Site icon مجلة المنارة

آثار انضمام دولة فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية

آثار انضمام دولة فلسطين  للمحكمة الجنائية الدولية

 يوسف الزماطي

باحث في سلك الدكتوراه جامعة محمد الخامس

 

مازال الاحتلال الإسرائيلي يواصل انتهاكات حقوق المواطنين الفلسطينيين المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بفلسطين المحتلة، ويفرض حصاراً شاملاً بحري وجوي وبري على قطاع غزة، من خلال السيطرة على المعابر التجارية وغير التجارية، وإغلاقه المستمر للمعابر والمنافذ الحدودية كمعبري (ايريز) المنطار (كارني) المعبرين الوحيدين لجميع البضائع التي تدخل لقطاع غزة من الضفة الغربية أو من أراضي فلسطين المحتلة عام 1948، وعزله مادياً عن العالم الخارجي،  وأيضا قام بعدوان همجي وسافر على قطاع غزة في 27/12/2009 الذي استمر واحد وعشرين يوماً، والهجوم العدواني في 14/11/2012 الذي استمر ثمانية أيام، والعدوان الأخير والذي يعد الأطول و الأكثر عنفا من 08/07/2014 والذي دام زهاء الخمسين يوما. مايثير التساؤل عن مدى إمكانية محاكمة رموز هذا الكيان الغاصب أمام المحكمة الجنائية الدولية خصوصا مع قيام وزارة العدل الفلسطينية في الضفة الغربية بتقديم طلب خلال سنة 2009 بموجب المادة(3/12) من نظام روما الأساسي، يقبل بممارسة المحكمة الجنائية الدولية لولايتها القضائية بشأن الأفعال التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينية منذ أول من تموز 2002، وتم رفض الطلب يوم الثلاثاء الثالث من إبريل 2012، على اعتبار أن السلطة الفلسطينية غير مخولة بتقديم الطلب وإنما المخول في ذلك هو منظمة التحرير الفلسطينية لأنها معترف بها كحركة تحرر وطني في القوانين الدولية بأنها تمثل دولة ولها ما للدول وعليها ما على الدول. وبعد الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة في 29 نونبر 2012 وقع الرئيس الفلسطيني محمود عباس على اتفاقية روما وذلك بتاريخ 31/12/2014 لتنضم بذلك دولة فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية. وقام السفير رياض منصور مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة بإيداع وثائق الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 02/01/2015. وترتب عن هذا الانضمام مجموعة من الآثار سنتناولها في مبحثين الأول يتعلق بالآثار القانونية والثاني بالآثار السياسية.

 

المبحث الأول: الآثار القانونية لانضمام دولة فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية:

 

ترتب عن انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية مجموعة من الآثار القانونية ترتبط بممارسة المحكمة لاختصاصاتها . وسنتطرق لها في مطلبين كالآتي: مطلب اول مرتبط بانعكاس الانضمام على الاختصاص الزمني للمحكمة تجاه جرائم الاحتلال الصهيوني، ومطلب ثاني يتعلق بالاختصاص النوعي والجرائم التي قد تتحرك المحكمة في مواجهة مرتكبيها.

المطلب الأول: انعكاس الانضمام على الاختصاص الزمني للمحكمة تجاه جرائم الاحتلال الصهيوني

تنص المادة 11 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد نفاذ النظام الأساسي([1])، فإذا أصبحت دولة من الدول طرفا في هذا النظام بعد بدء نفاذه، فإنه لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة، اللهم إلا إذا كانت قد قبلت باختصاص المحكمة على الرغم من كونها ليست طرفا في النظام وذلك بموجب إعلان خاص.

وبالنسبة لدولة فلسطين فقد قامت بإجراء قانوني مهم و هو المتمثل في إيداعها لدى الأمين العام للأمم المتحدة إلى جانب وثيقة الانضمام، “إعلان” يمنح المحكمة اختصاص بأثر رجعي سبق وأن قدمته بتاريخ 13/06/2014 ، ويمكنها من الاحتفاظ بحقها في الرجوع بالاختصاص الزمني للمحكمة إلى تاريخ نفاذ نظامها الأساسي وفق ماهو مذكور سابقا وفي الهامش.

وبذلك فإن الأثار المترتبة على ما سبق هي الجمع بين الانضمام للمحكمة أي العضوية الكاملة في اتفاقية روما والقبول باختصاصها بأثر رجعي منذ 13/06/2014 مع احتفاظ الجانب الفلسطيني بالقبول باختصاص المحكمة بأثر رجعي يمتد إلى 01/07/2002 تاريخ نفاذ النظام الأساسي.

وحيث أن دولة فلسطين كانت قد أودعت إعلانا لدى مسجل المحكمة بهذا الخصوص في سنة 2009 من خلال وزير العدل السابق علي خشان تقبل بموجبه بولايتها فإن هذا الخيار كان يعني إرسال رسالة خطية من القيادة الفلسطينية إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية تؤكد على تبني ودعم هذا الخيار. وبتوقيع طلب الانضمام للمحكمة وإيداعه إلى جانب إيداع إعلان بقبول الاختصاص فإن متابعة هذا الخيار لم تعد قائمة.

وأيضا سيمكن ذلك المحكمة من النظر في الجرائم الدولية التي ارتكبت خلال العدوان الأخير على قطاع غزة. وبدون تقديم الإعلان المذكور فإن تلك الجرائم الشنيعة ستكون خارج نطاق اختصاص المحكمة وأيضا التقرير الذي تعده لجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الانسان خلال الهجوم الأخير على قطاع غزة.  حيث نص قرار تشكيل اللجنة المذكورة على تكليفها بالتحقيق في انتهاكات  القانون الدولي التي ارتكبت في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ تاريخ 13/06/1014 ما يعني تزامن النطاق الزمني للتحقيقات المكلفة بها اللجنة المذكورة مع الاختصاص الزمني للمحكمة.

وبالتالي فإن دولة فلسطين بعد تاريخ نفاذ نظام المحكمة على أراضيها المحتلة والمحدد في تاريخ 01/04/2015 ، يمكنها أن تحيل على المدعية العامة للمحكمة شكاوى للتحقيق فيها بشأن الجرائم التي تختص بها المحكمة والتي ارتكبت منذ 13/06/2014.

 

 

المطلب الثاني: الاختصاص النوعي للمحكمة في الحالة الفلسطينية:

 

يقتصر اختصاص المحكمة الجنائية الدولية حسب المادة الخامسة من ميثاق روما على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة والمتمثلة في جريمة الإبادة الجماعية و الجرائم ضد الإنسانية و جرائم الحرب و جريمة العدوان.

وكما ذكرنا سالفا فإن الاحتلال ارتكب ويرتكب مجموعة كبيرة من الجرائم التي تدخل في ضمن اختصاص المحكمة لعل أهمها الآن هو الحصار المفروض على قطاع غزة ما يدفعنا إلى تكييفه قانوناً.

1- الحصار الإسرائيلي على غزة كجريمة حرب

تنص الفقرة ب “25” من المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف، يعد جريمة حرب.

وينص البروتوكول الإضافي الأول للعام 1977 في مادته (54) عنوانها حماية الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، والفقرة الأول من نفس المادة تنص على” يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب”، وكذلك الفقرة الثانية تنص” يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري، إذا تحدد القصد من ذلك في منعها عن السكان المدنيين أو الخصم لقيمتها الحيوية مهما كان الباعث سواء كان بقصد تجويع المدنيين أم لحملهم على النزوح أم لأي باعث آخر”([2]) تعمّد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب،([3]) وكذلك أوجبت المادة الخامسة والخمسين من اتفاقية جنيف الرابعة على دولة الاحتلال تزويد السكان الواقعين تحت احتلالها بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية، وكما أكدت على واجبها بأن تستورد ما يلزم من الأغذية والمعدات الطبية إذا كانت موارد الأراضي المحتلة غير كافية، وهذا الواجب الملقى على عاتق دولة الاحتلال قد تمّ توسيعه ليشمل موارد أخرى أساسية للعيش كما هو منصوص عليه في المادة التاسعة والستين من البروتوكول الأول الإضافي، بالإضافة إلى ذلك فإن المواد الثالثة والعشرين، والتاسع والخمسين، والثانية والستين، من اتفاقية جنيف الرابعة، وأيضاً المواد التاسعة والستين والواحد والسبعين من البروتوكول الأول الإضافي تنص على واجب دولة الاحتلال في تأمين الحاجات الضرورية لسكان الأقاليم المحتلة، وما إغلاق المعابر ومنع وصول المواد الغذائية الضرورية لحياة السكان إلا شكل من أشكال ممارسة هذه السياسة، التي أضحى تجريمها قاعدة ذات طابع عرفي من قواعد القانون الدولي الإنساني، حيث نصت في العام 1919م تقرير لجنة المسؤوليات التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الأولى على أن “تعمّد تجويع المدنيين” يشكل انتهاكاً لقوانين وأعراف الحرب، ويعرض من يقوم به للملاحقة الجزائية.

2- الحصار الإسرائيلي على غزة كجريمة ضد الإنسانية

الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة جريمة ضد الإنسانية؛ لأن يضع أهالي قطاع غزة في ظروفٍ من شأنها أن تحرمهم من حرية التنقل ومن حقهم في الوصول إلى موارد رزقهم وممارسة حياتهم اليومية بشكلٍ طبيعي، طبقاً لنص المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي نصت على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره التي تدخل في اختصاص المحكمة النظر في الجرائم ضد الإنسانية، والأمر الذي فسره تقرير القاضي ريتشارد غولدستون بأنَّه يصل إلى حد جريمة الاضطهاد التي تُعد جريمة ضد الإنسانية بموجب المادة (7/1/ح) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية([4])، والتي تنص على “اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرفية أو قومية أو أثنية أو ثقافية أو دينية, أو متعلقة بنوع الجنس ..”، وقد استعانت بعثة تقصى الحقائق في وصولها إلى هذه النتيجة بسابقة تعرضت لها المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، ففي حكمها الصادر في قضية المدعي ضد كوبرسكيتش، وصفت المحكمة جريمة الاضطهاد بأنها يمكن أن تشمل طائفة متنوعة من الإجراءات التمييزية بما في ذلك الاعتداءات على الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما أكدت أن الاضطهاد لا يتمثل في عمل واحد بل في سلسلة أعمال، بحيث تشكل جزءاً من سياسة أو ممارسة متبعة([5]).

3- الحصار الإسرائيلي على غزة كجريمة إبادة جماعية

يضع الحصار الإسرائيلي أهالي القطاع في ظروفٍ معيشيةٍ صعبةٍ من شأنها أن تستوفي المتطلبات اللازمة لتكييف هذا السلوك بأنه جريمة إبادة جماعية، فهذه الظروف من شأنها أن تؤدي إلى الإهلاك الفعلي لأهالي القطاع، كما أنها موجهة إلى جماعة محددة تشكل جزءاً من الشعب الفلسطيني، كما أوضح النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المقصود بجرائم الإبادة الجماعية وردت في البند الأول من المادتين الخامسة والسادسة من نفس القانون بأنها أي فعل من الأفعال التالية ترتكب “بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية  بصفتها تلك إهلاكاً كلياً أو جزئياً” ومن صورها كما ورد في المادة السادسة الفقرة (ج)”إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً”،([6]) وهذا ما رمى إليه حصار قطاع غزة، حيث استشهد العشرات نتيجة نقص الدواء وضعف الإمكانيات العلاجية وإغلاق المعابر، وهو ربما أشد وطأة، لأسباب جيوديموغرافية، من الحصار الجائر الذي فرض على العراق اثنتي عشرة سنة، ويعد أيضاً جريمة إبادة جماعية “قتل أفراد الجماعة” (ج/6)، وهو ما تقوم به آلية العدو العسكرية في هجماتها الجوية والبحرية والبرية، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي بأفراد الجماعة(المادة 6/ب).([7])

وبناء عليه تعتبر جرائم الإبادة الجماعية أخطر الجرائم الدولية؛ لأنها تهدد حياة الإنسان وصحته وكرامته بالخطر، وتظهر خطورتها بصورة أكبر إذا علمنا أنها لا تهدد بالإبادة فرداً واحد أو مجموعة أفراد، بل تهدد جماعة أو جماعات كاملة لأسباب : قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية.([8])

ويقصد بعبارة “الكلي أو الجزئي” في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية تعمد مرتكبي الجريمة تدمير جماعة برمتها أو تدمير جزء منها، كأعضائها المتعلمين أو أعضاء يعيشون في منطقة واحدة، ويقصد به الاستئصال المعنوي الذي يمثل التأثير على النفس البشرية وأحاسيسها وشعورها وإخضاعها لظروف معيشية معينة.([9])

وعموما فإن لدولة فلسطين الإمكانية إحالة مختلف الجرائم المنصوص عليها في ميثاق المحكمة على المدعية العامة للمحكمة مع مراعاة الاختصاص الزمني للمحكمة.

 

المبحث الثاني: الآثار السياسية لانضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية:

 

من الضروري بداية التأكيد أن التهديدات التي تطلق هنا وهناك للحيلولة دون نفاذ النظام الأساسي للمحكمة في فلسطين المحتلة، ليست لها قيمة قانونية ولن تمنع فلسطين من الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية.ويمكن القول أن هذه التهديدات من الأثار السياسية الأولية للانضمام. وسنتطرق في هذا المبحث إلى الآثار السياسية على إمكانية المحكمة تحريك المتابعة ضد المسؤولين “الإسرائليين”(المطلب الأول) وأيضا إلى الآثار السياسية على دولة الفلسطين(المطلب الثاني).

 

 

المطلب الأول : إلى الآثار السياسية على إمكانية المحكمة الجنائية الدولية في تحريك المتابعة ضد المسؤولين “الإسرائليين”

 

يظهر جليا أن عدم إقدام مجلس الأمن الدولي وتردده لحد الآن في إصدار قرار – على غرار قراره رقم (1593) (2005) بشأن إحالة الوضع القائم في دارفور إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية- بموجبه تتم إحالة المسؤولين الإسرائيليين السياسيين منهم والعسكريين على حد سواء إلى المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاتهم عن الجرائم المرتكبة في فلسطين المحتلة خاصة تلك التي ارتكبت أثناء العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة نهاية عام 2008 و2012 و2014، تكمن في أن مجلس الأمن أضحى في غياب توازن القوى وسيطرة القطب الأوحد (الأمريكي) تحت تأثير ضغوط قوية مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على مقاليد القرار في كثير من الهيئات والمؤسسات الدولية، وما ينتج عنها فيتو أمريكي أن كل دولة من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن([10]) تملك بموجب ميثاق الأمم المتحدة حق استخدام (الفيتو) ضد أي مشروع قرار يقدم للمجلس، وعلى الأخص إذا كان مضمون القرار يتعلق بتصرف لمجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق، وهذا معناه أن أي دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن تستطيع إذا أرادت ذلك –عرقلة مشروع أي قرار يعرض للتصويت عليه في مجلس الأمن وإفشاله باستخدام حق (الفيتو) كالعادة في مجلس الأمن على أي خطوة في هذا المجال، حتى لو أحال مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أو إذا وافق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية على فتح تحقيق جنائي فيما حدث من جرائم إسرائيلية أثناء العدوان على قطاع غزة، فإن صلاحية مجلس الأمن في تأجيل التحقيق لمدة سنة فسنة إلى ملا نهاية ستقف عقبة في طريق تحقيق العدالة الجنائية الدولية، ولا سبيل في هذا الصدد إلا استخدام دولة أخرى من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن صلاحيتها في حق النقض الفيتو لمنع تأجيل التحقيق أو المحاكمة([11])، وكذلك العقيدة الراسخة منذ عقود بأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ومضمونها أن أمن إسرائيل، وكذلك العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل فوق كل الاعتبارات في كل زمان ومكان ومما لا شك فيه أن هذه حقيقة يؤكدها الواقع، وتدل عليها تجارب عديدة سابقة.([12])

لكن ومع كل ذلك فمجرد إمكانية قيام المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة تقض مضاجعهم، وهذا ما يؤكده الإسرائيليون أنفسهم، وفي تعليقهم على نصوص معاهدة روما أعلن الآن بيكر المستشار القضائي لوزارة الخارجية الإسرائيلية في تصريح أعقب انفضاض مؤتمر روما بأن “الاتفاقية لم تبق حصانة لأحد بمن فيهم المستوطنون ورئيس الوزراء ووزراءه مضيفاً انه لو تم تشكيل هذه المحكمة قبل خمسين عاماً لأيدناها لأنها كانت ستوفر الحماية لليهود من الاضطهاد آنذاك، أما اليوم فهم معرضون للمقاضاة”([13]) سواء أكان أمام القضاء الفلسطيني أم العربي أم الإسلامي أم العالمي أم المحكمة الجنائية الدولية([14])، ومن جهتها علقت راشيل سوكر النائب العام الإسرائيلي على الاتفاقية بتاريخ 12/1/2004 بقولها “أن معارضة إسرائيل للاتفاقية لا تعطي حصانة لمواطنيها”،([15]) وقد عارض الاحتلال الإسرائيلي التوقيع على ميثاق روما، رافضة بداية التوقيع عليه، وإن كانت قد أعلنت أنها تعيد النظر في موقفها إذا ما قبلت الولايات المتحدة التوقيع على المعاهدة، وهو ما تم بالفعل عندما وقعت الولايات المتحدة على ميثاق المحكمة في 31 كانون الأول سنة 2000 إذ أعلنت إسرائيل أنها وقعت على معاهدة إنشاء المحكمة بعد لحظات قليلة من توقيع الولايات المتحدة عليها.([16])

 

المطلب الثاني: الآثار السياسية للانضمام للمحكمة على دولة الفلسطين:

 

لقد سارعت الولايات المتحدة وشركاؤها إلى التلويح بإجراءات عقابية سياسية ومالية واقتصادية ضد الجانب الفلسطيني، هذه الاجراءات ستكون مؤلمة للفلسطينيين، ومن المتوقع أن تستمر فترة من الزمن.  ويمكن أيضا أن ترتفع وتيرة الاعتداءات “الإسرائلية”  و أيضا النشاط الاستيطاني، لكن ذلك لا يجب أن يكون على حساب الحق الفلسطيني بالانضمام إلى المحكمة وملاحقة قادة الاحتلال.

ومع إصرار الدولة الفلسطينية بالمضي قدما في مسار الانضمام ، فإن الولايات المتحدة وشركاؤها سيسلمون بالأمر الواقع ومفاده أن نفاذ النظام الأساسي  للمحكمة على الأرض الفلسطينية مسألة إجرائية بحتة لا يمكن تعطيلها، مع محاولات عقيمة ستسعى للتقليل من نتائج هذا الانضمام على الجانب الاسرائيلي.

غير أن هناك احتمال أنه بعد نفاذ النظام الأساسي للمحكمة على الأرض الفلسطينية، ولكن دولة فلسطين لم تقم بإحالة جرائم دولية ارتكبها قادة الاحتلال إلى المدعية العامة  فاتو بن سوده  للتحقيق والسير في إجراءات المقاضاة أمام المحكمة، أي أنها لم تستخدم حقها المنصوص عليه في المادة  14 من النظام الأساسي بالإحالة للمدعية العامة، بنتيجة ضغوطات مثلاً قد تمارس على الجانب الرسمي الفلسطيني لعدم إثارة أية دعاوى أمام المحكمة.

هذا السيناريو إن حصل مستقبلاً لن يكون مجدياً، ولن يحول دون اتصال المحكمة بجرائم دولية ارتكبها قادة الاحتلال وتدخل ضمن صلاحياتها، إذ أنه وبموجب المادة  15  من نظامها الأساسي فإن المدعية العامة للمحكمة تستطيع أن تباشر التحقيقات  من تلقاء نفسها  بناءً على معلومات جدية وموثوقة مقدمة إليها من منظمات غير حكومية أو حتى من أفراد )العبرة بجدية وموثوقية المعلومات بالنسبة للمدعية العامة(  عن جرائم دولية تدخل في اختصاص المحكمة ارتكبت على الأرض  الفلسطينية. وبالتالي، سيكون على الجانب الرسمي الفلسطيني أن يتجاهل تلك الضغوطات إن مورست أمام إصرار المنظمات غير الحكومية الفلسطينية على المحاسبة على تلك الجرائم، و أن ينسق جهوده معها في تجهيز الملفات القضائية بالجرائم الدولية التي تدخل في اختصاص المحكمة.

أما بالنسبة لمجلس الأمن الذي  يملك صلاحية تأجيل الإجراءات الجزائية المتخذة أو التي ستتخذ في أية مرحلة من مراحل الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، سواء قبل بدء التحقيق من قبل المدعية العامة أو خلال مرحلة التحقيق أو في مرحلة المحاكمة بقرار يتخذه المجلس وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولمدة اثني عشر شهراً، قابلة للتجديد بقرارات مجلس الأمن بذات الشروط ، كما ذكرنا سالفاً،  ولكنه لا يملك صلاحية إسقاط  الدعوى الجزائية و إنهاء التحقيق أو المقاضاة أمام المدعية العامة أو المحكمة، بما يعني أن الدعوى الجزائية المرفوعة بالجرائم الدولية الخطيرة التي ارتكبها قادة الاحتلال على الأرض الفلسطينية تبقى قائمة في أية مرحلة هي عليها تحقيقاً أو مقاضاة، وهي لا تسقط بالتقادم بتأكيد المادة  29 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

وبذلك تبقى إمكانية استئناف الملاحقة الجزائية قائمة مع أي فشل باتخاذ القرار بالتأجيل من مجلس الأمن وفق الفصل السابع من الميثاق، ويبقى سيف الملاحقة القضائية الجزائية مسلطاً على قادة ومسؤولي الاحتلال على الجرائم الدولية التي ارتكبت، وهذا الوضع إنْ حصل سيشكل إحراجاً كبيراً لمجلس الأمن كونه سيظهر عندئذ بمظهر الحامي أو المتواطىء مع متهمين متورطين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بعرقلته للعدالة القضائية الدولية، مع ضربات سياسية ودبلوماسية ونفسية موجعة لقادة الاحتلال تحت هاجس استئناف الملاحقة القضائية مع أي إخفاق من مجلس الأمن.

 

 

 ([1]) فتح باب التوقيع على نظام روما أمام جميع الدول في روما بمقر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة في 17/07/1998، وظل باب التوقيع على النظام مفتوحا بعد ذلك في روما بوزارة الخارجية الإيطالية حتى 17/10/1998. وبعد هذا التاريخ ظل باب التوقيع مفتوحا في نيويورك بمقر الأمم المتحدة حتى 31/12/2000. ويفتح باب الانضمام إلى هذا النظام أمام جميع الدول وتودع صكوك الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة (المادة 125).

ويبدأ نفاذ هذا النظام في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع الصك الستين للتصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وبالنسبة لكل دولة تصدق على النظام أو تقبله أو توافق عليه أو تنضم إليه بعد ذلك، يبدأ نفاذ النظام بالنسبة لتلك الدولة من اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع تلك الدولة لصك تصديقها أو قبولها أو موافقتها أو انضمامها.

([2]) الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 آب / أغسطس 1949 والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة المادة 54 (1، 2) تم اعتمادها بالإجماع.

([3]) انظر: كذلك الفقرة 292 من تقرير القاضي ريتشارد غولدستون.

([4]) تقرير القاضي ريتشارد غولدستون الفقرة 1334.

([5]) تقرير القاضي ريتشارد غولدستون الفقرة:1333.

([6]) راجع : المادة ( 6) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

([7]) عادل عزام سقف الحيط، العدوان على غزة في فقه القانون الدولي الإنساني، دراسة قانونية منشورة في صحيفة الغد الأردنية، بتاريخ السبت 10 من كانون الثاني/ يناير 2009 ، الجزء الأول – قضايا، عمان، الأردن، ص 12.

([8]) ماهر حامد الحولي، والقاضي د. عبد القادر صابر جرادة، التكيف الشرعي والقانوني للحرب على غزة، مجلة الجامعة الإسلامية (سلسلة الدراسات الإسلامية) المجلد التاسع عشر، العدد الثاني، يونيو 2011، ص643-644.

([9]) إسماعيل عبد الرحمن محمد، الحماية الجنائية للمدنيين في زمن النزاعات المسلحة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، 2000، ص550.

([10]) وهي كما هو معلوم: “الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، بريطانيا، الصين وروسيا.”

([11]) عبد القادر صابر جرادة، القضاء الجنائي الدولي والحرب على غزة، مرجع سابق، ص830.

([12]) أنظر في هذا الموضوع أكثر تفصيلاً: صحيفة القدس العربي، النسخة الالكترونية، السنة الحادية والعشرون، العدد 6460، بتاريخ الأربعاء 17 مارس/آذار 2010، الرابط الإلكتروني: –

(http://www.alquds.co.UK.)

([13]) بارعة القدسي،المحكمة الجنائية الدولية طبيعتها واختصاصاتها موقف الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل منها، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد 20 – العدد الثاني- 200، ص161.

([14]) عبد القادر صابر جرادة، القضاء الجنائي الدولي والحرب على غزة، مرجع سابق، ص812.

([15]) عادل الصلوي، لماذا المحكمة الجنائية الدولية، سبانت موقع وكالة الأنباء اليمنية سبأ، 10/1/2004.

http://www.sabanews.net/ar/news59139.htm

([16]) بارعة القدسي، المحكمة الجنائية الدولية طبيعتها واختصاصاتها موقف الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل منها، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد 20 – العدد الثاني، 200، ص161-162.

Exit mobile version