Site icon مجلة المنارة

استراتيجية الدفاع والهجوم في مسار حزب “العدالة والتنمية” المغربي

استراتيجية الدفاع والهجوم في مسار حزب “العدالة والتنمية” المغربي

إعداد: ابراهيم الصافي باحث في سلك دكتوراه

brahimessafi@gmail.com

 

تندرج هذه المساهمة العلمية في إطار تعميق النقاش حول السلوك السياسي لتجربة جماعات الإسلام السياسي في المغرب، وبشكل خاص حزب العدالة والتنمية، وذلك من خلال تتبع مظاهر الممارسة السياسية وفهم وتفسير السلوك السياسي لقيادات هذا الحزب الذي يقود الإتلاف الحكومي، والوقوف على الكيفيات التي يشتغل بها في استقطاب الموالين وتعبئتهم وإقناعهم بمشروعه السياسي، وذلك بتجريب أحدث الأطروحات المتداولة في السوسيولوجيا السياسية، وهي أطروحة “التأطير Framing”.

الهدف من تجريب هذه الاطروحة هو إبراز مدى قدرتها على إعطاء أجوبة مقنعة في تفسير كيفيات اشتغال الجماعات الإسلامية بصفة عامة وحزب العدالة والتنمية المغربي بصفة خاصة، والكشف عن جوانبه الخفية في توظيف العقيدة الاسلامية للمجتمع المغربي والارث الثقافي واضفاء معاني معبئة على الاحداث والفرص السياسية وتأويلها بهدف توسيع قاعدة الانصار والمؤيدين وإضعاف المناوئين.

انطلاقا من هذه الإشكالية سيتم معالجة هذا الموضوع من خلال عنصرين، الأول نؤطر فيه الحالة المدروسة، من خلال وضع تعريف مقتضب عن الجماعات الاسلام السياسي، وتمييزها عن الجماعات الراديكالية، وفي العنصر الثاني العمل على محاول تجريب إحدى الاطروحات الرائدة في السوسيولوجيا السياسية، ومدى قدرتها في إعطاء تفسير يساعد على فهم دينامية الجماعات الاسلام السياسي في المغرب.

العنصر الاول: حزب العدالة والتنمية والاسلام السياسي المعتدل

 

يصعب وضع تعريف دقيق وموحد لمفهوم جماعات الإسلام السياسي، لأن العلوم الاجتماعية تتسم غالبا بتباين التعريفات والمصطلحات لذات المفهوم، على خلاف العلوم الطبيعية التي تتسم بالوضوح والثبات، فذات المفهوم في العلوم الاجتماعية قد نجد له عشرات التعريفات، التي تتباين حسب تباين الفكر والايدلوجيا والمدارس الفلسفية للدارسين.

يعبر مفهوم  الإسلام السياسي عن الحركات والقوى التي تصبو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية منهجًا حياتيًا، مستخدمة بذلك منهجية العمل السياسي الحديث القائم على المشاركة السياسية في السلطة، فكل حركة سياسية إسلامية تعتبر المشاركة السياسية منهجا تدخل ضمن هذا التعريف”[1]، وبالتالي فإن كلمة سياسي في مصطلح” الإسلام السياسي”  ليست توصيفا للإسلام بمقدار ما هي توصيف وتعريف للحركات التي تقبل بمفهوم المشاركة السياسية وخوض الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، حيث أن هناك العديد من الحركات والأحزاب الإسلامية التي ترفض هذه القاعدة، وهناك العديد الذين يقبلون بهذه القاعدة، ولذا يأتي هذا التوصيف في هذه المقالة البحثية، فهو يعالج المنهجية التي تتبعها الحركات أكثر منها معالجة طبيعة ونظرة هذه الحركات والأحزاب إلى الدين الإسلامي.

يطلق بعض الباحثين مصطلح “الحركات الإسلامية”، ويفضل آخرون مصطلح الأصولية، ويذهب آخرون إلى استخدام تعبير “الإسلاموية”، على الحركات التي تنشط على الساحة السياسية، وتنادي بتطبيق قيم الإسلام وشرائعه في الحياة العامة والخاصة على حد سواء، وتعادي أو تعارض في سـبيل هذا المطلب الحكومات والحركات السياسية والاجتماعية الأخرى التي ترى أنها قصرت وتوانت فـي الامتثال إلى تعاليم الإسلام أو خالفتها.

ويغلب إطلاق مصطلح “الحركات الإسلامية”، على “الحركات التي تصف نفسها بهذا الوصف وتنشط فـي المجال السياسي، إذ نادرا ما يطلق وصف الحركات الإسلامية على الجماعات الصوفية التي لا تنشط فـي مجال السياسة، ولا يطلق هذا الوصف أيضا على الأحزاب التقليدية ذات الخلفية الإسلامية كحزب الاستقلال، بينمــا تطلق هذه الصفة على حركات المعارضة للأنظمة السياسية القائمة في الدول العربية”.[2]

دراسة الحركات الإسلامية بهذا المفهوم سوف يركز على كونها قوى مؤثرة في المجتمع لها أهدافها واستراتيجيتها، وتتأثر بالظروف المحيطة بها، فهي جزء من الصراع الاجتماعي والسياسي، ولكنها تستعمل اللغة والرمزية الدينية، وترتكز على مخزون ثقافي يطغى عليه الدين، غير أنها تبقى كائن اجتماعي متولد من رحم المجتمع، وهذا ما يذهب إليه عالم الاجتماع التونسي عبد اللطيف الهرماسي؛ بقوله، “الحركات الإسلامية حركات اجتماعية تخضع لقانون التطور، تحمل خصوصيات المجتمعات التي نشأت فيها، تتأثر ببيئتها وتفعل فيها، وهي كذلك حركات تفتقر إلى التجانس في مرجعتيها ومن الضروري التعامل معها علميا ولما لا سياسيا على هذا الأساس”.[3]

وفي لمحة تاريخية موجزة عرفت حركة الإصلاح والتجديد -منبع ولادة حزب العدالة والتنمية- سنة 1996 منعطفين أساسيين بعد رفض السلطات السماح لها بتأسيس حزب “التجديد الوطني” كإطار للعمل السياسي؛[4] أولهما انضمام مجموعة من عناصرها وأطرها (الجناح السياسي)، إلى حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية برئاسة عبد الكريم الخطيب في يونيو 1996، بعد  عقد مؤتمر استثنائي.

وثانيهما توحيد حركة الإصلاح والتجديد مع رابطة المستقبل الإسلامي في 13 مارس 1996، ويعد انضمام مجموعة أطر وقياديي الإصلاح والتجديد، إلى حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية بداية حقيقية للتسييس العلني والمباشر لتيار المشاركة من الحركة الإسلامية، وبالتالي انتقالها من حركة ثقافية دينية إلى حزب سياسي، ستعزز قواعده خاصة بعد مؤتمر ثم فيه استبدال اسم الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية إلى حزب العدالة والتنمية.

حاول أطر حزب العدالة والتنمية إخراج تنظيمهم من خانة “جماعات الاسلام السياسي” التي عرفت بسعيها إلى تطبيق الشريعة الإسلامية والتركيز على الطبيعة الحزبية للتنظيم بمرجعية إسلامية، أي محاولة الحزب تصنيف نفسه موضوعيا ضمن الجماعات الاسلامية المعتدلة، واتخذ شكل الانماط السياسية السائدة، فهو يسعى داخل إطار انتخابي ومتعدد الأحزاب إلى تمرير الحد الأقصى من عناصر برنامجه ومشروعه السياسي.

يمكن تصنيف حزب العدالة والتنمية ضمن الأحزاب “ما بعد الإسلامية” Post-Islamism لاندماجه في الحياة الديمقراطية واعتناقها ومشاركته بصفة خاصة في الانتخابات العامة، الأمر الذي أفضى به إلى ترك برامجه الإسلامية مثل “إقامة دولة إسلامية” و”تطبيق الشريعة الإسلامية” إلى اتخاذ برامج سياسية ليبرالية وإعطاء الأولوية للقضايا الاجتماعية والدفاع عن تحقيق العدالة في المجتمع.

إن السمة التي ميزت حزب العدالة والتنمية عن باقي تجارب الحركات الإسلامية في بعض الدول العربية هو إدراكه المبكر أن العنف المادي والجسدي من أجل الوصول إلى تحقيق مآرب سياسية لن تؤدي إلا إلى عنف مضاد والتطرف، وهو ما جعله يسلك طريق الاعتدال والعودة إلى الساحة السياسية من باب التضامن الاجتماعي والجمعيات الخيرية، وعقد تحالفات تكتيكية مع خصومهم لاستكمال تحقيق مشاريعهم وحتى لا يصطدمون مع المؤسسة الملكية التي تعتبر المسألة الدينية مجال محفوظ لها، ولا تقبل منازعا لها على الشرعية الدينية، كاختيار استراتيجي يتماهى فيه الديني بالسياسي في شخصية إمارة المؤمنين.

يمكن قياس الاعتدال عند حزب العدالة والتنمية انطلاقا من عدة مؤشرين؛ المؤشر الأول هو موقفه من الأقليات، وحقوق المرأة، فالمغرب يتميز بتعددية الأقليات الدينية، والعرقية الهويات الثقافية، كما يقاس من خلال موقفه من المساواة بين الجنسين في ظل السياسات الليبرالية الديمقراطية كما سنرى في المحور الثاني.

المؤشر الثاني هو موقفه المزدوج من التعددية السياسية، وموقفه من الديمقراطية التي يعتبرها آلية من أجل الوصول إلى الحكم، ونفيها حينما يتعلق الأمر بصياغة القرارات السياسية، البرغماتية السياسية في قبوله ربط تحالفات سياسية مع أحزاب يسارية وليبرالية، وقبول نتائج الانتخابات إذا كانت في صالحه، ورفضها إذا فشل فيها.

اتسمت تجربة إدماج حزب العدالة والتنمية بنوع من الدينامية السياسية والاجتماعية، من حيث علاقتهم، أولا، بنظام الحكم التي مرت بمراحل متباينة تتراوح ما بين “التوافق العابر والتساكن الحذر، وما بين التأزم الظرفي والمواجهة المستمرة وصولا إلى الانسداد والجمود، أو من حيث علاقتهم، ثانيا، بالقوى السياسية العاملة داخل النظام سواء كانت أغلبية حكومية أو معارضة سياسية”.[5]

وتبقى القاعدة الفكرية والتصور السياسي لحزب العدالة والتنمية هما المحددان الأساسيان في تصنيفه، وطرح التصور السياسي للحزب هو ذاته عمل سياسي يجب أن ينضبط بأحكام النظرية السياسية ذاتها، ومن أهم أحكام هذه النظرية، العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة السياسية، وتصبح القاعدة في طرح التصور السياسي للحزب هي السعي إلى البلوغ إلى مرحلة القوة السياسية.

تناولت العديد من الأطروحات والنظريات ظاهرة إحياء الموروث الديني ومحاولة بناء كيانات سياسية ذات طبيعة دينية،  ومن بين الأطروحات التي كان لها صدى هي أطروحة “نهاية التاريخ” حيث اعترف فرانسيس فوكوياما* بأن الدين الإسلامي هو “الدين الوحيد الذي يمتلك برنامجا عقائديا يشمل كل مناحي الحركة الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فان انبعاث هذه التيارات الإسلامية قد تشكل أكبر تهديد إيديولوجي للمنظومة الليبرالية، غير ان استيعاب هذه الظاهرة واحتوائها ضمن الصيغ الليبرالية في الفكر والحركة أمر ممكن، واعتمد في إصداره هذا الحكم على مدى التفاعلات الإيديولوجية في بعض التجارب السياسية القائمة، وهذه الملاحظة تحمل بالنسبة له دلالات مهمة تكمن في إمكانية احتواء الخطاب الإسلامي ضمن أطر الخطاب والجهاز المفاهيم الليبرالية. ولذلك يمكن اعتبار هذه الأطروحة من أشد الأطروحات خطرا على الحركات الإسلامية لأنه يرى ضرورة احتوائها من أجل تبنيها لخطاب تصالحي مع قيم الليبرالية.[6]

وتبقى هذه الأطروحة وغيرها تحصر ظهور الحركات الإسلام السياسي إلى المتغيرات الإقليمية والدولية وتغفل الدور الحاسم للتحولات السياسية والاجتماعية التي تقع داخل المجتمع، وفي هذا الإطار برزت أطروحات نظرية تعتبر الحركات الإسلامية كحركات اجتماعية وسياسة لها مشروع وتصور خاص لمسألة التغيير، وتركز على دور الفاعلين في هذه الحركات.

ومن أبرز الأطروحات في السوسيولوجيا السياسية التي تناولت دراسة الحركات الاجتماعية بما فيها حركات الإسلام السياسي، أطروحة “التأطير”[7] Framming التي نظّر لها كل من الباحث “بين فورد” Ben ford والباحث “دافيد سنو” David Snow، هذه الأطروحة تعيد الاهتمام بدارسة دور الفاعل داخل بنية الحركة في إعطاء صدى للإطار الذي ينتمي إليه وسط مشهد تتعدد في التصورات السياسية والاجتماعية.

فإن محرك تعبئة موارد حزب العدالة والتنمية حسب أطروحة “التأطير Framing”؛ هو إضفاءه المعنى الذي يكمن في “القدرة على إعطاء الأحداث دلالة ومعنى، يسمح بتعبئة المؤيدين وتوسيع دائرتهم ويضعف المناوئين، وقدرتهم على صنع الفعل المتوخى إنها لا تتعلق بالقدرة التنظيمية على التعبئة بقدر ما هي مرتبطة بالتمكن من خلق المعاني المعبئة”[8].

العنصر الثاني: استراتيجية الدفاع والهجوم عند حزب العدالة والتنمية”

 

تطورت عمليات “التأطير” إلى جانب مقاربة؛ “تعبئة الموارد” و”الفرص السياسية”، على اعتبار أن أطروحة “التأطير” تكتسي أهمية كبرى في فهم مسار طبيعة دينامية الحركات الاجتماعية الجديدة. وتعتبر من بين المقاربات الحديثة في العلوم الاجتماعية.[9]

وهكذا وظف أطر حزب العدالة والتنمية وتأويلهم للفرصة السياسية التي أتاحها ما سمي “بالربيع العربي” بعد حركة الاحتجاج الثوري التي أطاحت بعدد من الانظمة التسلطية التي شاخت قياداتها وأصيبت بالترهل السياسي، حيث وقف الحزب على هامش الحراك الذي عرفه المغرب مع حركة 20 فبراير، واصطفافه على طرف نقيض مع الحركة.

وهو الموقف الذي حدده الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران من حركة شباب 20 فبراير، حيث اعتبرها “تهديد لاستقرار الوطن”، وبرر عدم المشاركة في التظاهرات بكون حزبه حزبا مسؤولا.

وأكد هذا الموقف بلاغ للأمانة العامة للحزب صادر يوم 14 فبراير 2011 جاء فيه “أن قراره بعدم المشاركة في تظاهرة 20 فبراير، قد تم في الأمانة العامة للحزب بعد أربع ساعات من النقاش المستفيض الذي تناول الموضوع من مختلف جوانبه، واتخذ القرار بالتصويت السري، إذ صوت لعدم المشاركة تسعة أعضاء وامتنع ثلاثة عن التصويت ولم يصوت أحد للمشاركة، ومشاركة أي عضو من الحزب مهما كان وضعه فيه لا يمكن أن تكون إلا مشاركة شخصية وعلى مسؤوليته ولا يمكن أن تعتبر تمثيلا للحزب بأي شكل من الأشكال”.[10]

عزز الموقف محمد الحمداوي رئيس “حركة التوحيد والإصلاح” التي تعتبر النواة الصلبة لحزب العدالة والتنمية، أن “حركته لم تُستدع للمشاركة، ولا يعرف الجهة التي تقف وراء تنظيم التظاهرات”، وهو ما شدّد عليه محمد يتيم عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ومسؤول نقابة “الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب” التابعة لذات الحزب.[11]

هذا الموقف لحزب العدالة والتنمية من حراك الشارع تم اضفاء عدة معاني عليه، مستنبطا أسسه من المنظومة الأيدولوجية التي يتغدى منها الحزب، والتي لا ترى أن الصراع السياسي تناقض بين المصالح يحسم على مستوى فك هذا تناقض على مستوى الارض، وإنما يأخذ صبغة أخروية، طهرانية، ممزوجة بالتمثل الشعبي للعقيدة، كما وظف الحزب هذا الموقف وتطعيمه بدلالات ومعاني تجعل منه المدافع عن استقرار الحكم في ظل السقوط المستمر للأنظمة السياسية في العالم العربي، كما ساهم في إخراج الحزب من دائرة “التخويف” اتجاه السلطة وتقريبه  إلى دائرة الحكم.

ساهم هذا الإطار الدلالي إلى تقوية قدرة حزب العدالة والتنمية من فك الطوق الذي كان تفرضه عليه الاحزاب التي تصف نفسها بالحداثية، وخاصة “الاستهداف الواضح من قبل حزب الأصالة والمعاصرة الذي تأسس في غشت 2008، وجعل من بين أهدافه الرئيسية إضعاف حزب العدالة والتنمية بدعوى أن مشروعه يتعارض في العمق مع المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي يتبناه الملك محمد السادس”[12].

شكلت هذ الفرصة السياسية وما أضفي عليها من معاني نافدة الحزب في بلورة تصوره السياسي للمجتمع من خلال مقترحاته الدستورية والسياسية التي ضمنها النص على “إمارة المؤمنين والمؤسسة الملكية ودفاعه عنهما”[13].

بعث الحزب من خلال موقفه من حركة 20 فبراير إشارة في “التأكيد عن رغبته في السير قدما في مساره السياسي من داخل النظام السياسي وفقا لمنطق إصلاحي تدريجي، ويمكن اعتبار هذه الخطوات رسائل طمأنة ما فتئ الاسلاميون يبعثونها، والتي ساهمت خلال هذا الظرف الخاص في التخفيف من عناصر عدم الثقة والتوجس الذي كان سائدا بينهم والمؤسسة الملكية”[14].

يمكن رصد فعالية أطر العمل الجماعي(قيادات وأطر حزب العدالة والتنمية) في توليد الدلالات الممكنة والمعنى الذي أضفي على أحداث ووقائع معينة ساهمت في تقوية موقع الحزب في المشهد السياسي وتوسيع قاعدة مؤيديه، من خلال تجسير الأحداث والوقائع بالسياق والقيم الثقافية السائدة في المجتمع، وهنا تحضر واقعة ما سمي آنذاك بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية والتي تصدى لها حزب العدالة والتنمية بقوة، واستطاع خلق إطار معبئ، تجلت أقوى لحظاته في المشاركة الواسعة في مسيرة الاحتجاجية بالدار البيضاء بتاريخ 12 مارس 2002.

برزت بشكل واضح فعالية الاطر في تضخيم هذا الإطار وتجسيره بالإطار الفكري والقيمي لمجموعة من الدوافع والأفكار والقيم والمعتقدات الدينية في التأثير على الفعل الاجتماعي، وذلك بإضفاء معاني معبئة لحشد المحتجين والمتظاهرين ضد وثيقة المشروع التي جاءت بها حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، وركز هذا الإطار المعبئ على أن المشروع يحمل في طياته مطالب وقوانين تخالف الشريعة الإسلامية وتنصر القوانين الدولية، خاصة الاتفاقية الدولية لرفع كافة أشكال التمييز ضد المرأة (1989)، واتفاقية حقوق الطفل (1979م).

تم إلى جانب هذان الاطاران المنفصلان لكن متناغمان فكريا، قيام الأطر بعملية تبسيط الإطار حتى يستطيع تعبئة شرائح واسعة من المجتمع، واثارة حالات نفسية في المجتمع، من خلال تحذير الأطر الفاعلة بعبارات تحذيرية “للمؤمنين والمؤمنات من غوائله وسوء عواقبه”، وغيرها من التأويلات المتعددة.

هذه العمليات غير كافية لحشد الإتباع والموالين المحتملين للأفكار والقضايا الجديدة المطروحة لأول مرة بالمجتمع المغربي، إذ تطلب خلق إطار مضاد في مواجهة الجبهة الأخرى المدافعة على الخطة، التي هي بدورها قامت ببلورة إطارا فكريا لحشد موالين لها، حيث قام أطر حزب العدالة والتنمية باعتباره الغطاء السياسي لكل المنظمات المناهضة للمشروع على وصف المدافعين عن الخطة “بالعلمانيين واللادنيين”، والذين يريدون تنزيل قوانين الغرب على مجتمع إسلامي، ومناهضة الشريعة الاسلامية، وغيرها من العبارات التي يريدون من خلالها إضعاف الخصوم وتوسيع قاعدة المؤيدين.

تعتبر العمليات التي قام بها أطر الحزب من المهام الأساسية لعمليات “التأطير” وتسمى “بالتأطير المضاد”[15] counter Framming ، وهي ذات أهمية كبرى في التأثير على فعالية التأطير للحزب، من خلال وضع مناضلي الحزب في وضع الدفاع على الأقل مؤقتا هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن “التأطير المضاد” يدفع النشطاء إلى تطوير ووضع تكهنات أو تنبؤات بشكل واضح مما قد يكون عليه الوضع مستخدمين في ذلك مرجعا تكتيكيا، قوامه التفاني والتضحية بالنفس، التي تعتبر من ركائز الثقافة التقليدية والمعتقدات والرموز الإسلامية.

استطاع أطر حزب العدالة والتنمية بواسطة هذه المخططات “التأويلية” التعبئة الكثيفة للمسيرة الاحتجاجية ليوم 12 مارس 2002، حيث تداولت العديد من الجهات أن عدد المحتجين تجاوز المليونين المناهضين “للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، وهو ما شكل انتصارا لهذا التوجه، خاصة مع حجم مسيرة التوجه المدافع عن الخطة التي نظمت في ذات اليوم بالرباط بالمقارنة مع مسيرة الدار البيضاء.

لم يفوت أطر حزب العدالة والتنمية هذا الحدث البارز في تاريخ المجتمع المغربي، حيث تم تأويله وإعطاءه دلالات متعددة، تجاوزت حجم الحدث، إلى درجة ذهب القول إلى أن المجتمع المغربي لا يريد بديلاً عن الأحكام الشريعة الإسلامية. لكن لا يهم النتائج والتوجه الذي انتصر عن الآخر بقدر ما يهم المعنى الذي أضفي على الحدث، والمعاني الدافعة إلى الفعل وتقويته وإضعاف المناوئين.

ومن المهام الاساسية كذلك في أطروحة التأطير “التأطير التحفيزي”، الذي ركزت عليه العديد من الدراسات، ولفتت الانتباه إلى سبل الحركات والجماعات في تعريف “الضحايا” من ظلم معين وتضخيم كونهم ضحايا، واستعمال عبارات مناسبة للتحفيز على شاكلة خطابات تعبوية التي يعتمدها أطر العمل الجماعي[16].

وضع حزب العدالة والتنمية نفسه في موضع الضحية حينما تعالت العديد من الأصوات وخاصة الأحزاب اليسارية مطالبة بحل الحزب على خلفية الأحداث الإرهابية التي هزت مدينة بالدار البيضاء يوم 16 ماي، وأعتبر أطر الحزب أن هذه الأحداث وظفت ضده لتصفية حسابات سياسية وتحميله المسؤولية المعنوية لما وقع؛ من حيث أن الذين نفذوا تلك العمليات ينتمون إلى التيارات السلفية المتشددة، وذلك على من رغم مسارعته إلى إصدار بيان إدانة في صباح اليوم الثاني أي يوم 2003/05/17، كما تم منعه من المشاركة في المسيرة المنددة بالأحداث الإرهابية التي دعت إليها القوى المدنية.

واجه الحزب هذا الخطاب بإطار دلالي وخطابات تحفيزية لمؤيديه بأنه مجرد “ضحية”، وعبارة “الضحية” تثير تعاطف وإثارة المشاعر وخلق حالة من الانفعال النفسي، ودعا مناصريه إلى الصمود، مستعملا إطارا مضادا من خلال وصف المطالبين بحله “بالاستئصاليين”، وهو ما يسمى بـ”التأطير الإنذاري”[17] من خلال اقتراح خطة للهجوم.

 

يركز أطر العمل الجماعي وأتباع الحركة على التفاوض، بهدف الفهم المشترك لبعض القضايا والأوضاع التي يحددونها وتتطلب التغيير، والتعبير عن الترتيبات البديلة، وحث الآخرين على العمل المتناسق من أجل إحداث التغيير، وذلك من خلال المهام الأساسية للعمليات التأطير التي تتحدد في؛ “التأطير التشخيصي”[18] أي التركيز على تحديد وتعريف المشكل وأسبابه بكيفية دقيقة والمسؤول عن الوضع.

اعتبر حزب العدالة والتنمية أن البلاد أصبحت في حاجة ماسة، بشكل أكبر، إلى تعزيز وحدة الصف الداخلي لمواجهة التحديات، والقيام بمبادرة إصلاحية عميقة، استباقية وشجاعة تحافظ على استقرار البلاد وتستجيب للتطلعات المشروعة في الإصلاح، وأنه “آن الآوان لإجراء إصلاحات دستورية وسياسية يكون من شأنها إرجاع المصداقية إلى الحكومة والمؤسسة التشريعية وضمان استقلالية القضاء وإصلاح النظام الانتخابي بما يؤدي إلى إعادة المصداقية إلى المؤسسات ويرفع فعاليتها ويعيد الثقة في العمل السياسي ويدفع الشباب إلى الانخراط فيه بفاعلية”.[19]

أما عن الخلافات التي تقع بين الفاعلين في الحركة حول حشد توافق في الآراء والعمل التعبوي حسب ما تفسره “أطروحة التأطير”، في تدبير الأطر لخلافاتهم، فقد عاش مناضلي وأطر حزب العدالة والتنمية خلافات حول تفاعلهم مع بعض القضايا المستجدة في الحقل السياسي، فقد طفى على السطح خلاف حول الموقف من حركة 20 فبراير التي قادات احتجاجات في المغرب، حيت انقسم أطر الحزب بين مؤيد وبين معارض.

على إثر هذا الخلاف قدم ثلاثة أعضاء استقالتهم من الأمانة العامة للحزب، وهم: “مصطفى الرميد والحبيب الشوباني وعبد العالي حامي الدين”، وقد ورد في رسالة الاستقالة التي تقدم بها الحبيب الشوباني مجموعة من الأسباب التي تكشف هذا التصدع، منها؛ “تجاوز الأمين العام لمؤسسة الأمانة العامة؛ مما يشكِّل ضربًا للمشروعية داخل الحزب، والتسرع في اتخاذ قرار المقاطعة الذي اعتبره مرتبطا بموقف الأمين العام وليس بموقف الأمانة العامة، وهي أمور تلحق ضررا بصورة الحزب”.[20]

استطاع الحزب تدبير النزاعات والخلافات التي وقعت بين الأطر من خلال تأويله للفرص والأحداث المتسلسلة، وهكذا تم تأويل فرصة خطاب 9 مارس 2011، الذي أعلن فيه الملك محمد السادس عن تشكيل لجنة للقيام بمراجعة عميقة للدستور، والدفع في اتجاه احتواء التناقضات التي طالت أطر الحزب جرّاء موقفه من حركة شباب 20 فبراير.

توضح لنا “أطروحة التأطير” أن أطر العمل الجماعي لا تتخذ شكل منحى تصاعدي تتراكم فيه المكتسبات بشكل مستمر، بل هي تتخذ شكل اندفاعات غير متصلة مع أنها مترابطة في سياق متوال من الحلقات، فهي تزداد طفرة بعد أخرى، ويبدو ذلك بشكل واضح في الطفرات التي حققها حزب العدالة والتنمية من خلال تأويل لمجموعة من الفرص والاحداث والتحالفات، ساهمت في توسيع قاعدة المؤيدين وإضعاف المناوئين.

وعرف هذا الحزب أيضا تراجعا في قدرته التعبوية في مواجهة الهجومات المضادة، وضعفا في فعاليته، وتراجعا في صداه داخل المجتمع في فترات قوضت قدرة الأطر على تأويل الاحداث، أو تغير طبيعة التحالفات والمعاني التي أضفيت على هذه التحالفات.

عمل أطر العمل الجماعي (أطر حزب العدالة والتنمية) على توجيه منحى مجموعة من المعتقدات والمعاني من أجل إلهام وإضفاء المشروعية على الأنشطة والحملات المنظمة التي يقوم بها، خاصة عندما قام بحملة وتحرك واسع لحشد والتعبئة ضد أي مساس ببعض عناصر الهوية خاصة ما يتعلق بالمقتضى المرتبط بإسلامية الدولة في المراجعة الدستورية لـ”دستور2011″.

إذن فالتأطير هو عملية ديناميكية وعملية مستمرة، لا تحدث في فراغ هيكلي أو ثقافي، فعمليات “التأطير” تتأثر بعدد من العناصر الاجتماعية والثقافية التي هي جزء لا يتجزأ، وتبقى استمرارية الأطر مرهونة ومشروطة بتوافر ثلاث عوامل ذات أهمية خاصة؛ وهي بنية الفرصة السياسية، الفرص الثقافية واستهداف الجماهير.[21]

 

 

 

خاتمة

أصبح حزب العدالة والتنمية الذي يصنف من الحركات الإسلامية واحدا من أهم الفاعلين في الساحة الاجتماعية والسياسية في المغرب، غير أن تصوراته السياسية المستمدة من المرجعية الدينية الإسلامية تبقى مجرد مورد من موارد التعبئة بالنسبة إليه، وليست مشروعا يسعى إلى تنزيله حيال حصوله على السلطة، وهو ما يتجلى بعد توليه تدبير الشأن العمومي ما بعد الحراك الذي عرفه المغرب سنة 2011، حيث يبدو أنه متماهي تماما مع السياسات الليبرالية ومندمجا فيها.

تكشف أطروحة “التأطير” أن المفاعيل القيمية والمنظومة الفكرية والأيديولوجية للحزب، تجعله يتكيف مع جميع الأحداث والوقائع الغير المتوقعة، التي طبعت مساره السياسي من خلال استراتيجية دعائية تقوم بالدفاع وفي أحيانا أخرة بالهجوم على الخصوم، هو ما يظهر عندما تغير موقعه، من موقع المعارضة الى موقع المشاركة في الحكومة.

وتتيح أطروحة “التأطير” إمكانيات واسعة في تفسير دينامية الجماعات الاسلامية في المغرب ودور الفاعل (الأطر والقيادات) في حركية الجماعة، وقدرتهم على توظيف الموروث الثقافي والديني في خدمة المشروع السياسي.

وتوضح أطروحة “التأطير” كيف استطاع حزب العدالة والتنمية التكيف مع الاحداث، من خلال توظيف البيئة الثقافية للمجتمع المغربي والقيم الإسلامية التي جعل منها مرجعية فكرية وتصورا سياسيا، مما ساعده في توسيع قاعدة المؤيدين وإضعاف المناوئين.

 

الهوامش:

 

 

 

 

 

[1] – عمار (محمد)؛ الإسلام السياسي والتعددية السياسية من منظور إسلامي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2003، ص 5

[2] – الأفندي (عبد الوهاب)؛ الحركات الإسلامية: النشأة والمدلول وملابسات الواقع، فـي: (الحركات الإسلامية وأثرها فـي الاستقرار السياسي فـي العالم العرب)، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، أبو ظبي، 2000، ص 13.

[3] – الهرماسي (عبد اللطيف)؛” الحركات الإسلامية في المغرب العربي: عناصر أولية لتحليل مقارن”، دراسات في الفكر والممارسة، مركز دراسات الوحدة العربي، ط 2، ب يروت2001، ص 298

 

[4] – المتاقي (البشير)، حزب العدالة والتنمية الحاكم في المغرب. مسار الانتقال إلى المشاركة السياسية، مجلة الأهرام الديمقراطية، متحصل عليه من الرابط الإلكتروني التالي يوم 10 يناير 2016: http://democracy.ahram.org.eg/UI/Front/InnerPrint.aspx?NewsID=433

[5] – مقتذر (رشيد)؛ تأملات في التجربة السياسية لحزب العدالة والتنمية المغربي في الحكم، مجلة سياسات عربية، العدد 3ـ يوليوز 2013، ص 1

* – كاتب ومفكر امريكي الجنسية من اصول يابانية ولد في مدينة شيكاغو عام 1952 من كتبه (نهاية التاريخ والرجل الاخير) و(الانهيار او التصدع العظيم). وفوكوياما أستاذ للفلسفة السياسية بجامعة جون هوبكنز، من أشهر أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الولايات المتحدة الأمريكية، مستشاراً للعديد من مراكز البحوث السياسية ومراكز صناعة القـرار السياسي

[6] – عزت(إبراهيم)؛ حوادث حول الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، دار مصر المحروسة، القاهرة: 2007، ص31

[7] – D. Snow، B. Rochford, S. Worden and R. Ben ford. And other  “Frame Alignment Processes, Micro mobilization and MoJeff Goodwin, James M. jasper, and Francesca Polletta eds. Passionate Politics: Emotions and Social Movements, U of Chicago Press, 2001, p 615

[8] – بونعمان (سليمان)؛ فلسفة الثورات العربية، مقاربة تفسيرية لنموذج انتفاضي جديد، مركز نماء للبحوث ودراسات، 2012 ص 25

[9] – D. Snow، B. Rochford, S. Worden and R. Ben ford, ibid, 617

[10] –  بلاغ الامانة العامة لحزب العدالة والتنمية، صادر يوم 14 فبراير 2011

[11]  – ضريف (محمد)، العدالة والتنمية وتدبير التحول الديمقراطي، محصل عليها من الرابط الإلكتروني التالي يوم 22 دجنبر 2015: http://studies.aljazeera.net/reports/2011/07/201172011493719471.htm    

[12] –  المرجع أعلاه

[13] –  مقتدر(رشيد)؛ القوى الاسلامية والتحالفات المبرمة خلال مرحلة ما قبل الربيع العربي وبعده، في مؤتمر: الاسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتجاهات المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، الدوحة، اكتوبر 2012 ص 26-27

[14] – المرجع السابق أعلاه

[15] –  D. Snow، B. Richford، S. Worden and R. Ben for, Ibid, p :617

[16] ـ Ibid , p 617,618

[17]– Ibid , p 617,618

[18] –  Ibid, p :616

[19] – مقتدر(رشيد)؛ المرجع السابق، ص 26-27

[20] – ضريف (محمد)؛ المرجع السابق

[21] – Ibid, p :616

Exit mobile version