Site icon مجلة المنارة

أبُعاد الحرب العالمية على الإرهاب من أطروحة قاعدة الجهاد إلى تنظيم دولة الخلافة الإسلامية

أبُعاد  الحرب العالمية على الإرهاب من أطروحة

قاعدة الجهاد إلى تنظيم دولة الخلافة الإسلامية

 

     عبد الواحد أولاد ملود

باحث في سلك الدكتوراه شعبة القانون العام والعلوم السياسية وحدة العلاقات الدولية كلية الحقوق مراكش.                                               توطئة:

يتفق غالبية الخبراء والمحللين للشأن الدولي في الجزم بأن قضية محاربة الإرهاب أضحت البند الأول على قائمة الاهتمامات العالمية، خاصة في مرحلة ما بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 التي تعرضت لها مناطق إستراتيجية تؤثر بشكل كبير على الأجندة الدولية اقتصاديا وسياسيا داخل الولايات المتحدة الأمريكية؛ وباتت هذه القضايا (قضايا محاربة الإرهاب) تستحوذ على الشق الرئيسي من التفاعلات الدولية وذلك في سياق الحرب العالمية التي شنتها أمريكا على الإرهاب من جهة؛ وأيضا في ظل تنامي الخطر الإرهابي إلى العديد من مناطق العالم من ناحية أخرى.

مقدمة:

لم يكن يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001 يوم كسائر أيام التقويم الأخرى؛ فقد كان بما حمله من أحداث حدا فاصلا بين حقبتين حقيقيتين تاريخيتين مختلفتين تمام الاختلاف على المستوى الظاهري في أقل تقدير. فقد أعقبت هذا التاريخ جملة من المتغيرات السياسية والإعلامية والعسكرية بل حتى الفكرية[1].

وسميت بما يسميها القرن الحادي والعشرين وجيّرته وربما قرون أخرى مستقبلا لمصلحة القوة العظمى الأولى وحدها دون مشاركة سواها الولايات المتحدة الأمريكية. وكان من الزخم التحولي الذي تلا هذا الحدث، انقسام جديد ولو نسبيا ظهر على الساحة الدولية وشعوب العالم. وأهمها من يرى في أحداث أيلول (سبتمبر) عقاب إلهي طبيعي على عدوانية أمريكا وما صارت إليها سياساتها لاسيما بعد انهيار المعسكر الشرقي، وانتهاء حقبة الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية. فيما ذهب آخرون إلى ما حدث بتسميته عملا إرهابيا مميزا خططت له وقادته ونفذته جماعات دينية إسلامية راديكالية متطرفة استهدفت الأبرياء من المواطنين الأمريكيين من دون أي مسوغ قانوني أو شرعي أو أخلاقي وبالتالي فإن مرتكبي هذه الجرائم يستحقون كل ألوان العقاب الأمريكي؛ بدعوى محاربة كل أشكال التطرف والإرهاب؛ في حين نجد رأي ثالث لم يتحيز لأي من الفريقين والتزم الصمت إزاء ما وقع مترقبا ما تأتي به الأيام.

من هنا وعند استقراءنا للوضع فإن القوة العظمى (الولايات المتحدة الأمريكية) قد تبنت الطرح الثاني وأعلنت بموجبه حربا عالمية على الإرهاب، على ما يعرف بقاعدة الجهاد (تنظيم القاعدة)، بل أكثر من ذلك ذهب الرئيس الأمريكي في تلك الفترة جورج دابليو بوش لتبني فكرة تقسيم العالم للخير والشر، وحث كل الدول الانضمام لهذه الحرب التي انحرفت عن مسارها لاحقا بقوله: إما معنا أو ضدنا[2]، مما جعل السياسة الأّمريكية تضغط على المنتظم الدولي لإخراج قرارات ذات بُعد استراتيجي لأمريكا.

واليوم وبعد مرور 13 سنة من هجمات أيلول (سبتمبر) يجد المنتظم الدولي نفسه مجبرا على خوض حرب عالمية جديدة ضد الإرهاب، ولكن هذه المرة على تنظيم جهادي آخر ربما أكثر خطورة من سابقه والذي انبثق وتفرع منه، تنظيم يطلق عليه “داعش” ويعني دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام، حيث فرض ذاته بقوة على أجندة المجتمع الدولي[3]. مستغلا مجموعة من التفاعلات والحسابات الدولية اتجاه المنطقة وما خلفته خاصة السياسة الأمريكية في العالم عامة والشرق الأوسط على وجه الخصوص. ليسجل معظم الخبراء في شؤون الإرهاب والجماعات الراديكالية المتطرفة إلى أن أعمال هذا التنظيم تتوسع ليشمل نسبة من المساحة الدولية خاصة الإسلامية منها، مما جعل البعض يطلق عليه سرطان العصر الجهادي.

إن الإشكالية التي ترتبط بهذه الدراسة هي تحليل عمق المتغيرات المساهمة في بلورة حرب عالمية ضد الإرهاب، من ظهور جماعات جهادية راديكالية وانعكاسها في تكريس مبادئ وأهداف الإستراتيجية الأمريكية على الصعيد الدولي من ناحية، وكذا استغلال هذه الأسباب من القوة العظمى لتحقيق أو توسيع مبدأ البقائية والرئاسة المستمرة خاصة في ظل صعود قوى عالمية منافسة ولو لم تكن العداء لها من ناحية أخرى.

يجمع العالم على أن الإرهاب تحوّل إلى التحدي الحقيقي المعاصر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بما يمثله من خطر متزايد على الأمن والاستقرار في جميع أنحاء العالم[4].  وهذه الظاهرة ليست وليدة اليوم بل تعود إلى عصور قديمة فقد استعملت كلمة إرهاب لأول مرة منذ سنة 1794 لتعني سياسة الرعب لسنتي 1793 و 1794 التي شهدتها فرنسا؛ وأن المصطلح لم يستعمل إلا عام 1922 ليعني مجموع المحاولات وأعمال التخريب المقترفة من طرف أي منظمة بغية خلق جو من الاضطراب والتأثير على السلطة القائمة[5]. وهو مجموعة أعمال عنيفة لتحقيق أهداف خاصة السياسية منها، (الاعتقال، الحجز. ممارسة السلطة تخويف السكان، كما يمكن للإرهاب أن يكون شكل من أشكال الحكم[6].

لقد تعددت مفاهيم الإرهاب وتعريفاته وتنوعت أشكاله. وحتى الجمعية العامة للأمم المتحدة رغم سن مجموعة من الاتفاقيات والقرارات المرتبطة بهذا الشأن لم يتم تبني تعريف دقيق للإرهاب، ويعزى السبب في ذلك إلى أن الموضوع تتداخل فيه مفاهيم سياسية واجتماعية وقانونية وإيديولوجية متضاربة[7].

 

المحور الأول: الحرب العالمية على الإرهاب نحو فهم أعمق.

حصلت أحداث 11 أيلول (سبتمبر)حينما وصلت شعبية الرئيس جورج دابليو بوش إلى مستويات متدنية، بعد مرور ستة أشهر على بداية عهده. وقد أثر في ذلك أدائه الفاشل في مجالات حساسة وهي الشؤون الاجتماعية والسياسة الخارجية. كما ذُكرت قرارته وإجراءاته في تلك الفترة القصيرة على رأس البلاد المجتمع الأمريكي وبقية العالم بممارسة السلطة أثناء الحرب الباردة المنتهية[8]. وفي خضم تلك الظروف نجم وضع مأساوي عن الأعمال العنيفة لـ 11 أيلول (سبتمبر) عندما اصطدمت ثلاث طائرات مخطوفة تابعة لشركة طيران تجارية أمريكية، ببرجين توأمين لمركز التجارة العالمية في نيويورك وبمبنى البنتاغون في واشنطن، وطائرة رابعة مشكوك في صحتها انفجرت في ولاية بنسلفانيا. مما أدى إلى سقوط عدد من الضحايا من جرحى وقتلى وصل إلى ما يناهز 2997 قتيلا[9].

أولا: هجمات 11 أيلول (سبتمبر) من المسؤول عنها؟

 

غيرت أحداث أيلول (سبتمبر) الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد، كما أن العالم ماض في الاتجاه بكل تأكيد فهذه الأحداث أشرت على عصر سياسي جديد ومصطلحات جديدة وها نحن قد بدأنا نرى أعداء قدامى يصفح عنهم، وآخرون جدد يطلون على الساحة، و تحالفات تتشكل وأخرى تنقض، في حين يتعرض المخالفون للنيران. وفي الوقت الذي يهلل فيه لـ الأبطال تجتاح وسائل الإعلام صور الأشرار[10].  وتظهر تقلبات إيديولوجية وسياسية بعيدة المدى.

بعد نهاية الحرب الباردة بات من الضروري إيجاد ذريعة تمنح للأمريكيين الزعامة العالمية مما استوجب طرح العديد من التساؤلات ذات صلة بما جرى في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ودعم أمريكا للمقاتلين العرب في أفغانستان الذين كانوا أصدقاء وحلفاء الأمس أعداء اليوم والغد. أضف إلى تلك النتائج الوخيمة التي نتجت عن حرب الخليج الثانية، 1990 – 1991، حيث تم منح الأمم المتحدة التي تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الربان الدائم لقيادة كل القرارات الصادرة عن الهيمنة، غطاء شرعيا بإصدار ومباركة لقرار رقم 678 الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 من مجلس الأمن لمهاجمة العراق[11].

وبعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بثماني وأربعين ساعة من وقوع الحدث وجهت أمريكا أصابع الاتهام إلى ما يسمى بأسامة بن لادن وجماعته قاعدة الجهاد (تنظيم القاعدة). من جهته أثنى وبارك الشيخ على منفذي العملية، وفي كانون الأول (ديسمبر) من نفس العام تمكنت أمريكا من الحصول على شريط فيديو يصور بن لادن مع مؤيديه يتحدث عن دهشته من كمية الخراب والقتلى التي حلت بالبرج، وأن الحصيلة لم تكن بالحسبان بل فاقت توقعاته، وتم استخدام هذا الشريط كأحد الأدلة العلنية على أن بن لادن علم مسبقا بالحدث وتفاصيله. بينما تبقى أدلة أخرى غير معلن عنها لدواعي الأمن القومي والحرب على الإرهاب[12].  

كما أن أوسامة بن لادن هو الآخر قسم العالم بأسره إلى فسطاطين، حينما أعلن في تصريحه العلني الأول جراء ما وقع “أن هناك فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط كفر أعادنا الله وإياكم منه”[13]، هنا المفارقة اللادغة، إذ ينبذ جورج دابليو بوش وكذلك الشيخ  الخيار الثالث الذي مفاده احتمال وجود من يعارض سياسة الاثنين معا. إذا نطرح السؤال العريض كيف نسبت أحداث أيلول (سبتمبر) لتنظيم القاعدة، وهل هذه الأعمال الإرهابية وقعت دون إعلان تهديد مسبق؟.

لا يخفى على المتابع لأحداث وتطور القضية الأفغانية أن للولايات المتحدة الأمريكية دورا هاما في دعم المجاهدين الأفغان العرب في حربهم ضد القوات الروسية والحكومة الأفغانية الشيوعية الموالية لها، والحقيقة أن لهذا الدور أهمية من حيث أنه أضفى على القضية الأفغانية صيغة الشرعية الدولية[14].  

ورغم الموقف الأمريكي الغربي العربي من القضية الأفغانية ، لكن المجاهدين كانوا يعلنون عدائهم السافر لكل أعداء الإسلام أينما كانوا ومن كانوا، فإذا ما عددنا خرجات وأقوال بن لادن في هذا الصدد فإنه يؤكد على مواجهة كل دول الكفر عربية أم أجنبية، وكانت الجملة الشهيرة عنده (الكفر ملة واحدة)[15].  

من الحرب الأفغانية في نهاية الثمانينات بدأت بوادر بلورة فكرة قاعدة الجهاد (تنظيم القاعدة) حيث تداخلت فيها عوامل من هنا وهناك، فبعد هزيمة السوفيات وجد بن لادن ومن معه من قادة الأفغان العرب الذين أوصدت الأبواب أمام عودتهم إلى بلادهم، أن دورهم قد انتهى في أفغانستان وتأكدت لهم ضرورة الرحيل.

عاد بن لادن إلى السعودية مسقط رأسه ثم إلى السودان وبعد ذلك قصد أفغانستان مرة أخرى بعد أن تأكدت سيطرت طالبان على أغلب ربوع الأراضي الأفغانية شأنه شأن أغلب العرب المجاهدين الذين سبق لهم أن جاهدوا ضد الروس. وقد لقي هذا التوجه قبولا شديدا من طالبان لأسباب فقهية…[16] وفي منتصف شباط (فبراير) سنة 1998 أعلن عن تأسيس الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين” هذه الأخيرة كانت نقطة تحول الرئيسية على طريق وصول تنظيم القاعدة وهو الإسم الإعلامي والأمني لهذه الجبهة إلى ما هو عليه الآن حيث وقع على وثيقة إنشائها كل من الشيخ أوسامة بن لادن الذي لم يكن يرأس تنظيما محددا، وأيمن الظواهري زعيم تنظيم الجهاد المصري، ورفاعي أحمد طه عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية المصرية، والأمير حمزة سكريتير جمعية علماء باكستان، وفضل الرحمن زعيم حركة الأنصار في باكستان أيضا، وعبد السلام محمد

زعيم حركة الجهاد في بنغلاديش، وقد حددت الجبهة هدفها في قتال الأمريكيين والإسرائيليين في أي مكان من العالم وأن الجهاد فرض عين على كل مسلم، استنادا لمجموعة من الشيوخ الذين كان لهم دور فعال في ترسيخ مفهوم الجهاد عبر التاريخ وإلى هذه الفترة[17].

وجدير بالذكر أن أول تشكيل أسسه أوسامة بن لادن هو تنظيم النصيحة والإصلاح الذي كان يرسل بياناته من لندن، وكان دوره ليس عنفيا ولا راديكاليا وإنما تبني خطاب إصلاحي ينصح أئمة المسلمين. كما أن جبهة جهاد اليهود والصلبيين وجهت أقوى الضربات ضد الأهداف الأمريكية، ففي 7 أغسطس (أب) غشت 1998، تم تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في كينيا وتنزانيا والذي أدى إلى مقتل 263 شخصا من بينهم 12 أمريكيا وجرح أربعة الآلاف آخرين وقد أعلن “الجيش الإسلامي لتحرير أراضي المقدسات الإسلامية” مسؤوليته عن تنفيذ الانفجار ويعتقد أنه الجناح العسكري لتنظيم القاعدة الذي يرأسه الشيخ بن لادن، وقد اتهمت أمريكا الأفغان العرب بالقيام بأعمال إرهابية تشمل قتل عسكريين أمريكيين في السعودية والصومال ورعايا آخرين  في كينيا وتنزانيا. من هنا يتبين أن السياسة الأمريكية اتجاه العرب الأفغان مرت بمرحلتين متعاقبتين ومتناقضتين حيث تحولت العلاقة من النمط التحالفي إلى النمط الصراعي، الأول مبرره وجود عدو مشترك وهو الاتحاد السوفيتي وبانهيار هذا الأخير، تحول الأمر إلى النمط الثاني وهو العداء[18]. كل هذه الأسباب وغيرها زادت في نشوب علاقة توثر أمريكية طالبانية هذه الأخيرة التي تعتبر الحاضن الرئيسي للأفغان العرب فيما بعد تمت تحالف بينها وبين تنظيم القاعدة، مما جعل أمريكا تفرض عقوبات اقتصادية على حركة طالبان في 6 تموز (يوليو) 1999 معتبرة أن سياسة طالبان تشكل تهديدا للأمن الأمريكي لأنها تسمح لابن لادن ومنظمة القاعدة باستعمال أراضي تحت سيطرتها.

 إذا أصبح من الواضح أن الإدارة الأمريكية باتت تؤمن أنه من قام بضرب أهداف أمريكية عسكرية في السعودية عامي 1995 و 1996 إلى ضرب أهداف سياسية في كينيا وتنزانيا ثم إلى ضرب هدف بحري في اليمن عام 2000 وصولا لضرب أهداف إستراتيجية ضخمة في الولايات المتحدة نفسها عام 2001، أنه على يقين أن جميع هذه الهجمات ترجع المسؤولية عنها إلى جهة واحدة بعينها وأن لأسامة بن لادن ورفاقه صلات مباشرة أو غير مباشرة بهذه الهجمات. مما يستدعي عدم السكوت على أي هجوم لأنه من الفظاعة بما كان الاستمرار مدة أطول من ذلك في موقف العاجز أمام عدو يتربص بها في كل مكان، ويخرج إليها في كل مرة من حيث لا تحتسب. رغم أن بن لادن نفي مرات متكررة مسؤوليته عن هذه الهجمات[19]، مما استوجب مواجهة العدو الذي يعتبر من نوع خاص بطريقة خاصة جدا تعوّض فشل السنوات السابقة في محاربته، يعيد إليها ما فقدته من كبرياء وخسائر داخلية وخارجية…

 كان الرئيس دابليو بوش لحظة تفجر الإحداث في زيارة لمدرسة بمركز للأطفال بساراسوتا بولاية فلوريدا عندما تم إبلاغه بالحدث ومن هناك صرح على عجل أن البلاد تعرضت لهجوم إرهابي، ولم يكن قد حدث في تلك اللحظة إلا الاصطدام الأول مع البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي[20]، وانتشرت علامات الاستفهام عن السبب الذي منع اعتراض الطائرات المهاجمة قبل وصولها إلى أهدافها، أو إسقاطها بالصواريخ أو النيران الأرضية الأخرى، لقد كان الوقت كافيا لملاحظة أن الطائرات المخطوفة قد ارتدّت عائدة إلى الشرق في عكس مسارها المقرر نحو الغرب، كما توفرت فسحة وقت معقولة بين زمن ضرب البرجين وكذا بين ضرب هذين الأخيرين ومبنى البنتاغون.

    فقد انقضّت الطائرة على المبنى بعد حوالي 58 دقيقة من ضرب البرج              الأول  و أربعين دقيقة من مهاجمة البرج الثاني في نيويورك.

ويمكن القول أن الإدارة الأمريكية تلقت تهديدات مسبقة أو بالأحرى علامات إنذار تثبت أن أمريكا على علم مسبق بأحداث 11 أيلول (سبتمبر) واردة، فبعد مضي ثمانية أشهر على الهجمات لفتت انتباه المجتمع الأمريكي والدولي بقوة التصريحات المقتضبة لـ مدير إف بي آي FBI آنذاك “روبرت ميلر” في 12 أيار (مايو) 2002 أمام فريق من اللجنة القضائية لمجلس الشيوخ حيث كشف أن أحد عملائه قد حذر قبل عدة أسابيع من الفاجعة الإرهابية وأن المدعو “زكرياء  موساوي” وهو فرنسي من أصل مغربي يدرس الطيران، يعد المتهم الأول الذي يحاكم بسبب صلاته المزعومة بأحداث نيويورك وواشنطن، كان هو من النوع الذي بإمكانه أن يطير بأية طائرة ضد مركز التجارة العالمية، وأضاف “ميلر” متأسفا أن هناك خطأ كان على الجهاز الذي يرأسه[21]، كما أشارت دراسات وتقارير أن إدارة بوش تلقت إعلان تهديدات مسبقة دون تحديد أي تاريخ ومكان الاستهداف وما حصل في السادس من أغسطس أب (غشت) 2001 بينما كان الرئيس دابليو بوش يقضي إجازته في مزرعته بكراوفود في تكساس، فالتقرير اليومي الذي سلم إليه ذلك النهار سيشكل مادة دسمة لوسائل الإعلام. كان التقرير يحمل عنوان: بن لادن قرر توجيه ضربة إلى الولايات المتحدة الأمريكية[22].  من جهتها أكدت مستشارة الأمن القومي في تلك الفترة كونداليزا رايس إلى ما تقدم به روبرت ميلر حول تلقي التهديد لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية داخل الأراضي الوطنية وخارجها. وفي ذلك اعتراف أن بعض المسؤولين كانوا على علم مسبق بما حدث من أبرزهم الرئيس دابليو بوش، رغم أن “رايس” لم تعطي معلومات دقيقة تثبت صحة الأمر. وهذا ما جعل السلطة التشريعية تشكك في قدرات الرئيس في حماية البلاد بعد مصادقة النواب بالإجماع في 25 أيلول (سبتمبر) 2001 على مخطط بوش الحربي وتخويله صلاحيات واسعة وإمكانيات طائلة من أجل حملته في مكافحة الإرهاب العالمية. وبعد ذلك تداولت خرجات إعلامية تشير إلى صحة التحذيرات التي كان بوش على علم مسبق بها[23].

وهذا يطرح تساؤلات أو بالأحرى مقارنة ولو نسبية بما وقع حول إهمال تقرير صادر عن عميل لـ إف بي آي FBI من تنبيه الحكومة والمغالطات من الهجوم الياباني القبلي لميناء بيرل هاربر عام 1941[24] مما أدى إلى حيادية أمريكا بشأن النزاع الأوروبي، الأمر الذي سمح لنخبها السلطوية بوضع ركائز لدعم موقعها، بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ كقوة عظمة عالمية.

بالرغم من اعتماد الرواية الأمريكية على تاريخ طويل ممتد للأحداث بينها وبين تنظيم القاعدة ورغم ما نشر ولم ينفى من الأجهزة الأمنية سواء الغربية أو العربية، ورغم خرجات بن لادن وقيادات القاعدة، إلا أن غموض الحدث وعنصر من المفاجأة فيه وموت من قاموا به فتح الطريق لروايات أخرى بحثت في الثغرات الموحدة في الرواية الأمريكية، والصعوبة الفنية التي تحول دون تنفيذ الهجوم، وأيضا محاولة العثور على دوافع وراء جماعات أخرى غير تنظيم القاعدة، بعضها أمريكي أو يهودي يمكن أن تؤدي بهذه الجماعات لاقتراف ما حدث، وفي معظم هذه الروايات كان بن لادن وجماعته أبرياء، وفي قلة منها اعتبر حليفا لأمريكا أو عميلا لها وأنه ربما اختلف معها أو تمرد عليها أو نفد العملية من أجل خدمة مصالحها العليا بصرف النظر عن موت أمريكيين فيها.

من أشهر هذه الروايات ما قدمه الكاتب الفرنسي “يتري ميسان” في كتابه “11 سبتمبر الخدعة الرهيبة”   11 September l’efferayable Imprasture والفكرة الأساسية للكتاب هي تفنيد أحداث أيلول سبتمبر وأن البنتاغون لم تصطدم به أية طائرة. من جهته ذهب ليندون لاروش وهو من الديموقراطيين إلى فكرة أن قوى أمريكية عسكرية هي التي حولت التخطيط وتنفيذ الحدث لصالح اليمين الأمريكي وجناحه العسكري[25].

وبالنسبة لتقنية تنفيذ الهجوم فإنه تشوبه عدة تعقيدات ويحتاج لتخطيط عالي الدقة مما يستبعد قيام أفراد يعيشون في مغارات أفغانستان بالتخطيط لمثل هذا العمل المحكم، وبالتالي فلا بد أن تكون الجهة المنفذة جهة متفوقة تقنيا وتكنولوجيا، ولديها جميع عناصر اللعبة لكي تديرها كما تشاء.

حدثت هجمات أيلول (سبتمبر) وتخللتها كولسة للأحداث وقراءات وغايات استغلت من طرف قوى بزعامة أمريكا لتنفيذ مخططاتها على حساب فواعل دولية وغير دولية تكبد البعض منها خسائر فادحة بل ذهبت تحليلات قديمة – جديدة في استثمار ما وقع لترسيخ أجندة سياسية، اقتصادية، إيديولوجية ثقافية محضة.

ثانيا: فرض المخطط الأمريكي باسم الحرب على الإرهاب:

يجري الحديث عما وقع في أيلول (سبتمبر) 2001 إلى اتجاهين أساسيين بارزين، أولهما اتجاه إيديولوجي ثقافي وثانيهما اتجاه سياسي عسكري واقتصادي، لقد أُعلنت الحرب العالمية ضد الإرهاب حملة صليبية مقدسة وأن المراد بالإرهاب هو الإسلام تحت أطروحة أن الإسلام رافض للحداثة الغربية ولعلمانيتها وقيمها على وجه الخصوص. فجاء في إحدى مقالات المفكر الاستراتجيي الأمريكي” فرونسيسكو فوكوياما” في العدد السنوي للنيوز ويك. شباط (ديسمبر. فبراير) 2001 – 2002″ الصراع الحالي ليس ببساطة ضد الإرهاب ولكنه ضد العقيدة الإسلامية الأصولية التي تقف ضد حداثة وعلمنة الدول الغربية. وأنها إديولوجية تمثل خطرا أكثر من الخطر السابق المتمثل في الشيوعية، والمطلوب هو حرب داخل الإسلام حتى يقبل المبادئ الغربية وأساسا المبدأ الأسمى والصحيح” دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر”[26]

فيما تم تكريس نظرية “هنتغنتون ” صِدَام الحضارات، حيث حظيت هذه النظرية بإلتفاتة واضحة وأبعاد من طرف الغرب خاصة بعد أحداث أيلول سبتمبر، ويتناول هنتغتون أن التوثر في العالم بين المسلمين وغير المسلمين حيث أعطى أمثلة عديدة على ذلك وحث على أن الإسلام عقيدة عدوانية تقف حاجزا أمام الغرب[27]، وأن القضية الأساسية التي حددها لينين هي جذور الصراع بين الإسلام والغرب[28]، وذهب آخرين بالجزم على أن أغلب إرهابي اليوم مسلمين “أغلب المسلمين ليسوا أصوليين وأغلب الأصوليين ليسوا إرهابيين لكن أغلب إرهابي اليوم مسلمين”[29] وكتب صاحب هذه النظرية أن هناك جزء من كفاح طويل بين الإسلام والغرب، فالنظام الأخلاقي الذي يستند إليه الإسلام، مختلف عما هو موجود في المسيحية واليهودية الغربية وهذه الحرب هي حرب بين الأديان. وعلى درب هذه النظريات قالت “مارجريت تاتشر” رئيسة الوزراء البريطانية الأسبق” أن حدث الإرهاب الإسلامي إنما يشمل حتى الذين أدانوا أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وابن لادن وطالبان، يشمل كل الذين يرفضون القيم الغربية وتتعارض مصالحهم مع الغرب”، فيما تجاوز الصحفي توماس فريدمان ذلك بالقول: “إن الحرب الحقيقية في المنطقة الإسلامية هي في المدارس”[30].

ولا ننكر أن لغالبية الإسلاميين وزر أكبر بالمساهمة في تثبيت مثل هذه الأفكار العدوانية وهذا راجع إلى خلفية افتقارهم لفهم عميق لأبعاد العقيدة الإسلامية حيث نرى أن جل هذه الأفكار السائدة تربط الإسلام بالإرهاب (أرهبة الإسلام)، نتيجة لثغرات تأويلات بعض المنظرين باسم الإسلام مما يكرس مفهوم الإسلاموفوبية.

كل هذا وغيره ساهم في إعادة تقويم ومراجعة الأساليب المتبعة، والأولويات في السياسة الأمريكية الأمنية والخارجية وهكذا استثمرت في الإرهاب تلك التهديدات الجديدة، منها التماثلية وغير التماثلية التي حددت في التسعينات ضمن لائحة مطولة غير هرمية، وقد تحول الإرهاب إلى دريعة إستراتيجية لسوغ جدول أعمال جديد للأمن القومي يشجع ويعزز من ناحية عملية حربا صليبية ضد الإرهاب في العالم. التي حصدت ولا زالت تحصد وستبقى بعواقبها على الإنسانية.

ولفهم إستراتيجية الحرب على الإرهاب لا بد من الوقوف عند أهم العناصر المكونة والمنطلقة لعقيدة دابليو بوش[31] وهي أن على أمريكا الالتزام بمحاربة الإرهاب في مختلف أنحاء العالم بالأسلحة اللازمة تحت منطق أن الإمبراطورية الأمريكية في نضال وحرب مستمر لفترة طويلة وأن مسألة الإرهاب يرتبط بخطر الدول الشريرة حيث يجب ردعها بالقوة العسكرية، الأمر الذي يقضي باللجوء لحرب إستباقية قصد تحقيق التغيير في أي  نظام هذه الدول الذي لا يخدم مصالح وأهداف أمريكية. وهنا تستعمل الإدارة الأمريكية الهجوم الوقائي Preventive and attack الذي يعد وزنا أكبر من الهجوم الاستباقي Preventive atack.

كما تعمل أمريكا إيمانا بخلاصها على تشجيع مفاهيم كالحرية والديمقراطية كمبدأ على فرض قيم ومبادئ اقتصادية وسياسية واجتماعية بأي ثمن، مصحوبا بالموعظة حول النضال ضد الطغاة والأنظمة الديكتاتورية. فانطلاقا من وجهة نظر هاته يشجع هذا النهج على التخريب والانقلاب الداخلي في البلدان التي لا ترتبط مصالحها وأهدافها بنظام المحافظين الجدد.

وغنى عن البيان أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استعملت في حربها على الإرهاب أدوات وأطر القانون الدولي إنطلاقا من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1373 بتاريخ 28 أيلول (سبتمبر) [32]2001. الذي يفتح الباب لمصراعيه بحشد المجتمع الدولي بأسره ليكون وراء الولايات المتحدة الأمريكية في مكافحة ما تسميه بالإرهاب ويخولها استعمال القوة للضغط على الدول الناشزة، أو حتى التي ترفض التعاون حسب مقتضيات القرار المذكور، وأنه يخول لمجلس الأمن فرض عقوبات في حال تلكؤ أي دولة عن التعاون بين قطع جزئي أو كلي للعلاقات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية ارتباطا بالفصل 41 من ميثاق الأمم المتحدة إلى حد شن الحرب العسكرية، حيث تفوض المادة 42 للأمم المتحدة (أي وبشكل آلي الولايات المتحدة) الحق في شن حرب عن طريق الجو أو البحر أو البر… على أية دولة يرى مجلس الأمن أنها لم تتعاون التعاون المناسب. لا يركز القرار 1373 على تنظيم القاعدة ولا على أية جماعة أو تنظيم إرهابي محدد بل على الإرهاب ضمن مفاهيم عامة أو عائمة مما يجعله سيفا مسلطا من الولايات المتحدة تنفذه أين وعندما تشاء برعاية وغطاء دوليين وتحقيق مبدأ الأحادية الأمريكية، هنا يفتح المسار أمام تبني قرارات أخرى أدت إلى مضاعفات الأعمال الإرهابية وأثرها القاتلة بدل أن تتراجع. وذلك على حساب السلم والأمن الدوليين، فانتشرت المعاناة والأحقاد والمرارة للملايين من الأشخاص المتضررين من الإرهاب في جميع أشكاله ومظاهره، خصوصا ما يتعلق بالخسائر البشرية والمادية التي تسببت فيها الحربين ضد أفغانستان والعراق، مما زاد من تأجج واحتقان الوضع نتيجة لهذا ظهرت تكتيكات إرهابية أكثر خطورة من سابقها.

المحور الثاني:

من 11 أيلول (سبتمبر) إلى ظهور تنظيم دولة الخلافة الإسلامية (الثابت والمتحول).

الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) هو حدث فلسفي بالمعنى الأدق للكلمة. نزولا عند الفلسفة الهيغيلية للتاريخ والتي تقول ما معناه: التاريخ لا يتقدم أحيانا من أبوابه الخلفية أو حتى من أسوأ أبوابه، بمعنى أنه ليس فقط عن طريق قوى الحق والخير والجمال يتقدم إلى الأمام ويصنع معجزات، لا شك أن دورها أساسي ومفصلي، ولكن التاريخ أحيانا أخرى يضطر إلى استخدام الحيلة الماكرة، لإفهامنا نوعية المشكلة، التي تعتمل في أعماق الواقع.

مع كثرة الروايات والتحليلات حول 11 أيلول وما تم اعتمادها من أمريكا وغالبية الغرب والعالم، تتجلى في تخطيط وتنفيذ زعماء القاعدة للحدث من أبرزهم الشيخ ابن لادن، ومحمد عطا، ورمزي بن الشيبة، ومحمد خالد الشيخ، باعتبار هذا الأخير العقل المدبر للعملية[33]. وقد تعرض وغيره مِمَّن اتهموا بالمشاركة كيفما كان نوعها لأبشع الممارسات التعذيبية في السجن من طرف ضباط الاستخبارات الأمريكية بإثقان، وأشهر هذه الطرق عرف بـ “التعذيب تحت الماء”[34]، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ظل التساؤل حول مصير الزعماء الآخرين الفارين بعد قصف أفغانستان ومن أبرزهم الشيخ أوسامة بن لادن الذي تعتبره أمريكا أحد الشخصيات العشر عالميا الخطيرين والمهددين لأمنها القومي، وذهبت إلى إغراءات مالية تصل بـ 25 مليون دولار لأي أحد زودها بمعلومات تساهم في القبض عليه، وتعتبر أن بن لادن والقبض عليه بمثابة الجائزة الكبرى وبدونه لا معنى لطعم الانتصار[35].  ومع تضارب ما يروى أصبح الرجل موجود في كل مكان بل يمكن تصويره بالعفريت الخارج من قمقمه. إلى أن أعلن عن وفاته في الثاني من آيار (مايو) 2011 بمدينة أبوت أباد الباكستانية[36] ليطرح تساؤل عميق حول كيفية استهدافه وطي ملفه، ويشهد التاريخ على هذا الرجل وما تم ربط مسؤوليته من أحداث تقرأ بتحليلات مختلفة ساهمت في تغيير المنظومة العالمية.

فبعد أحداث أيلول (سبتمبر) عرفت جماعة قاعدة الجهاد فروع وبطون بعد أن تزايدت عليها مظاهر التضييق باعتقال ومطاردة أعضائها في باكستان وأفغانستان حيث واصلت خلايا التنظيم انتشارها في مناطق التوتر والاضطراب كالعراق والصومال والشيشان. والجزيرة العربية، قبل أن تنتقل إل منطقة المغرب العربي[37]. ثم الساحل والصحراء الإفريقية. موازنة بعولمتها وتطوير نظمها، لتتفرع عنها تنظيمات جهادية أكثر راديكالية وخطورة زادت في مأساة بعض مناطق العالم خاصة منطقة الشرق الأوسط لتأخذ مجرى التوسع، إضافة إلى ما خلفته سياسة تضارب المصالح لقوى عظمة على حساب دول تكون المنبع لتحقيق أهدافها.

أولا: تنظيم الدولة الإسلامية إستراتيجية انتقالية في الجهاد والمساهمة في تغذية الإرهاب

من غزو أفغانستان إلى احتلال العراق وصولا للوقت الراهن، تكبدت مجموعة من الدول خسائر فادحة بسبب ما نتج عن الدعوة للحرب العالمية ضد الإرهاب فقد أنفقت القوة العظمة ترينيولات الدولارات على هذه الحرب وخلفت خسائر في الضحايا أغلبهم من المسلمين والعرب، فعلى سبيل المثال وصل عدد القتلى في العراق 1033000 قتيل بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الجرحى والمعطوبين، قس على ذلك عدد قتلى أفغانستان الذي وصل إلى 3485[38].

فيما بلغ عدد الضحايا العسكريين الأمريكيين على مستوى الحربين ما يناهز 4853[39] وأكثر. نتيجة لهذه الظروف انفجر وضع مأساوي وسادت فوضى عارمة في المنطقة واحتقان لأغلبية المسلمين في العالم ضد الغزاة خاصة الأمريكيين منهم. كما أدت الثورات العربية إلى توليد الأزمة مما خلف فشل المنتظم الدولي في احتوائها. كل هذا ساهم في تهديد للسلم والأمن الدوليين، فمن العراق وسورية مرورا بغزة وليبيا والساحل الإفريقي. فضلا عن شرق أوروبا وأساسا في أوكرانيا يغرق العالم في حالة من اللااستقرار تهدد بمسح الحدود التي تم رسمها منذ قرون، وتنذر بعواقب وخيمة على النظام الدولي الراهن.

فقد استثمر هذا الوضع من بعض الجماعات والتنظيمات الراديكالية الجهادية لفرض ذاتها وبلورت أفكارها أهمها تنظيم الدولة الإسلامية المعروف اختصارا بداعش.

لا يمكن أن نتحدث عن “داعش” كتنظيم دون ربط وثيق للأحداث، فقد ولد هذا الأخير من رحم تنظيم القاعدة الأم التي تفرعت فيما بعد حيث كانت من بين الفروع الساخنة لقاعدة الجهاد فرع بلاد الرافدين مستغلة القلاقل الجيوستراتيجية التي أحيطت بالمنطقة بعد سقوط نظام صدام حسين في منتصف (نيسان) أبريل 2003، وكانت الولايات المتحدة قد ارتكبت جملة من الأخطاء الإستراتيجية الفادحة. من هنا ظهر اسم بارز زاد من شهرته بعد أول ظهور له يوم 5 شباط فبراير من نفس عام غزو العراق وهو اليوم الذي أدلى فيه وزير الخارجية الأمريكي السابق “كولن بول” بمطالعته الشهيرة أمام مجلس الأمن لإقناعه للمجتمع الدولي بالانضمام للحرب التي شنتها أمريكا على العراق. إنه “أحمد فضيل نزال الخلالية” والذي سيعرفه العالم بأبي مصعب الزرقاوي من مدينة الزرقاء بالأردن  انضم إلى قائمة المهددين للأمن والسلم الدوليين، كانت مسيرة أبو مصعب الزرقاوي الركيزة الأساسية في ظهور ما يعرف الآن بدولة الخلافة الإسلامية في الشام والعراق، فقد بدأت أول عملياته القتالية في 29 أغسطس أب (غشت) 2003 أي بعد الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق بعشرة أشهر، ثم  اغتيال محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى لثورة العراق، وقد جرت عملية الاغتيال بسيارة مفخخة وشمل الهجوم 127 عراقيا شيعيا 40. وفي هذه المرحلة بدأ الزرقاوي عملياته العسكرية في المقاومة فنفذ عدد كبير منها أبرزها تفجير مبنى الأمم المتحدة في 19 من نفس الشهر، وتعرضت قبل ذلك السفارة الأردنية في بغداد  لانفجار. لكن الزرقاوي نفى تورطه في ذلك، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية تجميد أمواله، وإعلان جائزة قدرها 5 ملايين دولار لمن يدل بمعلومات تؤدي للقبض عليه، بالموازاة مع ذلك أتهم الزرقاوي بأنه خلف تفجيرات إسطنبول في 20 تشرين الأول (ديسمبر) 2003، بعدها أسس أبو مصعب الزرقاوي جماعة التوحيد والجهاد وبعد اقتراح من أنس الشامي في أواخر شهر أيلول (سبتمبر) من نفس العام. حيث تميزت أعمال الجماعة بمقاومة شرسة، وتمكنت من استقطاب العديد من العراقيين والأجانب خاصة العرب منهم، وقد حاولت تمثيل التجربة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، على مستوى الهيكلة حيث أطلقت على العراقيين “الأنصار” والمتطوعين من الخارج “المهاجرين”. وقد ذهبت تقديرات أمريكية في تلك الفترة حتى تموز (يوليو) 2004 تشير إلى قوة المقاومين لا تتجاوز خمسة الآلاف عنصر، بينما تقديرات أخرى تفوق أكثر من 16 ألف مقاتل. ولقيت الجماعة تأييدا شعبيا واسعا نظرا للظلم التي خلفته الحرب الأمريكية – العراقية. مما جعلت التنظيم يطور تكتيكاته النفسية والسياسية والعسكرية. وحتى المعلوماتية عن طريق شن حملات عقائدية وسياسية ضد شرعية الدولة والحكومة ودلك بالتهديد والتخويف…

وتعد مدينة الفلوجة ملاذا آمنا للجماعة ورمزا جهاديا مقارنة مع أحد الغزوات السابقة في عهد الرسول، وجرت عملية تنسيقية مع أنصار السنة المشابهة فكريا وعقائديا حيث اعتمدت إستراتيجيتها على استهداف الشيعة والرعايا الغربيين عن طريق تجهيز العبوات المتفجرة والعمليات الانتحارية بكيفية متنوعة. أبرزها الاختطاف والذبح، وقد شكل ظهور الزرقاوي وهو يقطع رأس الأمريكي نكولاس بيرغ، والمختطف الكوري صدمة       ورعبا[40].

وقد انضم الزرقاوي رسميا لتنظيم القاعدة في 17 كانون الأول (أكتوبر) 2004 حيث أعلن بيعته للشيخ أوسامة بن لادن وتم تغيير اسم جماعة التوحيد والجهاد إلى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، لتبدأ مرحلة جديدة من المقاومة، ساعدت على استقطاب عدد كبير من أنصار القاعدة إلى شبكة الزرقاوي من كافة دول الجوار وأعطت دفعة قوية لتنظيم خاصة. وللقاعدة عموما[41]، وقد عرف العراق اختلاط الأوراق مما ساعد في ظهور مفهوم الدولة الفاشلة حيث طبيعة الدولة جغرافيا يضطر المجاهدين في الكثير من الأحيان للجوء إلى العمليات الانتحارية وهي الوسيلة الأكثر استعمالا من تنظيم القاعدة في العراق والعالم وأكثر من 75% من عملية المقاومة تسري على هذا النحو، وبحسب مفهوم الولاء والبراء الذي تعتمده قاعدة الجهاد فإن كل من تعاون مع الاحتلال يعتبر كافرا حلال الدم والمال، ولا عصمة له ويجب قتله. فالقاعدة المذهبية للحركات الجهادية تنص على أن التقتيل فرع على التكفير… من هنا فإن لا تفرقة بين عدو خارجي (كافر أصلي) ولا عدو داخلي (كافر مرتد)، في خطاب وإستراتيجية القاعدة سواء كان أمريكيا أو عراقيا. كرديا أم عربيا أم سنيا أم شيعيا…[42]

توفي أبو مصعب الزرقاوي والشيخ أوسامة بن لادن وزعماء بارزين آخرين في تنظيم قاعدة الجهاد عالميا مثل مصطفى أبو اليزيد وسعيد المصري وفاتح وعطية عبد الرحمن وأنور العولقي… وأغلب هؤلاء اغتالوا بقصف أمريكي (طائرات بدون طيار}، وعلى ما يبدو أن التغيير المأساوي في قيادات القاعدة قد ارتبط بالإخفاق الهائل للقاعدة على مستوى القلوب والعقول[43]. إضافة إلى بروز ما عرف بالربيع العربي وتغيرات في المنطقة العربية مما أثر على إستراتيجية القاعدة وتراجعها، لكن هذا لا يعني أن هناك غياب لعمليات قتالية وتوسع عالمي.

وقد ظهرت تنظيمات جهادية مستمدة أفكارها من تنظيم قاعدة الجهاد الأم وربما تبنت نهج أكثر عدوانية، حيث ما تركته حرب العراق من استمرار تغلغل مد جهادي إضافة إلى ما خلفته الثورات العربية وعدم مبالاة المنتظم الدولي بظروف الشعوب المستضعفة والتهافت لتحقيق مصالح العديد من الدول أدخل بعض المناطق في حسابات تؤدي ثمنها مجتمعات عربية وإسلامية، خاصة بلاد الشام والعراق. فبعد اغتيال الزرقاوي من طرف القوات الأمريكية بالعراق في حزيران (يونيو) 2006؛ والذي ترك وراءه نارا مشتعلة، تولى أبو حمزة المهاجر زعامة التنظيم وبعد شهر تقريبا من قيادة هذا الأخير تم الإعلان عن تشكيل “دولة العراق الإسلامية”[44]  بزعامة أبو عمر البغدادي، لكن القوات الأمريكية مرة أخرى نجحت في استهداف البغدادي ومساعده أبو حمزة وذلك في نيسان (أبريل) 2010، فاختار التنظيم أبو بكر البغدادي المعروف حاليا بأبي بكر البغدادي الحسيني القريشي أو كما ينادونه أبو دعاء وتطلق عليه القوات الأمريكية “الشبح”، واسمه الحقيقي إبراهيم بدري.

وحري بالذكر أن الفترة الممتدة ما بين 2006. و 2010 شهدت إضعاف التنظيم من طرف القوات الأمريكية والعراقية بشكل كبير، بعدما شكلت قوات الصحواة العراقية من مقاتلي العشائر في المناطق السنية، وقتلت ثم اعتقلت أكثر من 34 من كبار القياديين، وبعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق سنة 2011 شن ما عرف بدولة العراق الإسلامية عدد من التفجيرات العنيفة في المدن العراقية خاصة في العاصمة بغداد.

تسببت في حصد آلاف الضحايا وسيولة أمنية عارمة. مما جعل القيادة الأمريكية تعرض عشرة ألاف دولار مكافأة مالية للقبض على أبو بكر البغدادي أو قتله، وكان رد فعل الطرف الآخر إعلان حملة أطلق عليها كسر جدران السجون العراقية شملت عشرات الهجمات وأدت للإفراج عن المئات من المعتقلين خاصة من سجن التاجي وأبو غريب الشهير[45].

وغني عن البيان أن ظهور الدولة الإسلامية في العراق والشام ليس أمرا اعتباطيا فالتنظيم قبل إعلان الخلافة قد مر بمراحل عمل من خلالها على لملمة أوراقه واستيفاء كل ما يمكن إضفاء طابع مفهوم الدولة في المنطقة.

وفي 29 حزيران (يونيو) 2014 أعلن الناطق الرسمي باسم تنظيم داعش “أبو محمد العدناني” عن قيام دولة الخلافة وأن هذه الأخيرة ممثلة بأهل الحل والعقد، فيها من الأعيان والقادة والأمراء ومجلس الشورى وتنصيب خليفة المسلمين ومبايعة الشيخ المجاهد أبو بكر البغدادي فقبل البيعة وصار بذلك إمام وخليفة للمسلمين[46]. وقد جاء البيان مشيرا إلى اندماج بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، التابع لتنظيم القاعدة وجبهة النصرة السورية، إلا أن هذه الأخيرة رفضت الاندماج على الفور. ما سبب في اندلاع معارك بين الطرفين بشكل متقطع، ويمكن القول أن تنظيم “داعش” قد خرج عن طاعة زعيم تنظيم القاعدة الشيخ أيمن الظواهري حيث اعترض على سلطته ورفض الاستجابة لدعوته للتركيز على العراق وترك سوريا لجبهة النصرة، كما شمل البيان الدعوة لضم كل المسلمين تحت راية وحيدة، واعتبر العدناني”أن شق الصف من قطع الرأس” لتبين إستراتيجية جديدة أكثر راديكالية على مستوى الجهاد، فقبل أن تم التركيز من قاعدة الجهاد على قتل العدو البعيد المتجلي في الغرب أو المواليين له. جاءت سياسة أبو بكر البغدادي لتبلور ملامح فكرية ترتكز حول عدد من الأصول أهمها:

العمل على تأسيس دولة الخلافة الإسلامية بالقوة المسلحة، والدعوة إلى تطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، وكذلك عدم جواز العمل في الأجهزة الأمنية والحكومية في الدولة، ورفض التعليم الغربي وثقافته وتغيير نظام التعليم، كما ترتكز أهم مبادئ وأفكار الجماعة على:

طبعا المتوخاة من هذه المبادئ تحقيق أهداف من أبرزها: تشكيل دولة الخلافة تستند إلى مقومات خاصة من أهمها: الإمام باعتباره المحرك والقائد لشؤونها (أبو بكر البغدادي) وقد تمت بيعته. ثم تشكيل تربوي يجمع بين الروحية والبدنية، يتمثل الأول في إحلال الحلال وتحريم الحرام بمعناه الديني، والثاني يتجلى تثبيت القدرات الجسدية والنهوض بها بالرياضة وسائر الأنشطة العسكرية والبدنية. في حين يتم ترسيخ المنهج التعليمي للدولة الإسلامية في العراق والشام بالدروس المجلسية والمحاضرات، وتعتبر كتب ابن عبد الوهاب خاصة كتب التوحيد والرسالة للقيرواني أبرز الكتب المأخوذة من طرف التنظيم، أما المرجع الأساسي في هذا الصدد هو كتاب “إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة. “لأبي بكر ناجي المكني سيف العدل وهو المنسق للشؤون الأمنية والاستخباراتية لتنظيم القاعدة، ويذهب البعض إلى أن الكتاب من تأليف محمد خليل الحكايمة أمير تنظيم القاعدة في أرض الكنانة باعتبار أن الأفكار الواردة فيه أقرب إلى أفكاره، وأنه ينظّر لمرحلة عصيبة ستمر منها الأمة: مما يحتم على القاعدة التي ستحل محل السلطة الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية أن تحسن “إدارة التوحش” إلى أن تستقر الأمور…

كما أن تنظيم داعش يسعى إلى الانتقال من تنظيم محلي إلى إقليمي وصولا للعالمية، حيث تعتمد إستراتيجيتها القتالية في المرحلة الأولى على مبدأ “الذئاب المنفردة” أو الجهاد المفتوح الذي يرتكز على مجموعات صغيرة وهذا ليس جديد فقد ظهرت الفكرة منذ سنة 1990 على يد “الكس كورتيس” وتوم مبتزكر رواد جماعة الكوكلس كولان أو السادة البيض المتطرفة، قبل أن يعمم المصطلح أمنيا وإعلاميا للدلالة على الأفعال الإجرامية غير المنظمة والفردية أيا كانت الإيديولوجية المهيجة[47].

يبقى وجود “داعش” تحديا أمنيا كبيرا لمنطقة الشرق الأوسط والعالم فهناك مناطق يسيطر عليها التنظيم تعتبر مساحة إستراتجية تكوّن حدود نواة هذه الدولة ذات بعد أمني وثقل عسكري فبدء بمحافظة الانبار العراقية المتصلة بدير الزور السورية خاصة المنطقة الشمالية الشرقية إلى الرقة فالحسكة والمنطقة الكردية مرور بشمال سورية خاصة مدينة حلب ثم عين العرب “كوباني”… فالدولة تحتل ثلث مساحة سوريا وربع أرض العراق وإجمال مساحتها يعادل ثلاث أضعاف مساحة انجلترا، ومما يثير العجب أن دولة بهوية إسلامية تظهر في دولتين علمانيتين طائفيتين، وتزيل حدود الاستعمار بينهما وهو ما عجز عنه النظامان البعثيان على سوريا والعراق منذ الستينات من القرن الماضي[48].  

هذه المناطق عرفت بقوس الأزمات حيث تطاحنات طائفية، وبروز مفهوم الدولة الرخوة، خاصة العراق التي داق أبنائها من السنة مرارة سياسة نور المالكي وعصائبه، ثم ما نتج عن مخلفات الثورة السورية التي ما زالت شرارتها مشتعلة حتى الآن، مما جعل غالبية الأشخاص يرتمون في أحضان تنظيم “داعش” الذي كرر تجربة “طالبان” بحفظ الأمن وتقديم الطعام والخدمات الطبية والاجتماعية، فصارت موضع ترحيب من السكان أو رضى منهم أو سكوت على أقل تقدير. وقد ساهمت سيطرة الدولة الإسلامية على المناطق العراقية-السورية في استولائها على حقول النفط ومصافيه واستحوذت على مبالغ طائلة من موجودات المصارف التي سيطرت عليها، واستفادت من بيع المقتنيات الأثرية، ومن مبالغ الفدية التي دفعتها دول غربية لإفراج عن الرهائن خاصة فرنسا، بالإضافة للتبرعات التي تتلقاها من متعاطفين كثر من السياسيين والأغنياء لتأمين احتياجات واستمرارية هذه الجماعة الجهادية[49].

في حين أن الدولة الإسلامية لم تكتفي بشمل التنظيمات والفصائل الإسلامية المسلحة على الصعيد المحلي، بل ساهم الفكر التشددي للتنظيم في اجتذاب مقاتلين متطوعين أجانب جاءوا من أكثر من 80 دولة، ربع العدد منهم قدموا من الغرب %6 من فرنسا و 4,5% من بريطانيا، إضافة لألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والدول السكيندينافيا… وأما العرب فقد أتى ربعهم من تونس و 22% من الخليج (السعودية على وجه الخصوص) ثم الأردن 20% فالمغرب 15%…يعني 60% تقريبا من الدول الملكية[50].  مع حضور بارز للمقاتلين من الجزائر وليبيا والقوقاز، وبدرجة أقل من تركيا.

ومع تزايد الانقسامات التي شهدها فروع قاعدة الجهاد في اليمن وليبيا وسيناء وأجزاء من إفريقيا والمغرب العربي، بل إن سيناريو اليمن خاصة بعد هيمنة الحوثيين على المشهد اليمني واستقالة الرئيسي عبد ربو منصور هادي قد يؤول إلى مصير شبيه بالعراق والمستقبل مثقل حثما. كما أن القاعدة وطالبان تخسران في سباق التجنيد لصالح “داعش” الذي استقطب حتى النساء وظهرت أعلامهن في كثير من المسيرات الغاضبة في غير ما بقعة من العالم وظهور كتيبة الخنساء حيت صار تأنيت الجهاد، وهذا لا يعني انهيار قاعدة الجهاد أو تراجع طالبان رغم أن “العدناني” أشار إلى إمكانية منح الولاء من أمير المؤمنين “محمد المولى عمر المتوفي ” للخليفة “البغدادي” وما وقع من أحداث في 07 كانون الثاني (يناير) 2015 الذي استهدف 12 شخصا بمقر صحيفة “شارل إيبدو” الفرنسية و 4 قتلى في مطعم ضواحي باريس حيث أعلنت قاعدة الجهاد في جزيرة العرب مسؤوليتها عن الأفعال قصد تبيان أنها رغم أي شيء ما زالت بارزة على الساحة وما تكرر من مشهد رهيب  للأحداث الأخيرة في باريس حيث قتل أزيد من 130 قتيل تبنى تنظيم الدولة مسؤوليته لهذه الهجومات البشعة ناهك عن أحداث بروكسل الدامية، ثم تطلعات حركة طالبان ربما لحكم أفغانستان سنة 2016 ما هو إلا دليل على صيرورة التنظيمات الأصلية وتبقى المنطلق والأب الروحي للجماعات الجهادية الحديثة، وهذا ثابت تاريخيا، فبعد نشأت النهج الوهابي تبنوه الإخوان المسلمين وطوره وجاءت جماعات جهادية أخرى أبرزها قاعدة الجهاد وأخذته وبلورته ثم جاءت أفكار تنظيم الدولة الإسلامية خاصة على مستوى بعض الأمور في الجهاد مستنبطة من القاعدة الأم.

إذا فداعش حلقة جديدة تتداخل في تكوينها عدة سمات لذى البعض نقمة ولذى البعض الآخر نعمة أو بعبارة أخرى آفة مسلطة على مجتمعات وورقة توظفها أنظمة أخرى للحفاظ على مصالحها. وربما يمكن جمع التحليلين في شق واحد.

ثانيا: الدولة الإسلامية بين حقيقة الوجود وإعادة النفوذ الجيواستراتيجي لتدبير قوى المصالح

هناك من يصف تنظيم “داعش” بالخلافة، والبعض الآخر ينعتها بالخرافة، فيما ذهب جانب آخر بالجزم أنها آفة، وكل من هذه الآراء له ما يبرهن تصوره وقناعاته سواء كان الحال هذا أو ذاك، فإن وجود الجماعة الجهادية في الشرق الأوسط وتمددها يزيد الطين بلة ويعمق الأزمة مما يؤدي إلى استفحال أوضاع مزرية.

فبعد تحجيم نفوذ قاعدة الجهاد الأم وبعض فروعها اعتبرت منطقة العراق وسوريا الحاضنة لتنظيم الدولة الإسلامية المهيمنة على الأرض التي ابتلعت أو عملت على احتواء فصائل إسلامية مسلحة وجذور الخلاف العميق بين أبو بكر البغدادي زعيم “داعش” وقائد جبهة النصرة أو سامة الحداوي المكنى بأبي محمد الجلاني. هذا الأخير الرافض لبيعة البغدادي وبقائه تحت لواء زعيم تنظيم القاعدة في خرسان الشيخ أيمن الظواهري وبيعته،  هذه الأحداث جاءت بعد إرسال الدولة الإسلامية في العراق جموع وأسلحة إلى الشام بمسماة جبهة النصرة، ويعزى سبب اعتراض الجلاني على البيعة للسياسة الممنهجة في العراق من “داعش” والتي يرى أنها أضرت بالجهاد[51].

وما يثير الانتباه أن هذه الجماعات التي تدعي قيادة الجهاد الإسلامي المعاصر والصحوات الإسلامية المعاصرة للانتقام من الصهاينة والأمريكان. وكذا لفرض مبادئ جهادية على المسلمين تخلق من خلالها بلبلة بينهم ربما غير واعية تماما بأنها تلجأ إلى تنفيذ مخططات وضعتها وكالات استخباراتية غربية خاصة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للقضاء على الإسلام، وتفتيت وحدة المسلمين بل أكثر من ذلك أن هذه الاستراتيجيات قد وضعت لتنفيذها بأيدي هذه الجماعات الراديكالية[52].

وما يعرفه الشرق الأوسط اليوم من تصدعات بسبب كل هذه الأوضاع وتقسيمات فصائلية وتضارب المصالح بين دول المنطقة ما هو إلا نسخة مما خلفه الإرث العثماني بعد انهيار الدولة العثمانية آنذاك بسن اتفاقية سايكس بيكو المشهورة سنة 1916 ومفادها الرسائل السرية المتبادلة بين دول الحلفاء الكبرى بريطانيا وفرنسا وروسيا لاقتسام ميراث الإمبراطورية العثمانية.

فالانتقال من الحرب ضد الإسلام إلى الحرب داخل الإسلام وتبلور نية التفضيل لقتل المسلمين لغيرهم من أهم النظريات التي تم التركيز عليها في الوقت الحالي، فأصحاب هذه الأطروحة مثل طوماس فريدمان وفوكوياما تتجلى غايتهم في الدعوة لحرب أهلية داخل الإسلام كي لا تراق دم غير مسلم في حرب ضد المسلمين من أجل غير المسلمين، وما جرى في أفغانستان هو ما يجرى في هذه الفترة ضد تنظيم الدولة الإسلامية فقد اختارت القوات الأمريكية قصف تنظيم القاعدة وحاضنتها طالبان سنة 2001 على علو أكثر من 25 ألف قدم.

إن مراقبة الأحداث المنطلقة من حربي أفغانستان والعراق وصولا إلى الثورات العربية وظهور تنظيم “داعش”، تشير إلى دخول المنطقة مرحلة الفوضى الخلاقة تمهيدا للوصول للشرق الأوسط الجديد وتقسيم المنطقة إلى دويلات عنصرية وطائفية. فهناك مجموعة من الاقتراحات أعقبت حرب الخليج الثانية سنة 1991 من خلال إعلان برنارد لويس Bernard lewis عن موت العالم العربي ككيان سياسي مقترحا استخدام الشرق الأوسط بدلا من “العالم العربي”. أما عبارة الشرق الأوسط الجديد فقط شهدت النور في شهر حزيران (يونيو) 2006 في تل أبيب على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كونداليزا رايس، وهناك مخططات تؤكد ما سلف صهرت على إنجازها إدارة المحافظين الجدد ومفكرين إسرائيليين نذكر أهمها:

– مشروع جابوتنسكي (Jabotinsky)  في العام 1937 وهو يهدف إلى قيام دولة إسرائيل الكبرى التي تدور في فلكها دويلات مقسمة مذهبيا وعرقيا  وطائفيا ترتبط بها استراتيجيا وأمنيا واقتصاديا.

– مشروع بن غوريون (Ben-Gurion) في سنة 1954 الرامي إلى تقسيم لبنان إلى مجموعة كانتونات مسيحية، درزية، شيعية، سنية فلسطينية إلى جانب بيروت التي تكون تحت وصاية دولية.

– مخطط عوديد ينون (Oded Jinon) وهو يتناول تقسيم مصر.

إضافة إلى دراسات تقسيم العراق مثلا إلى دويلات سنية و شيعية وكوردية، ثم سوريا إلى دولة علوية في الساحل، ودويلة حلب السنية، ودمشق السنية ثم دولة درزية في الجنوب، كما ذهب الأمر أيضا حتى إلى تقسيم المغرب العربي إلى دويلة البربر وتضم جزء من ليبيا والمغرب والصحراء الكبرى ودويلة البوليساريو وهي تخوض الآن نزاع بين المغرب والجزائر[53].

هنا لا بد أن نشير أن خطة غزو العراق واحتلاله عام 2003  لم يكن أمر جديد أو أنه أتى نتيجة لأحداث 11 أيلول (سبتمبر)، أو الدعاية المروجة بامتلاك نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، إنما هذا المشروع قديم يعود إلى العام 1998. حيث تناول مقال للكاتب وليام بروتش (William Brunch)  في صحيفة فيلا دلفيا ديلي نيوز الأمريكية تحت عنوان خطة غزو العراق ليست فكرة جديدة لزمرة بوش Inmading Iraq not a new Idea for Buch clique وجاء فيه أن مجموعة السياسات اليمينية ومجموعة من منظري المحافظين الجدد قدموا مشروعا إلى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في26 كانون الثاني (يناير) 1998. وهي رسالة موجهة له من مجموعة من المحافظين على رأسهم دونالد رامسفيلد وآخرين تطالب بأن يتم غزو العراق والتخلص من نظامه[54].

كما أن ما تواجهه المنطقة حاليا (المنطقة العربية – الإسلامية عامة ومنطقة الشرق الأوسط خاصة)، وبناء المشروع الغربي – الأمريكي الأوروبي وبكل بساطة هو عبارة عن (سايكس بيكو جديدة يسير من خلال خطتين:[55]

– أولهما: المسعى إلى إغراق المنطقة في صراع إسلامي – إسلامي بالتحديد سني – شيعي وقد بدأ زخم هذا الخط من عدة سنوات عندما سقط نظام “الإمبراطورية” في إيران وحل محله نظام الثورة الإسلامية الذي اعتبر ضربة قوية توجه لأمريكا رأت أن تعارضها بالدعاية والحصار والمخابرات والحرب بالوصاية، لكن ربما فشل الولايات المتحدة في الصد جعل بعض الخبراء أبرزهم القيدوم آيات الله برنارد لويس والذي دعا إلى التركيز على التناقض العربي – الفارسي الذي له جذور تاريخية. إلا أن هذا العمل وإن لم يبلغ مقصده ليتم تطويره إلى الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة وفعلا وجد هذا الأخير التربة الخصبة لنزاع فصائلي من خلاله يتم تناحر بين الطرفين مما يعمق المشكل…

– ثانيهما: هو تقسيم للمنطقة على طريقة “سايكس بيكو” مع تعديل ما تقتضيه متغيرات الأحوال.

مشروع برنارد لويس الشهير والمدعم من وزارة الدفاع الأمريكية وهو خاص بتقسيم وتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية[56] والذي أقره الكونغرس الأمريكي بالإجماع في جلسته السرية عام 1982، وهذا دليل على استمرار الكولونيالية المهيمنة على المنطقة من الغرب وتعزيز مبدأ البقاء والاستمرارية، فاندفاع أمريكا للتدخل بقوة تحت ذرائع وحجج مختلفة منها حقوق الإنسان والديمقراطية والإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وذلك لأنها قد واجهت مهددات إقليمية سياسية تقف في مقدمتها القيم والمفاهيم القومية العربية – الإسلامية فضلا عما ينتج عن تهديدات الصراع العربي – الإسرائيلي، وقضية مصالحها النفطية[57].

كما أن أمريكا تعتمد مفهوم أهمية الثقافة والقيم الإنسانية والأفكار الخلاقة في التأثير على الآخرين في مقارنة واضحة مع السلطة الصلبة والتي تعتمد أساسا على منطق الإجبار والضغط على مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، وهذا ما تميزت به إدارة دابليو بوش في التأثير على المجتمع الدولي بإعلان الحرب على الإرهاب. وقد تم ذلك أيضا من خلال الرئيس بارك أوباما في خطته لمواجهة تنظيم دولة العراق والشام، إلا أن الأمر يختلف فبوش بادر في أخذ الزعامة لشن هذه الحرب بينما أوباما اكتفى في إرسال جنود لمساعدة الحلف الدولي دون مهمات قتالية.

ربما فهمت الإدارة الأمريكية أن زعامتها – في هذه الحروب تكلفها خسائر فادحة فبإعلان انسحاب القوات العسكرية من أفغانستان في حزيران (يونيو) 2011 وإفصاح أوباما عن فكرة مفادها نجاح المهمة ودحض تنظيم القاعدة[58].

تعد الولايات المتحدة آخر المتدخلين من دول حلف الناتو في ليبيا دليل على إعادة قراءة أوراقها في هذا المجال. لكن هذا لا يسمح بالجزم على أنها تراجعت في هيمنتها والدعوة المستمرة لمحاربة الإرهاب وربما لا تريد أمريكا كشف كل أوراقها فيما يخص هذا المجال. ألم يصدر قرار رقم 1546 الذي ينهي الاحتلال للعراق وإعادة تسليم السلطة للعراقيين في 30 من حزيران (يونيو) 2003، وقد جرى ذلك في حزيران (يونيو) 2004، إلا أن هذا القرار يمنح البقاء للقوات الأمريكية والتواجد داخل العراق تحت تسمية أخرى مضللة للرأي العام الدولي وهي قوات متعددة الجنسيات، وقد أكد ذلك دابليو بوش وكذلك ما قاله السناتور “جون مكاين” بأن القوات العسكرية ستبقى داخل هذا البلد لوقت طويل جدا[59].

وغني عن البيان أن السياسة الغربية خاصة السياسة الأمريكية منها متجدرة منذ عقود يمكن رصد أبرز ملامحها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فالخطاب الشهير للرئيس الأمريكي “ترومان” أمام الكونغرس في آدار (مايو) 1947 بأن أمريكا عازمة في خلافة بريطانية بمنطقة الشرق الأوسط قصد تقديم المساعدات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لبعض الشعوب وكذا المساهمة مع شعوب أخرى لإخضاع الأقليات المسلحة… وما جاء به الرئيس الموالي “دوايت إزينهاور” في سن حزام الشمالي وتوسيعه، الغرض منه صد المد الشيوعي وهو الفاعل الأساسي في تبني حلف بغداد 1955. ثم ما وصل إليه جورج بوش الأب من الإعلان عن نظام دولي جديد والهيمنة الأمريكية 1989 – 1992 ونشر مفاهيم كانت الانطلاق لتعزيز الإستراتيجية الأمريكية(59)، وامتداد لما جاء به بوش بل تمت تزكيته من الرئيس الإبن “دابليو بوش” الذي كان مخططه أكثر راديكالية ضد المسلمين باعتبار الحرب على الإرهاب “حرب صليبية ضد الإسلام بعد عدوله عن كلامه بأن ما قاله “زلت لسان” وقد امتد هذا العداء حتى غير الساسة الأمريكيين حينما خرج رئيس الوزراء الإيطالي السابق “سيلفيو بيرلسكوني” في إحدى وسائل الإعلام بالبوح. أن الحضارة المسيحية أعظم وأبهى من الحضارة الإسلامية[60].

ولا يجب أن نرضخ تحت قاعدة شرح ما يقع من أحداث على صعيد الشرق الأوسط وما يواجهه العالم الإسلامي والعربي عامة عبارة عن استخدام لنظرية المؤامرة ونحمل كل المسؤولية للغرب (الولايات المتحدة الأمريكية). ويتم تبرئة أصحاب الأرض، بل لكي نكن عادلين لا بد أن نتقاسم هذه النتائج الوخيمة مع غيرنا من المسلمين، فلا يمكن قطعا إلصاق وجود كل التنظيمات الجهادية بصنع أمريكي محض فربما يمكن أن نذهب إلى القول كما سلف أن هذه الجماعات الجهادية استثمرت أخطاء نهجتها السياسة الأمريكية بدءا من ما شهده أفغانستان قبل سقوط الاتحاد السوفيتي إلى الآن. كما أن تغلغل هذه التنظيمات مثمر لأمريكا، إذا تبقى المجتمعات التي تدور داخلها هذه النزاعات هي التي تؤدي خسائر باهظة، حيت تصبح مشتل لتفريخ الإرهاب بشكل أو بآخر. والدولة الإسلامية ما هي إلا استمرارية لهذه المخلفات التي تتداخل فيها مجموعة من المحددات، حيث تبدو الدولة الإسلامية في عيون الجميع لغز محير ينسب ثارة إلى إيران وسياسة نور المالكي المدعومة من زعماء الثورة الإسلامية وثارة إلى النظام السوري. وأخرى إلى أمريكا وهناك كذلك من ينسبها إلى تركيا. ناهيك عن من يذهب إلى تدخل دول الخليج خاصة قطر والمملكة العربية السعودية هذه الأخيرة الحاضنة للنهج الوهابي المتشدد والذي يعد النواة لكل التنظيمات الجهادية الراديكالية، وتيار آخر يجزم أن السعودية تقدم الدعم المالي لتنظيم الدولة الإسلامية، حيث جاء في محاضرة لنائب الرئيس الأمريكي “جون بايدن” بجامعة هارفارد في ولاية “مساشوستس” الأمريكية مقرا بأن الإرهابيين في سوريا بما فيهم مسلحين من تنظيم القاعدة حصلوا على تمويل ودعم آخر من حلفاء واشنطن في المنطقة ويقصد هنا الأتراك والسعوديين[61]. وأكد على أن هدفهم القضاء على النظام ألبعثي في سوريا مقدمين مئات الملايين من الدولارات وعشرات الأطنان من الأسلحة لمن وافق للقتال ضد الجيش النظامي السوري، أما الآن وعلى حد زعم “بايدن” فحلفاء واشنطن في المنطقة قد وعوا بخطئهم ووافقوا على الانضمام للتحالف الدولي المعادي للإرهاب الذي تتزعمه أمريكا وأنهم فهموا الوضع.

أما المفكر الأمريكي “نعوم تشو مسكي” فلا يلقي اللوم كما “جون بايدن” على دول المنطقة ويعزي انتشار الجهادية الراديكالية  هو نتاج طبيعي لسياسة واشنطن في العراق وانعكاساتها عل تركيبة المجتمع العراقي الهش بعد سنوات من العقوبات التي فرضتها مع حليفتها لندن[62]، صحيح أن أمريكا ربما لم تخطط لتشكيل تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن تدخلاتها الهدامة كانت من أبرز المسببات الإسلامية في ظهورها.

وتبقى فرصة استمرارية الدولة الإسلامية أكبر من احتمالية زوالها، رغم ما عمله المنتظم الدولي منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2014 في لقاء جدة مرورا بلقاء باريس حتى لقاء لندن وحشد الدول للهجوم على داعش، بل أكثر من ذلك دخول الدب الروسي على الخط  في الأيام الأخيرة لمحاربة التنظيم في سوريا. لكن هذا الأخير لديه خبرات متراكمة وعقول دارسة في أرقى الجامعات، وهو جذاب للشباب المسلم وباندماج الجماعات التنظيمية الأخرى سيمنحها قوة أكبر مما هي عليه، وربما يمكن أن تتوفر الدولة الإسلامية على أسلحة كيماوية كذلك وقد يتم أيضا تعاون بين إمارة طالبان وبينها مستقبلا مثلا[63].

لكن ظهور تنظيم الدولة وانهيار الجيش العراقي المسلح أمامها وعجز قوات البشمارغة الكوردية المدربة والمتمرسة في القتال لعشرات السنين والذهاب للتفاوض مع تنظيم الدولة لتبادل الأسرى في الأيام الأخيرة يطرح تساؤلات عدة حول الوضع المستقبلي في المنطقة.

وفعلا إذا كانت هذه الجماعات الجهادية بهذه القوة والقدرات والإمكانيات، فلماذا لم تتخلص من نظام بشار الأسد الذي أنهكته الحرب المتواصلة منذ أزيد من ثلاث سنوات قصد استعادة أمجاد دمشق عاصمة الخلافة الأموية؟، ولماذا لم يتجه داعش إلى لبنان حيث الفرصة مواتية.؟ هل التركيز على الشرق والزحف نحو العراق تراد به الدولة الإسلامية تجنب الاصطدام مع دولة إسرائيل، أو أن مخابرات الموساد الإسرائيلي يقف سدا مانعا ضد الجهاديين؟. أليست حقيقة وجود الدولة الإسلامية معنية فقط بالسيطرة على حقول النفط والثروة تحت مظلة الخلافة الإسلامية وتوظيف الإسلام كورقة لتعاطف المسلمين وإمدادها بشباب لدعمها بمنظور “الجهاد في سبيل الله” وإذا كان خوف أمريكا وحلفاءها من الدولة الإسلامية فلماذا اعتمدت على القوات الجوية فقط الذي يساهم في إضعاف الجماعة وليست إزالته لصد الخطر. كما حدث في أفغانستان ضد قاعدة الجهاد والنظام العراقي… هل تدخل الحلف الدولي بزعامة القوة الرأسمالية رهين بمصلحتها مما يفهم أن الفوضى العارمة في الشرق الأوسط تخدم هذه المصلحة مما يجعل أمريكا لا تعطي اهتمام لصد التنظيم.

وخلاصة القول أن تنظيم الدولة يعتبر البعبع الجديد والنسخة الأكثر دموية من النسخة الأولى قاعدة الجهاد مهما كانت التأويلات والحسابات. إنه يقاتل بغطاء عربي – إسلامي حيث أن المنطقة التي تهيمن عليها الدولة الإسلامية تحيط بها أماكن إسلامية مقدسة من القدس الشريف إلى مكة المكرمة ولذلك لا يجب استبعاد تحقيق تحالفات إسلامية مهمة مع التنظيم في جبهات قتالية، ولكن كلما طال أمد الحرب كلما اختلفت معادلات القوة على الأرض، وعلينا دائما أن نذكر المقولة العسكرية التي تقول: “إن الأرض تقاتل مع أصحابها”[64].

خلاصة:

إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست بأي حال وحيدة في مجال الإرهاب إنه لعرف شائع أن تسمي الدول إرهابها هو “مكافحة الإرهاب”[65].

فالحرب العالمية على الإرهاب التي بدأت بعد هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر عام 2001 فشلت فشلا ذريعا، وكبدت الخزانة الأمريكية حوالي تريليوني دولار مرشحة للارتفاع إلى خمسة تريليونات دولار علاوة على آلاف القتلى العسكريين الأمريكيين في العراق وأفغانستان وأدت إلى وضع تشريعات، باسم الحرب على الإرهاب كانت مفخرة للنظام الغربي كما قيدت حريات التعبير الشخصية وفرضت إجراءات أمنية مشددة مست في غالبية الأحيان سلامة الأشخاص. ولا نعتقد أن المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب التي بدأت بالعودة الأمريكية إلى العراق ستكون الأكثر حظا فتنظيم القاعدة ورغم مطاردته من طرف أمريكا لا يزال فيه الوجود فقبل 11 أيلول (سبتمبر) كان هناك عنوان واحد للتنظيم في أفغانستان أما الآن فلم يعد التنظيم مركزيا، وبات التنظيم الأم ضعيفا بينما أصبحت الفروع في اليمن والعراق وباكستان والمغرب الإسلامي والصومال والساحل الإفريقي أكثر قوة، والدولة الإسلامية ورثت تدريجيا تنظيم القاعدة الأم ومن المتوقع أن ترث فروعها أو معظمها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط والعالم في المستقبل.

والجدير بالذكر أن مفهوم الحرب العالمية على الإرهاب لا يجب أن تقتصر على التدخل العسكري وتكريس تجدر الأمن الكلاسيكي الذي يعتمد على القوة فقط، بل يلزم ترسيخ مفهوم الأمن الإنساني بمختلف مكوناته سواء في مجال الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذا الميدان الديني الذي يعتبر من المقومات الأساسية في ترسيخ معتقدات وأفكار قد تؤدي عدم فهمها إلى تبني عقيدة لا تمثل للدين بصلة، وهنا لا نقتصر على الإسلام فقط بل أن هناك متطرفين أيضا غير المستوعبين للديانات الأخرى (المسيحية، اليهودية…) والذين يتبنون ايديولوجيات قد تؤدي إلى حروب يتم توظيفها باسم الدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن الجوهر يبقى مرتبط بمصالح وعدوانية يتكبد خسائرها أبرياء وهذا ما تم فعلا منذ بدأ الإعلان عن الحرب العالمية على الإرهاب إلى وقتنا الحالي.

 

 

[1]– برنارد لويس؛ أزمة الإسلام: الحرب الأقدس والإرهاب المدنس: ترجمة حازم مالك محسن، ط 1، دار الصفحات للنشر والتوزيع، دمشق، 2013، ص 10.

[2] – مايكل جوردان، إعلان بوش نيته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتوسيع نطاق الحرب على الإرهاب، يعمق الشروخ داخل التحالف الدولي، الشرق الأوسط، جريد العرب الدولية العدد  8388، 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001. ص 55

[3] – أمل عبد الله الهدابي، من 11 سبتمبر إلى داعش نحو تجاوز أخطاء الماضي، وجهات نظر جريدة الاتحاد على الرابط:

www.alittihad.ae/wajihatalls.phpsid=8188

[4] – ألكسندر فافيلوف، الإسلاموية في السياسة العالمية المعاصرة ترجمة طاهر محي الدين ط 1، دار الفرابي 2013، ص 07.

[5]– larouse de la langue française, lexique, librairie larouse 1977, p 1775

[6] – انظر:

Dictionnaire de la langue française. Petit Robert. 1977, p 1975

[7] – هيثم كيلاني، إرهاب الدولة بديل الحرب في العلاقات الدولية الوحدة، عدد 67 نيسان (أبريل) المجلس القومي الثقافي الرباط، المغرب 1990 ص 34.

[8] – أليخاندرو كاسترو أسسبين، إمبراطورية الإرهاب السياسة الأمريكية العابرة للقارات في الأمن والاقتصاد ومكافحة الإرهاب، ترجمة رفيقة إبراهيم ط.1 شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، بيروت لبنان.2012. ص 159.

[9] – مؤلف جماعي، القاعدة التشكيل، ط1، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الإمارات العربية المتحدة كانون الأول (ديسمبر) 2008. ص 242.

[10] – أسعد أبو خليل، الحرب الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب من قسم العالم إلى فسطاطين. ترجمة ميرفت أبو خليل ط 1 دارالأدب بيروت 2003. ص 25.

[11] – محمد غربي، الولايات المتحدة الأمريكية بين أسطورة محاربة الإرهاب الدولي واستراتيجية السيطرة على مقالد العالم “السلم والأمن الدولي” مجلة نصف سنوية. العدد 2. كانون الأول (ديسمبر) طنجة المغرب2003، ص 16.

[12] – القاعدة “التشكيل” مرجع سابق، ص 243.

[13] – محمد قبيسي وعدنان الدرويش، بن لادن على ضفاف بحر قزوين بيروت 2001، ص 289.

[14] – سعيد علي عبيد الجمحي، تنظيم القاعدة، النشأة الخلفية الفكرية الامتداد (اليمن نموذجا) ط.1 مكتبة مدبولي القاهرة 2008     ص . 74

[15] – سعيد علي عبد الجمحي مرجع سابق، ص 76.

[16] – القاعدة التشكيل، أيمن البدوي تنظيم القاعدة النشأة والزعامة وأبرز الأحداث مرجع سابق، ص 17.

[17]– من بين المنظرين الذي اعتمد عليه جماعة بن لادن وغيرها من الجماعات الجهادية حتى الآن: الشيخ أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزي مرورا بنهج محمد بن عبد الوهاب. وما نظّر إليه جماعة الإخوان المسلمين. خاصة السيد قطب ثم الشيخ عبد الله عزام وإمام شريف وأبو محمد المقدسي وأبا قتادة… للتوسع في الموضوع راجع:

سعيد علي عبيد الجمحي مرجع سابق .ص ص 50 وما بعدها

[18] – عامر رجب القاعدة الصلبة قبل تأسيس القاعدة ، القاعدة التشكيل. مرجع سابق ص 58.

[19] – خليل حسين، النظام العالمي الحديد والمتغيرات الدولية، ط1، دار المنهل لبنان 2009. ص 398.

[20] – محمد قدري سعيد وعبد المنعم سعيد، الأفكار والأسرار 11 سبتمبر 2001. مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة 2002، ص 17.

[21] – تصريح مدبر إف بي آي FBI  روبرت ميلو أمام الكونغريس الأمريكي حول أحداث 11. 09. 2001 سي إن إن CNN  النسخة الرقمية بالعربية 13 أيار (مايو) 2002.

[22] – فرانك دانينو. حكايات سياسية وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA ترجمة عبير المندر. ط1، الانتشار العربي بيروت. 2009 ص 282.

[23] – للتفصيل أكثر حول ما تلقته الإدارة الأمريكية من معلومات مسبق قبل هجمات أيلول (سبتمبر) 2002. راجع:

أليخاندرو كاسترو أسبين. مرجع سابق، ص 163 إلى 169.

[24] – بيل هاربر: ميناء بجزيرة هاواي تم الهجوم عليها في 7 أيلول سبتمبر 1941 من طرف الجيش الياباني بموجبها تعلن أمريكا الحرب على اليابان.

[25] – الأفكار والأسرار 11 سبتمبر، مرجع سابق ص 48.

[26] – محمد عمارة. الحرب الأمريكية على الإرهاب 19 أغسطس أب (غشت) 2014 على الرابط:

www.alkhabarnow.net/news/1319421/29/08/2014

[27] – صمويل هنتغنتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي. ترجمة مالك عبيد أبو شهيبة ومحمد محمد حلف. ط1 الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ليبيا. 1999، ص ص 459  453.

[28] – صمويل هنتغنتون. نفس المرجع ص 373 _ 374.

[29] – برنارد لويس مرجع سابق ص 143.

[30] – محمد عمارة مرجع سابق

[31] – أليخاندرو كاسترو أسبين، مرجع سابق ص 196.

[32] – راجع قرار 1373 للتفصيل أكثر على رابط الأمم المتحدة:

www.un.org/AR/terrorism/secuntycounciL.sntm

[33] – فواز جرجس، القاعدة الصعود والأفول تفكيك نظرية الحرب على الإرهاب ط.1 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2012. ص 97.

34] – اليخاندرو كاسترو أسبين. مرجع سابق، ص 178.

[35] – محمد قدري سعيد وعبد المنعم سعيد. مرجع سابق، ص 134.

[36] – مؤلف جماعي القاعدة بعد ابن لادن، مركز المسار للدراسات والبحوث 2012. ص 11.

[37] – إدريس لكريني، القاعدة في بلدان المغرب المخاطر وحدود المواجهة. مؤلف جماعي القاعدة التمدد، مركز المسبار للدراسات والبحوث، ط1. شباط (فبراير) 2009، ص 49.

[38] – انظر:

opinion Fesearch Busness 28.12.2008

www.opinion.ca.uk

الأبناء المجهولة.

www.Unknow.new.net.10.12.2008

[39] – وزارة العدل الأمريكية:

www.defenselink.mil/news/casaoulty

[40] – صلاح النصراوي، في خطى الزرقاوي أوهام ووقائع وظلال ط 61. مركز المحروسة للنشر القاهرة 2006. ص 17.

[41] – صلاح النصراوي، مرجع سابق، ص 55.

[42] – القاعدة التمدد، استراتيجية القاعدة في العراق وقائدها الزرقاوي، مروان شحادة، مرجع سابق ص 22.

[43] – القاعدة التمدد، نفس المرجع ص 27.

[44] – القاعدة التمدد نفس المرجع، ص 38.

[45] – مؤلف جماعي، القاعدة بعد ابن لادن مرجع سابق ص 56.

[46] – ما هو تنظيم “داعش” مسيرته منذ انشقاق عن القاعدة وحتى إعلان دولة الخلافة، الحياة البنانية، النسخة الرقمية 11حزيران (يونيو) 2014، تاريخ الزيارة 20 كانون الأول (ديسمبر) 2014.

[47] – الحياة البنانية. مرجع سابق.

[48] – مقتطف من بيان إعلان دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام على الرابط:

www.islamicsham.org/letters 1892

تاريخ الزيارة 05 أيلول (سبتمبر) 2014

[49] – زهير المالكي: داعش الأسباب والنتائج، 13 كانون الأول (ديسمبر) 2014 على الرابط.

www.kitabat.com/or/page/12/12/2014/40123

[50] – أحمد بن عبد المحسن العساف، قراءة في كتاب الدولة الإسلامية الجدور التوحش المستقبل، للكاتب عبد الباري عطوان على الرابط:

www.kalabrab.net/news-79664/htm

تاريخ الزيارة 2015.01.05

[51]– يامين جميع: جذور الخلاف بين البغدادي والجولاني جريدة رأي اليوم اللندنية على الرابط:

www.Raialyoum.com/?P=187234

تاريخ الزيارة 2015.01.15

[52] – عثمان عبد عثمان، الدولة الإسلامية بين النظم الوطنية الديمقراطية القائمة على توزيع السلطة والصحوة الإرهابية الداعية لنظام الخلافة العالمية الاستبدادي، ط1، دار مكتبة الهلال بيروت 1994 ص 7.

[53] – نديم منصور الثورات العربية بين المطامح والمطامع قراءة تحليلية. ط1.

منتدى المعارف بيروت 2012 ص 46.

[54] – للمزيد والتوسع أكثر انظر الرابط:

www.web.ARchive.org/WEB/2004/20110942143

[55] – محمد حسين هيكل، خلال مقابلة صحفية مع جريدة الأهرام المصرية على الرابط:

www.newamericancentur.org/iraqclintonletta.htm

[56] – للتوسع أكثر وبشكل شامل في مشروع برنارد لويس وتقسيم الدول العربية الإسلامية راجع:

أيضا أزمة الإسلام الحرب الأقدس والإرهاب المدنس (مرجع سابق)

[57] – جيا فخري عمر محمد علي الجاف، الإستراتيجية الأمريكية اتجاه المنطقة العربية العراق نموذجا، ط1 تموز دمشق 2012، ص 94.

[58] – القاعدة بعد بن لادن فوزي حرجس ماذا بقي للقاعدة بعد الثروات العربية، مرجع سابق ص 171.

[59] – صحيفة التآخي العراقية، شؤون عربية (الأمن والسيادة عدد 4225 بغداد 10 أيار (مايو) 2004.

[60] – للتوسع أكثر في إستراتيجية الأمريكية من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى فترة دابليو بوش راجع جيا فخري عمر محمد علي الجاف. مرجع سابق ص 113-135.

[61] – أحمد إبراهيم محمود. العرب والمسلمين بين أزمة أيلول (سبتمبر) والتحولات الإقليمية. مجلة المستقبل العربي عدد 292 السنة 26 حزيران (يونيو) 2009 ص 104.

[62] – علي الصالح، لغز داعش، جريدة القدس العربية 10 لتشرين الأول (أكتوبر 2014. على الرابط: www.aLquds.co.uk/?P=233097

[63] – علي الصالح، نفس المرجع.

[64]– عبد الباري عطوان، الدولة الإسلامية الجدور التوحش المستقبل ط.1 دار الساقي بيروت 2015 ص 231.

[65] – عبد الباري عطوان مرجع سبق ص 239.

Exit mobile version