التراب أساسا على تقليص الفوارق الجهوية والبحث عن أفضل  توزيع جغرافي للأنشطة الاقتصادية، وهو ما يعتبر في الأساس عملا من اختصاص السلطة المركزية.[9]

و في هذا الاتجاه، تعتبر دراسة  تجارب الدول الأوربية المقارنة من الأشياء التي تمكن من تحديد علاقة إعداد التراب بالجهوية، في كل  من الدول الموحدة كإيطاليا وإسبانيا، والدول الفيدرالية كألمانيا .

للحديث عن طبيعة هذه العلاقة في الدول الموحدة، سنقتصر على النموذجيين الإيطالي (أ) والإسباني (ب).

أ – النموذج الإيطالي :

بالرجوع إلى مقتضيات المادة 117 من الدستور الإيطالي الذي حدد مجال تدخل الجهات، نجد أن مضامين هذا الفصل منحت اختصاصات واسعة، تهم  إعداد التراب  والتعمير والغابات والأشغال العمومية،والطرق. واختصاصات محدودة في مجالات المرافق الاجتماعية والثقافية، وأكثر محدودية في ميدان التنمية الاقتصادية كالصناعة العصرية والتقليدية والسياحة وغيرها.، وفي المجال المالي يعترف الدستور الإيطالي للجهات بمبدأ الاستقلال المالي سواء فيما يخص الموارد أو النفقات[10] .

وهذا الاختصاص يوضح العلاقة بين الجهوية وإعداد التراب في إيطاليا .

وبمقارنة هذا الاختصاص مع اختصاصات المجالس الجهوية في الدول الأوربية الموحدة،  يلاحظ أن نطاقه أكثر اتساعا، وبالتالي تبقى تجربة الجهوية في علاقتها بإعداد التراب في إيطاليا جد مهمة، ولها مكانة دستورية،  بحيث لا يمكن إجراء أي تعديل لقواعدها أو اختصاصاتها إلا بتعديل دستوري.[11]

إلا أن هذه الجهات رغم منحها مجموعة من الصلاحيات والآليات والوسائل القانونية، سواء من خلال المخططات التنموية الجهوية، أو التخطيط لتنفيذ سياسة إعداد التراب، فإنها لم تستطع الحد من الاختلالات الجهوية ما بين منطقة الشمال الغنية، والجنوب الذي يعاني من الإقصاء والتهميش،

ورغم ذلك، تبقى الجهوية بإيطاليا، مثالا حيا  للجهة ذات الطابع السياسي في إطار الدولة الموحدة، التي ذهبت فيه اللامركزية الجهوية إلى الحد  الذي أصبحت بمثابة حد فاصل أو حل توظيفي  بين الجهات والإدارة المركزية في إطار الدولة الموحدة .[12]

وهكذا يمكن القول بأن الجهوية لها حضور قوي في مجال إعداد التراب الجهوي،و كذا المساهمة في إعداد التراب في المجال الوطني، في حين يبقى دور الدولة تكميلي للحد من الإختلالات المجالية التي تعرفها الجهات الإيطالية، من  خلال السهر على مسألة التضامن الوطني بين الجهات، لكي لا تكون هناك جهات غنية وأخرى فقيرة .

وعموما، فإن سياسة إعداد التراب بإيطاليا، هي سياسة مشتركة ما بين الدولة والجهات الإيطالية على مستوى الإعداد والتنفيذ .

ب – النموذج الإسباني :

لضمان  التوازن بين وحدة الأمة الإسبانية وحق الاستقلال الذاتي  للمناطق، اعتمد الدستور الإسباني  مجموعة من المبادئ، فيما يتعلق بإعداد التراب في علاقته بالجهوية، نجد من أهمها: مبدئي المساواة والتضامن .

بخصوص مبدأ المساواة، فقد نص على المساواة بين جميع الإسبانيين في الحقوق والوجبات في أي جزء من أقاليم الدولة، وكذلك مساواة الجهات فيما بينها، فالجماعات المستقلة الإسبانية متساوية أمام القانون من حيث الحقوق والواجبات بصرف النظر عن عدد سكانها أو مستواها الاقتصادي والاجتماعي أو خصائصها الثقافية .

أما مبدأ التضامن، فنجده يدعم مبدأ المساواة، وينص الدستور كذلك على تضامن جميع الجهات لتحقيق  التكامل الاقتصادي، وهو ما أشارت إليه المادة الثانية  من الدستور ” يجب على القوميات والأقاليم أن تتكامل  وتتضامن فيما بينها  “، ونصت المادة 138 كذلك على هذا المبدأ تضمن الدولة التحقيق الفعلي لمبدأ التضامن المكرس في المادة الثانية من الدستور من خلال السهر على إقرار التوازن  الاقتصادي الملائم والعادل بين مختلف الأقاليم الإسبانية “[13] .

و بالرجوع إلى المادة 148 من الدستور الإسباني، الذي حدد صلاحيات  الجماعات المستقلة  في ممارسة الاختصاصات التالية،  منها التعمير والإسكان والتدبير في مجال حماية البيئة، نجد أنه قيد مسألة تشجيع تطوير اقتصاد الجماعات المستقلة بالسياسة العامة للدولة.

كما أن الدولة احتفظت بأسس التخطيط العام للنشاط الاقتصادي، وإصدار التشريع الأساسي حول حماية البيئة، مع احترام صلاحيات الجماعات المستقلة لوضع قواعد إضافية للحماية، وهو ما أشارت إليه المادة 149 من الدستور الاسباني .

و جاء في المادة 158 من نفس الدستور، أنه يؤسس صندوق للمقاصة يخصص لتوجيه نفقات الاستثمار، بحيث يهدف إلى تصحيح عدم التوازن الاقتصادي بين الأقاليم، ولإقرار مبدأ التضامن فعلا، كما أن الكورتيس العام هو الذي يوزع موارده بين الجماعات المستقلة والعمالات عند الاقتضاء.

ويبقى النموذج الإسباني من النماذج المتميزة التي حاولت الربط بين الديمقراطية  الجهوية والتنمية الجهوية من خلال إعطائها عدة اختصاصات ذاتية في مجال إعداد التراب. [14]

وعموما، فدور الدولة في إعداد التراب، يتجلى في السهر على تحقيق مبدأ التضامن بين الجهات، وفق  مضمون المادة 138  من الدستور الإسباني، من أجل الحد  من التفاوتات المجالية بين الجهات، عن طريق إبرام مجموعة من  الاتفاقيات وعقود البرامج بين كل من الدولة والجهات، وبين الجهات فيما بينها، كما يظهر دور الدولة كذلك من خلال تطبيق مبدأ المساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مجال إعداد التراب .

ومن خلال ما سبق، يتضح أن سياسة إعداد التراب في اسبانيا هي سياسة مركزية بامتياز، ومنصوص عليها في الدستور الاسباني، من خلال مبدأين أساسيين  هما: مبدأ المساواة ومبدأ التضامن الذي تعمل الدولة المركزية على تحقيقه بين كافة الجهات الاسبانية.

عرفت ألمانيا  خلال الثورة الصناعية تقدما لاعقلانيا للنمو الصناعي، نتج عنه عدم التحكم في التوزيع الترابي للمقاولات، وتنمية جهوية غير متوازية، إضافة إلى اكتظاظ المدن وتشويه عمرانها، وعدم كفاية تجهيزات البنية التصنيعية، مع انتشار مظاهر الهجرة والفقر والبطالة .[15]

كل هذه المشاكل دفعت بالسلطات في البداية إلى إحداث جمعيات شراكة بين الجماعات المحلية، أوكلت  لها السلطة التدبير في ميدان إعداد التراب مثل، ” جمعية تدبير برلين الكبرى” سنة 1911، التي لم تتواجد على الساحة إلا لمدة تسع سنوات، بسبب ضعف الوسائل الممنوحة لها، ليتم تعويضها سنة 1920 بمؤسسة أخرى، تحمل اسم “الجمعية الموحدة لبرلين”. وكذلك تم في نفس السنة تجميع الجماعات  والمقاطعات القروية والإدارات لمنطقة الرور  (Ruhr) في إطار جمعية مشتركة، حيث أسندت إليها مهمة تدبير المجال عبر كل الجماعات، وتنسيق الاتصال فيما بينها، وتهيئة المناطق الخضراء، إذ أصبحت هذه الجمعية نموذجية لسياسة إعداد التراب، فاستمرت  في هذه السياسة إلى غاية 1975، حيث استبدلت بإدارة لاند (Land ( العامة.[16]

ووفقا لهذه السياسة قامت الدولة الفدرالية، بالسهر على التوزيع الجيد للسكن والأنشطة الإنتاجية والترفيهية  والتجهيزات الاجتماعية والثقافية، كما قامت بربط هذه العناصر كلها بوسائل المواصلات، إلا أنه وبالرغم من المجهودات التي بذلت من أجل تحقيق توازن أحسن للتراب، فإنه لم يتم القضاء على الفوارق الاقتصادية بين التجمعات الحضرية والصناعية وبين المناطق القروية، بالإضافة إلى ذلك تزايدت الهجرة القروية نحو المناطق التي تتوفر على مرافق حيوية .

و في هذا الإطار قامت جميع ولايات هامبورغ  وبرلين وبرلين الغربية في الفترة ما بين 1968 و1978 بإصلاح جهوي واسع، حيث قلص عدد المدن والدوائر إلى 99، بعد أن كان يفوق 139، كما انخفض عدد المقاطعات القروية من 425 إلى  235 .[17]

وفي نفس السياق، يتضح أن العلاقة بين إعداد التراب والجهوية في ألمانيا الفدرالية، تتجسد  بشكل واضح من خلال الاختصاصات الواسعة المرتبطة بسلطتي التشريع  والتنفيذ، وذلك على مستوى الجهات، بحيث يتضمن هذا الاتجاه بعدين ،بعد أفقي يتمثل في العلاقة بين الجماعات والمقاطعات من جهة ،أو بين الجهات وباقي الجماعات الأخرى، تم هناك بعد عمودي يرتكز على التنسيق الذي تقوم به الدولة الفدرالية المبني على التوازن المجالي بين مختلف الجهات.[18]

وانطلاقا من المادة 72 من الدستور الألماني المتعلقة بالتشريع التنافسي، يحق للولايات التشريع فقط بالنسبة للمدى الذي لم يمارس فيه الاتحاد صلاحياته التشريعية بموجب قانون، ويحق للاتحاد التشريع في المجالات الواردة في المادة 74 (الفقرة الأولى)، والمتعلقة بمجالات التشريع التنافسي، إلى أن يتم التوصل إلى تحقيق التوازن بين مناطق الاتحاد، كما تستطيع الولايات أن تمارس صلاحياتها التشريعية في مجالات الحفاظ على البيئة، وتنظيم الحيز المكاني، وتدبير شؤون المياه .

ومجالات التشريع التنافسي الواردة في المادة 74 من الدستور الألماني، هي القوانين المتعلقة بالاقتصاد، والعقار وقانون دعم تشييد الأبنية السكنية، والملاحة سواء في السواحل البحرية أو الملاحة الداخلية، وتنظيم الحيز المكاني، وتدبير شؤون المياه، وإجازات القبول والتخرج والتعليم العالي.

وجاء في المادة 87 من الدستور الألماني، أن الملاحة البحرية اختصاص حصري للاتحاد من خلال القانون، ويمكن للاتحاد نقل إدارة ممرات مائية اتحادية إلى الولايات، مادامت تقع ضمن حدودها، كما أن المادة 83 من نفس الدستور، فيما يخص توزيع السلطة بين الاتحاد والولايات، تنص على أن الولايات تنفذ القوانين الاتحادية باعتبارها شؤونا خاصة بها، إلا إذا حدد هذا القانون الأساسي شيئا آخر أو سمح به.

و يستشف مما سبق، أن النموذج الألماني يعمل على إحداث نظام يأخذ بعين لاعتبار الخاصيات المميزة لكل جهة، مع تشجيع استمرارية التقاليد الثقافية والتنوع العرقي، ويهدف إلى إعادة التوازن بين مختلف الجهات الألمانية عن طريق تبني قانون إطار لإعداد التراب سنة 1965، الذي تم تجديده سنة 1998، هذا القانون الذي يحدد التوجهات العامة لإعداد التراب، وبالخصوص تشجيع سياسة إعداد التراب ذات البعد الجهوي عبر تنمية التخطيط المحلي، يمكن القول أن هذا النظام قد ساعد على تقليص الاختلالات في مختلف المناطق، إضافة إلى مساهمته في دعم المناطق والأقاليم الأقل حظا، وإقراره بمبدأ الديمقراطية التشاركية، حيث يمكن لكل مواطن انطلاقا من موقعه أن يشارك في المشروع المجتمعي .

وعموما، يمكن القول أن سياسة إعداد التراب في ألمانيا، هي سياسة مركزية وجهوية في نفس الوقت، بحيث يحق للولايات إصدار تشريعات تتعلق بمجالات إعداد التراب في الحالات التي يسمح بها الدستور الألماني، كما يمكن للدولة الفيدرالية ممارسة هذا الاختصاص.

 

خلاصة القول، يتضح أنه يوجد إطار جهوي لإعداد التراب في النماذج الأوربية الواردة في هذه الدراسة (إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا)، وذلك من خلال الاختصاصات الموكولة للجهة، والقادرة على بلورة سياسة واضحة تساهم في الحد من الإختلالات بين مختلف الأقاليم والمناطق، وبالتالي إعادة التوازن الترابي رغم اختلاف كل نظام سياسي عن الآخر( إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا)، وانفراد كل منهما بخصوصيات. وعليه فإن العلاقة بين الجهوية وإعداد التراب تطبعها اختلافات حسب الخصوصيات التي يمتاز بها كل نموذج، إلا أنه رغم ذلك يمكن القول أنها تشترك في مجموعة من الأهداف .

وفي هذا الإطار، نتحدث عن حداثة التجارب الجهوية بهذه الدول التي اعتمدت الجهوية بشكل تدريجي لاعتبارات منها، على الخصوص الهاجس السياسي والخوف من التفكك ،وبالتالي عملت على احتواء النزاعات الانفصالية، بالإضافة إلى الاعتبار الاقتصادي، الذي لعب دورا مهما في اعتماد الجهوية كخيار للحد من التفاوتات الاقتصادية.

كما أن دور الدولة في إعداد التراب في هذه النماذج يختلف من بلد لآخر، فهو حاضر بشكل مهم في كل من اسبانيا وألمانيا، وذلك لتصحيح الإختلالات الجهوية التي تظهر من حين لآخر، وأقل أهمية بالنسبة لإيطاليا، حيث يمكن القول أن إعداد التراب فيها هو اختصاص أصيل للجهة.

 

 

 

 

لائحة المراجع :

 

أ – المراجع باللغة العربية:

الأطروحات والرسائل:

 

– المراجع باللغة الفرنسية :

 

[1]– عبد المجيد السملالي، النموذج الألماني للجهوية، المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، عدد خاص، يوليوز 2005،ص 155 .

[2]– محمد بوبوش، قضية الصحراء ومفهوم الإستقلال الذاتي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، كلية الحقوق أكدال بالرباط، السنة الجامعية 2002، ص 129.

[3] – رشيد البكر، إعداد التراب ورهان التنمية الجهوية، أطروحة لنيل الدكتورة في الحقوق، جامعة الحسن الثاني عين الشق، كلية الحقوق الدار البيضاء، السنة الجامعية 2000،ص 201

[4]– Driss Basri : « la décentralisation Maroc de la commune à la région ». Nathan ,1994 p 260 .

– [5] أحمد السوداني، النظام الجهوي الإسباني، الجماعات المستقلة، المجلة المغربية الأنظمة القانونية والسياسية، عدد خاص، يوليوز 2005، ص 109 .

[6]– Gérad Maroc – hans kistenmacher –hans –guntherchev  traduction en français , ELK nowak – lehmann , Imprimé en france , Mai 1994, p15.

[7] – Louis Pavoreu ( et autres ) droit constitutionnel , Dalloz, 2000, p : 453.

[8] -c. guillemet , et jarmaent,la région italieme : un pari encore à gagner ,revue française de science politiques , aout 1981,m4,page 701-702.

 [9] – عبد الخالق العلاوي، سياسة إعداد التراب في المغرب : دراسة الإطار المؤسساتي والأدوات والمنهجية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق وجدة، السنة

الجامعية : 2005-2006 ص 190.

-محمد بوجيدة، طرق توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات المحلية في القانون المقارن، طبعة 2000،ص 123[10]

[11] – عبد القادر الكحيل ،الرهانات السياسية والتنموية للجهة بالمغرب، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام كلية الحقوق أكدال الرباط ،السنة الجامعية 2006 -2007 ص 143.

– رشيد  البكر، مرجع سابق، ص 203.[12]

– أحمد السوداني، نفس المرجع، ص 110. [13]

– أحمد السوداني، نفس المرجع،  ص  133.[14]

– رشيد البكر ،نفس المرجع، ص 18 .[15]

– رشيد البكر ،نفس المرجع، ص 196 .[16]

– عبد المجيد السملالي ،نفس المرجع ،ص 155.[17]

[18] – Jacques delors , l’aménagement du territoire et la politique régionale  en allemagne, vers une  européanisation  en douceur ? document de  travail  ute guder, octobre  2003, site : www.notre _ Europe .eu /file admim( IMG/pdf/ ute . pdf).

Exit mobile version