Site icon مجلة المنارة

الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق و حدودها

 

 

 

مقالة قانونية تحت عنوان:

 

 

الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق و حدودها

 

 

 

باحث في سلك الدكتوراه: وائل تيسية

 

تعد مهنة التوثيق من بين المهن القانونية التي لها ارتباط وثيق بزمرة من المؤسسات و القوانين، إذ أن نطاق تعامل الموثق مع المتعاقدين وبعض المؤسسات يتسع ليشمل مجموعة من المراحل، ومن بينها مرحلتا قبل تحرير العقد موضوع تراضي الأطراف وبعده، ومن ثم فالموثق عند قيامه بمهامه التوثيقية وبمناسبتها يمكنه أن يقترف مجموعة من الأفعال المجرمة سواء في ظل القواعد العامة للقانون الجنائي أو في إطار القوانين الخاصة مما يتم بذلك مساءلته مساءلة جنائية (المحور الأول)، غير أن هناك مجموعة من الحالات التي يتم فيها تضييق المؤاخذة الجنائية على الموثق. (المحور الثاني).

المحور الأول: الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق

 

إن دراسة الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق يدفعنا بشكل مباشر لمعرفة الجرائم التي يمكن أن يقترفها الموثق الناتجة عن ممارسته لمهنته ، فتلك الجرائم نجد مرجعتيها في مجموعة من النصوص التشريعية، كالمدونة العامة للضرائب، مدونة استخلاص الديون العمومية …

إن دائرة التجريم و العقاب التي تخص الموثق واسعة تشمل ليس فقط النصوص القانونية أو القوانين السابقة ذكرها، بل ترتبط بأفعال مجرمة من لدن القواعد العامة للقانون الجنائي       (1)، ثم بعض القوانين الخاصة كقانون التوثيق الجديد، و قانون مكافحة غسل الأموال (2).

1/ الإطار القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق على ضوء القواعد العامة للقانون الجنائي

تقوم المسؤولية الجنائية للموثق على خطأ توثيقي أثناء ممارسته لمهنته يعاقب عليه القانون الجنائي. هذا الخطأ يمكن حصره في نوعين: الخطأ العمدي والخطأ غير العمدي، فالأول يتمثل في كل الأفعال الإجرامية التي يرتكبها الموثق عن بينة واختيار، ولقد أورد القانون الجنائي مجموعة من الجرائم التي تستوجب المسؤولية الجنائية كالتزوير والاختلاس وإفشاء السر المهني و غيرها. أما الثاني، فيتمثل في ذلك الخطأ الذي يرتكبه الموثق والذي ينتج عنه ضرر لكن دون نية إحداثه، ويكون ذلك غالبا نتيجة للإهمال.[1]

في هذا الإطار فإنه يجب تحديد أهم الجرائم التي يرتكبها الموثق مع التفصيل في الأركان المكون لها.

1-1: أهم الجرائم المرتكبة من لدن الموثق الواردة في القانون الجنائي

تم التنصيص في القانون الجنائي على مجموعة من المقتضيات القانونية المحددة للجرائم المرتكبة من لدن الموثق إما آخذا بعين الاعتبار الصفة المهنية للموثق، و إما متجاهلا تلك الصفة.

قبل الخوض في مناقشة الأفعال التي تستوجب المسائلة الجنائية للموثق باعتبار صفته، يتعين القول أن جريمة التزوير تساءل مباشرة صفة الموثق، إلا أن هناك بعض الجرائم كالاختلاس والغدر وإفشاء السر المهني، التي يتم فيها حصر المجرم وصفته في شخص الموظف العمومي، وكل أمين عن الأسرار بحكم مهنته أو وظيفته.

كل تلك الوسائل التي يستخدمها الموثق قصد القيام بجريمة التزوير تم التنصيص عليها في المادة 352 من القانون الجنائي المغربي. عرف المشرع المغربي تزوير الأوراق في المادة 351 من القانون الجنائي باعتباره : ” تغيير الحقيقة فيها بسوء نية، تغييرا من شأنه أن يسبب ضررا متى وقع في محرر بإحدى الوسائل المنصوص عليها في القانون”.

ويعتبر هذا التعريف قاصرا بالمقارنة مع التعريف الوارد في القانون الجنائي الفرنسي، الذي يعرف بمقتضاه التزوير بأنه كل تغيير احتيالي للحقيقة من شأنه إحداث ضرر، ويتم بأي وسيلة كانت تقع على محرر أو أي دعامة للتعبير عن الأفكار يكون موضوعها أو يكون من آثارها إقامة الدليل على حق أو واقعة ذات نتائج قانونية ( الفصل1-441 من القانون الجنائي الفرنسي)[2].

جاء النص الفرنسي في رأينا شاملا بحيث أن محل الجريمة يمكن أن يكون أية دعامة تقيم الدليل على إثبات حق، غير أن النص المغربي قد تناول فقط المحرر المكتوب محل الفعل الجرمي.

و بموازاة ذلك، نجد أن هناك ركنين أساسيين لا يمكن أن تتحقق جريمة التزوير بدونهما وهما إرادة الموثق الاحتيالية قصد تغيير حقيقة الدعامة ثم الضرر الناتج عن عملية التزوير، إذ أن تلك الوسائل يجب أن تصدر عن شخص الموثق، لتتأتى جريمة التزوير وفق المادة 1-441 من القانون الجنائي الفرنسي، بالتالي فإن صفة الموثق تيسر إثبات الفعل الجرمي[3].

هذا الإثبات الذي يمكن أن يتضح بأي وثيقة صادرة عن الموثق كالعقود التي يحررها أثناء ممارسته لمهنته من أصل العقد « minute »، نسخة أصل العقد « expédition »، ملحقات العقد « Annexes »، فالموثق باعتباره مفوضا عن القوة العمومية يتحمل تبعات تغييره لحقيقة المحرر بسوء نية، وباحتيال منه قاصدا الضرر الحاصل على إثر ذلك الفعل.

تجدر الإشارة إلى أن الفعل المادي المكون لجريمة التزوير قد يصدر كما أسلفنا الذكر في شكل مجموعة من الصور، من بينها وضع توقيعات مزورة، تغيير المحرر أو الكتابة أو التوقيع، كتابة إضافية أو مقحمة في السجلات أو المحررات العمومية بعد تمام تحريرها أو اختتامها، وضع أشخاص موهومين أو استبدال أشخاص بآخرين. في حالة وضع توقيعات مزورة، فإن كاتب المحرر يقوم بإيراد اسم شخصي أو عائلي غير حقيقي. يمكن أن يتحقق تغيير المحرر أو الكتابة أو التوقيع بواسطة تغيير تاريخ العقد بغية الاستفادة من الآجال المحددة في القوانين الضريبية، إيراد ثمن أدنى من ثمن البيع الحقيقي في العقد، وكذلك تتأتى صورة تغيير المحرر أو الكتابة أو التوقيع عن طريق وضع توقيعات مزورة للشهود بعد تحرير العقد عندما تتوقف صحة العقد على توقيعات هؤلاء الشهود[4].

يلاحظ على مقتضيات المادة 352 من القانون الجنائي أنها تطرقت إلى صور التزوير الصادرة عن الموثق ولم تشر إلى أن تلك الوقائع المادية قد وقعت على وثيقة حررها الموثق بذاته، بينما جاءت المادة 353 من القانون الجنائي بعدها لتبرز بعض الأفعال الناتجة عن تحرير الموثق للمحرر الصادر عنه  وهي: كتابة اتفاقات تخالف مارسمه أو أملاه الأطراف المعنية إما بإثبات صحة وقائع يعلم أنها صحيحة، و إما بإثبات وقائع على أنها اعتراف بها لديه، أو حدثت أمامه بالرغم من عدم حصول ذلك، وإما بحذف أو تغيير عمدي في التصريحات التي يتلقاها.

يستنتج من خلال ما سبق أن المادة 352 من القانون الجنائي سردت صور التزوير الصادرة عن الموثق في محررات عمومية دون تحديد كاتب تلك الوثيقة إلا أن المشرع الجنائي في المادة 353 بعدها تدارك صفة الموثق محرر العقود حينما بيّن أن التزوير الصادر عن الموثق قد وقع في جوهر المحرر.

فيما يتعلق بالركن المعنوي للجريمة، فتزوير الموثق للمحرر بسوء نية مع علمه بذلك وأن تتجه إرادته الخالصة لاقتراف الفعل الجرمي مخالفا بذلك قواعد القانون الجنائي، يعتبر قصدا جنائيا عاما، أما القصد الجنائي الخاص فيتمثل في كون أن إرادة الموثق متجهة لتحقيق النتيجة المتوخاة من الفعل الجرمي [5].

يتضح من خلال شرح الركن المادي والمعنوي لجريمة التزوير أن هاته الأخيرة هي من الجرائم ذات الصفة، بحيث لا يمكن أن تتحقق إلا من موثق وقاض وغيرهم ممن أشير إليهم في المادتين 352و 353 من القانون الجنائي.

ابتداء يمكن القول أن الفعل المادي الذي يتجلى في إخفاء المنقولات أو العقود أو ما شابه ذلك يثير إشكالا مهما بحيث أنه لا يمكن أن نتصور عملية الإخفاء من لدن الموثق لعقود قد أبرمها بصفته المهنية أو لأموال قد تلقاها أثناء ممارسته لمهامه التوثيقية. على سبيل المثال عندما يقوم الموثق بتحرير عقد هبة لا يمكن أن يخفي العقد المبرم لأن أصل العقد موجود بقوة القانون ومؤشر عليه لدى مكتب التسجيل والتنبر التابع لوزارة الاقتصاد والمالية، كما أن الثمن الموضوع تحت يد الموثق بعد إبرامه لعقد بيع لا يمكن أن يكون محلا للإخفاء لأن العقد المبرم من لدن الموثق تكون له قوة تبوثية وحجية اتجاه الأطراف المتعاقدة واتجاه الغير، وذلك ما يستفاد من المادة 419 من قانون الالتزامات و العقود المغربي.

اعتمادا على ما سبق هناك ثلاث أفعال مادية تؤدي إلى ارتكاب الموثق لجريمة الاختلاس، وهي الاختلاس، التبديد ثم الاحتجاز.

فيما يتعلق بالاختلاس كفعل مادي مكون لجريمة الاختلاس، يتحقق عندما تتحول حيازة الموثق للأموال العامة أو الخاصة أو العقود إلى غيره من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة، فالأطراف يأتمنون الموثق باعتباره نائبا عن الدولة فيما يتعلق بتحرير العقود، بحيث يحتفظ هذا الأخير بالعقود والمنقولات والأموال قصد حفظ الحقوق العامة للدولة والحقوق الخاصة للأفراد، غير أن خيانة الثقة الممنوحة للموثق قد تعرضه إلى جزاءات زجرية بحكم تحويله للأشياء السالفة الذكر إلى ملكيته الخاصة.

أما فيما يخص الفعل المادي المتمثل في التبديد، فالخطأ التوثيقي الصادر عن الموثق، ينبغي أن يتخذ شكل إهلاك كلي للعقود وللحجج و للسندات المنصوص عليها في المادتين 241 و 242 من مجموعة القانون الجنائي، وبالتالي فهذا الإهلاك إما أن يتأخذ صورة إحراق أو إهلاك للأشياء من لدن الموثق وذلك أثناء قيامه بوظيفته أو بسببها.

فيما يتعلق بالاحتجاز كفعل مادي مكون لجريمة الاختلاس، فالموثق يقوم بإتيان الفعل الجرمي بواسطة الحجز والاحتفاظ بالأموال أو العقود أو المنقولات، وعمليا تقع هاته الجريمة حينما يتماطل الموثق في إرجاع وردّ المبالغ المستحقة لأحد الأطراف في حالة عدم اكتمال الإجراءات القانونية المتعلقة ببعض العقود[6] كالحالة التي يتم فيها فسخ عقد الوعد بالبيع عندما يحتفظ الموثق بالتسبيق أو العربون بخزينته دون إرجاعه.

تعتبر جريمة الاختلاس من الجرائم العمدية التي يتطلب لقيامها توافر قصد جنائي عام وخاص، وتبعا لذلك فإن الموظف أو من في حكمه كالموثق، عليه أن يعلم أن الأشياء المختلسة هي مملوكة للغير و أنها دخلت في حيازته بسبب وظيفته. كما يشترط بالإضافة إلى ذلك أن تتجه إرادته إلى الاستيلاء على المال والتصرف فيه تصرف المالك إما بحيازته لنفسه أو بنقل حيازته للغير[7].

علاوة على ذلك نخلص إلى أن الغدر هو جريمة عمدية يهدف الموثق بالأساس أو أي موظف عمومي بارتكابه لتلك الأفعال المادية المشار إليها آنفا إلى خرق مقتضيات المادة 243 من ق.ج . إذ أن البواعث من وراء اقتراف الجريمة لا تؤخذ بعين الاعتبار، بل يكفي أن يكون ضمير الموثق واعيا وأن يكون عالما بالأعمال التي يؤتيها بغية ترتيب المسؤولية الجنائية عليه، وأن تكون إدارة الموثق متجهة إلى تحقيق النتيجة المحظورة من طرف المشرع الجنائي[8] .

يفترض في أي جريمة من الجرائم توافر الركن المادي والركن المعنوي، فالركن المادي يتمثل في قيام الجاني بفعل الإفشاء أي نقل الواقعة من السرية إلى العلنية بحيث يطلع عليها الغير بعد أن كانت محصورة بين الملتزم والمعني بالأمر. أما الركن المعنوي فهو أن يقوم الجاني بإفشاء السر عن بينة واختيار، يعني دون إكراه، فالركن المعنوي هنا يحتاج إلى القصد العام دون القصد الخاص، بحيث لا يشترط المشرع فيه نية الإضرار بالغير[9].

إن كان القانون الجنائي قد تعرض للجرائم التي يقترفها الموثق بناءا على صفته “جريمة التزوير” و باعتباره أمينا عن الأسرار “جريمة إفشاء السر المهني”، وبصفته موظفا عموميا “جريمتا الغدر والاختلاس”، فإن هناك جرائم لم يتم الإشارة في طياتها إلى صفة الموثق وإن ارتكبها الموثق أثناء ممارسته لمهامه التوثيقية.

وكما أسلفنا الذكر إن الفعل الجرمي يمكن أن يصدر عن الموثق دون أن تكون صفته مؤثرة، وعليه فإن النصب و خيانة الأمانة جريمتين تعبران عن مدى خيانة الموثق للأمانة الملقاة على عاتقه.

فيما يتعلق بالركن المعنوي للجريمة، فالفعل الجرمي الصادر عن الموثق يكون بإرادته الحرة وعن يقين تام بالتأكيدات الصادرة عن قصد إقناع الغير بوقائع غير صحيحة، من أجل طمس الوعي لدى الضحية، إذن فجريمة النصب هي عمدية تتطلب لقيامها توافر القصد الجنائي العام فقط دون القصد الخاص [10].

أما التبديد فيصدر عن الموثق عند إحراقه أو إتلافه لسندات، وصولات أو أوراق قد سلمت له من طرف الضحية لاستخدامها لغرض معين، على سبيل المثال إعطاء نظير الرسم العقاري « duplicata du titre foncier » أو أصل رسم إراثة للموثق قصد تسجيل عقد البيع مثلا في السجلات العقارية غير أن هذا الأخير يقوم باتلاف أو إحراق تلك الوثائق بسوء نية، قصد الإضرار بالأطراف المتعاقدة.

وعلى العموم فإن القصد الجنائي في خيانة الأمانة يتحقق كلما قام شخص بتبديد أو اختلاس منقولات موضوعة بين يديه على سبيل الأمانة أو سلمت إليه من أجل استعمالها – أو استخدامها-  لغرض معين عن علم واختيار، فإذا تحقق هذان العنصران قام القصد الجنائي عند الفاعل و إذا انتفى أحدهما أو كليهما تخلفت الجريمة بسبب غياب القصد الجنائي العام عنده، ولا حاجة لاشتراط توفر قصد خاص لدى هذا الأخير [11].

اعتمادا على كل ما سبق تجدر الإشارة إلى أن جريمتي النصب و خيانة الأمانة تبين عن غدر، مكر وخداع من لدن الموثق الذي يفترض فيه صفة النزاهة وخصلة الأمانة والشرف باعتباره مستمدا للقوة العمومية وحارسا على الأمانة الموكولة إليه من عقود ونقود ضامنا في ذلك استقرار المعاملات بين الأطراف.

2-1: العقوبات المترتبة عن إقتراف الموثق للجرائم

بعدما تطرقنا إلى أهم الجرائم الصادرة عن الموثق بمناسبة ممارسته لمهامه والمجرمة بنصوص القانون الجنائي، سنتولى مناقشة ماهية العقوبات المترتبة عن الجرائم ، ثم الإشكالات المرتبطة بها.

في بادئ الأمر، نشير أن أخطر جريمة يقترفها الموثق، وهي الوحيدة التي تذكر صفته، هي جريمة التزوير التي عاقب عليها المشرع الجنائي في المادتين 352 و 353 من ق.ج بعقوبة السجن المؤبد ضد الموثق.

وتتجلى علة تشديد العقاب على الموثق في كون أن التزوير كجناية هي أشد وطأ وضررا بالغير من التزوير الصادر عن غيره. فمسؤوليته هنا هي مسؤولية كاملة نابعة من صفته المستمدة من الدولة، إذ أن ممارسته القانونية وحرصه على المساواة بين الأطراف تجعل منه رجل قانون استثنائيا لا يفترض أو يستحيل ارتكابه لمثل تلك الأفعال، لكونه ممثل للقانون ذاته.

فيما يتعلق بجريمة الإختلاس، فلقد اعتبرها القانون الجنائي في المادة 241 جناية معاقب عليها بالسجن من خمس إلى عشرين سنة و بغرامة من خمسة آلاف إلى مئة ألف درهم.

وتجدر الإشارة أن المشرع المغربي تدرج في تحديد العقوبة على أساس القيمة المادية للمال المختلس. فإذا كانت قيمة الأشياء المختلس أو المبددة أو المحتجزة أو المخفاة تساوي أو تزيد عن مائة ألف درهم فإن الجريمة تعد جناية يعاقب عليها بالسجن من خمس إلى عشرين سنة وغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف درهم. أما إذا كانت قيمة تلك الأشياء المختلسة تقل عن مائة ألف درهم فإن العقوبة هي الحبس من سنتين إلى خمس سنوات و غرامة من ألفي درهم إلى خمسين ألف درهم [12].

أما فيما يرتبط بالغدر، فإن القانون الجنائي قد اعتبره جنحة معاقب عليها بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف درهم (المادة 243 ق.ج). يظهر جليا أن إرادة المشرع اتجهت للتخفيف من العقاب ضد الموثق الذي ارتكب الغدر مقارنة مع الاختلاس لكون أن الضرر الذي يصدر عن هذا الأخير أثناء حصوله على أموال غير مستحقة تفوق المستحق تكون نتيجة طلب أو إصدار أمر وليس على إثر إختلاس أو تبديد من طرف الموثق. في نفس المضمار فإن كلتا الجريمتين (الاختلاس و الغدر) قد تضمنتا عقوبة الغرامة بسبب أن الأفعال المادية تهدف إلى إثراء الموثق ماديا وتتعلق مباشرة بالأموال.

بالنسبة لجريمة إفشاء السر المهني التي يقترفها الموثق باعتباره أمينا عن الأسرار بحكم وظيفته الدائمة، اعتمادا على مقتضيات المادة 446 من ق.ج، فإنه يعاقب بجنحة ضبطية تتراوح بين شهر وستة أشهر و غرامة من ألف و مئتين إلى عشرون ألف درهم.

أما فيما يتعلق بجريمتي النصب والخيانة، فإن الجريمة الأولى (النصب) يعاقب الموثق على إثر ارتكابها بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من خمسمائة إلى خمسة آلاف درهم و ذلك وفق المادة 540 ق. ج، وفيما يتعلق بالجريمة الثانية وهي خيانة الأمانة فالموثق يتعرض لعقوبة من ستة أشهر إلى ثلاثة سنوات وغرامة من مائتين إلى ألفي درهم، و نلاحظ أن المشرع لم يذكر صفة الموثق أثناء تجريمه وعقابه لجريمتي النصب و خيانة الأمانة، وإن كان من الأجدر إدراج تلك الصفة للتشديد في العقاب على الموثق الذي يرتكب بعض الأفعال المخلة بالأدب والأخلاق الحميدة والتي لا تمت لا من قريب ولا من بعيد بأخلاقيات مهنة التوثيق.

من بين النقاط التي تثير إشكالا وخاصة فيما يتعلق بتوقيع العقوبة على الموثق بناءا على قواعد القانون الجنائي، نجد الإشكال المرتبط بالموثق “الموظف العمومي”، وتجدر الإشارة في هذا الباب أن القانون الجديد لمهنة التوثيق العصري رقم 32-09 الصادر سنة 2011 تطرق إلى التوثيق باعتباره مهنة حرة دون ذكر صفة الموظف العمومي على خلاف القانون القديم المنظم لمهنة التوثيق لـ : 04 ماي 1925، غير أن تعريف الموظف العمومي الوارد في القانون الجنائي المادة 224 يشمل الموثقين إذ ينص على ما يلي: ” يعد موظفا عموميا، في تطبيق أحكام التشريع الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر و يساهم بذلك في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية، أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام. وتراعي صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة، ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها”.

انطلاقا مما سبق نخلص أن القانون الجديد للتوثيق إذا أسقط على الموثق صفة الموظف العمومي فإن تلك الصفة الأخيرة تبقى لصيقة به بناءا على مقتضيات المادة 224 ق.ج السالفة الذكر، وبالتالي فتطبيق العقوبة على الموثق المرتكب لجرائم الاختلاس والغدر استنادا للمواد 241 إلى 243 ق.ج يسري مفعوله، ولا يمكن للموثق الاحتجاج بعدم تطبيق مبدأ الشرعية الجنائية تطبيقا سليما في هذه الحالة.

خلاصة القول، إن القانون الجديد للتوثيق الذي أسقط بشكل صريح صفة الموظف العمومي من التعريف الذي أعطاه للموثق، قد أكد على صفة هذا الأخير أمام القانون الجنائي، وذلك من خلال المادة 92 التي تنص على أن “الموثق يتمتع أثناء مزاولة مهامه أو بسبب قيامه بها بالحماية التي تنص عليها مقتضيات الفصلين 263 و 267 من القانون الجنائي” . و بالرجوع إلى مقتضيات هذه الفصول يتضح بأنها واردة في الفرع الأول من الباب الرابع الخاص بالجنايات والجنح التي ترتكب من قبل الأفراد ضد الموظفين العمومين[13].

علاوة على ذلك تبقى عقوبة إفشاء السر المهني الصادرة ضد الموثق زهيدة بالمقارنة مع خطورة ذلك الفعل وكذلك بالنظر لمدى تأثيرها على بعض المصالح الشخصية للأفراد، وبالتالي يجب إعادة النظر في تلك العقوبة التي تتكون من الحبس المتراوح بين شهر وستة أشهر، والغرامة من ألف ومائتين إلى عشرين ألف درهم، بالزيادة على الأقل في قيمة الغرامة لزجر الموثقين الذين سولت لهم أنفسهم إفشاء سر زبنائهم.

بموازاة ذلك كان من الأجدر في رأينا التنصيص على صفة الموثق في كل من جريمتي النصب وخيانة الأمانة بتغليظ العقوبة ضده لكونه يمثل القانون والدولة على السواء في مجال حفظ حقوق الأطراف المتعاقدة مالية كانت أم شخصية.

2/ الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق على ضوء القواعد الخاصة

بعدما تطرقنا إلى أهم الجرائم المرتكبة من لدن الموثق والتي تدخل ضمن إطار القواعد العامة للقانون الجنائي والمختصة بالتجريم والعقاب سنعرض بعضا من القوانين الخاصة التي تختص بمساءلة الموثق جنائيا وذلك أثناء قيامه بمهامه التوثيقية أو بمناسبتها، وفي هذا الصدد فإن قانون التوثيق الجديد الصادر سنة 2011 وقانون مكافحة غسل الأموال الصادر سنة 2007، كلاهما جاء بمجموعة من القواعد الزجرية قصد متابعة ومعاقبة الموثقين الذين يخلون بمسؤولياتهم ويقومون أثناء ممارستهم لوظيفتهم بمجموعة من الخروقات التي تهدد وتؤثر على النظام العام والمصالح الخاصة للأفراد.

تبعا لما سبق، سنحاول دراسة أهم الجرائم التي يقترفها الموثق في ظل قانون التوثيق الجديد، ثم على ضوء قانون مكافحة غسل الأموال.

1-2: الإطار القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق في ظل قانون التوثيق الجديد

تجب الإشارة أولا إلى أن ظهير 4 ماي 1925 لم يكن ينص على عقوبات جنائية، بل كل ما نص عليه هو عقوبات تأديبية أو مالية انفرد الفصل التاسع والعشرون منه بالإشارة إليها، ثم جاءت الفصول التالية لتأسيس طرق تطبيقها والمخالفات المستحقة لهذه العقوبات. وهكذا كانت المخالفات التي تهم الجانب الجنائي موكولة إلى قواعد القانون الجنائي وما يحدده لبعض الأفعال من عقوبات كالنصب وخيانة الأمانة[14].

ويظهر أن القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق رقم 09-32 الصادر سنة 2011 تضمن مجموعة من المقتضيات الزجرية الهادفة إلى حماية مهنة التوثيق من كل الممارسات التي تمس بأخلاقيات المهنة والإطار العام لهذه الأخيرة. ومن تم وجب دراسة المستجدات الزجرية التي جاء بها القانون الجديد ثم محاولة تحليل الأبعاد المرتبطة بالمساءلة الجنائية للموثق.

نص المشرع في القانون الجديد للتوثيق على مجموعة من العقوبات الزجرية في حالة إخلال الموثق بالتزاماته، حيث يعاقب هذا الأخير في حالة امتناعه عن تسليم الوثائق بعد صدور عقوبة العزل أو الايقاف في حقه بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وغرامة من 20.000 إلى 40.000 أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط – المادة 87 من القانون المذكور – كما يعاقب الموثق وفق المادة 89 من القانون الجديد للتوثيق عن كل تصرف مخالف لقرار العزل أو الإيقاف الصادر ضده طبقا لمقتضيات الفصل 381 من مجموعة القانون الجنائي [15].

وفي سياق آخر فإن القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق في مادته 90 قد عاقب الموثق عندما يقوم بأي عمل يدخل في نطاق سمسرة الزبناء أو جلبهم بالحبس من سنتين إلى أربع سنوات و بالغرامة من 20.000 إلى 40.000 درهم مع مراعاة العقوبات التأديبية التي قد تطبق على الموثق سواء كان فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا .

وأخيرا في المادة 91 من القانون السالف الذكر يعاقب الموثق في حالة تضمين اللوحة التي يضعها هذا الأخير خارج البناية التي يوجد بها مكتبه معلومات غير تلك التي سمحت بها الفقرة الثانية من نفس المادة [16] بغرامة من 1200 إلى 5000 درهم. ويعاقب على مخالفة الأحكام المتعلقة بإحداث الموقع الإلكتروني المذكورة في الفقرة الأولى من المادة 91 بغرامة من 2000 إلى 10.000 درهم.

اتجه المشرع المغربي في القانون الجديد المنظم للتوثيق إلى نهج سياسة تشريعية جديدة على غرار القوانين الأخرى المنظمة للمهن الحرة، بحيث تم إدراج مجموعة من القواعد الزجرية التي من شأنها أن تضفي على مهنة التوثيق مصداقية أكبر من التي كانت تحتلها في ظل القانون القديم لمهنة التوثيق، وكذلك كان الهدف أسمى من وراء سن مقتضيات جنائية خاصة وأن تلك المقتضيات تتعلق بأحكام وأخلاقيات المهنة، بحيث أن تجريم بعض الأفعال التي قد يرتكبها الموثق أثناء ممارسته لمهنته كوضع معلومات غير المسموح بها في اللوحة وكذلك جلب وسمسرة الزبناء هي أعمال تنم عن عدم أمانة الموثق وتثبت على أن مزاولته للمهنة هي من جراء جني الربح ليس إلا.

هناك أيضا جرائم نص عليها قانون رقم 09-32 التي يرتكبها الموثق بعد عزله وإيقافه من المهنة، وهي عندما يمتنع عن تقديم بعض الوثائق إلى الموثق الخلف على سبيل المثال: سجل التحصيل، نظائر ونسخ أصول العقود ونظائر أصول الوثائق المحلقة بها، فمناط التجريم في هذه الحالة وهدفه يكمنان في أن كل الوثائق المحررة من طرف الموثق والمودعة لديه تعتبر أرشيفا للدولة، ولا يمكن أن يحتفظ بها لأنها وثائق ضامنة لحقوق الدولة والأفراد على السواء.

2-2: الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق في ظل قانون مكافحة غسل الأموال

إن نطاق المسؤولية الجنائية للموثق لا يشمل فحسب القانون الجنائي وقانون التوثيق الجديد بل يتضمن إلى جانب تلك القوانين قانون قمين بالأهمية ألا وهو قانون مكافحة غسل الأموال الذي أعد ليحل مشكلات عديدة منها ما يرتبط بالتوازن الاقتصادي للدولة ومنها ما يصب في اتجاه محاربة كل أشكال الجرائم المتصلة بالاتجار في المخدرات وفي البشر إلى غير ذلك. غير أن ما يهمنا في هذا الإطار هو تسليط الضوء على دور الموثق في الحيلولة دون ارتكاب جرائم غسل الأموال  وكذلك تبيان المسؤولية المترتبة عن إخلال هذا الأخير أي الموثق بالالتزامات الناشئة في إطار ممارسته لوظيفته.

يستنتج من مقتضيات المادة 2 من قانون مكافحة غسل الأموال رقم 05-43 أن هناك مجموعة من الأشخاص الذاتين والمعنويين خاضعين لأحكام هذا القانون ويلتزمون في إطاره بمجموعة من الواجبات ومن بينها الالتزام باليقظة وتقديم تصريح بالاشتباه والالتزام بالرقابة الداخلية.

تجدر الاشارة أن الموثق يدخل ضمن إطار الأشخاص المنتمين لمهنة قانونية مستقلة، عندما يشاركون باسم زبونهم ولحسابه الخاص في معاملة مالية أو عقارية أو عندما يقومون بمساعدته في إعداد وتنفيذ العمليات المتعلقة بـ:

هناك أيضا أشخاص آخرين ذاتيين ومعنويين يخضعون للالتزامات السالفة الذكر والمنصوص عليها في القانون رقم 05-43 محددين على سبيل الحصر وهم:

كما ألزم المشرع المغربي الأشخاص الخاضعين الآنف ذكرهم بجمع كل المعلومات التي تمكن من تحديد هوية الزبون المعتمد أو العرضي، وإذا كان الشخص معنويا التحقق من الوثائق أو البيانات اللازمة من المعلومات الخاصة باسمه و شكله القانوني ونشاطه وعنوانه و رأس ماله وهويته وهوية مسيريه والسلطة المخولة للأشخاص المؤهلين لتمثيله إزاء الغير أو للتصرف باسمه بموجب وكالة.

كما ألزم المشرع الأشخاص الخاضعين بعدم القيام بأية عملية إذا لم يتحقق من الهوية الكاملة للأشخاص المعنين بها أو عندما تكون الهوية غير كاملة.

وعليه فإن التزام اليقظة كما توحى بذلك تسميتها ينصرف إلى جميع الإجراءات العملية الهادفة إلى اتخاذ تدابير الحيطة والحذر الاستباقي من أجل صد كل المحاولات الرامية إلى وضع أو تنفيذ اللبنات الأولى لجرائم غسل الأموال، وفي هذا الصدد تناط بالأشخاص الخاضعين مسؤولية الضبط والتحري عن الهوية الحقيقية لزبناء مؤسساتهم[17].

كما أن الموثق عند استقباله للزبناء يجب عليه أن يتأكد من هويتهم ومن أصل المبالغ والأموال المودعة لديه، على هذا الأساس يجب أن يتأكد من مهنة هؤلاء الزبناء بغية معرفة الأهداف الحقيقة المتوخاة من العمليات المطلوب تنفيذها من لدن الموثق، كما ألزم المشرع المغربي في إطار مدونة التجارة وفق المادة 488 منها فئة معينة من الأشخاص ومن بينهم الموثقين أن يحفظوا طيلة عشر سنوات الوثائق المتعلقة بهوية زبنائهم المعتادين أو العرضيين ابتداء من تاريخ إغلاق حساباتهم و إنهاء العلاقة معهم.

بموازاة ذلك تعتبر مرحلة التصريح بالاشتباه من أخطر المراحل وأدقها على الإطلاق في سياق مسلسل مواجهة جرائم غسل الأموال إذ تترتب عنها عواقب قانونية وآثار مالية على مستوى وقدر كبير من الأهمية، كما تعتبر تحديا حقيقيا لأحد وأهم المبادئ الكلاسيكية المتعامل بها في المجال المالي والمصرفي، و نقصد بذلك مبدأ سرية التعامل مع الزبون الذي يشكل قاسما مشتركا لدى العديد من التشريعات الدولية [18].

يقدم الأشخاص الخاضعون كلما ظهرت لهم معالم مبالغة تحوم حولها شكون بخصوص هوية الزبون أو هوية المستفيدين منها أو مصدرها أن يتقدموا بتصريح بالاشتباه إلى مؤسسة مخول لها تلقى التصاريح بالاشتباه، ولا يمكن أن تخضع العمليات المالية والمصرفية أيا كان نوعها أو طبيعتها أو صفة الأشخاص أو مصدرها للتصريح بالإشتباه إلا بتوافر الشروط والشكليات الأساسية المحددة من طرف القانون، حيث يلتزم الأشخاص الخاضعون بانتداب أطراف متمتعة بأهلية مباشرة التصريح بالاشتباه سواء كانوا مسيرين أو مستخدمين لهم من الخبرة و الكفاءة العملية للقيام بعملية التحري و اليقظة [19].

وعليه فإن الموثقين أثناء ممارستهم لمهامهم تناط بهم مهمة التحقيق والكشف عن أصول المبالغ وأن يطلبوا من الزبناء مثلا الإدلاء بالبيانات والوثائق التي تثبت حصولهم على المبالغ إما نتيجة إرثهم لتلك الأموال أو منحهم إياها بهبة أو صدقة.

إن المشرع من خلال سنه لقانون 05-43 أقر أسلوب الالتزام بالمراقبة الداخلية لفعالية هذا الأسلوب في مواجهة جرائم غسل الأموال، من خلال إلزام الأشخاص الخاضعين بوضع تدابير داخلية لليقظة والكشف والمراقبة، وذلك بجمع المعلومات الضرورية حول العمليات التي لها طابع غير اعتيادي أو معقد، وعليهم إخبار مسيريهم كتابة بصفة منتظمة حول العمليات التي لها طابع غير اعتيادي أو معقد، وعليهم إخبار مسيريهم كتابة بصفة منتظمة حول العمليات المنجزة من لدن الزبناء اللذين يظهر أنهم يشكلون درجة كبيرة من المخاطر، كما عليهم إطلاع المؤسسة المخول لها تلقي التصريح بالاشتباه وسلطات الاشراف والمراقبة الخاصة بهم على جميع الوثائق والمعلومات الضرورية لإنجاز مهامهم، ولا يمكن للأشخاص الخاضعين الاعتراض على عمليات البحث والتحري التي تأمر بها المؤسسة المخول لها تلقي التصريح بالاشتباه، ولا يمكن الاحتجاج بكتمان السر المهني أمامها أو أمام سلطة الإشراف والمراقبة المكلفين من طرفها [20].

في هذا السياق، تتحقق المراقبة الداخلية من طرف الموثق عندما يقوم هذا الأخير بالتشكك في الهدف المتوخى من هبة عقار أو أموال من أب لا يتوفر على وظيفة لفائدة ابنه قصد إخفاء حقيقة الأموال والعقارات موضوع الهبة.

نشير في هذا الصدد أن مهمة الموثق تبقى صعبة بالنظر إلى كثرة الزبناء الوافدين على مكتبه، وكذلك بالنظر للدور الدركي الذي يسند إليه والذي يؤثر في بعض الأحيان على علاقته مع زبنائه.

يمكن القول أن التصريح بالاشتباه الذي يحرره الموثق أثناء علمه واستقباله لأشخاص مشبوهين يجب أن يرسل إلى وحدة معالجة المعلومات المالية وذلك استناد لمقتضيات القانون رقم 05-43 لمكافحة غسل الأموال.

إذا كان قانون مكافحة غسل الأموال رقم 05-43 في الفصل 2-574 نص على الأفعال التي تعتبر جرائم أولية أو أصلية لغسل الأموال ومن بينها الاتجار في البشر الاتجار غير المشروع في العقاقير المخدرة والمؤثرات العقلية، الجرائم الإرهابية، الرشوة والغدر واستغلال النفوذ واختلاس الأموال العامة والخاصة، التي تنتج منها المال غير المشروع والمسماة بالشرط المفترض للجريمة[21]، فإن جريمة غسل الأموال لا تتحقق إلا بتحويل الأموال الصادرة عن الجريمة الأولية وطمس مصدر الأموال القذرة و إظهارها على أنها متأتية من مصدر مشروع، و بالتالي فهذا المصدر المشروع يأتي بواسطة جريمة أخرى والتي تتعلق بنشاط غسل الأموال والذي يتكون من الركن المادي والمعنوي للجريمة، وتتعدد صور الركن المادي وفق ما نصت عليه المادة 1-574 من القانون رقم 05-43 من اكتساب وحيازة أو استعمال أو استبدال أو تحويل الممتلكات لهدف إخفاء أو تمويه مصدرها لفائدة الفاعل أو لفائدة الغير، عندما تكون متحصلة من إحدى الجرائم المنصوص عليها في الفصل 2- 574 :

تلك الجرائم التي ينتج عنها مساءلة الموثق مسائلة جنائية يعاقب هذا الأخير على إثرها بعقوبات أصلية وإضافية. تتمثل العقوبات الأصلية بجريمة غسل الأموال في الحبس والغرامة حيث نصت الفقرة الأولى من الفصل 3 -574 على عقوبة حبسية من سنتين إلى خمس سنوات وغرامة تتراوح بين 20.000 و 100.000 درهم بالنسبة للشخص الطبيعي. أما بالنسبة لمبلغ الغرامة فيلاحظ أنه بسيط بمقارنة بالمبالغ الكبيرة التي يجنيها مقترفو جريمة غسل الأموال، مما يجعلها عقوبة غير رادعة خصوصا لو قام بدفعها غير المشتبه فيه أو أحد أفراد أسرته [22] .

تجدر الإشارة إلى أنه ترفع العقوبة ضد الموثق استنادا للفصل 4-574 إلى الضعف عندما ترتكب الجرائم باستعمال التسهيلات التي توفرها مزاولة نشاطه المهني، وعلى سبيل المثال حينما يقوم الموثق بتسهيل إبرام عقد البيع لفائدة المشتري مع علمه بأن مصدر الاموال غير مشروعة.

أما فيما يتعلق بالعقوبات الإضافية التي يتحملها الموثق أثناء اقترافه لجريمة غسل الأموال هي نشر المقررات المكتسبة لقوة الشيء المقضي به الصادرة بالإدانة بواسطة جميع الوسائل الملائمة على نفقة المحكوم عليه، بالتالي فإن الموثق على إثر اقترافه لجريمة غسل الأموال يؤدي مصاريف نشر المقرر الصادر ضده.

وفي نفس الإطار، فإن هناك إمكانية منع الموثق منعا مؤقتا أو نهائيا من مزاولة مهنته بصفة مباشرة أو غير مباشرة، تلك العقوبات الإضافية نستشفها من مقتضيات المادة 5-574 من قانون مكافحة غسل الأموال المذكور.

وقد قررت عقوبة المنع المؤقت أو النهائي من مزاولة بصفة مباشرة أو غير مباشرة المهن أو الأنشطة التي ارتكبت الجريمة أثناء مزاولتها لأجل حماية المهن التي تسهل القيام بغسل الأموال من أن تصبح ستار يختفي وراءه الجناة لأجل قيامهم بغسل الأموال خصوصا وأن مهنة التوثيق تعتبر وجهة أساسية تشجع المجرمين على تدارك مواقفهم الإجرامية بغية استثمار المال القذر وإدماجه داخل المنظومة الاقتصادية بالدولة.

ومن خلال كل ما تم تحليليه من واجبات ملقاة على عاتق الموثق ثم المسؤولية الجنائية المترتبة عن ذلك، فوجوب تظافر الجهود بين الموثق ووحدة معالجة المعلومات المالية يعد من أولوية الأولويات التي ستمكن من التقليل من ظاهرة غسل الأموال وهذا رهين بحضور الضمير الحي لدى الموثق ونيته في التبليغ عن كل ما من شأنه أن يضر بمصالح الدولة والأفراد.

بعدما تطرقنا إلى أهم الجرائم المقترفة من طرف الموثق في القانون الجنائي وقانون التوثيق الجديد ثم قانون مكافحة غسل الأموال، فإن السؤال الذي يجب طرحه هو ما هي الحدود المؤطرة للمسؤولية الجنائية للموثق؟ و كيف يمكن متابعة هذا الأخير قصد محاكمته؟

المحور الثاني: حدود المسؤولية الجنائية للموثق والمسطرة المتبعة ضده

من بين النتائج التي تترتب عن مؤاخذة الموثق مؤاخذة جنائية هو إيقافه عن أداء الوظيفة التوثيقية بشكل نهائي، من هذا المنطلق فإن باب المساءلة الجنائية غير مفتوح على مصراعيه ويُخضع في كثير من الأحيان تلك المساءلة إلى معايير وضوابط تحد من مداها ومن تأثيرها على الموثق. في سياق آخر نجد أن المساءلة الجنائية للموثق هي رهينة بتوافر مجموعة من الشكليات المسطرية وذلك منذ اكتشاف الفعل الجرمي إلى حين النطق بالحكم ضده.

1/  حدود المسؤولية الجنائية للموثق

إن الآثار الناجمة عن التوثيق لا يمكن أن ترخي بظلها على كل الوقائع الجرمية التي تدخل ضمن نطاق المسؤولية الجنائية، إذ هناك حالات استثنائية يجوز معها التضييق من المسؤولية الجنائية أو انعدامها بالمرة.

1-1 الحدود المرتبطة بشخص الموثق و العقوبة

أورد قانون التوثيق الجديد شروطا لا يمكن بدونها أن ينخرط الموثق تحت لواء مهنة التوثيق، فعلى سبيل المثال هناك شرط أساسي نصت عليه المادة 3 من القانون رقم 32-09 قصد ولوج مهنة التوثيق، ألا وهو تمتع الموثق بقواه العقلية والفكرية مثبتة بشهادة طبية صادرة عن مصالح الصحة التابعة للقطاع العام، غير أنه ما دام أن الموثق إنسان، فإنه إذا ثبت أنه كان وقت ارتكابه الفعل المجرم في حالة يستحيل عليه معها الإدراك نتيجة خلل في قواه العقلية، فإنه يجب الحكم بإعفائه، كما أن مسؤوليته تكون ناقصة إذا كان وقت ارتكابه الفعل المجرم مصابا بضعف في قواه العقلية من شأنه أن ينقص إدراكه ويؤدي إلى تنقيص مسؤوليته جزئيا[23]. أما بالنسبة للعقوبة الصادرة عن المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف نلحظ أنها تحدد بشكل كبير التوجه القضائي المعتمد بالمملكة الرامي إلى التقليص من العقوبة المتخذة ضد الموثق.

تعد حالتا الجنون وضعف القوى العقلية من بين الأسباب التي تؤدى إما إلى انعدام المسؤولية الجنائية أو نقصانها.

إذا أثير أمام المحكمة دفع يتعلق بكون الموثق كان عديم المسؤولية تماما وقت ارتكابه الفعل بسبب اختلال عقلي، فإن هذا الدفع يلقي التزاما على عاتق المحكمة والتي يجب أن تقوم بالرد عليه بأسباب سائغة وكافية سواء بالقبول أو بالرفض، فإن هي لم تفعل كان حكمها موجبا للنقض كما أن عدم الرد على الدفع  كليا يجعل الحكم معيبا بالقصور في التعليل [24].

والعبرة في تقدير شعور الموثق واختباره لتقرير مسؤوليته الجنائية، هي بما تكون عليه حالته العقلية وقت ارتكابه الجريمة لا بما كان عليه قبل ذلك كما أنه لا يحق لمحكمة الموضوع أن تستند في إثبات عدم الجنون إلى القول أن المتهم لم يقدم دليلا، بل إن من واجبها في هذه الحالة أن تثبت هي أنه لم يكن مجنونا وقت ارتكاب الحادث[25].

نستند من أجل إقامة الإعفاء أو النقصان من المسؤولية الجنائية للموثق إلى المـواد 134 و135 و136 من مجموعة القانون الجنائي، فبالنسبة للحالة التي ثبت فيها للمحكمة جنون الموثق فإنه يجب الحكم بإعفاء هذا الأخير من المسؤولية الجنائية ويجب الحكم عليه بالإيداع القضائي في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية وفق ما تم التنصيص عليه في الفصل 134 من ق.ج [26].

انطلاقا مما سبق يمكن القول أن مجال تطبيق حالة الجنون والإعفاء من المسؤولية الجنائية للموثق يكون عندما يستحيل على الموثق إدراك وتمييز العقود المبرمة من طرفه وكذلك الأعمال المترتبة بمناسبة قيامه لوظيفته التوثيقية. أما فيما يتعلق بحالة ضعف الموثق لقواه العقلية فإنه يستنتج من مقتضيات المادة 135 من ق ج أن مسؤوليته الجنائية تكون ناقصة إذا كان وقت ارتكابه الجريمة مصابا بذلك الضعف العقلي. في هذا الباب، فإن قاضي التحقيق يمكن أن يأمر بإيداع الموثق المصاب بالجنون أو بضعف قواه العقلية بمؤسسة لعلاج الأمراض العقلية غير أن الأمر يجب أن يكون معللا وذلك استنادا للفصل 136 من ق ج.

تتسع دائرة تجريم الأفعال المقترفة من لدن الموثق كما سبق الذكر لتتصل بجملة من النصوص التشريعية وذلك بحكم وظيفة الموثق داخل المجتمع التي تعتمد بالأساس على ضمان استقرار المعاملات المدنية والعقارية والتجارية. في هذا الصدد فإن كل خرق لقدسية الوظيفة التوثيقية الصادرة عن الموثق يعرضه لمسؤولية جنائية كاملة ولا عبرة بظروف التخفيف إلا في حالات استثنائية، غير أنه سنحاول في هاته النقطة دراسة مجموعة من القرارات الصادرة عن محاكم الاستئناف المغربية والتي تعطينا رؤية حقيقية للفلسفة الزجرية المتخذة ضد الموثق.

بناءا على قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 28 /11/2011 [27]، تمت مؤاخذة موثقين من أجل ارتكابهما الجرائم التالية: تكوين عصابة إجرامية والمشاركة في تزوير محرر رسمي عن طريق إثبات صحة وقائع يعلمان أنها غير صحيحة واستعمال وثيقة مزورة والنصب والمشاركة فيه وخيانة الأمانة، وكنتيجة للأفعال الإجرامية المنسوبة إلى الموثقين تمت إدانتهما بعقوبة حبسية ابتدائيا واستئنافيا مدتها ثلاثة سنوات وغرامة نافذة قدرها خمسة آلاف درهم، ويتضح من مدة العقوبة أن الأثر الزجري يبقى محدودا بالنظر لخطورة الأفعال المرتكبة من طرف الموثقين خصوصا وأن جريمة التزوير بمحرر رسمي هي وحدها تعتبر جناية يعاقب عليها القانون الجنائي بالحبس المؤبد وفق المادتين 352 و 353.

في نفس المضمار نجد أن قرارا صادرا عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 10/01/2013 [28]، قضى بعقوبة موثق متهم بإتيانه جناية التزوير بمحرر رسمي بعشر سنوات، إلا أن بالاطلاع على حيثيات القضية نستنتج أن سبب تغليظ هذه العقوبة مقارنة مع العقوبة الأولى (3سنوات وغرامة 5000 درهم)  هو تحرير الموثق لعقد البيع دون الحصول على رفع اليد على الرهون التي تمكن من تيسير ابرام العقد النهائي بشكل سليم وصحيح.

نلاحظ أن هذا القرار، علاوة على القرار الأول، لم يعاقب بالسجن المؤبد على إثر ارتكاب جناية التزوير بمحرر رسمي وهذا يثير إشكالا في مجال السياسة الجنائية المتخذة بشأن الموثقين.

هناك أيضا قرار حديث العهد صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 24/02/2014،[29] أدين فيه موثق باقترافه الجرائم التالية: النصب، خيانة الأمانة والمشاركة في النصب عن طريق التصرف في أموال عقارية غير قابلة للتفويت بحيث عوقب بأربع سنوات حبسا، هذه العقوبة التي تتلاءم والحال مع كل تلك الجرائم والعقوبة الأشد وذلك حسب مقتضيات المادة 120 من مجموعة القانون الجنائي التي تنص على ما يلي: ” في حالة تعدد جنايات أو جنح إذا نظرت في وقت واحد أمام محكمة واحدة، يحكم بعقوبة واحدة سالبة للحرية لا تتجاوز مدتها الحد الأقصى المقرر قانونا لمعاقبة الجريمة الأشد …”، و بالتالي فالقاضي أثناء النظر في الجرائم السابق ذكرها لم يأخذ بالحد الأقصى لعقوبة الجريمة الأشد. من خلال تلك القرارات الصادرة عن محاكم الاستئناف، نخلص إلى أن العقوبة تظل محدودة وتطرح علامات استفهام مع العلم أن أداء اليمين من لدن الموثق قبل الشروع في القيام بوظيفته يكون بمثابة عبء على عاتقه وعهد لا يمكن لأي حال من الأحوال أن يخلفه.

2-1 الحدود التشريعية المسؤولية الجنائية للموثق

لا تقتصر ظاهرة حدود المسؤولية الجنائية للموثق على حالة الدفع بالجنون أو ضعف القوى العقلية وكذلك قصور مدة العقاب المطابق للجريمة المقترفة بل تتعداها لتنصب على أوضاع مرتبطة خصيصا بالشق القانوني سواء تعلق الأمر بقواعد القانون الجنائي أو بقواعد قانون مكافحة غسل الأموال.

تضمن القانون الجنائي جملة من الجرائم التي يمكن أن يعاقب بشأنها الموثق بمناسبة قيامه بالإجراءات القانونية القبلية والبعدية المرتبطة بتحرير العقد، إلا أن تلك الجرائم في نظرنا تحتاج إلى تفسير وإلى شرح خصوصا وأن العبارات الفضفاضة والشاملة المستعملة من لدن المشرع الجنائي تترك ثغرات قانونية من شأنها أن تحد من إمكانية مساءلة الموثق جنائيا. على هذا السبيل فتحصيل الموثق لأتعابه بشكل يتجاوز الحد المعقول لا يعتبر جريمة غدر، على خلاف الرسوم الضريبية التي يطالب بها الموثق الأطراف لاستخلاصها لفائدة الدولة والتي تكون موضوع تحصيل غير مستحق والتي تشكل الركن المادي لجريمة الغدر [30].

في سياق آخر فإن القصور التشريعي الخاص بالمسؤولية الجنائية للموثق يطال جريمة النصب، إذ أن هذه الجنحة يُعاقب عليها بشكل عام وكان بالأحرى إدراج مواد تخصص لمعاقبة المهنيين كالموثقين بشكل خاص من أجل تغليظ العقوبة الأصلية على هاته الفئة. وفي نفس الإطار تثير جريمة خيانة الأمانة نفس الإشكال بحيث أن رفع العقوبة ارتبط بالعدل ولم يتم ذكر الموثق الذي يمارس بدوره مهنة عدل عصري و يعد أمينا عن الأسرار بحكم وظيفته.

منح قانون مكافحة غسل الأموال رقم 05-43 للأشخاص الخاضعين له مجموعة من الامتيازات والحصانات، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن تقام ضد الموثق أي متابعة جنائية عندما يقوم بالمهام المخولة له كتقديم التصريح بالاشتباه لدى المؤسسة المختصة، وذلك استنادا للمادة 27 من القانون المذكور آنفا. في نفس المضمار لا يجوز أن تجرى أية متابعة جنائية ضد الموثق الذي يقدم التصريح بالاشتباه بمناسبة مبالغ أو عمليات قد قدم التصريح بالاشتباه بشأنها ولا تطبق في هاته الحالة مقتضيات المادة 446 من مجموعة القانون الجنائي الخاصة بإفشاء السر المهني، وبالتالي إذا أرسل الموثق التصريح بالاشتباه متضمنا مبالغ أو عمليات خاصة بالزبناء إلى وحدة معالجة المعلومات المالية، فلا يمكن لزبائن أن يتحججوا بالمقتضى الجنائي الخاص بكتمان السر المهني أمام القضاء.

هناك استثناء وحيد يرد على حالة تقديم التصريح بالاشتباه وقد نصت عليه المادة 1-2-562 الفقرة 2 من المدونة المصرفية والمالية الفرنسية التي تنص على أن الموثقين شأنهم في ذلك شأن المحامين أثناء مزاولتهم لمهامهم ليسوا مطالبين بتقديم التصريح بالاشتباه عندما تصدر المعلومات عن أحد الزبناء إما في إطار استشارة قانونية أو في حالة فتح مسطرة قانونية [31].

تجدر الاشارة في آخر المطاف أن الأسباب التي تحول دون مساءلة الموثق مساءلة جنائية تتعدد، فتقادم الدعوى العمومية ضد الموثق استنادا إلى الفصل 5 من قانون المسطرة الجنائية هو سبب مسقط للدعوى العمومية الرامية إلى متابعة موثق، إذ تتقادم الدعوى العمومية بمرور 15 سنة من يوم ارتكاب الموثق الجناية و بمرور 4 سنوات من يوم ارتكابه الجنحة.

2/  الاجراءات المسطرية المتبعة لمعاقبة الموثقين

بعدما خصصنا المبحث الأول لدراسة الإطار القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق ونطاق تطبيقها، كان لزاما علينا في هذا المطلب مناقشة الجانب المسطري الرامي إلى معاقبة الموثق، ثم تبيان الآثار الناجمة عن فتح مسطرة المتابعة ضد الموثق.

1-2: الإجراءات المسطرية المتبعة لمعاقبة الموثق

أسند القانون المنظم لمهنة التوثيق العصري إلى النيابة العامة مهمة السهر على تطبيق القانون المذكور وذلك من حيث مراقبة مكاتب الموثقين مراقبة مستمرة قصد ضمان سير العمليات المبرمة من لدن الموثق بشكل قانوني وكذلك للوقوف على الاختلالات الحاصلة داخل مكاتب الموثقين والتي يمكن أن تؤدي إلى متابعة جنائية ضد الموثق. في هذا الصدد تعمل النيابة العامة عملا مزدوجا إما على مستوى قبلي لضبط وكشف المخالفات التي يمكن أن تكون موضوع مسؤولية جنائية، وإما على مستوى بعدي وذلك بعد اكتشاف الجريمة التي تكون موضوع فتح مسطرة المتابعة الجنائية ضد الموثق.

جاء القانون المنظم لمهنة التوثيق الصادر سنة 2011 بمستجدات مهمة تعنى بالشأن العام لمهنة التوثيق وخصوصا فيما يرتبط بإدراج هيئة خاصة ألا وهي المجلس الجهوي للموثقين الذي أوكل له مهام مراقبة مكاتب الموثقين وذلك استنادا للمادة 65 من القانون المذكور آنفا، و تجدر الإشارة أن هذه المراقبة هي مزدوجة تتولاها السلطة القضائية في شخص الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أو من ينوب عنه (في شأن مكتب الموثق التابع لدائرة نفوذ المحكمة) من جهة، والسلطة التنفيذية المتمثلة في الوزارة المكلفة بالمالية من جهة أخرى.

بالرجوع للمستجد المرتبط بدور المجلس الجهوي للموثقين نلاحظ أن تغيرا جذريا حصل مع القانون رقم 09/32، حيث أن رئيس المجلس الجهوي للتوثيق أصبح شخصية محورية في التأديب والمراقبة ونظنّ أن النيابة العامة لم تعد لها تلك السلطة المطلقة على مؤسسة الموثقين[32] .

فيما يتعلق بمراقبة مكاتب الموثقين فنطاقها يشمل كل العمليات الحسابية أو الأموال والقيم المودعة لدى الموثق أو التي يتولى حساباتها أو فيما يخص صحة عقوده وعملياته واحترامه للقانون المنظم للمهنة.

بموازاة ذلك، فإن المراقبة المذكورة يمكن أن تتخذ صورة لجنة تضم رئيس المجلس الجهوي بصفته رئيسا وموثقين يتوفران على أقدمية خمس سنوات على الأقل وذلك وفق ما تم التنصيص عليه في المادة 65 من القانون رقم 32-09.

بموازاة ذلك فإن لوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أو من ينوب عنه حسب المقتضيات المادة 67 من القانون المذكور حق مراقبة المحفوظات والسجلات النظامية وسجلات المحاسبة و التأشير عليها مع بيان تاريخ إجراء المراقبة وكل هذا سيمكن لا محالة من الكشف عن الجرائم التي يؤتيها الموثق.

فيما يتعلق بالمراقبة المالية للنيابة العامة، فللوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف دور محوري في هذا المجال وهو مراجعة صناديق الموثقين وحالة الإيداعات لديهم مرة في السنة على الأقل ويضع تأشيرته على السجلات الخاصة بذلك مع الإشارة إلى التاريخ الذي قام فيه بالمراجعة، وللوكيل العام أن يراقب أيضا بشكل مفاجئ مكاتب الموثقين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية البالغة التي أولاها المشرع المغربي للسلطة القضائية للتثبت من وقوع الجرائم الخاصة بالموثقين.

علاوة على ذلك فإن المادة 70 من القانون المذكور منحت الحق في إجراء أي تفتيش يهم موضوعا معينا أو مجموع النشاط المهني للموثق، وفي هذه المادة لم يشر المشرع إلى الجهاز المكلف بالتفتيش ولو أن المادة 65 من نفس القانون قد أشارت صراحة أن المراقبة تسند للوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أو من ينوب عنه و إلى الوزارة المكلفة بالمالية.

إن مسطرة متابعة الموثق تبتدئ عادة بواسطة شكاية من طرف أحد المتعاقدين أو الغير ضد الموثق إلى السيد الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف التي يوجد بدائرتها مقر الموثق وبتقرير النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية أثناء التفتيش الذي تقوم به في إطار صلاحيتها لمكتب الموثق. والاستماع للموثق يتم غالبا من طرف السيد الوكيل العام للملك أو نائبه وهي ضمانة للموثقين [33].

على هذا الأساس فإن الوكيل العام للملك يتوفر على اختصاص أصيل يكمن في أن له أن يفتح مسطرة المتابعة موجها بذلك تقريرا في الموضوع مرفقا بالوثائق اللازمة إلى وزارة العدل قصد عرض الأمر على اللجنة المنصوص عليها في المادة 11 من القانون رقم 32-09 [34] ويخبر المجلس الجهوي بذلك وكل تلك المقتضيات قد تضمنتها المادة 80 من القانون السالف الذكر.

علاوة على ذلك فإن النظر في المتابعة الجنائية للموثق يستلزم استدعائه قبل خمسة عشر يوما من التاريخ المحدد للنظر في المتابعة برسالة مضمونة مع إشعار بالتوصل أو بواسطة النيابة العامة وذلك طبقا للمادة 82 من القانون رقم 32-09، كما يحدد في الاستدعاء يوم وساعة ومكان اجتماع اللجنة المذكورة سلفا ويشار فيه إلى الوقائع المتابع من أجلها الموثق مع إشعاره بإمكانية اختيار موثق أو محام أو هما معا لمؤازرته، وحقه في الاطلاع على جميع وثائق الملف والحصول على نسخ منها. كما أنه حسب المادة السابقة الذكر يجب على الموثق المتابع المثول شخصيا أمام اللجنة، وإذا لم يحضر رغم استدعائه بصفة قانونية ولم يدل بأي عذر مقبول بتت اللجنة في المتابعة بمقرر معلل. يتعين القول أن المادة السابقة جاءت بمستجد قانوني بالغ الأهمية يهدف بالأساس إلى ضرورة استدعاء الموثق قبل النظر في المتابعة وهذا ما يعتبر ضمانة حقيقية للموثق بغية معرفة الأفعال الجُرمية المنسوبة إليه ومنحه حق الدفاع عن نفسه قبل فتح مسطرة المتابعة ضده.

2-2 الآثار المترتبة عن فتح مسطرة المتابعة ضد الموثق

بعدما تطرقنا إلى كيفية وشكليات بداية مسطرة المتابعة الجنائية ضد الموثق، والمستجدات التي اتصلت بمسطرة المتابعة، سنتولى في هذه النقطة تحليل النتائج المترتبة عن متابعة الموثق جنائيا من أجل جنحة ثم بعد ذلك سنتطرق إلى الآثار الناجمة عن متابعة الموثق من أجل جناية.

عندما يتم متابعة الموثق من أجل جنحة تمس شرف المهنة قبل إدانته فإن النتيجة الأولى التي يترتب عليها هذا الإجراء هو إيقافه مؤقتا عن ممارسة مهامه التوثيقية، ومن ثم فإن القانون رقم 32-09 قد منح للموثق بقوة القانون إمكانية استئناف مهامه بعد مرور أربعة أشهر من تاريخ إيقافه، بحيث يجب على الموثق أن يدلى بشهادة صادرة عن رئيس كتابة الضبط تفيد استئنافه لوظيفته، وكل تلك المقتضيات السابقة تم التنصيص عليها في المادة 78 من القانون السالف الذكر.

في حالة إدانة الموثق فإن الأثر المترتب عن هذه المسطرة ألا وهو الإيقاف عن العمل يبقى مستمرا إلى أن يبت في متابعته التأديبية.

فيما يتعلق بحالة متابعة الموثق من أجل جناية وذلك قبل إدانته، فإن إيقافه عن العمل يستمر إلى حين صدور أمر نهائي بعدم المتابعة، أو حكم ببراءته في الموضوع، وفي كلتا الحالتين لا تتعدى مدة الإيقاف سنة، وفي حالة صدور قرار نهائي بإدانته بعد استئنافه عمله يمكن للوكيل العام للملك أن يوقفه مؤقتا عن عمله من جديد، ويستمر إيقافه إلى أن تبت اللجنة في متابعة التأديبية، وكل تلك القواعد القانونية يرجع أصلها إلى المادة 78 من القانون رقم 32-09.

من بين الآثار المترتبة عن متابعة الموثق وإدانته في الموضوع من أجل جنحة أو جناية، ضرورة إحالة المتابعة التأديبية على اللجنة المشار إليها سابقا داخل أجل ثلاثة أشهر.

من خلال كل ما سبق يظهر أن القانون الجديد المنظم لمهنة التوثيق الصادر في سنة 2011 تضمن مجموعة من المستجدات القانونية الخاصة بمسطرة متابعة الموثقين من أجل الجنايات أو الجنح المرتبكة من لدنهم.

 

[1] – د. محمد الأمين، ” المسؤولية الجنائية للموثق”، مجلة القبس المغربية للدراسات القانونية والقضائية، العدد الخامس، دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، يوليوز 2013، ص 36.

[2] – د. محمد الأمين، المرجع السابق ,صفحة 44

[3] -Jeanne de Pouliquet, « Responsabilité des notaires, civile. disciplinaire, pénale ». Deuxième édition, Mai 2009. Dalloz, page 253.

« …deux éléments constitutifs identiques paraissent constants : le préjudice et l’intention dolosive, c’à d la volonté d’altérer sciemment le contenu de l’écrit authentique. Or, ces deux éléments constitutifs sont unis par un  point commun : la qualité d’officier public du notaire leur confère une spécificité certaine en facilitant la charge de leur preuve ».

 

[4] – Med Fayçal El Aaoufir, « la fonction notariale » Imprimerie Beni Snassen, , 2008, pp. 136 – 137.

« L’altération matérielle d’un acte résulte, soit de fausses signatures soit d’altération des actes, écriture ou signatures, soit d’interaction d’écritures sur des registres ou autres actes, soit de supposition de personnes.

Il y a fausse signature toutes les fois, que le souscripteur usurpe un nom ou un prénom que n’est pas le sien, même s’il s’agit du nom d’une personne imaginaire ou inconnue… constituent des faux par altération d’écriture, les surcharges, les substitutions par un notaire, dans le contrat reçu par lui, d’une date fausse à la date véritable dans le dessin de fraudes les lois fiscales, l’insertion après coup, dans le même dessin, dans un acte de cession d’un prix inférieur à celui convenu entre les contractants, l’addition après coup de la mention relative à la présence des témoins … »

[5]– J. de Pouliquet , « Responsabilité des notaires, civile. disciplinaire, pénale ». op. cit., pp. 254- 255.

« le dol général consiste dans la volonté de commettre un acte tout en sachant qu’en agissant ainsi on violera la loi pénale. Cette volonté ou dol général forme l’élément moral de l’infraction…

… Le  dol spéciale ajoute à l’intention de transgresser la loi pénale sanctionnant le faux, la volonté d’atteindre le résultat prohibé »

 

[6] – J. de Pouliquet , « Responsabilité des notaires, civile. disciplinaire, pénale ». op cit., p. 272.

 

 

[7] – ذ. محمد الأمين، المرجع السابق، صفحة 37

[8]– J.  de Pouliquet, op cit, p. 268.

 

[9] – ذ. محمد الأمين، المرجع السابق، ص 42

[10] – J.  de Pouliquet, op cit, p. 322.

[11] – ذ- عبد الواحد العلمي ” شرح القانون الجنائي المغربي” – القسم الخاص- ، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثالثة، 1432-2011،  ص 436.

[12] – د. محمد الأمين، المرجع السابق، ص 38

[13] – د. محمد الأمين، المرجع السابق، ص 34.

[14] – محمد مصطفى الريسوني ” نظرة في مشروع القانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق وبإحداث هيئة وطنية للموثقين، المقتضيات الجنائية- المواثيق الدولية”، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، عدد 69، 2010، الطبعة الأولى، ص 54.

[15] – ينص الفصل 381 من ق. ج على: “من استعمل أو ادعى لقبا متعلقا بمهنة نظمها القانون، أو شهادة رسمية أو صفة حددت السلطة العامة شروط اكتسابها دون أن يستوفي الشروط اللازمة لحمل ذلك اللقب أو تلك الشهادة أو تلك الصفة، يعاقب بالحبس من ثلاثة شهر إلى سنتين وغرامة من مئتين إلى  خمسة آلاف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، مالم يوجد نص خاص يقرر عقوبة أشد”.

[16] – تنص الفقرة الثانية من المادة 91 من القانون الجديد للتوثيق رقم 09-32 على:”… لا يجوز للموثق أن يضمن في اللوحة البيانية الموضوعة خارج البناية التي بها مكتبه أو بداخلها سوى اسمه الكامل وصفته كموثق وكذا لقب دكتور في الحقوق عند الاقتضاء ويحدد شكل اللوحة بقرار لوزير العدل….”.

[17] – عزيز ندا على وحميد، ” المقاربة الوقائية و الزجرية لظاهرة غسل الأموال وفق قانون 05-43″ مجلة ” الملف” ، العدد 18/ أكتوبر 2011، ص: 42.

[18] – عزيز ندا على وحميد، المرجع السابق، ص 43.

[19] – عزيز ندا على وحميد، المرجع السابق، ص 44.

[20] – عزيز ندى على وحميد، المرجع السابق، ص ص 44 و 45.

[21] – زكية عومري، “حدود توافق القواعد الزجرية لمكافحة جريمة غسل الأموال مع المعايير الدولية والمبادئ العامة للقانون الجنائي، دراسة مقارنة على ضوء القانون المغربي والمقارن”، المجلة المغربية للدراسات والاستثمارات القانونية، عدد مزدوج 2-3، السنة الثانية، 2012، ص 16.

[22] –  زكية عومري، المرجع السابق، ص 31.

[23]– ذ.بوشعيب بوطربوش،”المسؤولية الجنائية للموثق”، مجلة محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، العدد2/2012، ص وص 36 – 37 .

[24] – ذ.بوشعيب بوطربوش، نفس المرجع صفة 39

[25] – ذ.بوشعيب بوطربوش، نفس المرجع صفة 39

[26] – ينص الفصل 134 من ق. ج على مايلي: ” لا يكون مسؤولا ويجب الحكم بإعفائه من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه في حالة يستحيل معها الادراك نتيجة لخلل في قواه العقلية” .

وفي الجنايات و الجنح، يحكم بالإيداع القضائي في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية وفق الشروط المقرر في الفصل 76.

 

[27] – قرار محكمة الاستئناف بالرباط، ملف عدد 330 -2011-26 الصادر بتاريخ 28/11/2011، غير منشور .

[28] – قرار محكمة الاستئناف بالرباط- قرار عدد 23، ملف عدد: 453-11-26 صادر بتاريخ 10/01/2013، غير منشور.

[29] – قرار محكمة الاستئناف بالرباط، قرار رقم 392، ملف رقم 1346/13/2601 صادر بتاريخ 04/02/2014.

[30] – J. de Pouliquet, op.cit., p. 267 .

[31] – – J. de Pouliquet, op.cit., p. 286 .

[32] – ذ. نور الدين اسكوكد، ” مكانة النيابة العامة من التوثيق العصري”، مجلة محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، العدد 2، سنة 2012، ص 130.

[33] – بوشعيب بوطربوش، ” المسؤولية الجنائية للموثق”، المرجع السابق، ص 37-38 .

[34] – تنص المادة 11 من القانون رقم 32-09 على مايلي: “تتكون اللجنة المكلفة بإبداء الرأي في تعيين الموثقين ونقلهم و إعفائهم و إعادة تعينهم والبت في المتابعات التأديبية للموثقين المتمرنين من:

– وزير العدل بصفته رئيسا أو من يمثله، الوزير المكلف بقطاع المالية أو من يمثله، الأمين العام للحكومة أو من يمثله، رئيس أول لمحكمة استئناف أو نائبه، وكيل عام للملك لدى محكمة استئناف أو نائبه، قاض بالإدارة المركزية لوزارة العدل من الدرجة الأولى على الأقل بصفته مقررا. يعين كل من الرئيس الأول والوكيل العام للملك ونائبيهما و القاضي بالإدارة المركزية  من طرف وزير العدل”.

– رئيس المجلس الوطني للموثقين أو من ينوب عنه، رئيسي مجلسين جهويين منتدبين من طرف رئيس المجلس الوطني. تحدد طريقة عمل اللجنة بنص تنظيمي”.

Exit mobile version