التعمير التشاركي في ظل قانون 90- 12 المتعلق بالتعمير

التعمير التشاركي في ظل قانون 90- 12   المتعلق بالتعمير*

الميلود بوطريكي

أستاذ القانون العام بجامعة محمد الأول بوجدة

الكلية المتعددة التخصصات بالناضور

 

 مقدمة:

التعمير التشاركي طريقة لإشراك المواطنين سواء بشكل مباشرة أو غير ماشر في إعداد ووضع وثائق التعمير.  وهذه الاخيرة  هي مجموع الادوات والآليات القانونية والتقنية الأساسية لتنظيم وتأطير استعمال واستغلال المجالات الترابية لضمان شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإسهام في تلبية حاجيات الساكنة وتوفير شروط الاندماج الاجتماعي والتكامل المجالي[1].

يشهد التاريخ أن أول شكل للتعمير عرفه المغرب هو ذلك الموجود في المدن العتيقة والذي يستمد جذوره من الدين الإسلامي ومن الممارسات.  إلا التعمير في معناه   القانوني والتقني الخالص   يعود إلى أوائل القرن العشرين [2]. إذ سيتم ادخال وثائق التعمير من طرف الحماية في المغرب منذ 1914 فكان ظهير 16 أبر يل 1914 أول تشريع  في مجال التعمير وهو ما وضع المغرب من بين أول الدول التي تتوفر على أداة تشريعية في هذا المجال. وبعد ذلك صدر تشريع جديد في مجال التعمير بواسطة الظهير الشريف الصادر في 30 يوليوز 1952 . و منذ ذلك الحين مر المغرب بمراحل مختلفة وكان حقل العديد من التجارب، وهو ما سمح له بتراكم تجربة طويلة وغنية في مجال التعمير. وتسلط الاشكال التي اتخذها التعمير الضوء على ضخامة التغييرات التي عرفها المغرب من جهة  ومن جهة أخرى على ضرورة تبني مبادئ ومقتربات جدية التسيير وتدبير المجال وتأكيدا على ھذا التطور صدرت قوانين جديدة، تلائم التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب، وهكذا صدر كل من القانون رقم 12.90 المتعلق بالتعمير ، والقانون رقم 25.90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات والمراسيم التطبيقية لهما. وبهدف تحسين مقتضيات قانون التعمير والمجال المغربي ستعرف هذه القوانين تعديلات مهمة بموجب القانون رقم 66.12 المتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء[3].  بتاريخ 19 شتنبر 2016.

    فماهي آليات التعمير التشاركي في ظل قانون 90-12 المتعلق بالتعمير؟ وماهي غاياته واهدافه  ؟ وماهي حدوده؟

للإجابة عن هذه الاشكالية سنتطرق في المطلب الأول: لآليات مشاركة الأطراف غير الإدارية في إعداد وثائق التعمير  بينما نتناول في المطلب الثاني الطبيعة القانونية والابعاد السياسية لمشاركة الأطراف غير الإدارية في إعداد وثائق التعمير. وذلك وفق التصميم الآتي:

المطلب الأول: آليات التعمير التشاركي في ظل قانون 90-12

الفرع الأول: الآليات المباشرة

الفرع الثاني: الآليات الغير مباشرة

المطلب الثاني: غايات التعمير التشاركي وحدوده في ظل قانون 90-12

الفرع الأول: غايات التعمير التشاركي

الفرع الثاني: حدود التعمير التشاركي

 

المطلب الأول: آليات التعمير التشاركي في ظل قانون 90-12

بالرجوع إلى قانون 90-12 المتعلق بالتعمير نجد أنه نص على تدخل الأطراف غير الإدارية في إعداد وثائق التعمير عبر آليتين: مباشرة وغير مباشرة. ففي الحالة الأولى لا تكون هذه الأطراف في حاجة إلى أي وساطة بينما في الحالة الثانية تكون ممثلة بناطق باسمها وهي الطريقة المفضلة لدى إدارة التعمير.

الفرع الأول: الآليات المباشرة المشاركة بناء على البحث العمومي

يطلق على أنها النوع من المشاركة المباشرة لأنها تمكن الأطراف غير الإدارية من التدخل في إعداد وثائق التعمير بدون وسيط قصد إبداء اقتراحاتهم، وقد نص قانون90-12 المتعلق بالتعمير على تقنية للمشاركة المباشرة ألا وهي البحث  او التحقيق العمومي .

وتمكن المشاركة عن طريق البحث أو التحقيق العمومي من تجميع ملاحظات من المواطنين المعنيين مباشرة. وهي تقنية تسمح بإشراك المدارين في اتخاذ القرارات التي تعنيهم .وقد ألزم قانون90-12 الإدارة باللجوء إلى هذه الآلية في الحالات التالية:

      أ-إعداد تصميم التهيئة:

يعتبر تصميم التهيئة بمثابـة وثيقـة تعميريـة تنظيميـة تستهدف تخطيط المجال الحضري بشكل خـاص، والـتحكم فـي التوسـع العمرانـي للجماعات الحضرية والقروية بشكل عام . فهو بمثابة الوثيقة التي تترجم عمليا توجهات المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية على أرض الواقع، وكذا تحديد الإجراءات التنظيمية المتعلقة بعمليات التعمير وكيفية استعمال الأراضي الحضرية .

 

يعتبر تصميم التهيئة وثيقـة تعميريـة تنظيميـة يعمل على تنظيم وتوجيه المجال الحضري ويخضع في إعداده  لقانون90-12 ، وهو ليس مجرد خريطة ترسم عليها الشوارع والمساحات والمناطق بل هو عبارة عن وثيقتين أساسيتين وهامتين :

  • الوثيقة الأولى : ضابط التهيئة أو نظامها وهو مدونة تعمير محلية تطبق في  نطاق حدود التصميم وتنص على تحديد الأراضي المخصصة للطرقات والساحات العمومية ومحطات  وقوف السيارات والنطاق الخضراء والملاعب الرياضية .والأراضي المخصصة للبنايات والمصالح العمومية  والمنشآت  الاجتماعية كالأسواق والأندية والحمامات والمناطق الصناعية والسكنية والتجارية والسياحية . والارتفاقات على الأراضي : مثل منع البناء في بعض المناطق بنوع معين من البناء وشروطه.
    تنص على العقارات المراد نزع ملكيتها لتنفيذ التصميم وتحديد مساحتها وحدودها وأسماء مالكيها.
  • الوثيقة الثانية : تصميم خرائطي ترسم عليه بالبيان كل ما ورد في الضابط  أو النظام (الشوارع، مساحات ، مرافق ، أنواع المناطق.

تنص المادة 25  من قانون رقم 12.90[4] المتعلق بالتعمير على أن  :” يكون مشروع تصميم التهيئة محل بحث علني يستمر شهرا و يجري خلال المدة التي يكون فيها مجلس الجماعة أو مجالس الجماعات المعنية بصدد دراسته. و يهدف هذا  البحث إلى اطلاع العموم على المشروع و تمكينه من إبداء ما قد يكون لديه من ملاحظات عليه. و على رئيس الجماعة أن يوفر وسائل النشر و الإشهار قبل تاريخ بدء البحث. و يتولى مجلس الجماعة عند دراسته لمشروع تصميم التهيئة دراسة الملاحظات المعبر عنها خلال إجراء البحث قبل عرضها على الإدارة…. “.

وحسب المادة 23 من المرسوم التطبيقي لقانون رقم 12.90الآنف الذكر يجب على رئيس مجلس الجماعة أن يقوم، قبل افتتاح البحث العلني بنشر إعلان يتضمن تاريخ افتتاح واختتام البحث المذكور ويشار فيه إلى إيداع مشروع تصميم التهيئة بمقر الجماعة[5]. ويجب أن ينشر الإعلان المذكور مرتين تفصل بينهما ثمانية أيام في جريدتين يوميتين من الجرائد المسموح لها بتلقي الإعلانات القانونية، ويكون كذلك محل ملصقات بمقر الجماعة . ولرئيس الجماعة المعني بالأمر أن يستعمل بالإضافة إلى ذلك أي وسيلة من وسائل الإعلان الملائمة.

ويجوز لكل من يعنيه الأمر أن يطلع خلال مدة إجراء البحث العلني، على مشروع تصميم التهيئة وأن يضمن ملاحظاته في سجل مفتوح لهذا الغرض بمقر الجماعة، وله كذلك أن يوجه الملاحظات المذكورة في ظرف مضمون الوصول مع إشعار بالتسلم إلى رئيس مجلس الجماعة الحضرية المختص[6].

يقوم رؤساء المجالس المذكورة بتوجيه   هذه الاقتراحات إلى السلطة الحكومية المكلفة بالتعمير قصد دراستها. ويجب أن تكون الاقتراحات المذكورة مشفوعة بملف البحث العلني الذي يتضمن بوجه خاص الملاحظات التي قدمها الجمهور حول البحث المذكور وقامت المجالس بدراستها.

كما أن هذا البحث يجب اللجوء إليه في حال تغيير أو تعديل تصميم التهيئة مادام أن المادة 26 من القانون نفسه تنص على أن يتم تغيير تصميم التهيئة وفق الإجراءات والشروط المقررة فيما يتعلق بوضعه والموافقة عليه. وهو ما يوضح أن الإدارة ملزمة بالقيام بالبحث العمومي لوضع وتعديل وتغيير تصميم التهيئة.

       ب-قرارات تخطيط حدود الطرق العامة:

من خلال رسـم التـصميم للطـرق العمومية الموجودة داخل المدينة وتلك التي يقرر إحداثها سواء منها الشوارع أ و الأزقة أو الممرات وغيرها كما يبين الشوارع الرئيسية التي تربط المدينة بـالطرق الموجـودة أو  المقرر إحداثها والتي تربطها أو سوف تربطها بالمدن القريبة أو البعيدة .[7]

أجاز قانون التعمير لرؤساء مجالس الجماعات بعد مداولة المجلس أن يصدروا قرارات تهدف إلى إحداث طرق جماعية وساحات ومواقف سيارات عامة بالجماعات أو إلى تغيير تخطيطها أو عرضها أو حذفها كلا أو بعضا، ولكن بالمقابل ألزمهم بإجراء البحث العمومي إذ تنص المادة 33منه على أنه :” و يجب أن تحمل القرارات المشار إليها أعلاه التأشيرات المنصوص عليها في الأنظمة الجاري بها العمل، قبل افتتاح البحث العلني في شأنها. وتكون مدة هذا البحث شهرا فيما يتعلق بقرارات تخطيط حدود الطرق العامة وشهرين فيما يخص قرارات تخطيط حدود الطرق العامة المعينة فيها الأراضي المراد نزع ملكيتها. ولا يجوز، طوال مدة البحث وإلى نشر القرار في الجريدة الرسمية، تسليم أي رخصة لإقامة بناء على الأراضي التي يشملها قرار تخطيط حدود الطرق العامة أو قرار تخطيط حدود الطرق العامة المعينة فيه الأراضي المراد نزع ملكيتها لما تستوجبه العملية، على ألا يتجاوز هذا الحظر ستة أشهر”.

     الفرع الثاني: المشاركة غير مباشرة

وهي الطريقة التي تفضلها الإدارة في علاقاتها مع المواطنين فبالنسبة لها فإن التعامل مع ممثلي المدارين أفضل وسيلة لضبط المسطرة التشاركية في إعداد وثائق التعمير نظرا لطابع السرية التي تطغى على المشاركة.

والمشاركة غير المباشرة لها حضور قوي في كل مراحل إعداد وثائق التعمير و تطبق هذه المشاركة الغير مباشرة عن طريق تقنية الاستشارة في الحالات التالية:

       أ-إعداد المخطط  التوجيهي للتهيئة العمرانية:

يعتبر المخطط التوجيهي بمثابة وثيقة تعميرية ذات طابع توجيهي [8]، تطبق على بقعة أرضية تستوجب تنميتها أن تكون محل دراسة إجمالية نظرا لحجم الترابط القائم  بين مكوناتها في المجالات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية .[9]

فمخطط التهيئة العمرانية   إذن عبارة عن مشروع يقوم بتوجيه التهيئة العمرانية وهو مخطط عام وشامل عن  ما نريد القيام به في مجال معين والغاية من مخطط توجيه التهيئة [10].

يرمي هذا المخطط بصورة عامة الى توزيع المجال ووضع اطار قانوني عام للسياسة العقارية ودالك لتحديد المناطق العمرانية المستحدثة وكيفية تهيئتها والمناطق الغابوية والزراعية والمساحات الخضراء الى جانب التجهيزات الاساسية والمرافق الضرورية شان شبكة الطرق والموانئ والمطارات.

تشارك  المجالس  المنتخبة عبر الاستشارة في إعداد المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية إذ تنص المادة 7من قانون90-12 المتعلق بالتعمير على أنه : “….يحال مشروع مخطط توجيه التهيئة العمرانية، قبل أن توافق عليه الإدارة، إلى مجالس الجماعات المعنية، لدراسته .وللمجالس المشار إليها أعلاه أن تبدي، داخل أجل ثلاثة أشهر يبتدئ من تاريخ إحالة المخطط إليها، ما تراه في شأنه من اقتراحات . وإذا لم تبد المجالس الآنفة الذكر أي رأي داخل الأجل المنصوص عليه أعلاه فإن سكوتها يحمل على أن ليس لها أي اقتراح في موضوع المخطط المحال إليها. وتتم مراجعة مخطط توجيه التهيئة العمرانية وفق الإجراءات والشروط المقررة لوضعه والموافقة عليه…”.[11]

ويهدف هذا الإجراء التشريعي أي تحديد الآجال إلى مواجهة أي عرقلة محتملة لمسطرة إعداد مخطط توجيه التهيئة العمرانية من طرف المنتخبين المحليين.

وتتولى الإدارة المكلفة بالتعمير بمشاركة المجالس الجماعية المعنية، دراسة المقترحات التي تم إبداؤها.

       ب-إعداد تصميم التنطيق :

هو من الوثائق الهامة للتعمير يوضع مباشرة بعد المصادقة   على وضع مخطط التوجيه للتهيئة ويهدف الى ملئ الفراغ التعميري لا سيما عند غياب تصميم تهيئة بعض المناطق كما يهدف الى تمكين الادارة والجماعات المحلية باتخاذ التدابير التحفظية اللازمة لا عداد تصميم التهيئة والحفاظ على توجيهات مخطط   توجيه التهيئة.

يحدد  تصميم  التنطيق المناطق والاغراض المخصصة لها هذه المناطق على خلاف تصميم التهيئة الدي يسعى الى النهوض بالتنمية العمرانية لمنطقة معينة .

يتم وضع مشروع تصميم التنطيق بمبادرة من الإدارة وبمساهمة الجماعات المحلية، وتتم الموافقة عليه وفق الإجراءات والشروط التي تحدد بمرسوم تنظيمي. بعد ذلك يجب إحالة مشروع تصميم التنطيق، قبل أن توافق عليه الإدارة، إلى مجالس الجماعات المعنية وإلى مجلس المجموعة الحضرية إن اقتضى الحال ذلك، لدراسته  وإبداء  ما تراه في شأنه من اقتراحات داخل أجل شهرين يبتدئ من تاريخ إحالة التصميم إليها،  تتولى الإدارة دراستها بمشاركة الجماعات المحلية التي يعنيها الأمر. و في حالة عدم قيامها بذلك فإن سكوتها يحمل على أنه ليس لديها أية ملاحظة حول مشروع تصميم التنطيق المحال عليها[12].

حدد المشرع الجهات التي تتدخل في وضع تصميم التنطيق وهي بشكل رئيسي الادارة والجماعة  المحلية التي يمكن ان تساهم في وضعه حيث ان الادارة تحيل عليها المشروع  من أجل دراسته وتقديم مقترحاتها عليه داخل اجل شهرين من تاريخ الاحالة. والمسطرة المتبعة في وضع هذا التصميم شبيهة الى حد كبير بمسطرة وضع مخطط  للتهيئة العمرانية.

و تعتبر هذه المرحلة أهم مرحلة يمكن للمجالس المعينة أن تعبر من خلالها عن اقتراحاتها المتعلقة بالتجهيزات و التنطيق.

ج -إعداد تصميم التهيئة:

يوضع مشروع تصميم التهيئة بمبادرة من الإدارة وبمساهمة الجماعات المحلية  ،وبعد ذلك يحال مشروع تصميم التهيئة قبل موافقة الإدارة عليه على أنظار المجلس أو المجالس المعنية قصد الاستشارة  . ويجب على هذه الأخيرة أن تبدي داخل أجل شهرين من تاريخ إحالة مشروع التصميم اقتراحاتها وملاحظاتها بشأنه [13].  وإذا لم تبد المجالس الآنفة الذكر أي رأي داخل الأجل المنصوص عليه أعلاه فإن سكوتها يحمل على أن ليس لها أي اقتراح في موضوع التصميم المحال إليها.أي تعتبر أنها موافقة ضمنيا على مشروع تصميم التهيئة المحال عليها .

إن المدة المخصصة للمجلس الجماعي هي شهر واحد فقط ذلك ان الشهر الأول للبحث العلني عن منافع ومضار مشروع التصميم الذي ينظم لفائدة السكان وخاصة منهم الذين يمتلكون عقارات داخل المنقطة التي يغطي ترابها التصميم والذي يقيد من حق استعمال البعض منها عن طريق الارتفاقات التي يفرضها أو يخصص استعمالها للمنفعة العامة [14].

المطلب الثاني :غايات التعمير التشاركي وحدوده في ظل قانون 90-12

      يحمل التعمير التشاركي ايجابيات مهمة فهو وسيلة لتحسين القرارات و تجويدها باعتماد مختلف التقنيات و الأدوات عند اتخاذ القرار و غاية لكسب المشروعية ودمج المواطنين في القرارات التي تهم ميدان التعمير.  غير انه لا يزال لم يصل إلى مرحلة المشاركة الفعلية ولا يزال في مستوياته الدنيا. فكيف ذلك؟

الفرع الأول: غايات التعمير التشاركي في ظل قانون 90-12

إن إدارة التعمير مدعوة للتعاطي مع مختلف المشاكل و المطالب التي تواجهها بكل حرفية ومهارة قصد بلورة سياسة ناجحة تهدف تقديم أفضل الحلول والخروج بأحسن القرارات خدمة للمواطنين . لذلك كان لزاما عليها الاستعانة بكفاءات خارجية سواء من بين المدارين أو من داخل مؤسسات أخرى[15] ، فإشراك الإدارة لأطراف أخرى في عملها يمكنها من الحصول على معلومات جيدة بل وحتى على الحلول و الطرق الممكنة للتدخل . إذ يتوفر المواطنون على معارف وآراء مختلفة عن معارف وآراء  مهنييي التعمير وهو ما يثري التحليل ويؤدي إلى تكملة المعارف التقنية لللمهنيين في قطاع التعمير، فبأخذ ملاحظات وانشغالات وطموحات الساكنة بعين الاعتبار منذ البداية وطيلة مدة إعداد المشروع، سيجد مجموع المشاركون إجابات تتطابق مع حاجاتهم الحقيقية.

كما تلعب المجالس المنتخبة هنا دورا مهما بمشاركتها في عرض مختلف المشاكل التي تعاني منها الساكنة مع الحلول التي تراها مناسبة لحل هذه المشاكل لكون المجالس المنتخبة  تملك كل المعلومات عن الأحياء والساكنة التي تمثلها . فتسهل بذلك عمل الإدارة . والإدارة بهذا المنظور تلعب دور برج المراقبة فهي تتلقى المطالب وتدرسها ثم تحولها إلى حلول وقرارات ( مخرجات ) لتقوم بعدها بدراسة ردود الفعل (التغذية العكسية). بل يعتبر المجلس المنتخب بكل مكوناته هيئة للتشاور وتبادل الآراء من أجل اتخاذ القرارات المناسبة.

إن إشراك المواطنين مباشرة أو عبر ممثليهم المنتخبين  في إعداد وثائق التعمير يضفي نوع من الشرعية على هذه القرارات و بالتالي يسهل على الإدارة تنفيذها . بينما تلقى القرارات الانفرادية أحيانا معارضة من قبل المواطنين لا لكونها لا تخدم مصالحهم فقط  ولكن لأن الإدارة لم تعمل على إشراكهم في إعدادها [16]. لقد أكد علماء الاجتماع على أن القرارات التي يشرك فيها المواطنون تجد طريقها إلى التنفيذ على أرض الواقع أي تحويلها من قرارات مكتوبة إلى أنشطة فعلية تتم بسهولة خاصة إذا تم الأخذ برأي الأشخاص الموجهة إليهم[17]. حيث أن شعور الفرد بمساهمته في تخطيط وإنجاز العمل يجعل أداءه يتميز بالحماس و القوة، فبإشراك المدارين تتجنب الإدارة كل الصراعات الممكنة وردود الفعل السلبية.

يسمح التعمير التشاركي  تكملة المعارف التقنية للمهنيين في مجال التعمير بحصولهم على معلومات عن الحياة اليومية للمواطنين، وحشد الدعم الاجتماعي للمشروع وقبوله من طرف الساكنة وبالتالي بناء حكامة ديمقراطية  وتشجيع ممارسة المواطنة.

 الفرع الثاني: حدود التعمير التشاركي في ظل قانون 90-12

يقوم التعمير التشاركي على أساس إشراك المواطنين وممثليهم ، وطلب آرائهم في اتخاذ القرار، ضمانا لوضوح الرؤية، وتبادل الآراء، وانسياب المعلومات، والالتزام بالتنفيذ، وتجويد نوعية القرارات، غير هذه المشاركة تتميز بأنها مشاركة محدودة[18]. لأنها لم تصل بعد إلى مرحلة المشاركة الفعلية نظرا للهيمنة الإدارة على العملية برمتها. فكيف ذلك؟

تتميز  مشاركة الأطراف غير الإدارية في إعداد قرارات التعمير بكونها مشاركة محدودة إذ أن إطار المشاركة في صناعة القرار [19] بالنسبة لهاته الأطراف هو إطار  جد محدد ، فإذا كان الإدارة ملزمة  باللجوء إلى إشراك هذه الأطراف فإنها في جميع الحالات  غير ملزمة بالأخذ بملاحظاتها  وإتباعها  .  فاستشارة الأطراف غير الإدارية تلزم إذن صاحب القرار الإداري، التماسها قبل إصدار القرار غير أن ملتمسات المجلس الجماعي وملاحظات العموم قد يؤخذ بها وقد لا يؤخذ بها ، حيث يكتفى بجمع المعلومات و السلطة المكلفة بالتعمير لا تعبر عن أي موقف ولا تعطي أية معلومة أو جواب بطريقة علنية حول ملاحظات  العموم و المجالس المنتخبة[20].

وعليه، ورغم هذا الامتياز الممنوح للمدارين فإن إمكانية تأثيرهم في عملية إعداد وثائق التعمير تظل منعدمة إذ تبقى الإدارة دائما تتمتع بامتياز الانفرادية في إعدادها وتبنيها . فإذا كان المشرع  ألزم الإدارة  بطلب الاستشارة و دراسة اقتراحات المجالس الجماعية المعينة بمشاركة هذه الأخيرة، لكنها ليست مجبرة بالأخذ وإتباعها .

كما يلاحظ بأن المشرع قد ضيق كثيرا من مشاركة الأطراف غير الإدارية سواء بصفة مباشرة وغير مباشرة  إذ لم يعط القانون رقم 12.90 المتعلق بالتعمير دورا مهما لها في إعداد وثائق التعمير بصفة عامة و اعتبر سكوت ممثلي هذه الأطراف أي المجالس الجماعية و عدم الإدلاء بمقترحاتها في أجل محدد من تاريخ إحالة مشروع تصميم التهيئة عليها، بأنه يحمل على أن ليس لها أي اقتراح حوله [21]. ويالتالي فإن هذه الاستشارة ليست ذات جدوى . وتجب الاشارة أن ظهير 1952 كان يعتبر موافقة السلطات البلدية على مشاريع تصاميم التهيئة شرطا لازما كما تقضي بذلك المادة 11 منه ،فجاء  قانون 12-90 ليعوض الموافقة بالاستشارة التي يجب أن يقوم بها المجلس الجماعي[22].

كما يلاحظ أن مدة شهرين المحددة للاستشارة قد أدمجت فيها مدة البحث العلني حول منافع و مضار المشروع  و المحددة في شهر واحد، مما يجعل المدة الفعلية للاستشارة هي شهر واحد في الحقيقة وهي مدة غير كافية. و يرى الدكتور عبد الرحمان البكريوي[23] في هذا الشأن بأنه من المفيد أن تكون الاستشارة خلال مدة كافية لدراسة مشروع تصميم التهيئة من قبل المجالس الجماعية المعنية.

إذا كانت مشاركة الأطراف غير الإدارية  تتميز بمحدودية التأثير  في  اتخاذ القرار، فإنها في المقابل  تفسح المجال أمام مشاركة واسعة في حالة البحث العمومي[24]، حيث  أنها تتميز بكونها مشاركة مفتوحة في وجع عموم المواطنين . فتقوم الإدارة  بعرض المشروع وتدعو المواطنين لتقديم مقترحات وحلول لمعالجتها، ، فتتاح للأطراف غير الإدارية سواء بصفة مباشرة او غير مباشرة  فرصة تقييم المقترحات والحلول المعروضة، وتختار الإدارة بعد ذلك الحل أو القرار من بين الاقتراحات المقدمة بعد دراستها[25] . وهنا يمكن أن تظهر بعض المشاكل كتناقض الآراء وتنوعها أو معارضة المشروع برمته . وهنا يطرح التساؤل حول الحل الذي يمكن أن تلجأ إليه إدارة التعمير؟

كما يعاب  على مسطرة البحث العلني كونها تتم دون تدخل وسيط محايد بين الإدارة والعموم كما هو الحال في فرنسا حيث يجري تعيين مندوب يتولى الإشراف على مسطرة البحث العلني ويتلقى ملاحظات ومقترحات العموم حول وثائق التعمير ويقوم عقب دراستها بعرضها مرفوقة بملاحظاته على السلطة الإدارية المكلفة بالإعداد[26] .

بالإضافة إلى ذلك، فإن البحث العلني لا قيمة قانونية له  إذ يمكن للإدارة ان لا تأخذ مطلقا بعين الاعتبار ملاحظات ومقترحات المواطنين حول وثائق التعمير فهذا البحث يبقى مجرد إجراء شكلي فقط.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار اللحظات التي يتدخل فيها المواطنون في عملية إعداد وثائق التعمير  نجد ان هذا التدخل يأتي بعد مبادرة الإدارة  لإعداد المشروع  ثم عرضه على الساكنة أو ممثليها  وهو ما يجعل مشاركة  الأطراف  غير  الإدارية  في إعداد قرارات التعمير سواء بشكل مباشر أو عبر ممثليهم رغم أنها مشاركة مفتوحة  إلا  أنها تبقى محصورة في مستوى محدود،[27] وبهذا يظهر أن الطابع التقنوقراطي هو المسيطر على مسطرة إعداد وثائق التعمير ، حيث تتخذ الإدارة القرار ثم تتم دعوة المدارين  للتحاور حوله من خلال الإدلاء بملاحظاتهم، وذلك للتأكد من مدى تفهمهم و استيعابهم للقرار ، وإقناعهم بالانخراط في تنفيذه.  و استمالتهم لقبوله، و تخفيف وقع القرار المتخذ بشكل انفرادي تفاديا لأي مقاومة، أو عدم تعاون يعيق تنفيذ القرار[28].

خاتمة:

إن التعمير  التشاركي  هو عملية تمكن المواطنين أو ممثليهم من ممارسة رقابة كبيرة في الإدارة ،كما أن مشاركتهم في اتخاذ القرارات هي الوسيلة المناسبة لنجاح القرار، وتيسير تطبيقه بين أفراد المجموعة، فمشاركة المجموعة تعني أنها تتفهم القرار، وبالتالي تساهم في تطبيقه، ويعتمد ذلك على فهم المجموعة له واقتناعها به وشعورها بأهميته.

إن دراسة التعمير التشاركي في ظل قانون 90-12 توحي لنا بأن مشاركة  المواطنين في إعداد وثائق التعمير هي مشاركة واسعة . غير أن الأمر في حقيقة الأمر ليس كذلك  إذ ما زالت الإدارة  المكلفة بالتعمير تملك امتيازات هامة في مواجهتهم ،  فالإدارة و إن تخلت عن الانفرادية في إعداد  وثائق التعمير و أصبحت قراراتها تتجه  أكثر فأكثر إلى التداولية فإنها لم تصل بعد إلى  مرحلة المشاركة الفعلية.

إن التعمير التشاركي في ظل قانون90-12 لايزال في مستوياته الدنيا ، لذلك يجب الرفع من مستوى مشاركة الأطراف غير الإدارية في إعداد وثائق  التعمير بإعتماد تقنيات جديدة كالمشاورة والاستفتاء الإداري  والتسيير المشترك  او الانتاج المشترك و التسيير الذاتي. بالإضافة إلى الاستفادة من التقنيات التي جاءت بها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية لسنة 2015 كتقديم العرائض والملتمسات .

 

* مداخلة ألقيت في الندوة الوطنية التي نظمتها الكلية المتعددة التخصصات بالناضور أيام 2و3و4 مارس 2017 حول التعمير والبناء ومتطلبات الحكامة الترابية

[1]  -احمد مالكي، التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب، أطروحة لنيل الدكتوراة في الحقوق، وحدة التكوين والبحث الادارة العامة، جامعة محمد الأول كلية الحقوق ،وجدة، السنة الجامعية 2007/2008،ص.73.

2-للمزيد من التفاصيل أنظر: الحاج شكرة، الوجيز في قانون التعمير المغربي، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الثانية2007،ص.12

 

 

[3] – القانون رقم 66.12 المتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في ميدان التعمير والبناء الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.124 بتاريخ 25 أغسطس 2016[ جريدة رسمية عدد 6501 بتاريخ 19 شتنبر 2016، ص 6630

 

 

[4]  -ظهير شريف رقم 1.92.31 الصادر 17 يونيو 1992، ج ر عدد 4159 بتاريخ 15 يوليو 1992.

[5] – مرسوم رقم 2.92.832 صادر في 27 من ربيع الآخر 1414 (14 أكتوبر 1993) لتطبيق القانون رقم 12.90 المتعلق بالتعمير، الجريدة الرسمية عدد 4225 بتاريخ 20/10/1993 ،ص206.

[6] -المادة24 من المرسوم التطبيقي لقانون90-12

7-عبد الرحمن البكريوي، التعمير بين المركزية واللامركزية ، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء ، الطبعة الأولى1993،ص.111.

[8] -على اعتبار أن المخطط التوجيهي يعتبر الموجه لباقي التصاميم الأخرى ، والتوجيهات هنا هي عبارة عن قرارات تخطيطية عامة للأمدين المتوسط والبعيد ، وهي ليست بالقرارات التنظيمية العادية ذات الطبيعـة التقليديـة نظـراللمساحة الكبيرة التي تسري عليها وعمومية مقتضياتها .

.[9]- R.Cristini « Droit de l’Urbanisme » Edition Economica, Paris 1985,p.125

[10] -المادة 4 من قانون 90-12 المتعلق بالتعمير.

[11]– المادة   8 من قانون 90-12 المتعلق بالتعمير.

 

[12] -المادة 16 من قانون 90-12 المتعلق بالتعمير.

[13] -المادة24 من قانون90-12 المتعلق بالتعمير.

 7 -عبد الرحمان البكريوي ، مداخلة تحت عنوان :” تعدد المتدخلين في ميدان التعمير وانعكاساته على التخطيط والتدبير العمراني”، في ندوة حول العمران في المنطقة العربية بين التشريع والتخطيط والإدارة، الرباط ، أبريل 2001.

[15] G. ISSAC, la procédure administrative non contentieuse, LGDJ, 1968, p.457

[16] J .J .Chevalier, science administrative, PUF, 1986, p.420

[17] ـ صالح مهدي محسن العامري وطاهر محسن منصور الغالبي، الإدارة والأعمال، دار وائل للنشر و التوزيع، عمان، الطبعة الثانية، 2008، ص. 509

[18]ـ أمل أحمد طعمة، اتخاذ القرار والسلوك القيادي، دار ديبونو للنشر والتوزيع، عمان، 2006، ص. 29، متاح على الرابط. http://www.goodreads.com/reader/4246

[19] ـ عزيرو راشدة، المشاركة في عملية صنع القرار وسبل تفعيلها، جامعة تيارت ،2010، ص.4 متاح على الرابط: iefpedia.com /arab/wwp-content /

-احمد المالكي ،مرجع سابق، ص.70-[20]

-الفقرة الأخيرة من المادة24 من قانون90-12 المتعلق بالتعمير.[21]

[22] – في الحقيقة  لقد تم التخلي عن هذه الموافقة لأنها  أصبحت وسيلة في يد المجالس الجماعية من أجل الضغط على الإدارة المكلفة بالتعمير ومساومتها على تغيير مشاريع تصاميم التهيئة وفرض مصالحها الآنية والشخصية في حالات كثيرة ضدا على المصلحة العامة، بعدما أصبحت القاعدة هي عدم المصادقة على مشاريع التصاميم والاستثناء هو المصادقة، حيث إن بعض التصاميم لم يتم الإفراج عنها إلا بعد دخول قانون 12-90 حيز التنفيذ .انظر احمد المالكي ،مرجع سابق، ص.102.

[23] – عبد الرحمان البكريوي – ” التعمير بين المركزية و اللامركزية’ ص 96 الشركة المغربية للطباعة و النشر ، الرباط – المغرب

[24]ـ عزيرو راشدة، المشاركة في عملية صنع القرار وسبل تفعيلها، مرجع سابق، ص.ص.4-5

[25] ـ سعود بن محمد النمر واخرون، الادارة العامة: الاسس والوظائف الجديد، مرجع سابق، ص.224

[26] –  المصطفى معمر وأحمد اجعون،” إعداد التراب الوطني والتعمير “، مطبعة سجلماسة مكناس ، الطبعة الأولى ، 2007- 2008.ص. 175

[27]ـ  صالح مهدي محسن العامري وطاهر محسن منصور الغالبي، الإدارة والأعمال، مرجع سابق، ص. 314

[28]ـ نفس المرجع، ص. 423

إقرأ أيضاً

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي

الرقابة على الدستورية والأمن القانوني دراسة في ضوء الإجتهاد القضائي الدستوري المغربي Constitutional control and …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *